
11-10-2022, 05:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
إشكاليات متعلم اللغة العربية في ظل التحديات الراهنة
إشكاليات متعلم اللغة العربية في ظل التحديات الراهنة
هاجر بوحشيشة
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين:
لقد كان للوجودِ البشريِّ عدةُ شروطٍ وضوابط تُمثِّل أساس الاستمرار والبقاء؛ ومنها اللغة باعتبارِها وسيلةً للتواصل والتعايشِ والتعبير عن دواخل الإنسان ورغباته وأفكاره، استنادًا إلى تعريف ابن جني بأنها "أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم"[1]، فابن جني قدَّم تعريفًا شاملًا للُّغة بصفة عامة.
لكن هل وظيفة اللغة تنحصر في التواصل وحسب؟
هذا ما يُجِيب عنه العديد مِن الدارسين والمختصين بقضايا اللغة؛ حيث نجد أكثر مِن تعريف يُوضِّح وظيفة اللغة وأهميتها:
فهذا الأستاذ فؤاد بوعلي يقول: "يتعارف اللسانيُّون وعلماء الاجتماع على أن اللغة هي أكبر مِن كونها آليةً للتبليغ والتواصل، فهي قدرةٌ تُمكِّن مِن الإبداع، وحمل المعرفة وإنتاجها، ورسم معالِم الحد بين الواقع الطبيعي - الاجتماعي والكائن اللساني، ونظام مِن العلامات والرموز الدالة على الفكر، ومنظومة مِن القِيَم والمفاهيم المكوِّنة لرؤية الإنسان لذاته ووجوده"[2].
نعم، نحن لا نُنكِر كونَها مِفتاحَ التواصل والتبليغ، لكن مع توالي العصور وتطور الإنسان، أصبحتِ اللغةُ تَعنِي أكثر مِن ذلك؛ فقيمتُها تتعلق بقيمة الإنسان، ووجودها مرتبط بوجوده، فهي أساس كل حضارة؛ إذ بها تُبنى هذه الحضارة، وتنقل بواسطتها ما أُبدِع مِن المعارف والاكتشافات والاختراعات، ولا تتحرَّك المجتمعات بدونها.
لكن كيف يعقل أن هذه الأداة أصبحت تُعبِّر عن واقع الحضارة، وتكشف معالم الهُوِيَّة الإنسانية؟
إذا كانت الأمة العربية ترتكز على عقيدة إسلامية، وكان هذا القرآن مُنزَّلًا بهذه اللغة، يقول تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 - 195] - فكيف لا تعبِّر هذه اللغةُ عن هذه الحضارة العربية الإسلامية؟
إذًا بحكم أن اللغة العربية لغة القرآن الكريم الذي يمثل دستورَ الأمة، فبالضرورة أن لهذه اللغة مكانةً سامية منذ القِدم، وكان للعلماء القدماء فضلٌ كبير في حفظها وتقنينِها، لكن مع توالي العصور شهِدَت هذه اللغةُ عدةَ تحديات، سواء داخلية أم خارجية، جعلت مُتعلِّمها لا يستطيع ضبطها والإلمام بها.
لذلك ارتأيتُ أن أتناول بعض المشاكل والعراقيل التي تُواجِه طالبَ اللغة العربية، أو متعلمها بصفة عامة، في ظل مجموعة من التحديات التي تواجهها هذه اللغة، ونحن نعلم أن اللغة تربِطُها بالإنسان عَلاقةٌ متلازمة؛ حيث ليس هناك وجودٌ للغة بدون وجود متكلم بها، والعكس صحيح، لكن إذا كانت هذه اللغة في بيئةٍ تعاني مِن مجموعة من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل النفسية أيضًا، فكيف يكون حالها؟ وكيف يكون حال مُتعلِّمها؟
قال الدكتور عبدالعلي الودغيري - في أحد المؤتمرات الدولية -: "كل لغة تحيا بالاستعمال، وتموت بالإهمال"[3]، وهذا حال اللغة العربية؛ لذلك تتبادر إلى ذهننا عدةُ تساؤلات؛ أهمُّها:
لماذا يقلُّ استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية؟
ولماذا ليس هناك إلمامٌ بها؟
وحتى إذا حظِيَت بكونها لغةً رسمية[4]، فهذه الرسمية تبقى نسبيةً بالنسبة لي، فاللغة العربية لم تأخُذْ حقها المفروض، ولولا هذا التهميشُ لَما كانت هناك أبحاثٌ ودراسات ومناظرات وندوات دولية وعالَمية تُساهِم في النهوض بها.
وقد حاولتُ أن أُقدِّم بعض التحديات، راغبةً في التوعية بها ومعالجتها قدرَ الإمكان، كما ورد في أحد المشاريع الناهضة باللغة العربية "ما سمي بالوضعية اللُّغوية، وهي وضعية ينبغي لكل المعنيِّين بشؤون تعليم اللغة العربية وتعلُّمها أن يكونوا مستوعِبين لها، ومدركين لمختلف أبعادها، مثلما أنه مِن واجبهم التمسُّك بالاختيار اللُّغوي الذي تبنَّته الأمة العربية منذ مجيء الإسلام، والدفاع عنه، والعمل به"[5].
1- الإشكاليات والعراقيل التي تُواجه متعلِّم اللغة العربية:
هناك مجموعةٌ مِن العراقيل التي تجعَلُ مُتعلِّم اللغة خاملًا عن تعلُّمها، وإدراكِ علومها، والاهتمامِ بها؛ منها ما هو نفسيٌّ متعلِّق بالذات البشرية، ومنها ما اقتصادي، وهناك ما هو بيداغوجي مُتعلِّق بطريقة تعلُّم هذه اللغة.
• إشكاليات نفسية:
منذ تخصَّصتُ في الدراسات العربية في الجامعة، وأنا أُلاحِظ نظرةَ المجتمع لهذه اللغة، سواء الفئة الواعية أو غيرها؛ حيث كل مَن سألني عن تخصصي فأجبتُه: "دراسات عربية"، يردُّ بوجه شاحب وبعبارات تحزُّ في النفس: "اللغة العربية لا تنتج شيئًا"! وهذا الوضع تكرر مرارًا، ودائمًا أعود وأتساءل: لِمَ كل هذا الإحباط؟ فاللغة العربية جميلة، وأسلوبها رائع، ولها قواعدُ مضبوطة ورصينة، وتعدَّد إبداعُ أهلها في الأدب والتاريخ والفلسفة.
لكن مع مرور الوقت تأكَّدتُ بأن مجتمعنا مجتمعٌ ماديٌّ، فحتى اللغة عَدُّوها أداةً يَبيعون بها ويشترون، ولطالما تكرَّرت عبارات: "شعبة الدراسات العربية ملجأٌ لِمَن ليس له توجيه"، و"ليست لها آفاق"، و"لغة قديمة وصعبة"، وهناك مَن يقول: هي "لغة سهلة، ماذا ستقرؤون فيها بعد؟"!
إن نظرة المجتمع نظرةٌ جاهلة؛ فالبعض يعتقد أن اللهجات واللغة سواء، وغالبًا ما يرَوْن أن اللغة العربية سهلةُ الاستعمال؛ لأنهم يأخذونها من منظور الإعلام الزائف وما يُكتب في الجرائد، فهم لا يُدرِكون أن هذه اللغة تتميَّز بضابط الإعراب الذي يَلحَق أواخرَ الكَلِمِ، وهذا ما يجعلهم يُقلِّلون مِن شأنها.
هذا بالنسبة لِمَن لا يُميِّز بين اللغة العربية الفصحى واللهجات وضابط الإعراب، أما مَن يُدرِك هذا الأمر، فيدَّعي أن اللغة العربية صعبة التطبيق والاستعمال.
أما مِن جهة التحفيز والتشجيع، فلا تجد إلا مَن يُقلِّل مِن قيمة تخصصك هذا ويحتقره، كأنه ليس عربيًّا وليس مسلمًا! وهذا ما يجعلنا نصطدم بهذا الواقع، متى سيُدرِك المجتمع ويربط بين كلٍّ مِن وعيه الدينيِّ ووعيه القوميِّ وهُوِيَّتِه العربية الإسلامية؟
كأن اللغة منفصلةٌ عن الدين وعن الأمة العربية، هم لا ينتبِهون إلى أن تسمية اللغة العربية راجعةٌ إلى الأمة العربية؛ أيْ: جنس هذه الأمة وعِرقها، وبذلك فتعلُّمها وضبطها واجبٌ، وتقييمُها مرهون بتقييم الأمة العربية والدين الإسلامي.
نحن لا ننسى كل الخطابات السياسية والادِّعاءات التي يدَّعيها السياسيون على هذه اللغة، فنحن لن نلوم أيَّ سياسيٍّ إذا لم يتكلم باللغة العربية الفصيحة، لكن لن نسمَح له بنعتِها بالقصور والعجز، فهذا ما يولِّد لطالب اللغة إحباطًا ويأسًا شديدينِ.
• إشكاليات اقتصادية:
إنَّ أوَّل ما يُواجِه طالبَ اللغة العربية عند حصوله على شهادة الإجازة وغيرها من الشهادات العليا - هو صعوبةُ الاندماج في سوقِ العمل؛ نظرًا لعدَّة شروط؛ أهمها إتقان اللغة الفَرنسية واللغة الإنجليزية واللغة الألمانية، سواء في الإدارة أو الشركات أو المصانع، بل أصبح أستاذ اللغة العربية مِن المفروض عليه أن يكون مُلِمًّا بهذه اللغات!
إذًا ما أهمية هذه اللغة إذا لم نستعمِلها في حياتنا العملية والمعيشية، باعتبارها رمزًا لهُوِيَّتنا، ونحن نخضع لهيمنة العولَمة التي تَفرِض علينا سيطرتَها اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وحتى لُغَويًّا؟!
• إشكاليات وعراقيل بيداغوجية:
بخصوص المشاكل البيداغوجية يتطلب الأمر أن نستحضر كيف يتعامل المتعلِّم العربيُّ مع لغته من بدايته الدراسية؛ حيث يجد صعوبةً في تعلُّمها، وهو مُلزَم بالفَرنسية والإنجليزية، ليس هذا فحَسْب، بل استطاعَتِ المنظومةُ التعليمية التعلُّمية أن تُحدِثَ تقسيمًا بين المواد الدراسية، وهو تقسيم تمييزيٌّ!
يقول الحسن مادي: "إن تدريس العلوم ابتداءً من القسم الأوَّل من التعليم الابتدائي، وترك بعض المواد تدرس باللغة العربية؛ مثل التربية الإسلامية والأخلاقية، وقواعد اللغة، وكل ما يتصل بالأدب - سيَخلُقُ لدى التلميذ إطارًا مرجعيًّا ينظر به إلى كل لغةٍ على حِدَةٍ؛ لغة علوم ولغة أدب، لغة تسمح باكتساب المعرفة الإنسانية العلمية، وتسمح بالانفتاح على العالم الخارجيِّ، ولغة أخرى لا تسمح بالتعامل إلا مع الأدب والشعر والحكايات والأساطير"[6].
وإذا عُدْنا إلى الكتب المدرسية - سواء الابتدائية، أو الإعدادية، أو الثانوية - نجدها فارغةَ المحتوى بالنسبة للمتعلم، لا تُقدِّم له أي شيء عن اعتزازه بهذه اللغة، بل أكثر مِن ذلك لا تُقدِّم ترتيبًا واضحًا عن مُكوِّنات هذه اللغة؛ فالمُتعلِّم يمرُّ سنةً بعد سنة دون أن يكتشف حتى تصورًا واضحًا عن هذه اللغة، كل ما يعرِفُ عنها أنها لغةُ الشعر الجاهليِّ، ولغة صعبة؛ لأنها معربة، وهذا الانطباع يجعله عاجزًا عن تعلُّمها.
إن الطريقة التي تُدرس بها هذه اللغة، تقول لهذا المتعلم: دَعْك من هذه اللغة؛ فإنها لا تنفعُك في شيء، كيف لمدرِّس اللغة العربية أن يمزُجَ بين العربية والعاميَّة، وبعض الأحيان يتحدَّث الفرنسية؟! ويدرس اللغة بطريقة مكتوبة فقط؛ كأنها لغة مكتوبة وليست منطوقة!
نجد في المؤسسات التعليمة غيابَ الحوار والنقاش؛ فالمدرس يكتفي بما يُملَى عليه من توجيهات، دون تنويع في طرق استعمال اللغة وتدريسها، علمًا أن طريقة تدريس اللغة لا يجب أن تكون تلقينيَّة؛ وإنما تفاعلية مبنيَّة على الممارسة والاستعمال والتداول، وخلق حوار بين المتعلمين، وتكوين مواضيعَ هادفة ومناقشتها.
لذلك عندما يجد الطالب نفسَه في الجامعةِ يصطدم بواقع آخر، يصعب عليه التأقلمُ مع وضع جديد يراعي النقاشَ والحوار والتحدُّث باللغة العربية فقط، وهذا ما يجعله يبدأ مِن النقطة الأولى، كأنه لم يدرُسْ هذه اللغةَ سابقًا!
ماذا قدَّمتِ المنظومة التعليمية لهذه اللغة سوى التشويشِ على مُتعلِّمها، وجعله عاجزًا عن إدراكها، "وهكذا فإن وضعية العربية بالمدرسة المغربية تتميَّز بتهميشٍ كبير مقابلَ الاهتمام الفائق باللغات الأجنبية، وهو تهميشٌ يُساهِم في تغذيته غيابُ الربط بين التعليم ومحيطه الاقتصاديِّ والاجتماعي، مما كرَّس الصورة النمطية التي تريد حصرَ العربية لغةً للكتب القديمة، والخطبِ الدينية والسياسية، والأحاديثِ الوجدانية، وعزلَها ليس عن الوظائف العليا الأساسية للسان وحَسْب، ولكن أيضًا التشويش عليها باعتبارها عنصرًا مُشكِّلًا للهُوِيَّة الوطنية، والحيلولة دون قيامِها بدورها في التنمية، وفي الولوج إلى المعرفة والإبداع"[7].
2- التحديات الكامنة وراء هذه الإشكاليات:
ليست هناك أيُّ ظاهرةٍ إلا ولها أسباب، فإذا عُدْنا إلى بيئة هذه اللغة ومحيطها الاجتماعيِّ، وطبيعة نظامها، والمؤسسات الفاعلة فيها - نجد عدة أسباب تجيب عمَّا يُحيِّرنا من أسئلة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|