|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الأمة والعدل «1» د. أمير بن محمد المدري الحمد لله رب العالمين، القائل عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال كما الحديث القدسي: «يا عبادي، إني حَرَّمْتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَموا»، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه من خلقه، وأمينُه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار بدعوته واستَنَّ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين. أيها الناس: اتقوا الله، فتقوى الله خير الزاد، وهي أفضل ما ادخرتم، وخير ما عملتم، بها تنال محبة الله، تنجيكم من النار، وتقربكم من دار الأبرار، العون والنصر معلق بها، ومحبة الله لأهلها. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. عباد الله: لقد خلق الله عز وجل الإنسانية ولم يخلقها عبثًا تعبث بها الأهواء ويتسلط فيها الأقوياء على الضعفاء، والأغنياء على الفقراء ولكنه عز وجل أنزل الكتب وأرسل الرسل لتعريف الناس بخالقهم وبيان الغاية التي خلقوا من أجلها قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، فكانت دعوة الرسل من أجل إقامة العدل في الأرض ونصرة المظلوم، ودارت المعركة بين الرسل والملوك الظلمة من أجل تحرير هذا الإنسان من الظلم: فقد قال نبي الله موسى لفرعون: ﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾[الشعراء: 17]، فكانت رسالة موسى عليه السلام من أجل إطلاق سراح بني إسرائيل من ظلم فرعون وعبوديته إلى عدل الله وعبادته سبحانه وحده: وأرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لهذه الغاية كذلك فهو الذي أنزل عليه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ﴾، وأنزل عليه: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾[النساء: 58]. إن المصطفى صلى الله عليه وسلم علّمنا قيمة العدل وخطورة الظلم حين قال صلى الله عليه وسلم «إنه لا قُدّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه غير متعتع»[ أخرجه ابن ماجه (2/810، رقم 2426)، وأبو يعلى (2/344، رقم 1091)]، فهل عرفت البشرية حقوقها إلا في ظل المنهج الإسلامي فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول: «الضعيف منكم عندي قوي حتى آخذ الحق له والقوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه». وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يختبر جرأة الناس في قول الحق فقال ما تقولون لو حِدت عن الطريق هكذا؟ ماذا انتم فاعلون لو تجاوزت لو طغيت؟ ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا؟ "أي لو انحرفت عن الثوابت المتفق عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له الشعب؟ هل قالوا له أنت لا تخطيء أبدًا، أنت نور الزمان، هل جاملوه؟ كلا إنما قام أحد المصلين من الناس البسطاء وقال: «لو ملت برأسك إلى الدنيا كذا، لقلنا بسيوفنا كذا»، وأشار إلى القطع. فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «ويلك أتقول هذا لأمير المؤمنين»؟ فما يكون من أمير المؤمنين إلا أن يوقفه ويقول: «دعه فليقلها لنا، فوالله لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم». بهذه القواعد والمرتكزات قام المجتمع الإسلامي يرعى بعضه بعضًا وينصر بعضه بعضًا، ويحكم القاضي لليهودي على الخليفة فيعترف اليهودي بالحق، ويقول: بهذا العدل قامت السموات والأرض، والإسلام يوم حارب الظلم وأقام العدل فإنه أعلن حربه على الأهواء والغرائز وجعل الناس يحتكمون لشرع الله، قال عز وجل: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾[الجاثية: 18]. فالظلم منبعه من تسلُّط الأهواء والغرائز،ومن البعد عن شريعة الله وعدم الخوف من عذاب الله. الظلم منبعه من نسيان التعاليم الإسلامية التي يأت في مقدمتها قول الله في الحديث القدسي: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا» وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، ولذلك فإن الظلم يسير بالحياة الإنسانية سيرًا خاطئًا نحو الهاوية. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]. ومفهوم الآية أن الإيمان بالله والحكم بما أنزل الله وإخلاص العمل لله هو طريق آمن للأمة واستقرارها وما تشهده الأمة من سفك للدماء وهتك للأعراض ومصادرة للحريات ونهب وسطو وقسوة: إنما هو نتيجة طبيعية للظلم الذي ساد في الأرض. ومن أجل تحقيق الأمن والهداية والاستقرار والحرية للبشرية فإن الإسلام وصل به الأمر في مقاومة الظلم إلى أن شرع النضال من أجل تحرير المظلومين قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75]. وما شرع الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا من أجل مقاومة الظالمين، وإلا فماذا يعني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فنصحه فقتله»[رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد]، لقد كان قيام هذا الداعية من أجل نصرة الحق وتحرير المظلومين. وجاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: «أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»[رواه البخاري]، ونصرة الظالم منعه وأطره على ألا يقدم على الظلم، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا أو لتقصرنه على الحق قصرًا أو ليوشك أن يلعنكم كما لعنهم»[أخرجه أبو داود و الترمذي]، فهل لُعن بني إسرائيل إلا لصمتهم عن الحق وعدم نصرتهم للحق وللمظلومين. إن من خذل مظلومًا خذله الله ومن نصر مظلومًا نصره الله في موطن يحب أن يُنصر، ومع هذا كله فإن الظلم ربما اشترك فيه الظالم والمظلوم، فقد يكون فيها المظلوم أيضًا ظالمًا إذا لم يبذل جهده في مقاومة الظلم ومحاربته، وإلا فماذا يعني قول الله عز وجل في أكثر من آية: ﴿ ومَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 118]، ظلموا أنفسهم لأنهم جهلوا الحق أولًا، ولأنهم لم يعملوا بهذا الحق ولأنهم لم ينصروا أولياء الله ولم يحددوا هو يتهم فظلموا أنفسهم. دعونا نتأمل هذه الآية في سورة سبأ التي تجعل الظالم والمظلوم مسئولين بين يدي الله على حد سواء، فالله عز وجل يقول: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 31]، فهذا هو المستكبر والمستضعف يقفان معًا أمام الله للمحاسبة لأن المظلوم تبع الظالم ونصره وهتف باسمه وصفّق له، فاليوم يجني حصاد ما فعل، ولن تنفعه براءته يوم القيامة: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166]، فالظالم يُعلن براءته من المظلوم والمظلوم. ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾[البقرة: 167]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه, واشهد أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع أخوانه.وبعد عباد الله: إن المظلوم يحب أن يعلن براءته من الظالم هنا في الحياة الدنيا وليس في الآخرة فيوم القيامة يلعن المظلومون الظالمين ولكن لا ينفعهم ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾[الأحزاب: -68]. إن المظلوم بإمكانه أن يحارب الظلم والظالمين بما يملك من إمكانات يسيرة: أولًا: عدم حبه واحترامه القلبي للظالم والظالمين. ثانيًا: ألاّ يجعل لسانه صوتًا إعلاميًا لصالح الظلم والظالمين. ثالثًا: أن يكف عن أي مظهر من مظاهر النصرة له، كانتخابه مثلًا، أو إعطائه المال أو الثناء، أو تكثير سواده، أو غير ذلك. ومن أشد أنواع الظلم: الظلم السياسي: ونعني به الاستبداد أو مصادرة حرية الناس واستخدام السلطة في قهر عباد الله واستضعافهم واعتقالهم وتكميم أفواههم ومضايقتهم في أرزاقهم، ومن أنواع الظلم: الظلم كذلك الاجتماعي وهو: إن يظلم الناس بعضهم بعضًا. ويساعد الظلم الاجتماعي على الظلم السياسي. أيها المسلمون: إن مقاومة الظلم ينبغي أن تكون شاملة فالإسلام لا يرضى ظلم الزوج لزوجته أو عدم العدل بين الاثنتين، إن طريقنا لمحاربة المظالم الكبرى هو أن نكون قدوة في محاربة المظالم الصغرى، أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم. إن الظلم يورث الذل والضعف ولهذا علينا أن نربي الأمة على شعار: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا». إن الإسلام أخرج رجالًا عبر التاريخ قاوموا الظلم، فالصحابة جميعهم أعلنوا حربًا شعواء على الظالمين وخرجوا يجاهدون في سبيل الله من أجل نصرة المظلوم؛ وماذا تعني كلمات ربعي بن عامر: «الله ابتعثنا من أجل أن نخرج العباد من عبادة غير الله إلى عبادته ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الطغيان إلى عدل الإسلام». أما التابعين فهذا سعيد بن جبير[1] الذي أنكر على الحجاج فأمر الحجاج باعتقاله فلما صار عنده، نظر إليه في حقد، وقال: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، فقال: بل شقي بن كسير، قال: بل كانت أُمِّي أعلمَ باسمي منك، هذا هو اسمي، قال: ما تقول في محمد؟ قال: تعني محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، قال: نعم، قال: سيد ولد آدم، النبي المصطفى، خير من بقي من البشر، وخير من مضى، حمل الرسالة وأدى الأمانة، ونصح لله ولكتابه، ولعامة المسلمين، وخاصتهم، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: هو الصديق خليفة رسول الله، ذهب حميدًا، وعاش سعيدًا، ومضى على منهاج النبي صلوات الله وسلامه عليه، لم يغيِّر، ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر؟ قال: هو الفاروق الذي فرّق الله به بين الحق والباطل، وخيرة الله من خلقه، وخيرة رسوله، ولقد مضى على منهاج صاحبَيْه، فعاش حميدًا، وقتل شهيدًا، قال: فما تقول في عثمان؟ قال: هو المجهِّزُ لجيش العسرة، الحافرُ لبئر رومة، المشتري لبيت لنفسه في الجنة، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ولقد زوَّجه النبي بوحي من السماء، وهو المقتول ظلمًا، قال: فما تقول في عليِّ؟ قال: ابن عم رسول الله، وأول من أسلم من الفتيان، وهو زوج فاطمة البتول، وأبو الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة، قال: فأي خلفاء بني أمية أعجب لك؟ قال: أرضاهم لخالقهم، قال: فأيُّهم أرضى للخالق؟ قال: علمُ ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، تحقيق طويل، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بل أريد علمك أنت، قال: إذًا يسوءك ولا يسرك، قال: لا بد من أن أسمع منك، قال: إني لأَعْلَمُ أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تُقدِم على أمور تريد منها الهيبة، وهي تقحمك الهلَكَةَ، وتدفعك إلى النار دفعًا، قال: أمَا واللهِ لأقتلنك، قال: إذًا تفسد عليَّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: اختر لنفسك أي قتلة شئت، قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجّاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا وقتَلك اللهُ مثلها في الآخرة، قال: أتريد أن أعفوَ عنك، قال: إن كان العفو فمن الله تعالى، أمّا أنت، فلا أريده منك، فاغتاظ الحجاج، وقال: السيف والنطع يا غلام، فتبَسَّم سعيد، فقال له الحجاج: وما تبسُّمك، قال عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك، قال: اقتله يا غلام، فاستقبل القبلة، وقال: ﴿ إني وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]. قال: حرِّفوه عن القبلة، فقال: ﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [البقرة: 115]. قال: كبُّوه على الأرض، فقال: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]. قال: اذبحوا عدو الله، فما رأيت رجلًا أَدْعَى منه لآيات القرآن الكريم، فرفع سعيد كفَّيه، وقال: «اللهم لا تسلِّط الحجاجَ على أحد بعدي»، قال: فلم يمضِ على مصرع سعيد بن جبير غيرُ خمسة عشر يومًا حتى حمَّ الحجاج، واشتدت عليه وطأةُ المرض، فكان يغفو ساعة ويفيق أخرى، فإذا غفا غفوة استيقظ مذعورًا وهو يصيح: هذا سعيد بن جبير آخذ بخناقي، هذا سعيد بن جبير، يقول: فيمَ قتلتني؟ ثم يبكي، ويقول: مالي ولسعيد جبير، ردّوا عني سعيد بن جبير، فلما قضى نحبه، وورِي في ترابه، رآهم بعضهم في الحلم، فقال له: ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج؟ قال: قتلني اللهُ بكل امرئ قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة. هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله. بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين. [1] سَعيد بن جُبَير (45 - 95 هـ = 665 - 714 م) سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، أبو عبد الله: تابعيّ، كان أعلمهم على الإطلاق. وهو حبشي الأصل، من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد. أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر. ثم كان ابن عباس، إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، قال: أتسألونني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني سعيدا. قال الإمام أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الأمة والعدل (2) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله المعز لمن أطاعه واتبع رضاه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هديه بإحسان ووالاه، أما بعد: اتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102]. أيها المسلمون: ما زلنا وإياكم نقف مع العدل وأهميته في حياة الأمم والشعوب وهذا هو اللقاء الثاني. عباد الله: بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن. العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب. إذا قام في البلاد عمَّر، وإذا ارتفع عن الديار دمَّر. إن الدول لتدوم مع الكفر مادامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حقٌ ولا يدوم به حكم. لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه: تبًّا لكم، سُحقا، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، و يقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع – إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع، والنطع قطعة قماش كبيرة، أو قطعة جلد، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه، لا يلوِّث الدمُ الأثاث، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسع له و يقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، طبعا طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له: تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم. عباد الله: إن العدلَ من أعظم الفرائض التي افترضها الله على البشر، جعله الله سببًا لاستقرار حياة الناس، وجعله الله تعالى سببًا لشيوع السعادة والأمن، وجعل انعدامَه سببًا لزوال الأمم والمجتمعات، فهو أساسُ الملك، وهو حامي الأمن. العدل بَلَغَ من عظمته أن الله سمَّى نفسه به، فهو العدل.. العدل المطلق.. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].. العدل أمر الله به البشرية منذ خَلَقَها ومنذ أقامها وأرسل إليها الرسل، فجعلَ لكل جانٍ عقوبةً مناسبةً للجناية التي جَنَاهَا، وأمر الناس أن يُقِيمُوا العدلَ فيما بينهم؛ حتى لا يزولَ ملكُهم ولا تدول دولتُهم.. العدلُ هو سِرُّ بقاء الأمم ولو كانت كافرة، وغيابُه هو سرُّ هلاك الأمم ولو كانت مسلمةً.. قال العلماء: إن الله تبارك وتعالى يَنْصُر الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرةً، ويهلك الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمةً..!! عباد الله: لا أعدل ولا أتم ولا أصدق ولا أوفى من عدل شريعة الله، فعدل الإسلام يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرؤوسين والرؤساء. أعدل الخلق هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يُنْصِفُ الناسَ مِن نفسه، قام صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فقال: «أيها الناس، مَنْ كنتُ أخذتُ منه مالاً بغير حق فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنتُ جلدتُ له ظهرًا بغير حق فهذا ظهري فليجلدْه»، نعم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين خميص البطن من دماءهم كاف اللسان من أعراضهم بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم. بَيَّن الحقُّ جل وعلا أن الخلافَ ليس مبررًا لظلم المُخالِف.. لمَّا أراد الحبيبُ- صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يعتمروا ويَطُوفوا بالبيت الحرام، ومَنَعَتْهم قريشٌ ظُلمًا وعدوانًا قال لهم ربُّ العزة تبارك وتعالى: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾، أي لا يَحملنَّكم هذا الظلمُ على أن تُواجهوا الظلمَ بظلمٍ!! هؤلاء الذين ظَلَمُوا ومَنَعُوكم من الطَّوَاف حول بيت الله لا تَرُدُّوا ظُلمَهم بظُلمٍ، فقال تبارك وتعالى: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا ﴾[المائدة: 2]. أحدُ المنافقين سَرَق متاعًا من أحد بيوت المسلمين، فلمَّا خشِي أن ينكشفَ أمرُه ألقى بالمتاع في بيت أحد اليهود، وضُبِطَ المسروق، وجعل اليهودي يُقسِم ويَحلف أنه ما سرق وما علم، وكادت الأصابعُ تُشير إلى هذا المنافق الذي سَرَق، ولكنَّ أولياءَه وأصحابَه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما زالوا يُكلِّمُونه ويُحدِّثُونه ويقولون: يا رسول الله، هذا رجلٌ مسلمٌ ما عَلِمْنَا عنه إلا خيرًا، كيف تسمع إلى هذا اليهودي؟! كيف تجعل المسلم هو الذي سرق وتُبرِّئ ساحة اليهودي؟! كيف كذا.. كيف كذا؟! وزادوا من إلحاحهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بالكتاب العزيز ينزل به أمينُ السماء على أمين الأرض.. يقول رب العزة والجلال: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾[النساء: -108-105]، وهكذا بَرَّأ القرآنُ الكريم ساحةَ اليهودي، فكونه يهوديًّا لا يعني أن يظلمه المسلمون.. بهذا العدل قامت السماء والأرض، وبهذا العدل سَادَ الإسلام، وهذا العدل حمل أصحابَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم على أن يُطبِّقُوه حتى مع أبغض الناس إليهم. لمَّا فَتَح اللهُ خيبرَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق يهودُ خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يزرعوا أرضَهم ويُؤدُّوا نصفَ الثمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يُبقِيَهم النبي صلى الله عليه وسلمفيقوموا هم بزراعة الأرض ورعاية النخيل، وفي نهاية الموسم يُقسمون الثمار مع النبي- صلى الله عليه وسلم وأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم عبدَ الله بن رواحة لِيُقسم بينه وبينهم، فقام عبدُ الله بن رواحة فقسم قسمة العدل التي يَرضى بها الله، وجاءه اليهود فغَمَزُوه وقالوا: يا عبدَ الله هذا لك.. أرادوا أن يرشوه، فقال: «يا معشر يهود، والله الذي لا إله غيره لأنتم أبغض خلق الله إليَّ، ووالله الذي لا إله غيره، لَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ الناس إليَّ، ولكنِّي لا يحملني والله حُبِّي له وبُغضِي لكم على أن أَحِيفَ عليكم (أي أظلمكم)»، فقالت اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض. فالعدل هو الحق الذي نزلت به الكتبُ وأُرسلت به الرسل؛ ولهذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع الناس أن يطلبوا حقوقَهم منه.. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه, واشهد أن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.وبعد عباد الله: ليس في الإسلام أن يؤلّه الحاكم حتى يتحول إلى اخطبوط يلتف بأذرعه على جميع مقدرات البلاد ينهب ما يريد، يبطش كما يريد لا معقب لأمره ولا راد ولا مانع أو حتى هامس لتوجيهاته. هو الدستور والقانون وهو أعلى منهما، وهو الحكومة والشعب والأرض، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل والعياذ بالله. ليس في الإسلام أن تقال في الحاكم قصائد الشرك والكفر والخنوع كما قال ذلك الشاعر: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ![]() فاحكم فأنت الواحد القهار ![]() ![]() ![]() حتى سمعنا من يقول للحاكم: يا فلان لولاك لما كان للحياة وجود. واذكر أني شاهدت لوحةً كبيرة مكتوب فيها: يا فلان الحاكم نحن قبلك عدم وبعدك ندم. بعد هذا المديح والدجل كيف لا نريد من الحاكم أن يُصدّق نفسه بأنه بطل النصر والإسلام، وأنه أتى بما لم تستطعه الأوائل. العدل والتواصي بالعدل والتواصي بنصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم إذا فعلنا ذلك وتواصينا بذلك حكامًا ومحكومين ورعاة ورعية فإن هذا من أعظم الأسباب لاتقاء شر الفتن واتقاء غضب الجبار عز وجل، فإن الظلم مجلبة لغضب الجبار عز وجل. وإذا وقع ظلم ثم رفع المظلوم يده يشكو إلى ربه ارتفعت دعوته إلى السماء فتُفتح لها أبواب السماء حتى ترفع إلى الجبار عز وجل ليس بينها وبينه حجاب. فإن شاء حينئذ عز وجل أمهل الظالم حتى يزيده من العذاب، أمهله إلى أجل حتى يزيده من العذاب، وإن شاء أخذه أخذ عزيز مقتدر فهو سبحانه عزيز ذو انتقام، يمهل الظالم ولا يهمله. وإذا كثر المظلومون في مجتمع ما ولم يجدوا في ذلك المجتمع من ينصرهم ويؤازرهم ولم يجد الظالمون من يردعهم ويضرب على أيديهم، إذا كان أفراد ذلك المجتمع لا يتواصون بالعدل ونصرة المظلوم فالخوف كل الخوف حينئذ أن ترتفع دعوات عشرات المظلومين أو مئات المظلومين إلى السماوات فيغضب الجبار عز وجل على ذلك المجتمع كله فيهلكه ويدمره ويسلط عليه عدوه فيمحقه. وقف صلى الله عليه وسلم في معركة يُسوِّي الصفوف، فوجد أحدَ المسلمين وبطنه كبيرة قد امتدت أمام الصف أو تَقدَّم أمام الصف، وكان في يد النبي صلى الله عليه وسلم عصا قصيرة فغَمَز بها في بطنه، وكان اسمه سَوَاد بن غَزِيَّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوِ يا سَوَاد»، أي تَسَاوَ مع إخوانك في الصف، فقال سواد رضي الله عنه: يا رسول الله أوجَعتَنِي فأَقِدْنِي.. (يريد أن يأخذ حقَّه منه)، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم -بغاية التواضع: «تَقَدَّمْ فاسْتَقِدْ»، فقال: يا رسول الله، إن بطني كانت مكشوفة، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنَه، والناس في ذهول، فأَكَبَّ سوادٌ على بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّله ويُمرِّغ خَدَّيْهِ، وقال: يا رسول الله، حضر ما ترى من القتال، فخشيتُ أن يكون هذا آخرَ عهدي بك، فأردتُ أن يكون آخر عهدي أن يَمَسَّ جلدي جلدَك. »[ ذكر القصة الحافظ ابن حجر في الإصابة 3 /181 في ترجمة سواد بن غزية الأنصاري]. الشاهدُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْبَل، وهو قائد الأُمَّة والرسول الأعظم، أن يُقْتَصَّ منه، بل إن الناس الذين كانت فيهم جفوةُ البادية وغلظةُ الأعراب كانوا ربما أساءوا إليه صلى الله عليه وسلم فلا تحملُه إساءتُهم على ظلمهم. جاء رجل قد اقترض رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بعيرًا إلى أجلٍ، فجاء قبل انقضاء المدة، فقال: يا محمد، أدِّ إليَّ دَيْنِي فإنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطل..!! (أي قوم تُمَاطِلُون)، والصحابة رضي الله عنه حاضرون، وهَمُّوا به سوءًا، وهمَّ به عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى سوءَ أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فروَّع الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، كنا أحوج إلى غير هذا منك.. أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب، يا عمر: أدِّ إليه بعيرَه وزِدْهُ عشرين درهمًا جزاء ما روَّعْتَه»[رواه البخاري]..!! فهذا عدلٌ يقوم به قائدُ الأُمَّة.. لهذا عاش الناس في سعادة. وهذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَّا أقام أركان العدل في دولته كان ينام تحت الشجرة بلا حارس ولا رقيب، يَحرُسُه العدلُ، لمَّا عدل ملأ قلوب الناس فلم يَخَفْ من الناس. هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الأمة والعدل (3) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله هدى من شاء من عباده لسلوك سبيل الرشاد، وثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم المعاد، وأضل الظالمين بعدله، فلهم النار وبئس المهاد، أحمده سبحانه حمداً مقراً بفضله ورحمته على العباد. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تنزه عن الشركاء والأنداد، وعن الصاحبة والأولاد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، بعثه ربه رحمة للعباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ثبتوا على دين الله، وتزودا من التقوى، فنعم الزاد، والتابعين لهم بإحسان إلى التناد، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى وراقبوه؛ فهو القائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. عباد الله: إن الظلم ظلمات.. يجعل صاحبه في حبسٍ دائمٍ.. لا يسير إلا وحوله حرس مُدجَّج بالسلاح.. لا ينام ولا يصحو إلا وهو مُتخوِّف من المظلوم الذي يُريد أن يَنتقم منه.. الظلم حين يشيع في أُمَّة لا يمكنها أن تَسْتَقِرَّ أو تستريح. قال تعالى: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم: 42-43]، فالله يُعلِن في كتابه العزيز ألاَّ يتصور الظالِمُ أن الله غافلٌ عن هذا الظلم، فإذا كان الله يمد للظالم في الإمهال فهذا من الاستدراج، لا غفلةً من الله العزيز جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾. عباد الله: الظلم يُعرِّض صاحبه إلى جزاء أليم في هذه الدنيا، فمهما يَطُل الزمان بالظالم، فإن الله تبارك وتعالى لا بد أن يأخذه على أُمِّ رأسه وأن يُشدِّد في أخذه، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: «إن الله لَيُمْلِي للظالم- أي يُمهله ويعطي له فرصةً وأكثر، فيظلم ويطول له في حبل الأماني- حتى إذا أخذه لم يُفْلته»، ثم قرأ قول الله عز وجل:﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [البخاري ح4409]، ويقول الله عز وجل: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ [الحج: 45]، بعد أن كانت هذه القرية الظالمة تعيش في بَحبُوحة وفي راحة يجعل الله- تبارك وتعالى- عَالِيَها سَافِلَها. الظالم يُسلِّط اللهُ تبارك وتعالى عليه جندَه، وينتقم منه في الدنيا ثم في الآخرة، قد يُؤخره، ولكن إياك أن تظن أن تأخير الله غفلةٌ منه عز وجل. لا تَظلمنَّ إذا ما كُنتَ مُقتدِرا ![]() فالظلمُ تَرجع عُقبَاهُ إلى النَّدَمِ ![]() تَنَامُ عينُك والمظلوم مُنْتَبِهٌ ![]() يدعو عليك وعَيْنُ اللهِ لم تَنَمِ ![]() أنت تنام بعد أن ظَلَمْتَ منفوخ البطن مُغترًَّا بقوتك، والمظلومُ قائمٌ بالليل يُنادي ربه، ويقول: رَبِّ إني مظلوم فانتصر.. تَخرُج الدعوة من فَمِ المظلوم، فلا يمنعها من الله شيء، وتُفْتَح لها أبواب السماء.. إن دعوة المظلوم تُفْتَح لها أبواب السماء، ولا يَقف لها حجابٌ، ويقول رب العزة جل وعلا: «وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»[أخرجه أحمد (2/445)]، وَعْدٌ من الله أن ينصر المظلوم ولو بعد حين!! حين يفرح الظالم بظلمه ويَستعلي بجبروته، يقول الله عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 44 - 45]. العدل هو الذي يجعل الحياة في راحة، والظلم هو الذي يجعل الحياة قلقةً مُضطربةً.. العدل ليس فقط عدلاً في القضاء بل هو عدلٌ في كل الأحوال، فالله- جل وعلا- يدعونا أنا وأنت وكلَّ مسلم، يقول جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، فلو كنتَ تشهد على نفسك أو على والديك أو على أقاربك لا بد أن تقول الحق ﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135] يُحذِّرُنا الله تبارك وتعالى أن نُغالِط أو نُجَامِل الظالم ولو كان هذا الظالم أبانا أو أخانا أو قريبنا، فضلاً عما سوى ذلك. إنَّ أشدَّ الناس حُمقًا مَنْ يجامل الظالم في ظُلمه؛ لأنه لم يَسْتَفِدْ شيئًا بهذه المُجاملة، وإنما بَاعَ آخرتَه لِيكسب غيره دنياه، أشد الناس حمقًا من باع آخرته بدنيا غيره، باع آخرته ليكسب غيره، حينما لا يقول كلمة الحق.. الظلم جرثومةٌ متى فشت في أُمَّةٍ أهلكها الله عز وجل. عباد الله: اعلموا أن أعظم صُور الظلم وأشدها وَبَالاً ظُلم الحاكم لِرعيته، وظلم الوالي أهلَ ولايته؛ لأن الناس إنما ينصِّبون الأئمة والرؤساء لِيُحقِّقُوا العدل فيما بينهم.. الناس يختارون رؤساءهم لكي يأخذوا للضعيف حقه من القوي، وللمظلوم حقه من الظالم، فإذا صار الحاكمُ هو الظالِمَ فقُلْ على الدنيا السلام.. إذا صار الذي من واجبه أن يُرسِيَ دعائمَ العدل هو الذي يُقَوِّض العدلَ ويُقيم الظلمَ فقُلْ على الدنيا السلام؛ ولهذا كان أعظم الناس عند الله درجةً وأول الواقفين في ظل عرش الله يوم القيامة: «الإمام العادل». نسال الله أن يهدي ولاة أمرنا إلى ما فيه خير البلاد والعباد. عباد الله: الحاكم العادل هو أول من يُنادَى يوم القيامة ليقف في ظلِّ عرش الله؛ لأن الحاكم إذا عدل وأرسى دعائم العدل استقرَّتْ أمورُ الناس، وعاش الناسُ في راحة، فأما إذا جار وظلم فإنه يُشجِّع الناسَ على الظلم. معاوية رضي الله عنه كان قائمًا على المنبر يخطب، فقام أحد المسلمين من التابعين - وكان اسمه أبو مُسلم الخَوْلاني[1] فقال: يا معاوية، قال: نعم. قال: يا معاوية، إنما أنت قبرٌ من القبور «أي غايتك في النهاية أنك ستصير في قبر ولن تخلد في هذه الدنيا»، إن جئتَ بشيءٍ كان لك شيءٌ، وإن لم تجئ بشيءٍ لم يكن لك شيءٌ، يا معاوية: لا تحسبنَّ الخلافة جمعَ المال وتفريقَه، إنما الخلافةُ: القولُ بالحق والعملُ بالْمَعْدَلة، يا معاوية: إنا لا نُبَالِي بكدَر الأنهار ما صَفَتْ لنا رأسُ عيننا، وأنت رأسُ عيننا... يقول: أنت المسئول عن هذه الأمة.. أنت الذي لو أقمتَ العدل أقام من حولك العدل، ولو كان فيهم فاجر أو فاسد، فإن عدلك سيمحو ظلمه وسيكشف أمره ويبعده، لكن إذا كان الظلم منك أنت فلا ينفع عدل من دونك، بل سيتحولون بعد ذلك إلى ظلمة). إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضاربًا ![]() شِيمَةُ أهل البيت كلهم الرَّقْص ![]() ![]() ![]() يقول له هذا الرجل الصالح: يا معا وية: إنا لا نُبَالِي بكَدَرِ الأنهار ما صَفَتْ لنا رأسُ عيننا، وأنت رأسُ عيننا، يا معاوية: إياك أن تَحِيفَ على قبيلة من القبائل فيذهب حَيْفُك بعدلك (أي يذهب الظلم بالعدل) والسلام. فقال معاوية رضي الله عنه: يرحمك الله (قَبِل النصيحة مع أنها قُدِّمَت له في محضر من الملأ.. قَبِل النصيحة لأنه يعلم أن الاستقرار في أُمَّةِ محمد بالعمل بهذه النصيحة)، وهكذا كان الصالحون وكان الناصحون. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه, واشهد أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع اخوانه.وبعد عباد الله: ومن الظلم شيوع المحسوبية والوساطة والرشاوى حينما يُوضَع الإنسان في غير مكانه لأنه قريب من فلان، حين تُبْعَد الكفاءات من أماكنها ويُوَسَّد الأمرُ لغير أهله لأن هذه الكفاءات ليست على هوى فلان، وليست على رغبة فلان، حين تنعدم الشورى ويضيع الحق، ولا يكون الرجل المُناسب في المكان المناسب، ، حينما يشيع هذا الجو؛ فهذا من أعظم الظلم، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: »من ولَّى على المسلمين رجلاً وفيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين »[أخرجه الحاكم في المستدرك (4/92) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".] ، فحين يكون بإمكانِك أو من سلطاتِك توظيفُ شخصٍ ما أو أشخاصٍ ما، فتُوظِّف مَنْ تهواه نفسُك أو يَمِيل إليه قلبُك أو مَنْ يدفع لك الرشوةَ على حساب الحق فقد خُنْتَ اللهَ ورسولَه والمؤمنين، والأُمَّةُ إذا شاع فيها هذا الجو فإنها تعيش في حالة من الحقد والحسد. حين نرى هذه المظالم، حين نرى شَابًا كُفئًا يُبعَد عن موضعه اللائق به ويتقدَّم غيرُه ممن استطاع أن يُجامِل أو يرشو أو كان حسيبًا أو نَسِيبًا، فإن هذا من أنواع المظالم التي تُدمِّر الأمم.. الرشوة يقول فيها تبارك وتعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، ويقصد القرآن بالحكام كلَّ من كان قادرًا ويأخذ رشوةً لِيُبْعِد إنسانًا عن موضعه، أو يُعطيَ إنسانًا غير حقه. ومن الظلم عباد الله أخذ الناس بالشبهة ومعاملة الناس على سوء الظن، كان المنافقون يُسيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، وكان يعرفهم صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وربما عرَّف بعضَ أصحابه بعضَ الأسماء، ومع ذلك لم نسمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب واحدًا منهم على شيءٍ، فالأصل عنده أن الإنسان بريءٌ ما لم ينطق ويَتلفَّظ ويسمعه الناس، فأَخْذُ الناس بالشبهة ظلمٌ مُبينٌ وإثمٌ كبيرٌ، وإفكٌ يرى صاحبُه عاقبةَ أمره عند الله خُسرانًا مبينًا؛ وكم ظُلم أُناس، وحُبس أُناس، واعتقل أناس والسبب بلاغات كاذبة وتقارير مغلوطة ولهذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: «ادرءوا الحدودَ بالشبهات»[ضعفه الألباني، كما في ضعيف الجامع، رقم ( 258 )]، ويقول: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فمن وجدتم له مخرجًا فخَلُّوا سبيله».. هذا هو العدل.. العدل ألا يُؤخَذَ إنسانٌ بشبهةٍ ما دام لم يرتكب ما يُوجِب العقوبة، ولا يجوز سَوْقُ الناس إلى التعذيب تحت وطأة الشبهات، بزعم أن هذا هو السبيل لكشف الحق.. فهذا باطل. ومن الظلم عباد الله التَّنَصُّت على الناس لِتَسمُّع ما يقولون، الذي يتنصَّت على عباد الله ليسمع ما يقولون في مجالسهم وفي سِرِّهم، يوم القيامة يُوضَع في أُذنيه الرصاص المغلي المُذَاب في النار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون- أو وهم يَفِرُّون منه- صُبَّ في أُذنَيْه الآنُك يوم القيامة»[رواه البخاري]، والآنك: هو الرصاص المُذَاب من شدة الحرارة، هذا الرصاص يُوضَع في أُذنَيْ مَن يتنصَّت على الناس. سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان قاضيًا على الكوفة، وجاءه رجل فقال: هذا فلانٌ تَقْطُر لحيتُه خمرًا، (أي أن فلان هذا يشرب الخمر)، فقال رضي الله عنه: إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهرْ لنا شيءٌ نأخذْ به (أي لا نأخذ الناس بالشبهة).. بل إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَرَّ يومًا في سكك المدينة فسمع صوت غناء- ومعه عبد الرحمن بن عوف- فقال: يا عبد الرحمن، أتدرى بيتُ من هذا؟ ! قال: لا.. قال: هو بيت فلان، وهم الآن شُرب (أي أنهم يشربون الخمور)، فما ترى؟ ! قال: يا أمير المؤمنين، أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله عز وجل: ﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾، ونحن الآن نتجسس. فانصرف عمر رضي الله عنه (بالرغم من علمه، لكن لا يأخذ بالشبهة). ألوان الظلم كثيرة وفاشية في المجتمعات، ولا سبيل إلى نجاة الأمم إلا بمحاربة هذا الظلم ومنع هذا الظلم. أيها الأحبة الكرام.. العدل فريضة.. أمر اللهُ بها بين الناس.. لا بين المسلمين فحسب.. بل بين الناس ككل، فحينما جاء اليهود يحتكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[المائدة: 42]، حتى مع اليهود، ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: «إن المُقسطِين على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا»[رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل (12/211) بشرح النووي، عن ابن عمرو. ]، أي هم الذين يعدلون في أحكامهم، سواءٌ كانوا حكامًا أو قضاةً أو أمراءَ أو رؤساءَ مصالح، أو آباءَ في البيوت.. كل هذه ولايات.. بل إن العدل بين الأولاد أمر الله به، فقد جاء رجل اسمه بشير بن ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُشْهِده على أنه أعطَى ولدَه النُّعمان حديقةً، فقال: «يا بشير، أعطيتَ سائرَ ولدك مثلَ ما أعطيتَه؟ »، قال: لا.. قال: «أَتُحِبُّ أن يكونوا في البِرِّ لك سواءً»؟ ! قال: نعم. قال: «فاعدل بينهم»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لا أشهد على جور».. (أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يشهد على ظلم) وقال: «ساووا بين أولادكم في العَطِيَّة». يُريد الإسلام أن يتحقَّق العدلُ على كل المستويات، على مستوى الأسرة في البيت، وعلى مستوى الإدارة والمصلحة، وعلى مستوى المدينة، وعلى مستوى المحافظة، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى الخلافة، لا بد أن يكون كل إنسان في موقعه عادلاً، وبهذا تستقر أمور الناس. ما واجب الأمة في مواجهة الظلم؟ على الأُمَّة واجبٌ في مواجهة هذا الظلم؛ فلا يكفي أن نعرف الظلم وتسكت، أو أن نجلس فنتلاوم على الظلم الحاصل، بل لا بد أن يكون لكل منا دورٌ في تحقيق العدالة وفي تحقيق المساواة بين الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك اللهُ أن يَعُمَّهم بعقابٍ من عنده»[ أخرجه أبو داود والترمذي ]، إن من حق الراعي على رعيته أن ينصحوه، وإذا مال وانحرف أن يُقوِّمُوه.. قام أبو بكر رضي الله عنه حين تولَّى الخلافة وقال: أيها الناس: القويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخُذَ الحقَّ منه، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخُذَ الحقَّ له، وقام عمر رضي الله عنه فقال: «أيها الناس: لو رأيتُم فيَّ اعوجاجًا فقوِّمُونِي»، فقال رجل: لو رأينا فيك اعوجاجًا لَقوّمناك بحدِّ السَّيْفِ. الأُمَّة حينما تقوم بواجبها فلا يستطيع الظالم أن يسير إلى النهاية.. ضرب اللهُ لنا مثلاً بأكبر الظلَمة على وجه الأرض، كيف ظلم، وهو فرعون، كيف ظلم؟ ! قال: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [الزخرف: 54]، أي ظَلَمَهم فاستكانوا له، وتَجَبَّر عليهم فركعوا تحت قدميه، قال لهم: أنا رَبُّكم، فعبدوه من دون الله، والله جل وعلا حين وصف فرعون بالظلم لم يصفه وحدَه، إنما وصفه وكلَّ مَنْ ساعده، فقال: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8]، فلا بد للأُمَّة إذا رأت الظالم أن تَنصحه، على أي مستوى، المدير في المدرسة، الأب في المنزل.. أيّ مستوى من مستويات القيادة في الأمة، يجب أن يُنْصَح لِيُقام العدلُ بين الناس، وهذا واجبُ الأمة حتى تنهض.. لم نَرَ في تاريخ البشرية ظالمًا رجع عن ظلمه؛ لأنَّ قلبَه رَقَّ للمظلوم.. لم يحدث هذا.. إنما تأخذ الأمم حقوقَها بقوة النصيحة، بقوة العمل: وما نَيْلُ المطالب بالتَّمَنِّي ![]() ولكن تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلابَا ![]() ![]() ![]() حين تَسكتُ الأمةُ كلُّها سيعمُّها الظلمُ، ويُهلكها اللهُ جل وعلا، وحين تَنْشَط الأمةُ وتنهضُ لمحاربة الظلم في كل أشكاله وأصنافه.. حين تمتنع عن دفع الرشوة.. حين تقول كلمةَ الحق ولو على نفسك.. حين تدعو الناس إلى العدل ولو كان في ذلك مَضرَّةٌ عليك.. حين يكون هذا فإن الله تبارك وتعالى يملأ الدنيا سعادةً، ويملأ الحياةَ استقرارًا ورخاءً. أسألُ الله العلى العظيم أن يُقيم فينا العدل وأن يرفع عنا وعن أمتنا الظلم والضَّيْم. هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين. [1] أَبُو مُسْلِم الخَوْلاني(000 - 62 هـ = 000 - 682م): عبد الله بن ثوب (بضم ففتح) الخولانيّ: تابعيّ، فقيه عابد زاهد، نعمة الذهبي بريحانة الشام.أصله من اليمن. أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، وفي أكثر المصادر: وفاته بدمشق، وقبره بداريّا. وكان يقال: أبو مسلم حكيم هذه الأمة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |