سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         مكانة المال وقواعد الميراث في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أسماء الله وصفاته على مذهب أهل السنة والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الحديث الضعيف “الذي تلقته الأمة بالقبول” وأثره من جهة العمل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          سورة العصر .. حبل النجاة من الخسران ووصايا الحق والصبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          لا خوف عليهم ولا هم یحزنون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          وقفات في رحاب سورة غافر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          ما هو اليقين: معناه وحقيقته ومنزلته وكيفية تحصيله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أحاديث الربا: تصنيف الأحاديث النبوية في الربا وأحكامه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          طلعها كأنه رؤوس الشياطين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          صور من هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى المدينة المنورة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم يوم أمس, 12:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,603
الدولة : Egypt
افتراضي سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات

سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات
عبد الرزاق بلعقروز


الإشكال الأول : من الحقيقة/ القداسة إلى الحقيقة/ الدّليل
أولا: مفتتح

يشير فيلسوف القيم الألماني هينريش ركرت rickert إلى التّمييز بين “مملكة القيم وبين عالم الواقع، وبين مملكة المعنى، وهذه الأخيرة تشمل الذّات وتمكّن من إقامة ارتباط بين المملكتين الأخريين ويصنّف ركرت القيم بحسب الميادين التالية ” المنطق، علم الجمال، التصوف و الأخلاق شؤون الجنس، وفلسفة الدّين، ويناظرها القيم التالية على التّوالي : الحقيقة، الجمال، القداسة غير الشّخصية، السعادة، القداسة الشخصية”[2]، وجلي إذن أن الحقيقة هي موضوع أو ميدان من ميادين فلسفة القيم، وقد اعتبر هيجل في موسوعة العلوم الفلسفية، ” أن ّ أوّل سؤال يصادفنا هو : ما هو موضوع المنطق؟

وأبسط وأوضح إجابة هي: موضوع المنطق هو الحق Truth أو الحقيقة .. غير أنّنا قد نلتقي في الحال، بالاعتراض الآتي: أنحن قادرون على معرفة الحقيقة؟ إذ يبدو أن هناك ضربا من التنافر وعدم التّجانس بيننا بوصفنا موجودات متناهية وبين الحقيقة التي هي مطلقة، وتبدأ الشكوك تظهر حول ما إذا كان يمكن أن يكون هناك جسر بين المتناهي و اللاّمتناهي. الله هو الحق أو الحقيقية فكيف يتسنّى لنا أن نعرفه ؟ إنّ هذه المحاولة تتعارض فيما يبدو مع فضائل التّواضع البشري وشعور الإنسان بضآلته”[3].
ثانيا: في مفهوم الحقيقة وتعدّد معانيها

قبل مباشرة أيّة مساءلة تحليلية أو تفكيكية لمقولة الحقيقة والمفاهيم المتشعّبة عنها:كالمعرفة وأدوات الإدراك الإنساني وتحوّلات مفهومها وقيمة شعاراتها، فإن المقتضى المنهجي والسيّاقي يستوجب التعرّض لمفهومها بالتّوصيف والمقارنة فضلا عن تحديد عناصر التَّمفصل والاختلاف بين منظورات متعددة في قراءتها وتأويلها،كاستشكال علاماتها ومعاييرها وماهيتها ومستوياتها ودرجاتها أو المؤسسات المنتجة لها، بخاصة وأن الفكر الغربي منذ الفلسفة الإغريقية جعل من الحقيقة القطب الرئيسي لنشاطاته.

وقبل البدء باقتباس بعض التعريفات للحقيقة، هناك تلميح منهجي مؤدّاه أن الحقيقة من جهة الدّلالة ليست واحدة إلا على صعيد الاسم، وداخل هذا الاسم منظورات تعكس في تنوّعها النسق الفلسفي الذي يؤطّر مفهومها ويُشغّل وسائلها في فعل البحث عن المعرفة.

إن الحقيقة Veritas, Vérité تعرّف»بأنها مطابقة الفكر للأشياء، وبلغة الأسكلائيين:”الحقيقة هي تطابق الشيء والعقل est adequation Rei et intellectus Varitas فالحقيقة إذن تتضمن مقاربة بين حدين: الفكر من ناحية، والشيء أو الأشياء من ناحية أخرى؛ وهنا تنقسم الحقيقة إلى نوعين، بحسب وجهة نظرنا إلى الفكر، أو إلى الشيء:

الحقيقة المنطقية- وتُعرّف بأنها تطابق الفكر مع الشيء Adaeqution Intellecus Cum Rei، فإذا تطابقت رواية حادث مع الواقع كانت الرّواية حقيقية.
الحقيقة الوجودية – وتعرّف بأنها تطابق الشيء مع الفكر المعياري الذي يحكم عليها: أي تطابق الشيء مع العقل rei cum intellectu Adaptation وأعني مع معايير العقل. وإذا قلت هذا رجل كريم :فمعنى هذا أن خُلقه يتطابق مع قيمة الكرم كما قدرها العقل”([4]).

ولا يختلف هذا التحديد للحقيقة عن المعنى المنطقي الذي نجده مبثوثا في شعب المنطق الصوري وفي المنطق المادي، فالأول يشتقّ حقيقته من التّطابق بين الفكر ومبادئه الكلية النّاظمة للمعرفة، والثاني يشتقّها من الواقع باعتبار أن الحقيقة هي تطابق الفكر مع الواقع أو كما كان يقول مناطقة العرب: مطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان.

وقد جاء في أحد المعاجم الفلسفية تعريف يتضمّن المعنى الذي جرى توصيفه سابقا، وهو أن“الحقيقية Vérité هي التوافق بين ما نقوله وبين ما هو موجود، فالحقيقة إذن صفة في معارفنا واسم لكل شيء موصوف بالوجود الواقعي، وتُعرّف في أنماط الفكر الكلاسيكي، بواسطة الرّبط بين تفكيرنا(إدراك، حكم) وبين الواقع المدرك”([5])
وإذا ما عرّجنا على «أندريه لالاند» A.Laland في معجمه التّقني والنّقدي للفلسفة، فسنجد استجماعا لمفاهيم ورصدا لتمظهرات مختلفة المرجعية ومتباينة المقاصد، فعبارة حقيقة «تعني صفة كل ما هو حقيقي، فالأحلام التي نتخيّلها ونحن نائمون لا يحق أبدا أن تجعلنا نتشكّك في أفكارنا ونحن مستيقظون.[كما تتفرّع تعريفات أخرى يحصيها لالاند فيما يتوالى]:

العبارة الصّحيحة “فعندما تكون هناك حقيقة ضرورية فإنّنا نجد معقوليتها متوسلين بالتحليل، فنحلّلها إلى أفكار وحقائق أبسط، إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية (لايبنتز المونادولوجيا، 33.)
ما جرى التحقق منه عمليا، أو ملاحظته من قبل شاهد يرويه”شهادة متطابقة مع الحقيقة”.
بمعنى شديد التعميم، الواقع”([6]).

أمام هذا التّجميع لمفهوم الحقيقة تستوقفنا مفردات الضّرورة والتّطابق والقيمة العملية؛ وهذا لا يجعنا نغادر أرض المعنى التوافقي بين المعرفة والواقع، ودلالة هذا أن وراء هذا التنوّع نموذج معرفي كامن يحدد مفاهيم الحقيقة ويفصلها عن غيرها أو ما يتعارض معها كالوهم والخطأ والزّيف.

غير أن مساءلة دلالة الحقيقة في حقول المعرفة التراثية العربية الإسلامية تجعلنا نلمس ملامح المخصوصية والاختلاف، بخاصة في مستوى أسبقية الدلالة اللّغوية واندراجها في النّظام البياني للدّلالة، وأيضا ازدواج معانيها بمفردات أخرى تساوقها في التركيب اللفظي فضلا عن اشتراكها معها في المضمر الدّلالي منها: الحق، الحقيقي، حقيقة الحقائق: “فالحقيقة هي اسم لما أريد به وضع له فعيلة من حق الشيء إذا ثبت بمعنى فاعلة لي بمعنى حقيق، والتاء فيه للنقل لا للتأنيث وفي الاصطلاح هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يراد به التخاطب… وبمعنى آخر هي كل لفظ يبقى على موضوعه وقيل ما اصطلح الناس على التخاطب به…أما حقيقة الشيء فهي ما به الشيء هو هو كالحيوان النّاطق للإنسان بخلاف مثل الضّاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه وقد يقال ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه حقيقة وباعتبار تشخصه هوية ومع قطع النظر عن ذلك ماهية”([7]). أي أن دلالة الحقيقة هنا لا تتحدد مبتدءا في صورتها المعرفية وفي علاقتها بدَرْك حقائق الأشياء، إنّما تتموضع في الدّائرة الشّرعية وفي الدَّائرة اللُّغوية ابتداء.

وما يتشعّب عنهما من بعد ذلك من استعمالات، أما مفردة الحقيقي كوصف في الأشياء فيُطلق بالاشتراك على معانٍ متعددة “منها الصّفة الثّابتة للشيء مع قطع النّظر عن غيره موجودة كانت أو معدومة، ويقابله الإضافي بمعنى الأمر النسبي للشيء بالقياس إلى غيره. ومنها الصّفة الموجودة ويقابله الاعتباري الذي لا تحقق له، سواء كان معقولا بالقياس إلى غيره أو مع قطع النظر عن الأغيار”([8]). وهذه المعاني التي يتبدّى لنا فيها المعنى المنطقي للحقيقة، أي صحّة التصور المُعبّر عنه بالحكم، يمكن تسميتها بالحقيقة العقلية المنطقية التي تتمثّل في أنظمتها مقوّمات التفكير السليم المبثوثة في شعب التفكير المنطقي: كالأحكام والتّماسك والتّطابق واليقين، فضلا عن وصل العلاقة التطابقية من أجل الحقيقة بين ما في الأذهان وما هو موجود في الأعيان.
ثالثا .سؤال الحقيقية : من الحقيقية/القداسة/ إلى الحقيقة / الدّليل

سندخل إلى سؤال الحقيقية هنا من زاوية الفكر الفلسفي اليوناني، للضرورة التعليمية و ليس للقيمة الفلسفية، فكيف فكر الإغريق سؤال الحقيقية، هل هي ذات مفهوم ثبوتي سكوني من حيث المعايير أم أنّها تمرحلت أي مرّت بمراحل، وشهدت تحولات في أسسها ومعاييرها و علاماتها، وإن كان الأمر هكذا، فما سرُّ هذا التحوّل و التمرحل والإرتهان إلى التغيُّر؟
1- القداسة موطن الحقيقة والفلسفة استشراف للمقدّس

إن مفهوم الحقيقة كما تشكّل في المحاضن اليونانية اللّغوية والتداولية الأولى كان حاملا لمدلولات ذات مضامين دينية ميتافيزيقية ثم استحالت بعد هذا استحال همّا عقلانيا بمحددات وضعية؛ هذا ما تستجلبه لنا المساءلة الايتيمولوجية E’tymologie لمصطلح الحقيقية، “فإذا عدنا إلى الأصل اللغوي لـ (Alétheia) وجدنا أن الكلمة مُكوّنة من الجذر (Léthé ) أي النسيان، ومن حرف النفيA)) وتصبح الحقيقة في مفهوم (Alétheia ) هي استرجاع الذاكرة والخروج من النسيان ثم التذكر، وفي هذا المعنى، يقول Détienne إن الحقيقة (Alétheia ) لا يقابلها الكذب ولا الخطأ ولكن يقابلها النسيان عند اليونانيين القدامى، فمفهوم (Alétheia ) في اليونان القديمة مرتبط بالذهنية الأسطورية ونجده مجسما في خطاب الكاهن والشاعر وملك العدل (Roi de Justice)”[9].

من هنا، فالحقيقة تتأتّى قوّتها لا من سعي الإنسان أيّا كان لامتلاكها، إنما قيمتها تتأتّى من مصدرها، فخطاب الشاعر والكاهن المؤسس على الذاكرة المقدسة بما هي مخصوصة بمن تحابيهم الآلهة في شكل ذاكرة وإلهام مقدسين، هي الحقائق الأصيلة والفاعلة والناجحة، وفي الوقت نفسه يُقام في الواقع توسُّلا بهذا المعنى نظام من القداسة والعدالة والقانون المطلق، هنا يمكن أن نستحضر الشَّواهد من التَّاريخ الفلسفي، فأن يتم الربط بين الحقيقة و القداسة والذاكرة، فمعناه الدّلالة الأفلاطونية و الدّلالة الدّينية، وبيان ذلك أن أفلاطون هو من ربط بين الحقيقية وبين التذكّر، فالمعرفة أو معارفنا بما هي الأدوات التي يمتلكها الإنسان في يديه هي الطّريق الوحيد نحو الحقيقية، فالمعرفة تذكر ليس إلا، و الحائل الذي يقف أمام الجهد المعرفي النقي هو الأهواء والرغبات الجسمية، التي يماثل أفلاطون بينها وبين اللاّعقل و الشر، أي أن ثمة التحرر من الشهوات ويماثلها الطريق الآمن نحو الحقيقية، وثمّة إتباع الشهوات ويماثلها فقدان الطّريق و الخطأ و الظّن أو الرأي ” ويصف أفلاطون هذه البنية للمعرفة من خلال بعض الأساطير التي تحكي مغامرات الحياة السابقة للنّفوس وهبوطها إلى هذا العالم topos عالم الأشياء المحسوسة و الأجسام التي ليست إلا نسخا للصور في ذاتها وضورة تحولها ورجوعها إلى مكانها أو مسكنها المعقول بواسطة الفلسفة… فبناء الحق وصياغته إنّما هو إعادة التّركيب واكتشاف المعنى الذي كان موجودا من قبل، جاريا به العمل في تنظيم شروط إمكانات الفكر، والتعلّم، على خلاف أن يكون طريقا متقدّما ومغامرا، إنّما هو صعود إلى مشارب ومصادر الثقافة التي قد تحتجب في أوقات محدّدة، يتناساها الفرد الذي يضيع في عدم نضجه النّفسي والجسمي في طفولته الحقيقية و المجازية معا”[10].

وتشير الدّراسات إلى أثر الحكمة الدّينية الهندية على الفكر الأفلاطوني في قضايا المنهج و تعالي الحقيقية، وعلاقة الروح بالمطلق، وموضوع و هدف المعرفة، و الحقيقية العليا المقدّسة بما هي المبدأ الأول، ومبدأ الثنائية أو الأحادية الفلسفية وغيرها…. ومنها الكتاب الهندي الأوبانيشاد الذي يحوي حِكم الثقافة الهندية ما قبل الميلادية وخلاصتها، ونذكر هنا أمثلة عن هذه المشابهة بين الحقيقة الأفلاطونية المقدّسة وبين الحكمة الهندية ” يرفض كل من أفلاطون ومدرسة الأوبانيشاد الإدراك الحسي كمعلومات يقينية وتؤكّد كلا المدرستين على أهمية العقل عند أفلاطون والحاجة للتأمّل و التّفكير عند الأوبانيشاد، وحسبما يذكر افلاطون فأن طريق الحواس يقود المرء إلى عالم الظواهر المتغيّرة ” ظلال الكهف”، أي انعكاس الصور، الإنسان يعيش عالم الظّواهر لا الحقيقية الجمهورية وذلك يزود الإنسان بوجهة نظر doxa، بينما طريق العقل و التفكير يقود إلى المعرفة الحقيقية… ووجهة مشابهة توجد في الأوبانيشاد التي تشير إلى استحالة معرفة الحقيقية عن طريق الحواس و المعرفة التّجريبية، لأن براهما و الماهية الإلهية لا يمكن معرفتهما عن طريق الحواس ” إن ّ العين لا ترى … و لا الكلام يعبّر… وعدم قدرة العقل على الإدراك … حقيقية لا يمكن معرفة المطلق بالكلام … أو العقل… او بالعين… “كاثا أوبانيشاد “[11] .

وفضلا عن هذا التداخل ما بين الحقيقة باعتبارها مقدّسا و الإعتقادات الدّينية لدى أفلاطون، فإنّ ثمة ما يسعفنا في تأسيس الحقيقية على المقدّس لدى سقراط نفسه، وفي المعجم الدّلالي لمفهوم الفلسفة التي تحدّدت بوصفها بحثا عن الحقيقية، فكيف الأمر مع سقراط أولا ؟

إن سقراط لم يكن فيلسوفا نظريا، وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالات الأنبياء في مسعاهم نحو تحرير الإنسان من الاعتقادات الخاطئة والسلوكيات المنحرفة عن استقامة الفضيلة ” ذلك أن سقراط كان يشير إلى اللاّمنظور الذي كان يعاوده ويأنس إليه، فهو يشرّع لممارسته الفلسفية باعتبارها إلهية لأنه دخل يوما معبد دلفي فسمع هاتفا يخبره بأنّه أكثر الأثينيين حكمة. إن رسالة سقراط ذات أساس إلهي، لذلك فهو لا يقبل التخلّي عنها، مثلما يتجلّى ذلك في مؤلف أفلاطون بعنوان “تمجيد سقراط”، نكتفي هنا بالإشارة في هذا الموضوع إلى أن سقراط يخاطب القضاة بقوله : ” لو انّكم طلبتم مني أن أتخلّى عن التّفلسف مقابل تبرئة ساحتي وإطلاق سراحي فإني لن اقبل ذلك البتّة، لأنّه ليس أعسر عليّ من عدم طاعة الله الذي حمّلني رسالة هدايتكم وإرشادكم إلى ما به تكون النّفس فاضلة”[12].

وهنا نلاحظ طبيعة المضمون الذي يريد سقراط أن يهدي به المجتمع الأثيني، فهو مضمون ديني حقيقي في شكل فلسفي، مضمون مقدّس في شكل جديد هو الشكل الفلسفي البرهاني، أي أن القيم الدّينية التي كانت لدى هوزيود في شكل أساطير وأشعار مقدسة، قد أحالها سقراط في تعاليمه من هذا الشكل إلى شكل جديد قوامه العقلانية المجرّدة وتأسيس اليقين على أسس برهانية و ليست أسسا أسطورية خرافية، و بالتالي فنحن ” أمام لحظة استجلاب للمقدّس في فضاء جديد هو فضاء القول الفلسفي من حيث هو رغبة جامعة في الحكمة و بحث عن الحقيقية في صورة جديدة… إن الميتافيزيقا التي افتتحها سقراط وواصلها فلاسفة آخرون ستكون أساس خطاب فلسفي أقرّ بإطلاقية الحقيقة إلى حدّ التّقديس”[13].

هذا، ويُعزُّز هذه المؤاخاة بين الحقيقة باعتبارها ذات جذر قدسي وبين الفلسفة باعتبارها بحثا عن هذه الحقيقة، الاشتقاقات اللّغوية و الدّلالية لمدلول الفلسفة نفسه، فلماذا اصطنع بيتاغور تسمية فيلوصوفيا ؟ ” هل لمجرّد إبراز الفاصلة الدّلالية بين الصوفوس الذي هو الله والفيلوصوفوس أي الإنسان؟…. إن إطلاق لفظ فيلسوف على من يمارس الفلسفة اي الفيلوصوفوس ليس تحجيما لقدرات الإنسان أو ضربا من التّواضع مثلما يقدّم ذلك عادة، بل هو تصميم على استشراف عالم المقدّس….. وليس مجرّد إقامة حدود بين المطلق و النّسبي… وكأن هذا الحنين إلى التّقديس قد تجلّى في هفوة لغوية ذات دلالة عندما أطلق اسم الحكماء السبع على مجموعة من الفلاسفة المشرّعين اليونانيين، الذين كادوا يضاهون الآلهة في سموهم الأخلاقي. ليست الحكمة إذن حكرا على الآلهة و لا الفلسفة في بداياتها اليونانية مجرّد قطع مع الأسطورة و المقدّس. وحتى الحقيقة الفلسفية هي، حسب ما يفيده الاشتقاق اللّفظي، لا تحجب، انفتاح به ينكشف الوجود بصورة تجعل الفيلسوف ما قبل سقراطي أميل إلى الاسترسال الشعري منه إلى مجرّد المحاكمة العقلية البرهانية العقلية”[14]. والمتفحّص لجملة هذه الشواهد المتوالية، حول الحقيقية كمضمون مقدّس و الفلسفة كأفق لاستشراف هذا المقدّس يدرك أن التحول من الأسطوري إلى الدّيني كان تحولا في شكل التعبير عن الحقيقية المقدّسة و ليس انتقالا نحو سوفسطائية إلحادية فجّة.
2- من الحقيقة/ القداسة إلى الحقيقة الدّليل

لكن السؤال المركزي الذي يثار في هذا المقام: كيف تطوّرت الحقيقة الذاكرة (Alétheia) من دائرة القداسة الدينية إلى دائرة الاعتبارات الوضعية واللائكية (Laïcisation)؟ “يذكر لنا Détienne الظروف التي تحوّلت فيها الحقيقة المقدسة من الفاعلية الدينية والسحرية إلى الشرعية العقلانية والصبغة الوضعية. ومن بين هذه الظروف؛ نجد طرح المسائل الحربية والسياسية والقانونية في مجالس شعبية ديمقراطية أو في مجالس التقنيين. أي المختصين في الموضوع المطروح وذلك بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد.
فالجدل والحوار والمناقشات وتبادل الآراء عوضت الخطاب المقدس النابع من ذاكرة الشاعر وإلهام الكاهن.
وفي هذا الطور الانتقالي تتوسط حركتان فكريتان:- حركة الفلسفات الدينية الصوفية كالفيثاغورية وحركة السفسطة والبلاغة والشعر اللائكي، والشخصية التي تمثل المنعرج في تحول مفهوم (Alétheia) سيمونيدس 557 ق م simonide de Céos) ) الذي كان أول من جعل من الشعر مهنة وحرفة ([15]).

وبإدخال عنصر القداسة الذي يختص به الشاعر إلى حقل المقابل المالي والقيمة الاستعمالية النّافعة، احتجبت الحقيقة بالمعنى القداسي وعوضتها مفهوم الدوكسا (Doxa) والخدمة، وتنقلب وظيفة الذاكرة إلى مجرد تقنية من تقنيات التَّدوين، بالتواشج مع أفول الذاكرة المقدسة وإحلال خطاب الخدعة والاستخدام الذرائعي للمعرفة مع مجيء السّفسطائيين.

وبالفعل، فهذا التّفسير يقدم جزءا من الحقيقية ويحجب عنا الجزء الآخر منها، فإذا ما رجعنا وراجعنا التحوّلات الكبرى في تاريخ الفلسفة بخاصة لدى اليونان، فإن الفلسفة التي جعلت من قطب اهتماماتها “الحقيقة» لم تتمكّن لنفسها إلاّ في لحظة منعطف جوهري هو لحظة التحوّل من الفكر الأسطوري إلى الإدراك المنظّم للعالم، وبهذا الاعتبار فإن هذا التّصور التقليدي للحقيقة بلغة الانثروبولوجيا الدينية يماثل الحقيقة في شكلها الأسطوري لدى الثّقافات البدائية، أي قداسة الأصل والوظائف الأنطولوجية والاجتماعية والأخلاقية والنّفسية، وتبعا لهذا “يظهر إذن، أن ميلاد الفلسفة قد واكب تحوّلين ذهنيين عظيمين، ظهور فكر وضعي يتنافر وكل شكل من أشكال الخوارق ويرفض التّشبيه الضّمني الذي تقيمه الأسطورة بين الظّواهر الطبيعية والعوامل الخارقة للطبيعة؛ ثم ظهور فكر مجرد يخلّص الواقع من قوّة التّغيير التي كانت الأسطورة تفرضها فيه، كما يقضي على الصورة العتيقة لوحدة الأضداد ليقول بمبدء الهوية“[16] .

أما المبرر الأكثر غورا من هذه المبررات التي تقدّم دوما ذاتها بصورة مستقلّة عن أي تأثير خارجي، وإنّما بدأت بالمعجزة وفي الآن نفسه لا تؤمن بدور المعجزة، فقد قلنا أن الحقيقة كانت تستمد قيمتها من مصدرها المقدّس، من لدن الملوك أو الكهنة، نظرا لموقعهم الخاص أو ماهيتهم و طبيعتهم السامية، فإن دخول عنصر آخر من مصدر شرقي قد غيّر بصورة تدرّجية نظام المعيارية و الحقيقية ضمن هذه الحقبة، إنه خطاب ” الرياضيات و الهندسة التي نشأت في مصر واكتسبت نظام تنقلها مع فلاسفة مثل طاليس، وتقدّم الرياضيات النموذج غير المعهود للبناء الاستدلالي: هو ضرب من الخطاب المنطقي : اللّوغوس logos المستقل تمام الاستقلال عن الشخصية التي تنجزه، وهو قابل للتّكرار بإرادة أي فرد، ومتهيئ لأن ينتج حقائق استدلالية بذاتها بدون الرجوع إلى أيّة ضمانة من أي سلطة خارجية عن قواعد التكوين وآداء الخطاب ذاته، و لم تغب القوة التّدميرية للرياضيات عن المعاصرين الذين ما لبثوا أن أدركوا علاقتها مع الأشكال الجديدة للتّنظيم السياسي و القانوني مما جرّبته المدينة الإغريقية في العصر نفسه. وهنا أيضا، عن طريق التّساوي بفضل الاحتجاج و البحث عن الدّليل بدون الخضوع إلى أيّة سلطة، كانت الشؤون العامة يقرر فيها في المجالس السياسية كما في المحاكم”[17].

ويبدو أنّه عنصر تبريري يمتلك وجاهته، لأن النّسق العلمي الرياضي القائم على البرهنة و الاستدلالات قد جرى تطعيمه بعالم المعيش التّفاعلي، أي العالم الذي يعيش فيه الناس وفيه يحيون، فأضحت الفاصلة النهائية تجد قوتها في هذه القوى الاستدلالية أكثر من ايّة تفسيرات طبيعية أخرى، بخاصة و أنّنا أشرنا في العنصر السابق إلى أن التحول لم يمكن قطائعيا كليا، وإنّما هو تحول في شكل التعبير عن الحقيقة الدّينية من الصورة الأسطورية إلى الصورة البرهانية، و هكذا لم يضع المبدأ الدّيني في النموذج الفلسفي الجديد، وإنّما جرى الاحتفاظ به وإسكانه مجددا في فضاء آخر يجابه التحدّيات الضاّغطة بمنهجية مناسبة ضمن سياقها أي السياق السوفسطائي.
رابعا: خلاصات ونتائج


وإذا ما سايرنا تحليلات”جون بيار فرنان J.P Vernant «في اشتغاله بأصول الفكر اليوناني، وتحوّلات هذا الفكر من دوائر الفكر الأسطوري إلى دوائر الانتظام الفلسفي؛ فإننا نستخرج عناصر نظرية وتاريخية هي تواليا:

أن التفكّر العقلي لم يتكوّن لدى اليونان، ولا يتبدّى بصورة واضحة؛ إلا على المستوى السياسي أوّلا، لأن السياسية وهي على التّحقيق بنت المدينة كانت الأداة المركزية فيها هي تفوّق الكلمة على جميع الأدوات الأخرى للسلطة، إنها الأداة السياسية ومعراج الوصول إلى الدولة بامتياز . من هنا «لم تعد الكلمة هي الكلمة الطقوسية والصيغة الحقة وإنما المداولة المتناقضة والنقاش والتعليل. إنها تفترض جمهورا تتوجه إليه وكأنه قاض يصدر الحكم الأخير برفع الأيدي، بين الفريقين الماثلين أمامه، إن هذا الخيار الإنساني المحض هو الذي يقيس قوة الإقناع لخطابين، مؤمّنا فوز أحد الخطباء على خصمه”([18]). وبهذا التقرير فإن أفول التأويلات الأسطورية لم يصبح ممكنا إلا في اليوم الذي أدار الفكر وجهته نحو النظام الإنساني وسعى إلى استشكاله وتعريفه بذاته.
إن وصل الصّلة بين مولد الفلسفة ومولد التفكّر حول اعتبارات سياسية في النظام الإنساني؛ مؤداه أن جذور التفكّر الفلسفي موصولة بالفكر السياسي الذي عبّرت عن اهتماماته، واستعارت مفرداته في التّبليغ والتّدبير، وبهذا «فالعقل اليوناني لم يُصنع في العلاقة البشرية مع الأشياء بمقدار ما صنعته علاقات النّاس فيما بينهم. وقد تطوّر من خلال التقنيات التي تعمل على العالم أقل من تلك التي تسيطر على الآخر والتي كانت اللّغة أداتها المشتركة: فن السياسة والخطابة والتعليم. فالعقل اليوناني هو ذلك الذي سمح بطريقة وضعية وواعية ومنهجية بالتأثير على الناس وليس بتحويل الطبيعة. إن هذا العقل هو ابن المدينة، سواء في حدوده أو في تجديداته”([19]).


والمعنى الذي نستجليه في مقاربة “فرنان»للحظة التّمفصل بين التأويل الأسطوري والتماهي بينه وبين الحقيقة بما هي مصدر ثم أفول هذا التحديد بنشأة التفكّر حول الإنسان/ المدينة، ما نستجليه هو فقدان مملكة الحقيقة قيمتها، بإحلال لغة العقل والمنظور والنّقاش والاختلاف محل التكهّن والحكاية والرواية؛ لأن دائرة الفكر الاجتماعي السياسي هي من كبرى المحاضن التي تَتفتّقُ فيها المُمكنات العقلية، وتتداخل فيها السّلطة بالمعرفة والفلسفة بالمنفعة، بما يجعلها في صلة تقابلية ضدية مع مفهوم الحقيقة بخاصة لدى فلاسفة الثبات أي: تلك التي تتأسس على الانفصال عن أية دلالة خيالية، ونشدان الموضوعية في التفكير، واستخلاص القانون الكلي.

هذا بحسب مقارنة جون بيار فيرنان، الذي أغفل الدّور العلمي الرياضي الهندسي للتراث الشرقي الذي استجلبه طاليس منه، إذ أن فرنان لا يحدثنا عن هذا الانتقال من التفكّر حول اعتبارات أسطوية إلى نشوء الفلسفة على أرض الخطاب السياسي، فكيف لهذا العقل أن ينتقل بصورة مباشرة دون توسّطات معرفية تكون جسرا منهجيا ورؤية منهجية تدار وفق مقتضياتها الممارسة السياسية، إذن النموذج العلمي الشرقي كان هو من نقل سؤال الحقيقية من الحقيقية القداسة إل الحقيقية البرهان، و ليست فقط الاعتبارات السياسية هي سبب نشوء الخطاب حول المدينة .
الإشكال الثاني : سؤال الفعل، من العقل النّظري إلى العقل العملي

أولا. مقدّمة إلى إشكالية الفعل في الفلسفة


تطرح المساءلات الفلسفية في عمومها مسألة الفعل بصورة متّصلة بقضية النّظر أو التأمّل؛ فيما تذهب إلى ذلك المطارحة الدّيكارتية التي جعلت من الأنا المفكّرة معيارا للوجود، وبالتّالي فهي سابقة على الفعل أسبقية أنطولوجية وزمنية؛ وقبل المطارحة الدّيكارتية كانت الجدالات السقراطية تنحو نحو الممارسة الفعلية للفكر الفلسفي، ذلك أن سقراط لم يكتب شيئا، لكنّه عاش مناضلا ومات مناضلا من أجل الحقيقة؛ وأفلاطون هو من قام بصياغة أفكاره صياغة مفهومية وحوَّل تحليله لمفاهيم الأشياء التي كانت لها غايات أخلاقية عملية؛ حوّلها إلى نسق كلي من الفلسفة، وأسّس لثنائية لازالت أصداؤها تمسك بالفكر الفلسفي وتوجّه منظوراته؛ هي ثنائية المثالي السَّامي والواقعي المتغيّر، فهما من طبيعتين مختلفتين ومتفاضلتين القيمة؛ وتبعا لهذا جرى التأسيس إلى الفلسفة المنفصلة عن التّدبير الحياتي و الواقعي؛ إذ الفيلسوف الحكيم المنشغف بالحكمة همه معرفة الحقيقية وليس معرفة الحياة، لأن الحياة، هذه التجربة المأساوية لا تستحق أن تعاش إلا بوصفها شكلا من أشكال التأمّل؛ ” فنحن نعرف جميعا أن التَّحديد الأصلي للفلسفة من حيث هي محبة الحكمة يقودنا إلى التحرّر من الواقع اليومي، فالرجل الحكيم بالنسبة إلى الإغريق هو الذي ينسلخ من خضم الحياة العادية و ينصرف إلى التفكير و النّظر في الكون و العالم وفي كل ما يجعل الحياة ممكنة. فالبحث عن الحقيقية بواسطة المعرفة الخالصة مقصد التفكير الفلسفي الأصلي. ذلك ينطبق أيضا على حداثة الفلسفة عندما توجّهت الاكتشافات العلمية و التقنية في العصور الكلاسيكية إلى تأصيل الفكر الفلسفي، لأن الحكمة حافظت على كونيتها وشموليتها وضمت في مخزون تفكيرها الحكمة العملية مثلها مثل الفلسفة اليونانية أو الفلسفة العربية”[20].

وتتوالى الشَّواهد من فلسفة الإغريق على هذه الحقيقية التي ترى بأن الفلسفة هي معرفة الحقيقة؛ الحقيقية الكلية المتعالية غير المرتبطة بأيّة أهداف جزئية، و الفيلسوف هو الذي ينحصر جهده في تفسير الأشياء لا الأشياء في ذاتها؛ يقول أفلاطون في محاورة تيتييت ” إنني أتحدّث عن عظماء الفلاسفة، إذ لا أرى جدوى من الحديث عمن دونهم، ويلزم أن نقول عن أولئك بأنهم من صباهم، لا يعرفون الطريق التي تؤدّي إلى الساحة العمومية و لا أين توجد المحكمة و لا قاعة مجالس المدينة….و النّوادي التي تناقش فيها المهام وعن الاجتماعات و الحفلات و الأعياد “باخوس” وما يصاحبها من عزف على النَّاي، فإن هذه الأمور لا تخطر ببالهم حتى فكرة المشاركة فيها….هو وحده أي الفيلسوف الحاضر المقيم في المدينة، أما فكره الذي ينظر إلى هذه الأمور بعين الاحتقار على أنها أشياء تافهة لا قيمة لها، فإنّه يحلّق في فسيح الأجواء… باحثا في أعماق الأرض يقيس مساحتها، متتبعا حركات الأفلاك فيما وراء السماء.. مُدقّقا في الطّبيعة بأكملها، وفي كل كائن بكليته، دون أن يلتفت إلى ماهو على مقربة منه “[21] . إنه كلام من أحد أعمدة الفكر الفلسفي الغربي الذي وُصفت الفلسفات اللاّحقة عليه بأنّها أفلاطونية برمتها، لأنّها تكرر الثنائية الانفصالية بين المعقول و المحسوس، بين الفكر و الواقع، بين الأنا و الواقع، بين الفكر و الحياة، يظهر لنا الفيلسوف هنا كما لو أنّه يعيش وسط تجريداته النّظرية؛ وغيرها لا يستحقّ التّقدير و التّثمين.

وغير بعيد عن هذا التأسيس للفصل بين الفكر و الحياة، يطالعنا أرسطو بموقف شبيه من موقف أفلاطون في تصوير الفكر الفلسفي، لكن تحت اسم آخر هو الحكمة أو العلم الأسمى، الذي يُعَدُّدُ له جملة من المواصفات التي تنطبق على الحكيم منها:

الذي يحصل على معرفة الأشياء جميعها في حدود المستطاع.
الذي يعرف الأمور العويصة التي لا تبلغها المعرفة الإنسانية إلا بصعوبة .
الذي يعرف المبادئ و العلل معرفة أكثر ضبطا.

أخيرا وهنا بؤرة الدّهشة مع أرسطو ” أن العلم الذي يُعتنق لذاته وقصد المعرفة وحدها، يعتبر أكثر حكمة من العلوم التي تُعتنق لما تحقّق من نتائج “[22]. ثمة إذن تحالف قوي بين هؤلاء المتفلسفة ضد الحياة و ضد إقامة الجسر بين العقل النّظري و بين العقل العملي، فسمو العلم آت من سمو موضوعه أي العلوم الشريفة التي تتخذ من المتعالي موضوعا لها، ويبدو أن ّ هذا التأسيس للاحتقار الأنطولوجي للمظهر و الفعل هو الذي جعل حدودا للفكر الفلسفي ضمن دوائر التَّحليل المعرفي المحض وتخصيص الإنسان بصفة العقل بما هو جوهر قائم يختص بالمعرفة، لكن هذه الإقرار على شدّة رسوخه لم يحظ بالتّرحيب الكلي، وإنّما جرى الانقلاب عليه وتغيير قبلة الفكر الفلسفي من التركز حول العقل النّظري إلى افتتاح حقبة العقل العملي، إذ الفلسفة ليس شأنها منحصرا في النّقد و التّحليل، وإنّما شأنها في التَّغيير و التّقويم وبناء منظومات القوى الفاعلة في الحياة.

ثانيا: تحوُّلات الخطاب الفلسفي من اللوغوس الفكري إلى الإيتوس الحيوي

لم يبق الفكر الفلسفي متمركزا حول “أنا أفكر”، أو العقل النّظري، أو العقل الواعي لذاته، ولم يكتف بلذّة الحكمة النّظرية، بقدر ما كسّر هذه الأصنام الفكرية التي لا تحرّك الحياة، و لا تنفث في الواقع دم الحياة، وبدلا من التقليد الّديني الفلسفي المأثور ” في البدء كان الكلمة”، انبجست مقولة أخرى هي “في البدء كان الفعل”، وأضحت الفلسفة المعاصرة تنحو هذا المنحي الفعلي، وترسم الدّلالة الميتافيزيقية للفعل، وجرى إعادة كتابة تاريخ الأنساق الفلسفية لا بوصفها أفكارا من نتاج الوعي الخالص حين يتأمل ذاته، وإنّما هي مصادرات عملية وتضرب بجذورها في صميم الذّات الفاعلة التي تنجز أفعالا وتصوغها في أنظمة نظرية، أي أن فلسفة الفعل لا تدلنا على طريق الخروج من حقبة الأنا الخالص الواعي بذاته إلى الأنا افعل أو أحيا فقط، وإنّما تقدّم لنا أدوات في القراءة والتّأويل لتاريخ الأنساق الفلسفية الكبرى، حيث كان ” معظم الفلاسفة في التاريخ أصحاب قضايا وحملة رسالات كالأنبياء يصدق عليهم ” العلماء ورثة الأنبياء”، كان سقراط صاحب قضية تنوير الناس، وأفلاطون حامل رسالة تربية المجتمع الأثيني وتكوين المدينة الفاضلة، وأوغسطين صاحب موقف، الدفاع عن المسيحية ضد الشكاك و المانويين و الوثنيين في الخارج و الفرق الضالة أنصار دوناتوس وآريوس في الدّاخل .. وأراد ديكارت وبيكون أن يؤسّسا المعرفة الجديدة. كما أراد كانط أن يبيّن إمكانيات العقل وهيجل أن يكشف عن قوانين الجدل، وفشته أن يؤسس نظرية في العلم باعتبارها حرية، وماركس أن يغيّر العالم، وهوسرل أن يكمّل المثالية الترنستدالية منذ البداية حتى النهاية الكوجيتاتوم منذ الأنا افكر حتى الأنا موضوع التفكير “[23] .

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 132.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 130.83 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]