|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
تفسير سورة التوبة (الحلقة العاشرة) للمنافقين خسران وللمؤمنين رحمتان
تفسير سورة التوبة (الحلقة العاشرة) للمنافقين خسران وللمؤمنين رحمتان الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي قال الله تعالى: ﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 69-72]. من خصائص السلوك الإنساني السوي أنه يُبْنَى ابتداءً على الفطرة السوية التي خُلق المرء عليها بقوله تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، وأن الفطرة لا تفسد بعد خلقها إلا بتنشئة سيئة على يد شيطان أو في بيئة شيطانية، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))[1]، وأن هذه الفطرة إن فسدت قابلة للترميم والبناء والتنمية بالنصج والتذكير، فإما إلى توبة ونعيم، وإما إلى إعراض وإصرار وجحيم، يشهد بذلك قوله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: ((أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حلالٌ، وإِني خلقت عبَادي حنفَاء كلهم، وَإنَّهُ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ[2] عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا....))[3]. كان هذا حال فئة من المسلمين في المجتمع الإسلامي أواخر العهد النبوي، اجتالتهم الشياطين بما رسب في نشأتهم الأولى من الشرك، وبما تضخم في نفوسهم من الريب في الرسالة، والحسد والبغضاء لصاحبها صلى الله عليه وسلم، والتلهف للقوة والأموال والأولاد، والحرص على الحياة والجزع من الموت، فصاروا ورمًا سرطانيًّا في جسد الأمة ينبغي علاجه أو استئصاله، واستحدث لهم القرآن من اللغة والبيئة العربيتين مصطلحَي: النفاق والمنافقين، ثم تولت سورة التوبة بعد حوالي تسع سنوات من الهجرة فضحهم، وكشف مخبوء كفرهم، وتحذيرهم من عاقبة أمرهم، وتخييرهم بين توبة آمنة رشيدة أو مصير مشؤوم وعذاب مقيم. وإذ قرر الحق تعالى في الآيات السابقة أن مصارع هذه الفئة من المنافقين في قلوبهم، وما أضمرت وألسنتهم وما حصدت، وأيديهم وما جنت، وأن مصيرهم بذلك إلى النار بقوله عز وجل إخبارًا عن حالهم بصيغة الغيبة: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 67-68]، واصل الوحي الكريم بالتفات بياني بصيغة الخطاب المباشر لهم تهديدًا وتخويفًا، يذكرهم بما كان عليه من سبقوهم إلى القوة أموالًا وجندًا وأولادًا ومكانةً وتمكينًا، فاغتروا وكفروا ولم يشكروا، وما آل آليه أمرهم من سوء المصير، فقال تعالى: ﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ﴾. والكاف في قوله تعالى: ﴿ كَالَّذِينَ ﴾حرف جر للتشبيه، والاسم الموصول ﴿ الَّذِينَ ﴾ مجرور بالكاف، وشبه الجملة من الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف جوازًا تقديره "أنتم"؛ أي: أنتم أيها المنافقون المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم مثل منافقين ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾، ثم فصل أوجه الشبه ومداه بينهم وبين السابقين وبين من يسير سيرتهم في كل عصر، فقال تعالى: ﴿ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾، كانوا قد اكتسبوا من القوة والمنعة والقدرة على البطش فوق ما اكتسبتم ﴿ وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا ﴾، وجمعوا من الأموال أكثر مما جمعتم ﴿ وَأَوْلَادًا ﴾، وولد لهم من الذرية أكثر مما ولد لكم، فاستكبروا على أنبيائهم ورسلهم كما استكبرتم على رسولكم صلى الله عليه وسلم، وعصيتم كما عصوا، ونسيتم أن العبرة ليست في اكتساب القوة والمال والأولاد؛ لأن كل إنسان قد يكتسب ذلك وينال منه ما قدره الله له ابتلاءً واختبارًا، ولكن العبرة في عمل الكاسب بما اكتسب، وما يلقى به ربه يوم القيامة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 14]؛ لذلك عقب تعالى على مكاسب المنافقين السابقين بقوله عز وجل: ﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ﴾، والفعل "استمتعوا" من أصل صحيح هو: "متَع"، ويدل على امتداد مدة في منفعة ومسرة أو خير، ومنه يقال: "متَع" النهار متوعًا؛ أي: ارتفع غاية الارتفاع، ومتع الضحى: ارتفع، ومنه متعة الطلاق؛ أي: المال الذي جعله الشارع للمطلقة قبل الدخول تنتفع به بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49]، ومنه قوله تعالى: ﴿ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾ [النور: 29]؛ أي: فيها أشياؤكم التي تستعملونها وتستفيدون منها، ثم زيدت في صيغة الماضي منه الألف والسين والتاء للطلب "استمتع"؛ أي: طلب المتعة أو مارسها، والفاء في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَمْتَعُوا ﴾ تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها؛ أي: فقلدتموهم وفعلتم فعلهم، والواو في الفعل ضمير الجماعة؛ أي: جماعة المنافقين في عهود الرسالات السابقة. والخَلاق بفتح الخاء لغةً هو النصيب الذي خلقه الله للناس من الدنيا وابتلاهم به قوةً أو مالًا أو ولدًا أو جاهًا ونفوذًا، ففرح به بعضهم وظنَّه كرامةً، واستقلَّه آخرون فظنُّوه إهانةً، كما في قوله عز وجل: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15-16]، وقوله سبحانه: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]. وقوله تعالى:﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ﴾ [التوبة: 69]؛ أي: استمتع المنافقون السابقون من قومكم بما نالوه من الدنيا ولم يشكروه، وسخروه لتحصيل ملذاتهم ومتعهم حلالها وحرامها، وتحقيق أهوائهم وشهواتهم دنيئها وخبيثها، ثم تركوه كله وراءهم بالموت، ليحاسبوا عليه في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25-29]. ثم قال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ ﴾، فقلدتموهم وفعلتم فعلهم وسخرتم نصيبكم من الدنيا في التمتع به لهوًا ولعبًا، ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ ﴾، كما استمتع مَنْ كان قبلكم في جميع العصور من المنافقين، يفعل اللاحق منهم فعل السابق، كما تقول عن الظالم المستبد: "فَعَل فِعْلَ فرعون مثلما فعل فرعونُ فعلَ نمرود قبله"، والاستمتاع بالخلاق بين أجيال المنافقين بذلك متوارث ومتلاحق عبر العصور، من جيل إلى جيل، والنار مثوى لهم، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12]. ثم بيَّن الحق تعالى أن استمتاع المنافقين بنصيبهم من الدنيا مهما بدا لقصار النظر ممتعًا، مجرد خوض فيما يضرهم ولا ينفعهم، فقال عز وجل: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾؛أي: وخضتم في الباطل خوضًا كخوض المنافقين السابقين، والخوض لغةً من فعل: "خاض" يخوض خوضًا في البحر؛ أي: مشى فيه على غير هُدًى، وخاض الحرب والمنايا؛ أي: ألقى بنفسه في مهالكها بدون رويَّة، وخاض الشهوات؛ أي: أقبل عليها بغير تدبُّر لعواقبها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الدُّنيا حُلْوةٌ خَضِرةٌ، فمَن أخَذَها بحقِّها بارَك اللهُ له فيها، ورُبَّ مُتَخَوِّضٍ في مالِ اللهِ ورسولِه له النَّارُ يومَ يَلْقاه))[4]، ومنه ما خاضه ويخوضه الكفرة والمنافقون من قبل ومن بعد، من احتطاب لمتع الحياةمن غير تدبر لمصدرها ولا مراعاة لحلها من حرامها، ولا إعداد للجواب عنها يوم الدين، ثم يغادرون والنار مثوًى لهم، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12]. ثم عقب تعالى ببيان بوار أعمال كل المنافقين سابقين ولاحقين، فقال: ﴿ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾، والحَبَط في السعي تجارةً أو فلاحةً أو تعلُّمًا أو مطلقَ كسبٍ هو الفساد والبطلان وعدم تحقق المراد، ومنه يقال: حبط البطنُ؛ أي: انتفخ، أو مرض بكثرة الأكل، أو فساد الطعام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم إذ ضرب المثل للحريص المفرط في طلب الدنيا بقوله: ((إِن ممَّا يُنبتُ الرَّبيعُ ما يقتلُ حَبَطًا أَو يُلِمُّ))؛ أي: يقتل أو يقرِّب من القتل. وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ اسم إشارة للمنافقين الذين يسيرون بسيرة من سبقهم للنفاق، مبتدأ، خبره الجملة الفعلية من الفعل والفاعل بعده: ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾؛ أي: فسدت في الدنيا والآخرة ثمار أعمالهم، وتلاشت مكاسبهم، فلم ينالوا منها خيرًا، ثم أكَّد الحق ذلك، فقال عز وجل: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، هم الذين بارت جهودهم فلم ينالوا بها خيرًا، وأقحموا في النار، فكانوا هم الخاسرين، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 15-16]، وقال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]. والآية الكريمة في مجملها تحذير واضح شديد للمؤمنين من اتباع سبيل الكفار والمنافقين، أو تقليدهم أو فعل فعلهم، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، وقال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وشرح ذلك صلى الله عليه وسلم وفصله وحذر منه فقال: ((لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر أو ذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جُحْر ضبٍّ لسلكتموه))، قالوا: "اليهود والنصارى؟" قال: ((فمَنْ؟)). لقد عاصر هؤلاء المنافقون أزهى عصور البعثة النبوية، ورأوا في رسولها صلى الله عليه وسلم نموذجًا فذًّا لأصحاب الرسالات من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وشاهدوا معجزاته وانتصاراته، وسمعوا أقواله واضحة بينة، واستمعوا إلى القرآن ينزل غضًّا رطيبًا طريًّا، يأتيهم بأخبار من سبقهم من الأمم مؤمنها وكافرها، ويحذرهم عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة، فلم يزدهم ذلك إلا كفرًا ونفاقًا، وتمسُّكًا بزينة الحياة الدنيا، فقال عنهم تعالى مستنكرًا ملاسة عقولهم وغباءها وغلظ قلوبهم وعماءها وغُلوَّهم في الضلال: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، ألا يتذكر هؤلاء المنافقون ما بلغهم في القرآن من أخبار أقوام سبقوهم إلى الدنيا، فعاثوا فيها مثل عيثهم، واغتروا بها مثل اغترارهم، وخسروا فيها دنياهم وآخرتهم مثلما قد يخسرون إن لم يتوبوا، ألم تأتهم أخبار﴿ قَوْمِ نُوحٍ ﴾، وقد أغرقوا لكفرهم وفساد حالهم بالطوفان، وهم على أرجح الأقوال بنو راسب في جنوب العراق بمنطقة الكوفة حاليًّا. ﴿ وَعَادٍ ﴾؛ أي: وقوم عاد الذين أُرْسِل إليهم هود عليه السلام، وقال عنهم تعالى: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6-8]، وهم أصحاب إرم ذات العماد، وأول مَنْ عَبَد الأصنام بعد نوح عليه السلام، كانوا في صحراء الربع الخالي بالجزيرة العربية على أرجح الأقوال. ﴿ وَثَمُودَ ﴾؛ أي: وقوم ثمود، وهم أصحاب الحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الحجر: 80]، أرسل إليهم صالح عليه السلام فكذبوه فأهلكوا بالصيحة، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 66-67]. ﴿ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ من الكلدانيين والبابليين في العراق، وقد أهلكهم الله بالبعوض والعلل والخراب على أرجح الروايات، وقضى على طاغيتهم[5] وأنجى إبراهيم عليه السلام. ﴿ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ ﴾، أصحاب الأيكة[6]، قوم شعيب عليه السلام وقد أهلكوا بيوم الظلة في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 24-25]. ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ﴾[7]؛ أي: المنقلبات عاليها سافلها، وهي قرى قوم لوط عليه السلام، سدوم، وعمورة، وأدومة، وصبييم في منطقة البحر الميت حسب بعض المؤرخين، وقال عنها الحق تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 82-83]. كل هؤلاء الأقوام ﴿ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ﴾، جاءهم نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾بالآيات البينات والمعجزات الواضحات والحجج القاطعة ودين الله القيم، فلم يؤمنوا ﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النحل: 26]، عقابا عادلًا من الله لهم في الدنيا، مع ما ينتظرهم في الآخرة﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾؛ لأن عدله سبحانه مطلق ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾، ونَفْيُ الظُّلم عن الله تعالى في هذه الآية الكريمة كان بلام الجحود بعد فعل "كان" المنفي الذي هو أبلغ صيغ النفي؛ لأن عدله عز وجل مطلق، وهو القائل سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، والقائل في الحديث القدسي المروي صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته محرمًا بينكم فلا تظالموا)) [8]، أما ما يصيب المنافقين فما هو إلا بظلم من أنفسهم ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ يظلمون أنفسهم بتكذيب الرسل وكفران النعم، وعبر عن ظلمهم لأنفسهم بصيغة المضارع؛ لمداومتهم على ذلك. ثم عاد الوحي إلى الفئة المؤمنة الثابتة الصادقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين وأنصارًا ومن لحق بهم من الصادقين بعد الفتح، يشيد بوضوح الإيمان في قلوبهم ومتانة علاقاتهم ببعضهم، ويقارن بينهم وبين المنافقين والمذبذبين، مبتدئًا بعقيدة ولائهم لله ورسوله وعامة المؤمنين فقال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ تجمعهم الأخوَّة، وتؤلف بينهم المودَّة، يلتقون على الإيمان بالله والولاء له سبحانه، والولاية لغة ضد العداوة، وتقتضي بين المؤمنين دائمًا الولاء لله ورسوله وشريعته أولًا، والولاء في الله بين المؤمنين ثانيا، محبة وتعاونًا وتناصرًا، في السراء والضراء، والأمن والخوف، والسر والعلن، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))[9]، في حين أن المنافقين غششة خونة لبعضهم ولغيرهم، خاذلون ومخذولون دائمًا، ليس لهم ولاء إلا لأهوائهم ومصالحهم الشيطانية، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11-12]. ثم واصل الحق تعالى الإشادة بالمؤمنين فقال عز وجل: ﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾، عكس ما يفعله المنافقون في قوله تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة: 67]. وأثبت عز وجل للمؤمنين القيام بالصلاة تامة مقبولة ومأجورة، فقال: ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ مقابل اختلال صلاة المنافقين في قوله عز وجل: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4-5]. وشهد للمؤمنين بأدائهم الزكاة وإطاعتهم الله ورسوله فيها وفي غيرها بقوله عز وجل: ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [التوبة: 71]؛ أي: يخرجون زكاة أموالهم المفروضة، وينفقون معها طاعة لله ورسوله صدقات عامة للفقراء والمساكين، وأخرى مساهمة منهم في الإعداد للجهاد، كما فعل عثمان رضي الله عنه إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك بقوله: ((مَنْ جَهَّز جيشَ العُسْرة فله الجنة))، فلبَّى عثمان رضي الله عنه النداء وجاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ضَرَّ عثمانَ ما فعل بعد اليوم))، في مقابل بخل المنافقين ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 6-7]، ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، و﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 7]. هذه الصفات الربانية إيمانًا وسلوكًا وعلاقات متينة، وسمعًا وطاعة لله ورسوله، هي قوام حياة الأمة الإسلامية التي أخرجها الله للناس بالإسلام، هي أعمدة فسطاطها، وترس المناعة فيها ضد الفتن، وحصنها الآمن في وجه العدو داخليًّا وخارجيًّا، إن اختلت وحدتها فلما تخلَّت عنه من تلك الصفات، وإن تغلب عليه العدو فلما شاب العلاقات داخلها من اضطراب، وإن فتنت فلما أصاب عقيدتها ورؤيتها من غبش تصور أو عمي رؤية. لذلك شهد الله عز وجل للمؤمنين الذين تحلوا بتلك الصفات، باستحقاق رحمته ورحمانيته وكتبها لهم بقوله عز وجل: ﴿ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، وهذه الآية الكريمة بتسويفها تشويقًا لما يرجى نواله من الرحمة في قوله تعالى: ﴿ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ﴾ وعْدٌ قاطع برحمة خاصة من الله تعالى، لكل المؤمنين ما كانوا أولياء في الله لبعضهم، محبة وتعاونًا وتناصحًا وتناصرًا، وتآمرًا بالمعروف وتناهيًا عن المنكر، وكانوا يقيمون الصلاة حق إقامتها، ويؤتون الزكاة تامة في أوقاتها، ويطيعون الله ورسوله حق الطاعة، رحمة جعلها لهذه الفئة من المؤمنين والمؤمنات خاصة، في جميع أحوالهم، سعيًا في الأرض وتوفيقًا وعونًا، وعند الموت راحة وحسنَ خاتمة، وفي ظلمة القبر رحابة وأنسًا، ويوم العرض حسابًا يسيرًا ومغفرة ولطفًا وتكريمًا وإحسانًا، بعزته تعالى التي يرفع بها قدرهم؛ لأنه ﴿ عَزِيزٌ ﴾ وحكمته التي يدبر بها أمرهم لأنه ﴿ حَكِيمٌ ﴾. إنها الرحمة الخاصة التي آثرهم الله بها من دون غيرهم، لا تنقصهم شيئًا من الرحمة العامة المشاعة في السموات والأرض، ولجميع العباد إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم، بقوله عز وجل: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 2-3]، الرحمة العامة التي من آثارها على الإنسان أنه سبحانه خلقه ولم يكن شيئًا مذكورًا، وخلق له من جسده جميع أدوات السعي في الأرض والتعامل مع الكون حوله، سمعًا وبصرًا وإحساسًا وفهمًا وإدراكًا، وإقبالًا وإدبارًا وتمييزًا بين الأشياء المادية والمعنوية والأفكار النظرية، وبين الحسن المفيد والسيئ الضار، وترك له حرية الاختيار والقدرة على اتخاذ القرار، ومنها أنه فتح للجن والإنس جميعًا مسلمهم وكافرهم بابًا واسعًا للتوبة والإنابة وخاطبهم بقوله سبحانه: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، بل ووعد بأن يبدل سيئاتهم حسنات فقال: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70-71]. وأنه يفرح بتوبة عبده عن الذنب أو عن الكفر فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه صحيحًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللَّهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح)). ثم فصل الحق تعالى ما وعد به من تكريم وتنعيم للفئة التي جمعت هذه الصفات وتستحق الرحمة الخاصة فقال: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، والوعد لغة أصل صحيح يدل على ترجية خير من الواعد الذي لا يكذب ولا يماطل، وهو من الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات الذين جمعوا تلك الصفات وعد لهم قاطع، لا فرق بين الذكر فيهم والأنثى؛ لأنهم سواسية في تلقي الأمر بالسمع والطاعة والعمل بهما، سواسية في التوجه بالدعاء وتلقي الإجابة، شركاء في الأجر عطاء وتنعيمًا، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195]. وعدهم سبحانه كلهم: ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [التوبة: 72]، جنات كثيرات لا يحصي عددها إلا الله ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [التوبة: 72]، وقصورًا يسكنونها في جِنَان كثيرة عند الله اسمها جنات عدن، ذكر الحق سبحانه فضلها في سورة مريم بقوله: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 61-63]، ووصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن في الجنة ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب أحد))، وأضاف تعالى إلى هذا الفضل من العطاء ما هو أكبر وأحسن وأشرف بقوله عز وجل: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾، والرضوان من فعل "رضي" ضد سخط، قرأها عاصم بضم الراء في القرآن كله ما عدا قوله تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 16]، قرأها بالكسر، وقرأها الباقون كلهم بكسرها في القرآن كله. والرضوان في الآخرة أبلغ سعادة من الجنة نفسها، فيه السعادة الأبدية والمناعة الأبدية من سخط الله ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾، ذلك الرضوان في الجنة هو الفوز الأعظم من كل فوز، إنه أعظم من الجنة. [1] ((كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً)) بضم التاء الأولى وفتح الثانية، ورفع البهيمة، ونصب بهيمة؛ أي: كما تلد البهيمةُ بهيمةً ((جمعاءَ)) بالمد؛ أي: مجتمعة الأعضاء، سليمة من نقص، ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها. [2] اجتالتهم: حوَّلتهم عن طريق الحق، ضللتهم. [3] صحيح مسلم. [4] صحيح، الألباني. [5] طاغية بابل يقال له نمرود بن كنعان كما في أغلب الروايات. [6] الأيكة: أشجار كثيفة كانت بأرضهم. [7] من فعل"أفِكَ" الشيء إذا انقلب، وأفك الرجل أو ائتفك إذا كذب، أو انقلب على ما كان عليه من رأي أو موقف أو شهادة، فهو مؤتفك؛ أي منقلب، والمؤتفكات في الآية: قرى قوم لوط التي زلزلت وانقلب عاليها سافلها. [8] صحيح، مختصر مسلم. [9] متفق عليه.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |