تربية أولادنا - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1369 - عددالزوار : 139844 )           »          معالجات نبوية لداء الرياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          التربية بالحوار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          صور من فن معالجة أخطاء الأصدقاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          في صحوةِ الغائب: الذِّكر بوابة الحضور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          آيات السَّكِينة لطلب الطُّمأنينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العليم, العالم. علام الغيوب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          سبل إحياء الدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          التساؤلات القلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الحب الذي لا نراه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-11-2024, 10:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي تربية أولادنا

تربية أولادنا

1- التربية بالدعاء

حسان أحمد العماري

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهديِ هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المسلمون، تزكية النفس وتربيتها طريق الفلاح وعنوان النجاح، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10]، وإن مما يعين على هذه التزكية، الدعاء واستجلاب معونة الله وتوفيقه، فبه تدفع الشرور والمصائب، وبه يتقي العبد مصارع السوء والآفات، وبه تُقضى الحاجات وتتحقَّق الأمنيات، وهو حرز من وساوس الشيطان وخطرات النفس، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالدعاء في سائر أحوالهم، فقال عز من قائل: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].

إننا بحاجة ماسَّة للدعاء في تربية نفوسنا وتزكيتها في خضمِّ سيل جارف من الشبهات والشهوات والفتن والمغريات، فندعوا دائمًا ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].

قال ابن القيم في (الفوائد): "إذا كان كل خير أصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضلَّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًا دونه"؛ ا هـ.

عبــــاد الله، الأبناء نعمة عظيمة، وحسن تربيتهم مسؤولية الآباء، وهي أمانة مُلْقاة على عاتقهم، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].

وقال صلى الله عليه وسلم: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"؛ (متفق عليه).

والدعاء لهم بصلاح الحال من وسائل التربية، فدعوات الوالدين مستجابة، قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الولد لولده"؛ (رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه).

إن الدعاء بالخيرية والصلاح للأبناء والأحفاد والصغار منهج نبوي، فقد ورد في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)، وفي رواية أخرى في مسند الإمام أحمد بإسناد قوي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: (اللَّهُمَّ فَقِّهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ).

وهذا الفضيل بن عياض - رحمه الله- كان يدعو لولده علي وهو صغير فيقول: "اللهم إنك تعلم أني اجتهدت في تأديب ولدي علي فلم أستطع، اللهم فأدِّبْه لي".

وسعيد بن جبير رحمه الله، يقول: «إني لأزيد في صلاتي لولدي»؛ الحلية لأبي نعيم (4/ 297).

إن تربية الأبناء وتزكية نفوسهم واستقامة أحوالهم مطلب للآباء والأمهات وسبب لسعادتهم؛ ولذلك كان من دعاء الصالحين ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله فى تفسيرها: "يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له".

وهذه التربية لم تعد توجيهًا عابرًا، بل هي عملية منهجية مستمرة، تتطلب جهودًا كبيرة ووسائل متعددة، والدعاء هو أحد هذه الوسائل التي ينبغي للآباء والمربِّين أن يقوموا بها في تربية الأبناء والنشأ والذين تعول عليهم الأُسَر والمجتمعات والأوطان الكثير من الآمال.

معاشر الآباء، إن تعليم الأبناء الدعاء لأنفسهم ولمن حولهم وتعويدهم على أذكار الصباح والمساء، وتقوية صلتهم بربِّهم الذي بيده كل شيء، يكسبهم استقامة الحال وطمأنينة النفس وراحة البال، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أبناء الصحابة وشبابهم حفظ الأذكار والالتزام بها تزكيةً لنفوسهم، وصقلًا لأرواحهم، فعنِ البرَاءِ بنِ عازِبٍ، رَضِيَ اللَّه عنْهمَا، قَالَ: قَالَ لي رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيتَ مَضْجَعَكَ فَتَوضَّأْ وضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيمَنِ، وقلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمري إِلَيْكَ، وَأَلَجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رغبةً ورهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلجأَ ولا مَنجى مِنْكَ إِلَّا إِليكَ، آمنتُ بِكِتَابِكَ الذِي أَنزَلْت، وَبِنَبِيِّكَ الذِي أَرسَلْتَ، فإِنْ مِتَّ، مِتَّ عَلَى الفِطْرةِ، واجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ"؛ (مُتَّفقٌ عليهِ).

يقول سهل بن عبدالله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك، فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل: الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل، من كان الله معه وناظرًا إليه وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية.

فاللهم ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 10] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
نماذج من دعاء الأنبياء والصالحين لذرياتهم وأتباعهم:
أيها المؤمنون، ولأهمية الدعاء وأثره في صلاح النفس والأبناء والذرية فقد قص علينا القرآن الكثير من أدعية الأنبياء وابتهالاتهم، فهذا سيدنا إبراهيم يرفع أكُفَّ الضراعة طالبًا من الله تعالى أن يرزقه أبناء صالحين مصلحين، فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100].

بل إن الخليل عليه السلام لم ينقطع عن الدعاء لذريته، بل ظل يتعهدهم بالدعوات الصالحات طوال حياتهم، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، ودعا ربَّه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37]، وكان من دعائه: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم: 40].

وهذا زكريا عليه السلام يدعو ربَّه قائلًا: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38]، فاستجاب الله دعاءه وبشَّره: ﴿ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم: 7]، وكانت صفات هذا الابن البار كما قال تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 12 - 15].. فكانت كل هذه البركة في يحيى بسبب دعاء أبيه له.

وموسى عليه السلام يسأل ربَّه المعونة والتوفيق والسداد وهو يتهيأ لمواجهة فرعون وجنوده: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه: 25 - 35].

عباد الله، الأبناء زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]، ومهما عصفت بهم الحياة، وتقلَّبت أحوالهم وظروفهم، وساءت بعض تصرُّفاتهم، ينبغي على الآباء والمربِّين أن يدعوا لهم لا أن يدعو عليهم فتصعب حياتهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الأولاد والأموال والأنفس، خشية أن يوافق ساعة إجابة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِن اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)؛ (رواه مسلم).

والدعاء على الأولاد فيه ضرر كبير عليهم، قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: 11]، قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه. فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.

فأكثروا – رحمكم الله - لأنفسكم ولأولادكم ومن حولكم بالدعاء، واسألوا الله أن يصلح أحوالكم وذريَّاتكم، وأن يجعلهم قرة عين لكم في الدنيا والآخرة.

﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-12-2024, 10:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري





(2): التربية بالحب

الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهديِ هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:
أيها المسلمون، لقد دعا الإسلام إلى الحب والتراحم والتعاون بين الناس، واعتبر الحبَّ قيمة عُلْيا في رسالته، وهدفًا ساميًا من أهدافه، يسعى بشتَّى الوسائل لتحقيقه، وتكوينه في النفس البشرية، وإشاعته في المجتمع، بل جعله قيمةً كبرى سعى لتحقيقها في الحـياة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحـابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتمـوه تحابَبْتم: أفشوا السَّلام بينكم»؛ (صحيح).

والحب وسيلة لكسب القلوب، ونشر الطُّمَأْنينة، به تدفع الوساوس والشرور، وعن طريقه تُزال العداوات والأحقاد والضغائن، وهو كذلك أسلوب من أساليب التربية للنفس البشرية، وما أشدَّ حاجة أطفالنا وأبنائنا وطلابنا لتربيتهم وتنشئتهم بالحب والقرب منهم!

إن التربية بالحب تعني القدرة على التواصل مع أطفالنا بطريقة يشعرون بها بصدق المحبة، والقرب منهم، وإرادة الخير لهم، واحترام كرامتهم وتقدير ذاتهم، دون ازدراء أو تحقير، وترجمة هذا الحب عن طريق الحوار والتواصل بصورة إيجابية، وتعزيز الاحترام المتبادل، وتشجيع السلوك الجيد الذي يرغب الوالد بظهوره عند طفله بدل التركيز فقط على معاقبة السلوك المذموم إذا ما صدر منه.

والتربية بالحب تعني أن تكون صديقًا لابنك أو ابنتك عندما يحتاجان إلى النصيحة، أو يرغبان في السؤال، أو يقعان في مشكلة، أو يقترفان خطأ، أو يبديان رأيًا، أو يتمنيان أمرًا، فتستطيع من خلال ذلك تربيتهم وتزكية نفوسهم وكسب قلوبهم، وانظروا- رعاكم الله- إلى هذا الحب والقرب من الأبناء، الذي جعل من يوسف الطفل الصغير يقص على أبيه حتى أحلامه وهو في هذه السن الصغيرة، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4].

عباد الله، وإذا كان الحب يشكل أسلوبًا من أساليب التربية، فإن القرآن الكريم قد أفاض في ذكر الحب وصفات أهله وحب الله لهم وقربه منهم، فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام، اتخذه الله جل جلاله خليلًا، وهي أعلى مرتبة في الحب بالنسبة للبشر، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125].

وهذا موسى عليه السلام أحَبَّه ربُّه وقرَّبه منه، قال تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 38، 39]، قال ابن عباس رضي الله عنه: "أحبه وحببه إلى خلقه"، وقال عكرمة: "ما رآه أحدٌ إلا أحَبَّه".

وكم هي الآيات التي بيَّنت حب الله لعباده وقربه منهم، وكيف أن هذا الحب ثمرة الإيمان والتقوى والعمل الصالح والجهاد والبذل والعطاء، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54].

والله جلَّ جلاله إذا أحبَّ عبدًا قذف حُبـَّه في قلوب من شاء من عباده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى إذا أحَبَّ عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحَبَّ فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحَبَّ فلانًا فأحِبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القَبول في أهل الأرض)؛ (البخاري).

أيها المؤمنون، والتربية بالحب والقرب كذلك كانت أسلوبًا نبويًّا راقيًا، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم من خلال تثبيت الإيمان وغرس القيم كسب القلوب وتوجيه الاهتمامات، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: (يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك، والله إنِّي لأحبُّك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعنَّ في دبر كلِّ صلاة تقول: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك)؛ (صحيح الجامع).

وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم النِّساء والصِّبيان مقبلين -قال: حسبت أنَّه قال: من عرس- فقام النَّبي صلى الله عليه وسلم مُمْثِلًا فقال: (اللهمَّ أنتم من أحبِّ النَّاس إليَّ. قالها ثلاث مرار))؛ (البخاري).

وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذرٍّ، إنِّي أراك ضعيفًا، وإنِّي أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم)؛ (مسلم).

وكان صلى الله عليه وسلم يُعبِّر عن حبِّه للأطفال وصغار السن، فعن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ حدَّث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان يأخذه والحسن فيقول: (اللهمَّ أحبَّهما فإنِّي أحبُّهما)؛ (البخاري).

وكان صلى الله عليه وسلم يوطِّد حبه لأصحابه بوصفهم بأجمل الصفات التي تُعَزِّز الأُلْفة والتقارب بينه وبينهم، فيصف الزُّبير بن العوام بأنه حواريه، ويصفُ أبا بكر وعمر بأنهما وزيراه، وجعل حذيفة بن اليمان كاتم سرِّه، ولقَّب أبا عبيدة عامر بن الجرَّاح بأنه أمين الأُمَّة وغيرهم الكثير من الصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

كما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المتحابِّين في الله، وكشف عن عظيم ثمار هذا الحبِّ في الآخرة، فقال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ.." فذكر منهم: "... رَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ..."؛ (البخاري).

عندما اشترى حكيم بن حزام زيد بن حارثة لعمته خديجة بنت خويلد، فلما تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة وهبته له فتبنَّاه الرسول، فخرج أبو زيد وعمُّه لفدائه، فلما وصلا لمكة سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبا إليه وخاطباه بلغة راقية جدًّا، قالا: يا بن عبدالمطلب، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون الأسير، وتطعمون الجائع، وتغيثون الملهوف، وقد جئناك في ابن لنا عندك، فامنُنْ علينا بفدائه، فإنا سندفع لك في الفداء ما تشاء. قال رسول الله: ومَنْ هو؟ فقالا: زيد بن حارثة، فقال عليه الصلاة والسلام: فهلَّا غير ذلك. قالا: وما هو؟ قال: أدعوه فأُخيِّره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فما أنا بالذي أختار على من يختارني أحدًا، فقالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت.

فدعاه وقال له: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، قال: من هذا؟ قال: هذا أبي، ومن هذا؟ قال: هذا عمِّي.
فقال لزيد: فأنا من قد علمتَ فاخترني أو اخترهما. "ولم يقدم كشف حساب طويل".
هذا الكلام مُهِمٌّ أيها الأخوة والأخوات، مهم جدًّا؛ لأنه يمثل مِفْتاح التربية بالحب.
قال زيد: ما أنا بالذي يختار عليك أحدًا، أنت منِّي مكان الأب والعم.

ما الذي جعل زيد بن حارثة يختار رسول الله صلى الله عليه وسلم دون والده، أليس ذلك سبب الحب والقرب والمعاملة الحسنة التي حباها رسول الله لزيد بن حارثة والتي أثمرت في ما بعد بطلًا شامخًا دافع عن الدين، وقاد جيوش المسلمين، وختم مسيرة حياة بالشهادة في سبيل الله في غزوة مؤته.

عباد الله، إنَّ الهدف من تنوُّع أساليب التربية والتوجيه للطفل هو إعداد شخصيَّته وفقًا لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف؛ فيكون إنسانًا راشدًا، وفردًا ناضجًا، وعضوًا فاعلًا في المجتمع، والتربية بالحب والقرب تسهم في تحقيق هذه الأهداف؛ ولذلك فإن على الوالدين أن يُشعِرا أطفالهم بالحب والقرب منهم؛ ليتحقق الأمن النفسي الذي فقده كثير من الأبناء بسبب الشدة والغلظة والجفاء، والتربية بالحب والقرب تصنع طفلًا يحاور جيدًا، ويسأل ليستفيد فيتعلم وينضج سريعًا، والتربية بالحب والقرب تجعل الطفل إلى المسارعة في تنفيذ التكاليف والتوجيهات والابتعاد عن المحاذير وما قد تفضي إليه من أخطار طواعية؛ لأنه لامس حب والديه وإرادتهم الخير له وحرصهم عليه، والتربية بالحب تدفع الأبناء إلى مشاورة آبائهم، وطرح مشاكلهم عليهم، فيجدون العلاج الشافي، والتوجيه الناصح، فتقل حيرتهم، وتهدأ نفوسهم، والتربية بالحب والقرب تكسب الطفل السلوك الجيد والخلق القويم، فالطفل يدرك أن لهذا الحب والقرب ضريبة؛ ألا وهي السلوك السوي، والتصرف السليم، والبحث عن رضا والديه في كل أعماله.

﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
أيها الآباء أيها المربون، إن تربية الأطفال بحاجة إلى كثير من الوعي والحكمة والجهد، كما أنها بحاجة ماسة إلى كثير من الحب، فالتربية بالحب هي أول خطوة لإشباع العاطفة عند أطفالنا وهي الحجر الأساس في تكوين شخصيتهم، وعليه لا بد من التعبير الجيد عن هذا الحب بالتوجيه السليم، والنصح السديد، وإشعار الطفل بالحب والقرب وبمكانته في نفس والديه، ويكون كذلك بممزاحته وضمه وتقبيله، فقد قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «مَنْ لا يَرْحم لا يُرْحم»؛ (رواه البخاري).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»؛ (رواه البخاري (5998)).

وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبله ذات يوم صبيان الأنصار، والإماء، فقال: «والله إني لأحبكم»؛ (رواه الإمام أحمد (14043))، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط)، إن الحب والقرب من الأولاد أسلوب تربوي ذو فعالية وأثر كبير ينبغي ألَّا نغفل عنه، وعلينا أن نستخدم جميع أساليب التربية المختلفة لتزكية نفوس أبنائنا وقيامًا بواجباتنا ومسؤولياتنا.

هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربَّونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-12-2024, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

أساليب تربوية (3): التربية بالتحفيز

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وعلى أمره قامت الأرض والسموات، ولحكمه خضعت جميع المخلوقات، عَزَّ جاهه، وجَلَّ ثناؤه، وتقدَّست أسماؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله، لا معبود بحقٍّ سواه، الأرض أرضه، والسماء سماؤه، وما بنا من نعمة فمن فيض جوده وبر عطائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسولُ الله صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الغُرِّ الميامين، والقادة المظفرين، أعلام الهدى وأُسْد الوغى، ومنارات التقى، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

أيها المؤمنون، النفس البشرية مجبولة على حب المدح والثناء والتشجيع والتحفيز؛ ولذا كان أسلوب التحفيز من أساليب التربية الهامة والضرورية لتزكية هذه النفس وتقويم اعوجاجها، وتوجيه سلوكها، ورفع هممها، والتحفيز في تربية الأبناء له أثر كبير في بناء شخصياتهم، وتهذيب سلوكهم، وإثارة الدافعية لديهم، لاكتساب الخُلُق الجميل، والصفة الحميدة، وتجنُّب الخُلُق السيئ والرذائل بكل صورها.

إن أبناءنا في حاجة ماسَّة إلى هذا التحفيز والذي يقصد به إثارة سلوكهم بهدف إشباع حاجات مُعيَّنة في نفوسهم، وقد يكون هذا التحفيز معنويًّا؛ كالشكر والثناء والمدح والتشجيع، وقد يكون ماديًّا؛ كالهدية والجائزة والمكافأة وغير ذلك، وإن الناظر اليوم في علاقاتنا مع أبنائنا ليجد أن هذا الأسلوب في التربية لا وجود له إلا في أضيق الأحوال وحسب ميول بعض الآباء ومدى إدراكهم لأهمية مثل هذا الأسلوب في التربية.

إن كثيرًا من الأبناء لا يسمعون من آبائهم إلا الشتم والتوبيخ والتحقير، يمُرُّ اليوم والأسبوع والشهر وما وجد هذا الطفل كلمة إيجابية أو مدحًا أو ثناءً يحلق به في عنان السماء، وتستقيم به شخصيته، ويشعر بأهميته، ويدرك واجبه، ويحاول جاهدًا لتغيير سلوكه وإصلاح نفسه.

إن التحفيز أسلوب حياة، فالشركات والمصانع والمؤسسات والإدارات بل وحتى الدول تجعل من التحفيز مادة تلهب به حماس موظفيها فيزيد العطاء والإنتاج، وتقل الإخفاقات، ويُخرِج ذلك الموظف أفضل ما عنده، بل ويتنافس الجميع على العمل والإبداع.

عباد الله، لقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تدعو للتحفيز في كسب فضيلة أو ترك رذيلة، أو مسابقة ومنافسة على خير ومعروف، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 7، 8].

وقال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]، الأجر ها هنا يشمل مُجْمل المزايا التي يَمْنحها الله لعباده الصالحين، سواء أكانت مادِّية أو معنوية.

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وهذا نوع من التحفيز والتشجيع للثبات والاستقامة.

كما اهتمَّ القرآن بقضية المكافأة على العمل الصالح والعمل المثمِر، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160]، فهذه مكافأةٌ على عمل واحد إيجابيٌّ، يُكافَأ بعشر أمثاله، وهذا تعزيز ودعم معنوي، ودافع مستمر في عمل الصالحات.

أيها المؤمنون، لقد كان أسلوب التربية بالتحفيز منهجًا نبويًّا سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، وجعل منه طريقًا لكسب القلوب، وتجويد الأعمال، والتفاني في الأداء، والمسارعة إلى الخيرات، والتخلُّق بمحاسن الأخلاق، والبُعْد عن سيِّئها، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟" قَالُوا: وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"؛ (رواه أحمد). وَهَذَا تحفيز وتشجيع عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ والمسارعة إليه.

ومن ذلك تحفيزه وتشجيعه صلى الله عليه وسلم لمن يكفل يتيمًا، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)؛ رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء)؛ رواه مسلم.

ومن ذلك تحفيزه صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك يوم الهجرة وهو يريد أن يلحق به مرة والثانية والثالثة فحفزه بأن له سوارَي كسرى، إن رجع وترك الرسول صلى الله عليه وسلم. مع أن الله حَمَى رسولَه منه، فكان هذا التحفيز سببًا في هداية سراقة وإسلامه.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذَلِكَ مَعَ الْكِبَارِ، فَكَيْفَ بِالصِّغَارِ؟! فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِلْأَشَجِّ -أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ-: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ". وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: "إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ" قُلْتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْحِلْمُ، وَالْحَيَاءُ"، قُلْتُ: قَدِيمًا أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ: "قَدِيمًا". قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ أَحَبَّهُمَا اللهُ.

بل كان صلى الله عليه وسلم ينوِّع في أساليب التحفيز المادية منها والمعنوية ليكسب القلوب ويُغيِّر القناعات ويوجِّه السلوك، ففي صحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه. قال فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة).

وصدق الله إذ يقول: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله، إن للتربية بأسلوب التحفيز والتشجيع آثرًا كبيرًا في توجيه سلوك أبنائنا وبناء القيم في نفوسهم، وترغيبهم في كل خير، فأبناؤنا في هذه المرحلة العمرية بحاجة إلى الأمن النفسي والشعور بالانتماء للأسرة والمجتمع من حولهم، وكذلك حاجتهم إلى التقدير، وتحقيق الذات، وأسلوب التربية بالتحفيز يحقق هذه الحاجات الضرورية في بناء شخصيتهم وإعاداتهم للحياة.

والتربية بالتحفيز تزيد في الدافعية لدى الأفراد، وينتج عن ذلك التنافس والمبادرة لعمل الخير واكتساب كل صفة جميلة، عَن سالمِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهما، عَن أَبِيه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللَّهِ لَو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ قالَ سالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بعْدَ ذلكَ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا؛ (متفقٌ عَلَيْهِ)، لقد كانت كلمة عابرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلامست قلبه فكان نعم العبد لا ينام من الليل إلا قليلًا.

والتربية بالتحفيز تُعمِّق العلاقة بين الآباء والأبناء وتقويها، فيسهل التوجيه، ويحدث التأثير المطلوب، وتتولَّد القناعات في النفوس.

أيها الآباء أيها المربون، إن تربية الأبناء بشتَّى أنواع الطرق والأساليب مطلب مُلِحٌّ ومسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، وإنَّ التربية الحقيقية للأبناء هي تلك التربية التي تراعي جوانب التربية بدنيًّا ونفسيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا، وبذلك يتم إعداد الابن ليصنع المستقبل الواعد بيده لنفسه وبالتالي لمجتمعه.

وقد أحسن من قال:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض




فهم عماد الأمة، وعزها المجيد، ومجدها التليد، وحصنها الحصين، ودرعها المتين، وهم سبب التقدُّم وأساسه، وهم حماة الأوطان، المدافعون عن الأعراض، المقاتلون لأعدائهم، المتبعون لسُنَّة نبيِّهم، المتمسكون بدينهم فلا بد أن يكونوا متميزين، وأن تكون تربيتهم متميزة.

وهذا الأمر يتطلَّب استيعاب أساليب التربية، وإدراك أهميتها وأثرها في تغيير سلوكياتهم، وغرس القيم النبيلة في نفوسهم، ومن ذلك التحفيز والتشجيع الحسِّي والمعنوي فكله خير، وهو عنصر هام في التربية لا غِنى عنه.

أيها الآباء أيها المربون، شجعوا أبناءكم، وحفزوهم على فعل الخيرات وترك المنكرات واكتساب الفضائل، ارفعوا من قدرهم، أشعروهم بأهميتهم ودورهم في الحياة، قوموا بتقدير أعمالهم الإيجابية واشكروهم عليها،كافؤهم على الإنجازات ولو كانت بسيطة، ستجدون أهمية ذلك في سلوكهم وتصرُّفاتهم.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-12-2024, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

تربية أولادنا:

(4) التربية بالمواقف والأحداث


الخطبة الأولى
الحمد لله المتفرِّدِ بالعظمة والبقاء والدوام، يكوِّر الليل على النهار، ويكوِّر النهار على الليل، ويصرِّف الشهور والأعوام، لا إله إلا هو، الخلقُ خلقُه، الأمرُ أمرُه، فتبارك ذو الجلال والإكرام، أحمده –سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وبالشكر يزيد الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدَّر الأمور بإحكام، وأجراها على أحسن نظام، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسوله، أفضل الرسل وسيِّد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا على الدوام، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، أما بعد:
عباد الله، الحياة لا تكاد تخلو من الأحداث والوقائع اليومية بل وحتى على مدار الساعة، فهذه سُنَّة الله في خلقه، وقدره في أرضه وسمائه، والمسلم الرشيد هو من يستغل هذه الأحداث ويستفيد منها لتزكية نفسه وتربية أهله وأبنائه وطلابه ومَن حوله، ذلك أن أسلوب التربية بالأحداث من أعظم أساليب التربية أثرًا وأكثرها وقعًا في النفوس؛ لما لهذا الأسلوب من خصائص تحويل المفاهيم إلى حركة ورؤية وممارسة وسلوك، وكذلك أنها تربط النفس بالعمل لا بالنتيجة، إلى جانب أن أسلوب التربية بالأحداث يثمر استخلاص الدروس والعبر، ومن ثم يقلل من الجهد الذي يبذل في العملية التربوية، ويؤتي ثماره اليانعة في التربية وتوجيه سلوكهم، ولا شك أن أبناءنا في أمسِّ الحاجة إلى استثمار هذا الأسلوب التربوي في بناء شخصيتهم، وصقل معارفهم، وتوجيه سلوكياتهم، وضبط تصرُّفاتهم.

والتربية بالأحداث هي تربية فردية وتربية جماعية لهذه الأمة، فالإنسان الذي لا يستفيد من الأحداث في تربية نفسه وتربية غيره، لا يعي تجاربه الخاصة، ويتعلم منها كيف يتجنب المزالق، ويتقي الخصوم، إنه إنسان مُقيَّد النظر، ضعيف الإيمان، والأمة الإسلامية التي ذهب من عمرها هذه القرون، وخرجت بثروة طائلة من الأحداث الجسام، يجب أن تضع أمام عينيها الدروس التي تلقتها خلال هذه الآماد؛ حتى لا تقع في ذات الحفر التي وقعت فيها من قبل، أو تلدغ من الجُحْر القديم نفسه.

أيها المؤمنون، لقد جاء القرآن ليُربِّي أمة، ويُنْشئ مجتمعًا، ويقيم نظامًا، والتربية تحتاج إلى زمن، وإلى تأثُّر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية تحتاج إلى أساليب متعددة، وقد سلك القرآن الكثير منها، وجعلها منهجًا لتربية المؤمنين وتزكية نفوسهم، وكان لأسلوب التربية بالأحداث نصيب كبير في هذه التربية، بل كان نزول القرآن حسب الوقائع والأحداث من أعظم ما أثر في تربية المؤمنين، قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106].

قال السعدي: - رحمه الله -: "﴿ عَلَى مُكْثٍ على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ويستخرجوا علومه، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا شيئًا فشيئًا مفرَّقًا في ثلاث وعشرين سنة".

ولأمرٍ نزل القرآن مُنجَّمًا على ثلاث وعشرين سنة؛ فقد تجاوب مع الأحداث، وأصاب مواقع التوجيه إصابة رائعة.

وكانت تربية القرآن للمؤمنين بالأحداث منهجًا بدأ مع بداية الدعوة والبلاغ لهذا الدين، قال تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم: 2 - 4]، نزلت هذه الآيات في مكة والمسلمون يتعرضون لأنواع من التعذيب والاضطهاد والقمع، فبينت هذه الآيات قدرة الله وسعة سلطانه، وأن الأمر له سبحانه، وأن النصر حليف المؤمنين الموحِّدين، وأن العاقبة للمتقين.
ومن ينظر في كتاب الله ويقرأ آياته يتضح له أسلوب التربية بالأحداث جليًّا، في كثير من سوره، ولعل ما حدث يوم بدر وموقف المسلمين والمشركين قبل المعركة وأثناءها وبعدها لَدليلٌ واضحٌ وبيِّن على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7، 8].

ويوم حنين عندما دخل الغرور والعجب في نفوس ضعاف الإيمان واعتقدوا أن النصر لا يأتي إلا بكثرة العدد والعدة جاء القرآن والحدث أمام أعين المسلمين ليربيهم ويصحح تصوراتهم، فالنصر لا يأتي إلا من عند الله، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25]، وهكذا كان القرآن الكريم ينزل على المؤمنين حسب الأحداث والوقائع حتى في الأمور الاجتماعية؛ كالطلاق والزواج والبيع والشراء والصدقة والإنفاق والإرث والهبة وعلاقة المسلمين مع بعضهم ومع غيرهم، وغير ذلك من قضايا الحياة.

أيها المؤمنون، لقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أسلوب التربية بالأحداث منهجًا نبويًّا سار عليه في كثير من جوانب التربية الإيمانية والخلقية والسلوكية لأصحابه، روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبيًّا لها في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها".

وانظروا -رحمكم الله - كيف استغلَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف وهذا الحدث ليبين رحمة الله بعبادة، فيقوِّي صلة المؤمنين بربهم وينشر الأمل والطمأنينة في نفوسهم.

ويوم أن وقعت حادثة كسوف الشمس في نفس اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان ذلك مناسبة ليقول القائلون: إنها كسفت لموت إبراهيم، وكان مثل هذا الاعتقاد سائدًا في الجاهلية، فانكسفت الشمس أو القمر لموت عظيم من العظماء، فانتهز هذه الفرصة ليصحح المفاهيم، ويطارد الخرافة، ويقرر الحقيقة العلمية، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد أو حياته"؛ [رواه البخاري].

وعندما جاء ذلك الشاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يستأذنه في الزنا، وكاد الصحابة أن يبطشوا به، ولكنه قَرَّبه منه، وطرح عليه أسئلة تهدم بالحوار الفعَّال رغبته الآثمة، وشهوته العارمة، فقال: "أترضاه لأُمِّك؟"، قال: لا والله يا رسول الله، فقال له - صلى الله عليه وآله وسلم -: "فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم"، "أترضاه لأختك؟" قال: لا والله يا رسول الله، قال: "فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم..." وما زال به يذكر أقاربه من عمته وخالته، ثم وضع يده على قلبه، ودعا له بالهداية، فخرج الشاب وهو يقول: والله يا رسول الله، ما كان أحب إلى قلبي من الزنا، والآن لا شيء أبغض إلى قلبي من الزنا.

وعن معاوية بن الحكَم السُّلميِّ، قال: بينا أنا أصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمِّتونني؛ لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله، ما كَهَرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".

إن السنة النبوية والسيرة العطرة لتفيض بالكثير من المواقف والأحداث التي كان يجعل منها النبي صلى الله عليه وسلم درسًا بليغًا، وموعظة مؤثرة ساهمت كثيرًا في تقويم السلوك وتوجيه الانفعالات وغرس القيم.

عباد الله، التربية بالأحداث لها ثمار طيبة في نفوس الأبناء، فإلى جانب أنها تعطيهم صورًا مكتملة عن الخلق أو السلوك المراد بيانه، فهي كذلك تُقرِّب المفاهيم، وتبني حوارًا بين المربِّي والمتربِّي، وبين الأب والابن، ينتج عنه معرفة مكنون شخصية هذا الابن، ومن ذلك إن التربية بالأحداث تشرك جميع جوارح الإنسان وعواطفه وانفعالاته، فيكون التأثير أنفع للنفس، ويكون الانتباه في أعلى درجاته كما قال القائل:
من الجوانح في الأعماق سكناها
وكيف تنسى؟ ومَن في الناس ينساها؟
فالأذن صاغية والعين دامعة
والروح خاشعة والقلب يهواها


ومن ثمار التربية بالأحداث عدم تسرُّب الملل إلى النفوس من النصح والتوجيه بسبب تجدد الأحداث وتنوعها، فكيف إذا ما أحسن استغلالها في وقتها المناسب، أخرج البخاري في صحيحه عن حكيم بن حزام قال: «أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوةِ نفس بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليدُ العُلْيا خيرٌ من اليد السفلى". فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحرص الشديد على المال من حكيم بن حزام، استغل هذا الحدث بإعطائه نصيحة يربيه فيها، فكانت هذه النصيحة مؤثرة فيه غاية التأثير.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها الآباء أيها المربون، أحداث الحياة كثيرة، ومواقفها متعددة، ومسؤولياتنا في تربية أبنائنا عظيمة، واستغلال كل أسلوب وطريق نافع في وقته ومناسبته دليل على الحكمة، فهناك الأحداث والمناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية، وهناك أحداث في البيت والمدرسة والشارع والحديقة، ومع الجيران والأقارب والأرحام، وفي الوظيفة، فاستغلوا بعضًا منها في توجيه السلوك وغرس القيم، ووجهوا أبناءكم إلى فضائل الأقوال والأعمال، عَلِّمُوهم حُبَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، اغرسوا في نفوسهم علوَّ الهِمَم، والتنافس على المراتب العالية في الدين والدنيا والآخرة، زكُّوهم بالأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والأمانة وسلامة الصدر وتقديم النفع للآخرين، وحذروهم من الكذب والخيانة والبغضاء والشحناء والبُخْل والشُّحِّ.
حرض بنيك على الآداب في الصغر
كيما تقر بهم عيناك في الكبر
وإنما مثل الآداب تجمعها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر


استغلُّوا الأحداث في توجيههم إلى عمارة الدنيا والآخرة، وأن يكون لهم أهداف عظيمة وغايات سامية في هذه الحياة؛ ليكونوا نافعين لمجتمعاتهم وأوطانهم.

هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهما كما ربَّونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نِعَمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-12-2024, 04:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

تربية أولادنا (5)

التربية بالقصة

الخطبة الأولى
الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها صادقًا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه، سيد الأوَّلين، والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعـــد:
أيها المسلمون، لتربية النفوس أساليب وطرق متعددة، ذلك أنها تعنى بالنفس البشرية المتقلبة التي لا تثبت على حال، فهي ما بين فرح وحزن، وضحك وبكاء، وقوة وضعف، وفترة وشرة، وإقبال وإدبار، تتأثر باليسير، ويتحكم في تصرفاتها موقف طارئ أو كلمة عابرة؛ لذلك تتنوَّع وتتعدَّد أساليب تربيتها، ومنها التربية بالقصة؛ لما لها من التأثير والجاذبية للنفوس ما لا تبلغه أيُّ وسيلة تربوية أخرى، فهي تشدُّ المستمع، وتوقظ انتباهه، فتجعله دائمَ التأمُّل في معانيها والتتبُّع لمواقفها، والتأثُّر بشخصياتها وموضوعها.

إن للقصة تأثيرًا عجيبًا في هذه النفس سلبًا أو إيجابًا لا محالة، فهي تثير انفعالات النفس البشرية، وتولد فيها الحب والكره، والخوف والترقب، والرضا والارتياح، والحزن والفرح، والأمل واليأس، حسب محتواها والهدف منها، إلى جانب أن التربية بالقَصِّ من أقدم الأساليب، وقد صاحبت الإنسان عبر مسيرة حياته، واتخذت الشعوب والمجتمعات من سرد القصص وسماعها وسائل وطرقًا متعددة، واشتهر القَصَّاصُون وأثروا في مجتمعاتهم، وتداول الناس حكاياتهم وقصصًا أصبحت مثلًا يضرب به، وعبرة وعظة يستفاد منها.

عباد الله، وإذا كان للقصة هذا التأثير العجيب في النفس، فكيف إذا كان مصدرها كتابًا ربانيًّا معجزًا، أو سنة نبوية جامعة، لهما من الواقعية والصدق ودقة التصوير، ومِن السِّماتِ ما ليس لغيرهما؛ لذلك تحدَّث القرآن الكريم والسنة النبوية عن الكثير من القصص في مختلف جوانب الحياة؛ سواء كان ذلك عن الأنبياء والرسالات أو الأفراد أو الجماعات أو الدول والحضارات، تربية وتوجيهًا وصقلًا وإعدادًا للنفوس المؤمنة، وسماها سبحانه وتعالى أحسن القصص، فقال: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111].

وهذا السرد لهذه القصص وتكرارها في سور القرآن لم يكن إلا لهدف تربية النفوس، تثبيتًا لإيمانها، وتوجيهًا لسلوكها، وتقويمًا لأخلاقها، قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120]، علاوة على ذلك فقد أفرد الله - عزَّ وجلَّ - سورةً كاملة باسم "القَصَص".

فضلًا عن تعدُّد القصص في القُرآن الكريم التي كانت جميعها ذات هدف ومعنى، فقد بيَّنت مثلًا شناعة ما كان عليه قوم لوط، وما كان عليه أهل مَدْين، وما كان عليه الطغاة والمفسدون من ظلم وجور ومنع للفقراء، وصوَّرت خطورة الحسد الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه، وبينت طبائع اليهود، وفي جانب آخر وضَّحت ما كان عليه الأنبياء والصالحون من صبر وعدل وعطاء، قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120].

وفي قصة يوسف عليه السلام نموذج لقصص القرآن بما فيها من أحداث ووقائع بين الأب والأبناء، وبين الإخوة مع بعضهم، وبين النفس البشرية وحظوظ الشيطان، وبين الإيمان والكفر، وبين القيم والأخلاق، وبين اليأس والأمل، والصبر والتضجُّر، وبين التغلب على المشاكل وتجاوزها، وبين السلوكيات وتقويمها، وبين العدل والظلم، وبين ظهور الحق وبيانه وعودة كل شيء إلى نصابه، آيات للسائلين، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7].

معاشر المؤمنيين، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم المربِّي، ما ترك طريقةً ولا أسلوبًا يوجه ويربي من خلاله أصحابه إلا سلكه، ومن ذلك التربية بالقصص، فقد حفلت السنة النبوية والسيرة بالكثير من القصص والمواقف التي كان يستثمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه أصحابه وتربيتهم، ففي يوم من الأيام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبيِّن أمر القائم على حدود الله والواقع فقال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا"، فاستخدم صلى الله عليه وسلم أسلوب القصة لتقريب المفاهيم وتثبيت القيم وتوجيه السلوكيات.

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يطوفون فى الطريق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم - وهو أعلم منهم - ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشَدَّ عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمِمَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشَدَّ منها فرارًا، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"؛ (البخاري)، وغير ذلك الكثير من القصص النبوية في جانب العقيدة والأخلاق والمعاملات تزخر بها كتب السنة النبوية.

كيف لا يكون ذلك وقد أمره ربُّه بقوله سبحانه: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله، إن للقصة أثرًا عظيمًا في تربية النفوس، فالقصة تشبع الخيال، وتوجِّه الانفعالات، وتخاطب العاطفة، وتؤثر في الوجدان، ولها أسلوب عجيب في الإقناع، وهي وسيلة لتقمُّص الشخصيات، واتخاذ القدوات، وغرس القيم، وتوجيه السلوك، إلى جانب أن القصة تنتهي بفائدة وعبرة وعظة، وهذا له أثر عميق في النفس البشرية، إلى جانب أن أسلوب التربية بالقصة له دور في بناء شخصة الأبناء وتوجيه مَلَكاتهم، وإحياء نبتة الخير في نفوسهم، وشد انتباههم لما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

أيها الآباء، أيها المربون، لنجعل من القصة الهادفة أسلوبًا من أساليب التربية لأبنائنا، فنحسن اختيار الهدف منها وشخصياتها وأبطالها والثمار المتوقعة منها، ولنحذر من قصص الخيال العلمي، وقصص السحر والجان، وقصص الرعب والأشباح؛ لما تؤدي تلك القصص إلى إصابة أبنائنا بالهلع والخوف حتى لا يكاد يجرؤ أحدهم على النهوض ليلًا ليدخل الحمام، وهي لا تصلح أبدًا وسيلةً من وسائل التربية أو التوجيه.

وكذلك القصص التي تدعو إلى الرذائل والدنايا والمكايد، ولا تدعو إلى حب الخير وأهله، وغير ذلك من قصص الحب والجنس والقصص التافهة التي لا فائدة منها حتى يتعوَّد الأبناء على الجدية، ووضوح الهدف، وسمو الغاية في كل ما يفعلونه، وإذا لم نوجد البديل المناسب لإشباع رغباتهم وخيالهم وتهذيب سلوكياتهم، فإن البديل الآخر موجود؛ قنوات فضائية وإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومسلسلات وأفلام، كلها قصص يمكث الأبناء لمتابعتها ومشاهدتها الساعات والأيام والشهور، ولا شك أنهم يتأثرون بما فيها، وينعكس الأمر على أخلاقهم وتصرُّفاتهم؛ بل الأعظم من ذلك على دينهم وعقيدتهم.

أيها المؤمنون، لقد كان صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص الأنبياء؛ ليربطهم برسالات الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، وقص عليهم قصص الصالحين؛ كأصحاب الكهف والأخدود والغلام المؤمن لتستقيم نفوسهم وتثبت على الحق: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13]، وقصَّ عليهم قصص البطولات والشجاعة والأخلاق والقيم ليزكيهم، وقص عليهم قصص المنجزين والمؤثرين في مجتمعاتهم والنافعين لأمتهم: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف: 83]، وقص عليهم الأمم التي عصت ربها، وتنكَّرت لرسلها، وفسدت أخلاقها، ليحصن المؤمنين من سبل الضلال وحتى يأخذوا العظة والعبرة، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9]، فلنحسن استخدام القصة في تربية أبنائنا، ونعد لذلك الأمر برامج محددة، ونحسن اختيار الوقت المناسب والموقف المناسب لتؤتي ثمارها بإذن الله: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف: 58].

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 15-12-2024, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

تربية أولادنا (6)

التربية الخُلُقية


إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيُّه من خلقه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

عباد الله، إن للأخلاق مكانةً عظيمةً في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب؛ ولذلك اعتبرها الإسلام قيمةً إيمانيةً مرتبطةً بعقيدة الفرد وصلته بربِّه، ورتَّب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة، وجعل -سبحانه وتعالى- تربية الخلق وتزكية نفوسهم بالأخلاق والفضائل من أهداف الرسالات والنبوات، فقال عن نبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، وفي روايةٍ "صالحَ الأخلاقِ"؛ (السلسلة الصحيحة).

وبين الإسلام أن الخلق من أعظم الأعمال وأكثرها أجرًا يوم القيامة، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما شيء أثقل من ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء"؛ (صحيح الترغيب والترهيب)، وجعَل أجرَ حُسْن الخُلُق كأجْرِ العبادات، مِن صيام وقيام، فقال: «إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسْن خُلُقه درجةَ الصائمِ القائم»؛ (صحيح الترغيب: 2643)؛ لذا يجب أن يتحلَّى بهذه الأخلاق كل مسلم، سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا، رجلًا أم امرأةً، وأن يحرص الجميع على اكتسابها وممارستها سلوكًا في الحياة، فهي جزء من الدين، ولا يمكن أن تنفصل عن إيمان المرء وعقيدته.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلُق حَسَن"؛ (صحيح الجامع).

أيها المسلمون، إن أبناءنا فلذات أكبادنا التي تمشي على الأرض في أشد الحاجة إلى تربيتهم أخلاقيًّا وتحصينهم بالأخلاق، خاصة ونحن في عصور الانفتاح والعولمة وتعدُّد الثقافات واختلاط الشعوب والمجتمعات مع بعضها، وتنوُّع وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الإنترنت والفضائيات والتكنولوجيا الحديثة بما فيها من غثٍّ وسمين التي نالت من البعد الأخلاقي للمسلم وأثَّرت فيه سلبًا، بل وأفقدته توازنه المطلوب عند التعامل مع قضايا ومبادئ وقيم مجتمعه ومن حوله من الناس.

والتربية الخلقية يقصد بها إكساب الطفل مجموعة الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الإيجابية والقيم العظيمة وتنميتها في نفسه وتوجيهه لممارستها في سائر أحواله بقناعة ورضا، إلى جانب تعريفه بضدها من الأخلاق والسلوكيات الشائنة، وتحذيره منها، وبيان خطرها على دينه ونفسه ومجتمعه.

إن التربية الخلقية وتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية، فغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتى تصبح في أعلى مدارج الكمال البشري، إلى جانب تخليص النفس من سيطرة سلطان الأهواء والشهوات، لتكون الفضائل؛ كالصدق والأمانة، والتواضع والإيثار، والحياء والحلم والاستقامة وبذل المعروف وكف الأذى ونحوها مُثُلًا عُلْيا تقود مسيرته في الحياة، وتوجه سلوكه وتصرُّفاته في كل الظروف والأحوال.

إلى جانب أن التربية الخلقية للطفل تجعل منه إنسانًا سويًّا في مجتمعه ومؤثرًا في محيطه، وتكسبه الراحة النفسية، وتمنحه السعادة وتحميه من الانحرافات السلوكية، وهي سياج تمنعه من اقتراف الجريمة، ويكون بها قرة عين للوالدين في الدنيا والآخرة.

أيها المؤمنون، التربية الخلقية لأبنائنا ترتكز على أسس ومقومات حتى تؤتي ثمارها، ولعل أول هذه الأسس والمقومات أن يكون الوالدان قدوة حسنة، فالطفل يتعلم بعينه قبل أذنه، ولا بد أن يكون المعلم والمربي قدوة؛ ولذلك أوصى عمرو بن عُتبة معلِّم ولده قائلًا: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت!"

وعلينا ربطهم بالقدوة الحسنة، والمعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلتزمون أخلاقه، ويعملون بسنته، ويتبعون هُداه، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة: 6].

ومن هذه الأسس والمقومات، ديمومة الوعظ والإرشاد والنصح والمتابعة لأبنائنا؛ لأننا لا نتعامل مع إله، بل مع نفس بشرية تنسى وتتقلب وتتغير وتتحوَّل حسب المواقف والظروف المحيطة بها والأوضاع النفسية التي تعيشها، ولا بد من ربط ذلك النصح والتوجيه بالثمرة والنتائج الطيبة، قال لقمان وهو يعظ ابنه: ﴿ يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 17، 18].

ومن ذلك تعليمهم أصول الأخلاق الحسنة، وكيفية اكتسابها، والأجر المترتب عليها عند الله؛ فتتولَّد في نفوسهم الرغبة والخشية ومراقبة الله ﴿ يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان: 16].

إلى جانب بيان أثرها في حياتهم من الراحة والقبول والذكر الحسن، وهذا الأمر يأتي عن طريق القراءة لكتب الأخلاق والسير، وسرد القصص والحوار والمناقشة، ومشاهدة البرامج النافعة، وحضور دروس العلم المفيدة، واستثمار الأحداث والمواقف والمناسبات، مع تنفيرهم من الأخلاق السيئة، وبيان خطرها وعواقبها وأثرها في الفرد والأسرة والمجتمع.

ومنها: اختيار الرفقة الصالحة لأبنائنا ومساعدتهم على ذلك، فكم من رفيق وصديق أورد صاحبه المهالك، وأورثه مساوئ الأخلاق، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفيق السوء وجليس السوء، فقال: "مَثَلُ الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكِير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثةً"؛ متفقٌ عليه.

وقديمًا قيل:
عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارنِ يَقْتَدِي
ومن ذلك: التشجيع والتحفيز.

ومن هذه الأسس والمقومات الدعاء، فنلجأ إلى الله، ليرزقنا وأبناءنا حُسْن الخُلُق، ويصرف عنا سيِّئه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعاء الاستفتاح: "... اهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنتَ"؛ (رواه مسلم)، وكان يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن منكَراتِ الأخلاق والأعمالِ والأهواءِ"؛ (رواه الترمذي).

﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

أيها الآباء أيها المربون، إن علينا أن ندرك جميعًا أن التربية الخلقية لأطفالنا وأبنائنا ضرورة لا بد منها، ومسؤولية سوف نسأل عنها، وحاجة لا بُدَّ من القيام بها، فالأخلاق من ركائز الدين، وطريق إلى رضوان الله وجنته، وهي سبب لسعادة الفرد والمجتمع، والأخلاق سياج نحمي به أطفالنا وأبناءنا من الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، إلى جانب أن تَقَدُّمَ الأمم والشعوب مرتبطٌ بعِظَم الأخلاق وعلوِّ قامتها، ولا شكَّ أن استمراريَّة التربية الخلقية ضرورة تمليها ظروف العصر المتغيرة والمتجددة.

إنما الأُمَمُ الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أيها الآباء، أيها المربون، لنحرص على تربية أبنائنا على الأخلاق الحسنة والآداب الفاضلة، ونتعاهد هذه التربية بالرعاية والمتابعة، ونستعين بكل وسيلة؛ ففي ذلك سلامة ونجاة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].

قال بعض أهل العلم، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه، ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فأن يصونه عن نار الآخرة أولى.

ليس اليتيمُ مَن انتهى أبوَاهُ مِن
هَمِّ الحياةِ وَخَلَّفاهُ وَحِيدا
فأصابَ بالدنيا الحَكيمة منهما
وبحُسْنِ تربيةِ الزمان بَديلا
إنَّ اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له
أمًّا تخلَّتْ أو أبًا مَشْغُولا
إِنَّ المقِّصَر قد يَحُولُ ولن تَرى
لجَهالة الطَّبْعِ الغَبيِّ محيلا


وعَنِ الْحَسَنِ البصري -رحمه الله-، قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ وَعَظَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ فَقَالَ: يَا أَهْلِي، صَلَاتَكُمْ صَلَاتَكُمْ، زَكَاتَكُمْ زَكَاتَكُمْ، جِيرَانَكُمْ جِيرَانَكُمْ، مَسَاكِينَكُمْ مَسَاكِينَكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَى عَبْدٍ كَانَ هَذَا عَمَلهُ، فَقَالَ: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم: 55].

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نِعَمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26-12-2024, 08:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

تربية أولادنا (7)

بالقدوة والسلوك


الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
معاشر المسلمين، إن تربية الأبناء أمانة عظيمة، ومسؤولية كبيرة، وضرورة حياتية، وواجب ديني، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]؛ "أي: فقِّهوهم، وأدِّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم، ودلَّت الآية: على وجوب الأمر بالمعروف في الدين للأقرب فالأقرب، وقيل: أظْهِروا من أنفسكم العبادات؛ ليتعلَّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم"؛ لطائف الإشارات؛ للقشيري (3/ 607).

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، وفي رواية: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"؛ ومعنى مسئول؛ أي: إن العبد إذا وقف بين يدي الله جل في علاه سأله عن ذلك، وقد قال بعض العلماء: إن الله جلَّ وعلا يوم القيامة يسأل الوالد عن ولده قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه سبحانه كما أوصى الأبناء بالآباء برًّا وإحسانًا فقد أوصى الآباء بالأبناء تربيةً وتأديبًا؛ فإنه جل في علاه كما أنه قال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت: 8]، فإنه قال جل في علاه: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء: 11]، وقال: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6].

وتربية الأبناء لها أساليب مختلفة وطرق متعددة، ولعل من أعظمها أثرًا وأكثرها وقعًا في نفوس الأبناء هي تصرفات الآباء وسلوكهم مع من حولهم، فهي المصدر الرئيسي والأول لتعليمهم وتربيتهم وتوجيه سلوكهم، ومن هذه التصرفات، تصرفات الوالدين العفوية التي يقصد بها تلك التصرُّفات اليومية العادية التي تخلو من التكلُّف والتصنُّع والتي يمارسها الوالدان في البيت والشارع والعمل ومع الجيران والضيوف والأرحام ومع بعضهم البعض.

أيها المؤمنون، إن الأطفال يتخذون من تقليد الآباء أسلوبًا وطريقًا لاكتساب الأخلاق والسلوك، وعليه فإن التصرفات العفوية واليومية وبصورة متكررة من الوالدين تشكل في ذهن الطفل قواعد التعامل والإطار الأخلاقي والسلوكي الذي ينبغي أن يكون عليه؛ ولهذا قال أحد السلف لمعلم أولاده: "لِيَكُنْ أوَّل إصلاحكَ لِبَنِيَّ إصلاحُك لنفسِك، فإن عيوبهم معقودةٌ بعيبك، فالحَسَنُ عندهم ما فَعلت، والقبيحُ ما تركتَ"؛ ا هـ.

إن عيون الأبناء معقودة على تصرفات الوالدين، وهما أوَّل من يفتح الطفل عينيه عليهما ويتأثر بهما، فالحَسَنُ عندهم ما فَعلوه، والقبيحُ ما تركوه، حتى تلك التصرفات العفوية التي تحدث من الوالدين بدون ترتيب أو تكلُّف أو تصَنُّع، تؤثر تأثيرًا بالغًا في سلوك الأبناء سلبًا أو إيجابًا.
مَشَى الطاووسُ يومًا باعْوجاجٍ
فقلدَ شكلَ مشيتهِ بنوهُ
فقالَ: علامَ تختالونَ؟ قالوا:
بدأْتَ به ونحنُ مقلِّدوهُ
فخالِفْ سيركَ المعوجَّ واعدلْ
فإنا إن عدلْتَ معدلوه
أمَا تدري أبانا كلُّ فرعٍ
يجاري بالخُطى من أدَّبوه؟
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ مِنَّا
على ما كان عوَّدَه أبوه


أيها المسلمون، إن أكثر ما يكون سببًا في انحراف الأولاد هو انحِراف الوالدين، أو أحدهما؛ فكذب الأب يعني كذب الولد، وارتكاب المعاصي من قِبل الوالدين يعني ارتكاب الأولاد للمعاصي، وهكذا، وفي المقابل التزام الوالدين، وحُسن خلقهما سبَبٌ رئيس لصلاح الأولاد، وأخلاقهم، وعليه فالأب، وكذلك الأم، يجب أن يكونا نموذجًا وقدوة لطفلهما، حتى يكون من السهل على الطفل أن يقلد السلوك الجيد في حياته، بدلًا من تنفيذ نصائح وأوامر لسلوكيات لا يراها، فالأب في نظر أبنائه هو ذلك البطل الذي يقلدونه في كل شيء، في حركاته وتصرُّفاته، في التواضع والأمانة والصدق والوفاء، وحسن العشرة، وحسن المعاملة مع البائع ومع الجيران والأرحام، بل حتى مع الزوجة في البيت، ومع نوائب الدهر وأحداث الزمان وفي كل سلوكياته كلها؛ لأن الطفل يميل إلى اعتبار أن كل تصرفات والده مثالية، من دون أن يشعر الأب بذلك.

إن بعض الآباء والأمهات قد ينزعجون كثيرًا في حالة ما إذا اكتشفوا أنَّ ابنهم يمارس الكذب عليهم وعلى الآخرين، وقد يستنجد بعضهم بالمتخصصين لمعالجة هذا السلوك غير السويِّ لابنهم، ولكن قد يكون الوالدان أو أحدهما السبب في تخلُّق الابن بهذا الخُلُق؛ لأنَّهما هم من دفع به إلى ذلك بممارستهما للكذب مع علمه بكذبهما، وفي المقابل قد تجد صفات رائعة وأخلاق حسنة تظهر على ابنك وتتعجب من أين اكتسبها حتى أصبح يشار إليه بالبنان، والحقيقة أنه رأى تصرُّفاتك العفوية اليومية وطريقة تعاملك مع من حولك ورقي أخلاقك، فالتقطها منك وقلَّدها ومارسها حتى أصبحت سلوكًا يلتزم به مع من حوله.

وقد بيَّن لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطورةَ مثل هذا الفِعْل، فعن عبدالله بن عامر رضي الله عنه قال: دعَتْني أمِّي يومًا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالَت: يا عبدالله، تعالَ حتى أعطيَك، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردتِ أن تعطيه؟"، فقالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا، فقال: "أما إنَّك لو لم تُعْطِه شيئًا، كُتبَت عليك كَذِبة"؛ (السلسلة الصحيحة).

يقول الشاعر:
لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم




وقال ابن القيِّم رحمه الله: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانتِه له على شهواته، ويزعم أنه يكرِمه وقد أهانه، وأنَّه يرحمه وقد ظلمه وحرَمَه، ففاته انتفاعُه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيتَ عامَّته من قِبَل الآباء"؛ تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم، ص (242).

عباد الله، إنه من غير المنطقي ولا المقبول أن ينهى الآباء الأبناء عن النميمة وهم نمَّامون، أو يشاهدونهم في تصرُّفاتهم اليومية وهم لا يتورَّعون عن الغيبة وهم يغتابون، وعن الكذب وهم يكذبون، بل ويشاهدونهم وهم يتصرفون ويتعاملون معاملة غير لائقة مع البائع في السوق ومع الجار واليتيم والمسكين والأرحام والأصدقاء ومع بعضهم البعض في البيت، ثم يريدون من أبنائهم سلوكًا راقيًا وخُلُقًا حسنًا، أو يأمرونهم بالصلاة وهم عنها ساهون أو لها تاركون، أو لأمانة وهم لها مضيعون، وقد ورد الذَّمُّ في الكتاب المجيد لمن يخالف قوله فعله، فيأمر غيره بالشيء ولا يأتمر هو به، قال تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المؤمنون، إن الأسرة هي النواة الأولى التي يعيش فيها الأفراد، ويتلقون تربيتهم واحتياجاتهم ومعارفهم وخبراتهم وسلوكياتهم حيث الأسرة تعد المؤسسة الاجتماعية، وتصرُّفات الآباء والأمهات هي الدستور الأخلاقي والسلوك للأبناء، فعيونهم وتصوراتهم وآمالهم واتجاهاتهم معقودة بسلوك وتصرفات الآباء والأمهات؛ لذلك يجب ألا يرى طفلك وولدك منك إلا كل خير، ولا يسمع إلا كل طيب، لتنمو نفسه على هذا الخير، وينمو فكره على هذا الطيب، ومن الحكمة في صلاة الرجل النافلة في بيته، أن يراه أهل البيت فيقتدون به؛ ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا"؛ وكم رأينا صغيرًا في أول سِنِّ الإدراك يحاكي أباه وهو يصلي، فيكون ذلك أول تعلُّقه بالصلاة.

ما أجمل أن يرى الابنُ أباه قدوةً حسنةً، وأنموذجًا متحرِّكًا في أرجاء المنزل، يترجِم الآدابَ الإسلاميَّة سلوكًا حيًّا؛ فيلمس الأبناءُ ذلك، ويعيشونه واقعًا، فيكون له الأثر الإيجابي في حياتهم.

ما أجمل أن يضبط الآباء والأمهات والمربون والمعلمون تصرُّفاتهم حتى يكونوا قدوةً حسنةً لأبنائهم وطلابهم، ويكونوا مصدرًا للسلوك الجيد والخُلُق الحسن ومعينًا يغترف منه الأبناء الصفات الحسنة.

أيها المسلمون، إن من السهل على الطفل أن يُقلِّد السلوك الجيد في حياته، بدلًا من تنفيذ نصائح وأوامر لسلوكيات لا يراها، والأب في نظر أبنائه بطل، ويقلدونه في كل شيء، في الحركة، في التصرف، في الأمانة، في التواضُع، وفي كل السلوكيات، فالطفل يميل لاعتبار كل تصرفات أبيه مثالية، حتى دون أن يشعر الأب نفسه، فأحسنوا في تصرفاتكم أمام أبنائكم، واحذروا من الغفلة والتساهل في هذا الأمر؛ لأن عواقبه وخيمة في حياة الأبناء، وأنتم بذلك مأمورون شرعًا، مأجورون دينًا، حفظ الله أبناءنا جميعًا من كل سوء، ووفقنا جميعًا لتربيتهم وتعليمهم وإعدادهم للدنيا والآخرة.

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26-12-2024, 08:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري



تربية أولادنا

(8) التربية بالعقوبة وضوابطها


الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المؤمنون، إن تربية الأولاد والعناية بهم وحسن رعايتهم من واجبات الوالدين والمربِّين، ولا بد لنجاح هذه التربية من استخدام الأساليب التربوية المختلفة في وقت الحاجة والضرورة والحال، وإن من أساليب التربية، التربية بالعقوبة بمفهومها الصحيح وشروطها السليمة، فحين لا ينفع النصح ولا الوعظ ولم تؤتِ القدوة ثمارها، ولم يزدجر بالتنبيه والتذكير والتحذير، وتكرر الأمر، فعند ذلك يستخدم أسلوب التربية بالعقوبة، ويقصد به زجر الطفل وتأنيبه وحرمانه من بعض الامتيازات، وربما الضرب غير المبرح ودون تَعَدٍّ أو إحداث أضرار في جسد هذا الطفل أو التسبب له في أذى فادح، ولا بد أن يتناسب مع الخطأ الذي ارتكبه الطفل.

عن مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ ذكر منها: «وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا، وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ»؛ (صححه الألباني في الإرواء (2026)، وفي الحديث: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت؛ فإنه أدب لهم»؛ (صحَّحه الألباني في الصحيحة (1447)).

عباد الله، التربية بالثواب والعقاب من الوسائل التي اعتمدها القرآن الكريم في تربية المجتمع المسلم، وصيانة لأفراده وزجرهم من ارتكاب المنكرات والموبقات، والتعدي على بعضهم البعض، ثم إن البشر ليسوا سواء؛ فمنهم من تفلح معه القدوة الحسنة في التربية، ومنهم من تنفعه الموعظة الحسنة والقول اللين، ومنهم من تكفيه القصة، وقسم لا بد من وقع السوط على جلده لردعه وتنبيهه.

والقرآن الكريم لا يبادر إلى العقوبة في التربية؛ إنما يقدم قبلها الترغيب في الثواب أو يقرنه معها؛ للإشعار بأن العقوبة ليست مقصودة لذاتها؛ وإنما هناك طوائف من الناس لا بد من إبراز السوط لهم، والبعض الآخر لا بد من إيقاع السياط على جلودهم ليرتدعوا ويردعوا عن غَيِّهم وعنادهم.

ففي مجال الترغيب قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8].

وفي مجال العقاب والترهيب قال تعالى: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 21 - 26]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18].

وبيَّن القرآن الكريم الكثير من الحدود؛ وهي نوع من العقاب لزجر المعتدي، ووقفه عن حدِّه كحد الزنا والقذف والسرقة والإفساد في الأرض وغير ذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33].

وأما مصير الأمم والدول والمجتمعات التي لم ترتدع بالموعظة ولا النصيحة ولا بالقدوة ولا بالاعتبار بمن مضى، فقد وضح القرآن أن عقابهم كان من جنس عملهم، ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنَن، فأين ثمود وعاد؟! وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟! أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟! لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].

وأما التربية بالعقوبة بكل وسائلها في السنة النبوية كالحِرْمان منَ التشجيع، واللوم والتوبيخ، والهجر والمقاطعة والتشهير والعقاب البدني، فقد كانت حاضرة في تربية المجتمع، حيث يعمد المربِّي إلى حرمان مَن يعاقبه مما كان قد عوَّده من تشجيع، أو مدح، أو ثناء، وما شابه ذلك، وقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب التوبيخ حيث دعت الحاجة إلى ذلك؛ حيث يُروى عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -: أنه عَيَّر رجلًا بسواد أمِّه، فوبَّخه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: "إنك امرُؤٌ فيك جاهلية"؛ (البخاري).

ولجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أسلوب الهجر والمقاطعة هذا في عقابه للثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك؛ حيث أَمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته ألَّا يكلِّموهم، فجرت المقاطعة بين المسلمين وبين هؤلاء الثلاثة؛ حتى ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 117 - 118]، أما العقاب البَدَني لمعالجة الأخطاء والتقصير في الواجبات والمهمات؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر"؛ (أبو داود وأحمد).

أيها المسلمون، إن للتربية بأسلوب العقوبة ضوابط يجب الانتباه لها، من ذلك أن تتناسب العقوبة مع الخطأ الذي وقع دون تجاوز ذلك وتعدٍّ، ففي ذلك ظلم وجناية على هذا الطفل، ومنها ولا بدَّ أيضًا أن تكونَ أداة الضرب أداة مناسبة لسنِّ الصغير؛ فلا يضرب بأداة تؤلِمه إيلامًا شديدًا، أو تُحدِث له كسورًا، أو جروحًا، أو عاهاتٍ؛ لأن الغرضَ - أولًا وأخيرًا - من هذا الضرْب هو التأديب، وليس التشفِّي والانتقام، ويجتنب المربِّي عند الضرب الوجْه والرأس بما حوى، والمناطق الحسَّاسة من الجسم؛ لأن الضرب في هذه المواضع قد يؤدِّي إلى حدوث عاهات للصغير، وقد نَبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "إذا ضرب أحدكم فليتَّقِ الوجه"؛ (البخاري).

كذلك الهجر والحرمان والتوبيخ يجب أن يتناسب كذلك عمر الطفل وسنه ومع الخطأ الذي ارتكبه، وإلا تحوَّل الأمر إلى إرهاب وتعسُّف وقهر وظلم وتجاوز للمعقول، يقول ابن خلدون في المقدمة: "من كان مرباه بالعسف والقهر سطا به الظلم، وحمل على الكذب والخبث خوفًا من انبساط الأيدي عليه بالقهر، وعلمه المكر والخديعة، وفسدت فيه معاني الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل"؛ انتهى.

فإياكم والإفراط في عقوبة أبنائكم؛ فإن ذلك حتمًا سوف يؤثر في نفسياتهم وعلاقاتهم ودراستهم سلبًا، فلا تعتدوا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله، إن للتربية بالعقوبة بضوابطها أثرًا في تربية النفوس وتهذيبها، فتجنب الأخطاء وعدم تكرارها وإدراك خطرها، والاستجابة السريعة والانضباط ومراجعة النفس وتذكيرها قبل القيام بها أو ارتكابها نتيجة حتمية لأثر التربية بالعقوبة.

أيها الآباء أيها المربون، إن التربية بأسلوب العقوبة، ومنها الضرب هو آخر طرق التأديب، وإلا فإن هناك وسائل للعقوبة، فذم الولد وتوبيخه عقوبة، وإن حرمانه من الجوائز دون إخوانه وأقرانه عقوبة، وإن التهديد والوعيد عقوبة، وإن الهجر وعدم التكليم للطفل عقوبة، ومن العقوبات أيضًا الأمر بتصحيح الخطأ عمليًّا، وهو من صور العقاب الإيجابي؛ كأمر الطفل بإصلاح ما أفسد، جمع ما فرق، وتنظيف ما لطخ، وكذلك تكرير كتابة ما أهمل كتابته ونحو ذلك، وأمر الأولاد بتصحيح الخطأ يربي فيهم النهوض للأمثل، والارتقاء للأفضل.

أيها الأب، أيها المربي، لا تكن صارمًا على الأولاد كل الصرامة، واعلم أن التخويف بالضرب في أكثر الأوقات أحسن من ذوقه، إن الأطفال وهم في مرحلة الطفولة يحتاجون إلى اللعب وحسن الرعاية، فلا يعاملون معاملة الكبار، ولا يمكن أن تملي عليهم قوانين وقواعد لا بد أن يسيروا عليها، واسمعوا إلى هذا الشاعر الذي تذكر أبناءه وقد كان ضجيجهم يملأ البيت وهو يصور تلك الفطرة البريئة التي بسببها تعرضوا في كثير من البيوت لأبشع أنواع الضرب والعنف والاحتقار.

أين الضجيج العذب والشغب
أين التدارس شابه اللعب
أين الطفولة في توقدها
أين الدُّمى في الأرض والكتب
أين التشاكس دونما غرض
أين التشاكي ما له سبب
أين التباكي والتضاحك في
وقت معًا والحزن والطرب
أين التسابق في مجاورتي
شغفًا إن أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
فنشيدهم بابا إذا فرحوا
ووعيدهم بابا إذا غضبوا
وهتافاتهم بابا إذا ابتعدوا
ونجيهم بابا إذا اقتربوا
في كل ركن منهم أثر
وبكل زاوية لهم صخب
في النافذات زجاجها حطموا
وفي الحائط المدهون قد ثقبوا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26-12-2024, 08:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا




في الباب قد كسروا مِزْلاجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الحصن فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحة قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت
عيني كأسراب القطا سربوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبًا بهم يجب
قد يعجب العذال من رجل
يبكي ولو لم أبكِ فالعجب
هيهات ما كل البكا خور
وإني وبي عزم الرجال أب

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهما كما ربونا صغارًا.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نِعَمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 26-12-2024, 08:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,143
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تربية أولادنا

تربية أولادنا

حسان أحمد العماري

تربية أولادنا (9): بالتعليم الجيد


الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المؤمنون، لقد رفع الله تعالى شأن العلم وأهله، وبيَّن مكانتهم، ورفع منزلتهم، سواء كان العلم الشرعي وفقه الدين والدنيا والآخرة، أو العلم الدنيوي الذي ينفع الله به البلاد والعباد ويبني الحضارات ويعمر الدنيا، قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11].

ومنع الله سبحانه المساواة بين العالم والجاهل، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9]، ولم يأمر المولى جلا وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114].
تعلَّم فليس المرء يولد عالمًا
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفَّت عليه الجحافل
وإنَّ صغير القوم وإن كان عالمًا
كبير إذا ردَّت إليه المحافل


وحتى يكون العلم والتعَلُّم ذا أثر عظيم في حياة أبنائنا، وطريقًا لبناء شخصياتهم، وأسلوبًا لصقل معارفهم، وتطوير مداركهم، لا بد أن يكون هذا التعلم فعالًا، وهو ذلك التعلم الذي يعرف أبناؤنا به الغاية من وجودهم على هذه الأرض، وما هي واجباتهم وحقوقهم، ويكسبهم المهارات اللازمة للتعامل مع أحداث الحياة، ويوجه اهتماماتهم نحو مستقبلهم، ويولد الإبداع في نفوسهم، ويحثهم على البحث والتفكير، كما أنه يُعزِّز من قيمة المسؤولية والثقة بالنفس وجودة التعبير.

عباد الله، إن للتعلم الفعال أثرًا في بناء شخصية أبنائنا وتوجيه سلوكهم، فالتعلُّم يهذب النفوس، ويكسب الأخلاق الحميدة؛ مما يُتيح للفرد التعامُل بحكمة في مختلف مواقف الحياة، فيعيش بطُمَأْنينة، دون توتُّر، أو ضعف، أو قلق، إلى جانب أن التعلُّم الفَعَّال يُورِث الجدية والتعَلُّق بمعالي الأمور، وكذلك فإن التعلم الفعال يُجنِّب رُوَّاده الانطواء على الذات، والتقوقُع؛ فالعلم بوَّابة الفرد نحو الثقافات، والعلوم، والأعراق الأخرى؛ إذ إنَّه المفتاح نحو العالَميَّة، والمُستقبَل الواعد.

التعَلُّم الفَعَّال يحفظ أبناءنا من مزالق الشهوات والشبهات، ومساوئ الأخلاق والسلوك، والعادات، والتعَلُّم الفَعَّال ينير العقل ويهدي إلى الحق والصواب، ويرفع مكانة صاحبه، قال الله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رِضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابِد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"؛ (رواه أحمد وأبو داود).
رَأَيْتُ العِلْمَ صاحِبَهُ كَريمٌ
وَلَوْ ولدتْهُ آباءٌ لِئَامُ
وليسَ يَزالُ يرْفَعُهُ إلى أَنْ
يُعَظِّمَ أَمْرَهُ القَوْمُ الكِرامُ
ويَتَّبِعُونَهُ في كُلِّ حَالٍ
كَراعي الضَّأْنِ تَتْبَعُهُ السَّوامُ
فلوْلا العِلْمُ مَا سَعِدَتْ رِجَالٌ
وَلا عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَرامُ


أيها المؤمنون، للتعلُّم الفَعَّال أساليب وطرق متعددة ينبغي توجيه أبنائنا نحوها حتى يؤتي التعلم ثمرته في حياتهم، من ذلك التعلم التعاوني، والتعلم بالتجريب، والتعلم بحل المشكلات، والتعَلُّم بالعصف الذهني، واستعمال الفكر، والتعَلُّم بالحوار والمناقشة، وهناك التعَلُّم بالقصة، والتعَلُّم بتقَمُّص الأدوار، وغير ذلك من أساليب التعَلُّم الفَعَّال، وقد ورد في القرآن والسنة الكثير من هذه الأساليب، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258]، وهذه هو أسلوب الحوار والمناقشة.

وأما أسلوب تمثيل الأدوار فقد ورد بشكل واضح في قصة ابني آدم قابيل وهابيل، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه، فبعث اللّه غُرابَيْن أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثا عليه التراب ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31].

وأما أسلوب التجريب العملي فقد اتضحت هذه الطريقة في موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260].

وقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم التعَلُّم الفَعَّال في تربية وتعليم أصحابه؛ مثل التربية بالقصة، والإقناع العقلي، والحوار، والمناقشة، والتجريب، والعصف الذهني، واستعمال الفكر؛ لأن هذه الأساليب تبني الإنسان وتُطوِّر قدراته وتُهيِّئه لمواجهة متطلبات الحياة، ويكون فيها مِعْوَلَ بناءٍ لا مِعْوَلَ هَدْمٍ.

إن ما نستخدمه من أساليب في تعليم أبنائنا اليوم لا تعدو أن تكون مجرد قوانين وإملاءات ومعلومات مجردة دون أن نسمع إليهم أو نقف عند طموحاتهم، ودون أن نكتشف قدراتهم، أو نوجِّه اهتماماتهم، فينشأ جيل ضعيف ومهزوز لا ينتج شيئًا، ولا يبدع في أمر، بل يكون عالةً على أسرته ومجتمعه.

أيها المسلمون، للتعَلُّم الفَعَّال أدوات واحتياجات، من ذلك المدرسة المؤهلة، والمعلم الكفء، والقدرة الكافية للتعامل مع وسائل التقنية والتكنولوجيا الحديثة في العلم إلى جانب المناهج الجيدة التي تهذب السلوك، وتكسب الخبرات، وتكون مرتبطة بالواقع إلى جانب وجود الأسرة المتابعة والمحفِّزة التي تبث في نفوس أبنائها شغف حب العلم والتعلم والتميز والإنجاز، وتوجه اهتماماتهم وميولهم لما ينفعهم وينفع مجتمعاتهم وأوطانهم، فالمعلم والطبيب والمهندس والقاضي والجندي والإعلامي والمبرمج والمخترع والعالم والعامل والمزارع وغيرهم هم بُناة الحضارات وصانعو مستقبل الأوطان.

نحن أمة كانت الصيحة الأولى المدوية في حياتها التي أطلقها الإسلام في أنحاء المعمورة عند نزول الوحي: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله، كمْ نحن اليوم بحاجةٍ إلى التعَلُّم الفعَّال النافع الذي نبني به حضارتنا، ونبلغ به مجدنا، ونربي ونزكي من خلاله نفوس أبنائنا، ونُوجِّه سلوكياتهم وتصرُّفاتهم واهتماماتهم، ونقضي على داء الجهل والضعف واللامبالاة، وعدم الجدية الذي ما انتشر في أمَّةٍ إلا تهدَّم بنيانها، وتزعزعت أركانها، وحلَّ بها الخراب؛ لذلك فإن للتعلم الفَعَّال ثمرةً على الفرد والمجتمع، فمن خلاله يُحصِّن الفرد نفسه من الشهوات والشبهات، وبه يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والخير من الشر، والصحيح من الخطأ.

قال عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، فنفى التسوية بين العالم والجاهل، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].

قال ابن رجب: العلم النافع يدل على أمرين: أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته، ومحبته، ورجاءه، والتوكُّل عليه والرضا بقضائه، والصبر على بلائه. والأمر الثاني: المعرفة بما يحبُّه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه".

والتعلُّم الفعال يعمل على زيادة ثقة الابن بنفسه، وذلك من خلال الحوار والمناقشة بدلًا من تلقي المعلومة والأوامر جاهزة، إلى جانب أن التعَلُّم الفَعَّال يُذكِّي روح المنافسة، وحب الإنجاز، والرغبة في التميُّز، ويكسبه الشعور بالمسؤولية، والقدرة على حل المشكلات، والتواصل الفَعَّال مع من حوله، والتفكير الجيد، والسعي نحو الإبداع والابتكار، وغير ذلك من الثمرات، ولا شك أن هذه الثمار اليانعة تخرج جيلًا على قدر من الخلق والاستقامة.

أيها الآباء أيها المربون، إن علينا أن نغرس حب العلم في نفوس أبنائنا؛ لأنه عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، ولأن العلم طريق لبناء الأوطان وتشييد الحضارات، ثم إن علينا أن نستثمر قدرات أبنائنا وميولهم العلمية وتشجيعهم على الإبداع والابتكار، نسأل الله يصلح أبناءنا، وأن يأخذ بنواصيهم إلى كل خير.

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، ورُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 215.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 209.42 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]