أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 221 - عددالزوار : 21865 )           »          الفرق بين الفقه وأصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 24 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 40983 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 109 - عددالزوار : 69007 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 34437 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14646 - عددالزوار : 868395 )           »          شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 617 - عددالزوار : 199901 )           »          كبر الهمَّة في العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          علماء الحديث مهرة متقنون/ الإمام البخاري وشيخه أبو نعيم نموذجا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 20-08-2022, 05:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع

أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع


شريف محمد جابر






مقدمة البحث



قضية هذا البحث هي تحليلُ الحالة الثقافية التي تعيش في أجوائها قصيدة "هذيان بائع الدموع" للشاعر المصري علي فريد، ورصدُ أبعاد الظاهرة الثقافية المسيطرة في قراءة موازية مع "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر، والتي تعيش في نفس الجو الثقافي "المسيطر" الذي تقع فيه ثقافة الشاعر علي فريد والأديب محمود شاكر في منطقة "الهامش".



وتأسيًّا بتساؤلات الدكتور الغذامي حول سبب إغفال المؤسسة النقدية "للعيوب الثقافية" فإن هذا البحث يتساءل: كيف غفلت المؤسسة النقدية العربية عن خطورة هذا الخطاب النقدي الثقافي الذي تنكّر كثيرًا لمعطيات تراثه الثقافي الكبير وتوجّه إلى الغرب ليعبّ من معطيات ثقافة كان أساس تواجدها في العالم العربي هو "الاستشراق" الذي مهّد الطريق للاستعمار؟ وهو تساؤل موضوعي تفرضه طبيعة الخطاب الذي اخترناه للبحث؛ خطاب محمود شاكر "في الطريق إلى ثقافتنا" وخطاب الشاعر علي فريد في "هذيان بائع الدموع".



سأحاول أن أقرأ الأنساق الثقافية المختبئة وراء خطاب الدكتور الغذامي في "النقد الثقافي" من خلال المنظور الذي يطرحه محمود شاكر في رسالته، وعلي فريد في قصيدته.



سأعرض في الفصل الأول منهج محمود شاكر النقدي في "التذوق" كمنهج عربي أصيل، ورؤيته لمفهوم "الثقافة" كما يظهر في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ونظرته للحياة الأدبية المعاصرة الفاسدة.



في الفصل الثاني سأتحدث عن "النقد الثقافي" كمنهج نقدي حداثي غربي في الأصل يستعمله الغذامي، وسأسقط رؤية منهج محمود شاكر على خطاب الغذامي.



في الفصل الثالث سأشرع في قراءة ثقافية تحليلية للقصيدة بناءً على ما قدّمتُ في الفصل الأول والثاني، وسوف أرصد "الملامح المشتركة" التي يوقّع عليها كِلا الأديبين: محمود شاكر وعلي فريد، وسأطبّق على محتوى القصيدة الثقافي معطيات نظرية "المتن والهامش" لعبد الله الغذامي؛ للكشف عن الأنساق الثقافية التي تختبئ وراء أبياتها.







منهج محمود شاكر



محمود محمد شاكر كاتب وأديب مصريّ معروف، وقد اخترته واخترتُ رسالته "في الطريق إلى ثقافتنا" للبحث؛ لما تحملُ من رؤية مشتركة مع رؤية الشاعر علي فريد، بل أكاد أقول: إنه يمكننا اعتبار هذه الرسالة عرضًا للحالة الثقافية ذاتها التي يتحدث عنها الشاعر في قصيدته "هذيان بائع الدموع"، ولا بدّ لنا قبل الولوج في دراسة القصيدة "ثقافيًا" أن نتعرّض للأساس الفكري والنظري الذي نشأت في جوّه، وذلك حتى نستطيع فَهم المنطلق الثقافي الذي ينطلق منه الشاعر ويملأ جوانب قصيدته، والمقولات الرئيسية التي سوف أستلّها من رسالة محمود شاكر هي:

1) منهجه في التذوق.

2) الخط التاريخي لسيطرة الثقافة الدخيلة على عقول المثقفين العرب.

3) مفهوم الثقافة.

4) الحياة الأدبية الفاسدة.



ولست أريدُ التفصيل في كلّ واحدة من تلك المقولات، إنما المقولتان الجوهريتان اللتان تتمحور حولهما الرسالة هما قضية "الثقافة" و"فساد الحياة الأدبيّة"، وهو يقصد الحياة الأدبية المعاصرة، وهي نفس القضية التي سننتقل معها لنعالج بشيء من العمق الحالة الثقافية في قصيدة "هذيان بائع الدموع". وقبل ذلك فلنستعرض تلك المقولات بشيء من الإيجاز، عدا قضية "الثقافة" و"الحياة الأدبية الفاسدة" فهما تحتاجان لبيان وافٍ.



منهج التذوق عند محمود شاكر:



في بداية رسالته يحدّثنا محمود شاكر عن نفسه، ومسيرته في الأدب، والبدايات التي أدّت عنده إلى "الاهتداء إلى المنهج" فيقول:

"فمنذ كنت في السابعة عشرة من عمري سنة 1926، إلى أن بلغتُ السابعة والعشرين سنة 1936، كنتُ منغمسًا في غمار حياة أدبية بدأتُ أحس إحساسًا مبهمًا متصاعدًا أنها حياة فاسدة من كل وجه. فلم أجد لنفسي خلاصًا إلا أن أرفض متخوّفًا حذرًا، شيئًا فشيئًا، أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التي كانت يومئذٍ تطغى كالسيل الجارف، يهدم السدود، ويقوّض كل قائم في نفسي وفي فطرتي.



"ويومئذٍ طويتُ كلّ نفسي على عزيمة حذّاء ماضية: أن أبدأ، وحيدًا منفردًا، رحلة طويلة، وبعيدة جدًا، وشاقة جدًا، ومثيرة جدًا. بدأتُ بإعادة قراءة الشعر العربي كلّه، أو ما وقع تحت يدي منه يومئذٍ على الأصح، قراءة متأنّية طويلة الأناة عند كل لفظٍ ومعنىً، كأنّي أقلّبهما بعقلي، وأروزهما (أي: أزنهما مختبرًا) بقلبي، وأجسّهما جسًّا ببصري وبصيرتي، وكأنّي أريد أن أتحسّسهما بيدي، وأستنشيَ (أي: أشمّ) ما يفوح منهما بأنفي، وأسّمّع دبيب الحياة الخفيّ فيهما بأذنَيَّ، ثمّ أتذوّقهما تذوّقًا بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأنّي أطلب فيهما خبيئًا قد أخفاهُ الشاعر الماكر بفنّه وبراعته، وأتدسّسُ إلى دفين قد سقط من الشاعر عفوًا أو سهوًا تحت نظم كلماته ومعانيه، دون قصد منه أو تعمّدٍ أو إرادة"[1].



ثمّ يتحدّث محمود شاكر عن الباب الذي انفتح له بعد الشعر في أن يقرأ كلّ ما يقع تحت يديه من التراث المكتوب بالعربية، ويُجري عليه منهج التذوق هذا الذي وصفه، بعد أن اقتنع أنّ كلّ كلام صادر عن إنسان مبينٍ عن نفسه خليقٌ أن يجري عليه ما أجراه على "الشعر"[2].



وأمدّته هذه القراءات والتجارب في التراث العربي بخبرة واسعة، أتاحت له أن يجعل ذلك منهجًا جامعًا، منهج "التذوّق". وهو لا يزعم أنّ ذلك شيء أفادَ به منفردًا، إنما كان مستفادًا من أسلافه النقاد العرب القدامى، فاستشفّ الخفيّ، واستنبطَ الدفين، وجمع المتشتّت، ولاءم بين أوصال المفكّك، فاتضح له الطريق الفكري وصار له منهج يلتزم فيه فيما يقرأ ويكتب[3].



يقول محمود شاكر عن جوهر هذا المنهج إنه "كان نابعًا من صميم المناهج الخفيّة التي سنّ لنا آباؤنا وأسلافنا طرقها، وأنّ كلّ جهدي فيه، هو معاناةٌ كانت منّي لتبيّن دروبها ومسالكها، ثمّ إزالة الغبار الذي طمس معالمها، ثمّ أن أجمع ما تشتّت أو تفرّق من أساليبها، معتمدًا على دلالات اللسان العربيّ، لأنّ كلّ ذلك مخبوءٌ تحت ألفاظ هذا اللسان العربيّ، ومستكنٌّ في نظم هذا اللسان العربيّ، وهذا يكادُ يكون أمرًا مسلّمًا ببديهة النّظر في شأن كلّ لغةٍ وتراثها. والذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتَّةَ على أن ينشئ منهجًا أدبيًّا لدراسة إرث هذه اللغة، في أيّ فرع من فروع هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كلّه تبجّحًا وغطرسة وزهوًا وغرورًا وتغريرًا، كما هو الحال في حياتنا الأدبية هذه الفاسدة"[4].



وغيرُ خاف على القارئ ذلك التلميح إلى المناهج المستحدثة التي لم تملك - بنظره - الأدوات اللازمة حتى تستطيع أن تنشئ منهجًا لقراءة هذا التراث العربي الزاخر، ومن هنا نشأت تلك القطيعة بين محمود شاكر وبين الحياة الأدبية المعاصرة "الفاسدة" في نظره، ثم هي تنشأ من عوامل أخرى سنأتي على ذكرها حين نتحدّث عن "الثقافة" وعن "الاستشراق".



وببيان حاسم لحقيقة منهجه وإثبات أصالته يقول محمود شاكر:

"ولكي لا تقع في الوهم والضلال، ولكي لا يغرّر بك أحد من المتشدّقين من أهل زماننا هذا بالثرثرة، فاعلم أنّ حديثي هنا هو عن الذي يسمّى "المنهج الأدبي" على وجه التحديد، أي: عن المنهج الذي يتناول الشعر والأدب بجميع أنواعه، والتاريخ، وعلم الدين بفروعه المختلفة، والفلسفة بمذاهبها المتضاربة، وكلّ ما هو صادر عن الإنسان إبانةً عن نفسه وعن جماعته = أي يتناول ثقافته المتكاملة المتحدّرة إليه في تيّار القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة. ووعاء ذلك كلّه ومستقرّه هو اللغة واللسان لا غير. فإيّاكَ إيّاكَ أن تنسى ذلك، واجعله منكَ على ذكر أبدًا. واذكر أيضًا أنّ هذا الذي أقوله لك عن "المنهج"، إنما هو أصلٌ أصيلٌ في كلّ أمّة، وفي كلّ لسانٍ، وفي كلّ ثقافةٍ حازها البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم ومواطنهم"[5].



ورغم كونه يتحدّث عن "المنهج الأدبي" في تسميته، إلا أننا ندرك من هذا البيان عمق البعد "الثقافي" الذي يتصدى له محمود شاكر في رسالته، وهو مما نريد الحديث عنه في بحثنا هذا. ونحن نرى أنّه لا يجعل "الأدب" أو "الشعر" الراقي بمفرده هو الذي يجري عليه منهجه، على عادة مناهج النقد الأدبي العربية القديمة، التي تنظر لكلّ ما هو جمالي وتستبعد غيره[6]، بل يتجاوز ذلك إلى المساواة بين كلّ ما هو صادر عن الإنسان إبانةً عن نفسه وعن جماعته، أي يتناول ثقافته المتكاملة المتحدّرة إليه في تيّار القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة.



الخطّ التاريخي لسيطرة الثقافة الدخيلة على عقول المثقفين العرب:



يقول محمود شاكر:

"كيف نشأ الخلاف، ولِمَ، بيني وبين هذه "المناهج الأدبية" السائدة؟ ولا يأتيك الجواب صريحًا، بيّنًا أمينًا، إلا بعد أن أقصّ عليك قصة تاريخ طويل سوف أختصره لك اختصارًا موجزًا أشدّ الإيجاز ما استطعتُ. وذلك لأنّ هذا الفساد لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشك أن يطمس معالمها ويطفئ أنوارها، إلا بعد التصادم الصامت المخيف الذي حدث بيننا وبين الثقافة الأوروبيّة الحاضرة. وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبيّنه تبيّنًا واضحًا، فكأنّنا أغفلنا القضيّة كلّها، وأسقطناها إسقاطًا من عقولنا، وخالفنا سنّة العقلاء المميّزين في التبصّر والتبيّن وترك التساهل عند مواطن الخطر، وصار كلامنا في "الثقافة" سدًى كلّه وهَدَرًا، ثمّ عبثًا وثرثرة وتغريرًا، كما هو حادث الآن في حياتنا الأدبيّة هذه الفاسدة، وصار الأمر كلّه جبنًا عن طلب الحقّ، واستنامةً لخداع الباطل وتسويله الخفيّ، واستدراجه إيّانا إلى سرابٍ مهلك"[7].



ثم يطفق يسرد لنا حكاية "الصراع" التاريخي وأسبابه بين الحضارتين "المسيحيّة الشمالية" (الأوروبيّة) و"الإسلامية"، فهو صراع له مراحله: الأولى: تتمثّل بالفتوح الإسلامية وسقوط أراض كثيرة وسكانها من النصارى في الحضارة الإسلامية، ومن ثمّ دخول غالبية تلك الشعوب في الإسلام. والثانية: تتمثّل بالحروب التي اجتاحت بيزنطة من أوروبا، والحروب الصليبيّة التي أجّجت حدّة ذلك الصراع. والثالثة: صراعُ الغضب العارم، الذي حلّ في أوروبا على إثر اندحار الصليبيّين من بلاد المشرق، واتجاهها لإصلاح خلل الحياة المسيحيّة في أوروبا، بالاتكاء على علوم دار الإسلام. ثم تأتي المرحلة الرابعة الحاسمة في نظر محمود شاكر وهي: مرحلة صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينيّة على يد الترك (المسلمين)، وهذا الصراع هو وحده الذي صنع لأوروبا كلّ شيء إلى يومنا هذا كما يقول محمود شاكر. فقد أدّى بهم إلى يقظة شاملة قامت على الإصرار والمثابرة وبذل الجهد في إصلاح الخلل القائم في حياتهم بالاعتماد على علوم المسلمين[8].



ويحدّثنا محمود شاكر عن الأهداف والوسائل التي كانت لديهم في تلك الفترة، فقد أرسلوا إلى المشرق الإسلامي بعثات كبيرة ممن تعلّموا العربية وأجادوها، يجمعون الكتب شراء أو سرقة، ويلاقون العلماء والمثقفين والعامّة من أمّة الإسلام؛ عسى أن يفهموا هذا العالم الذي يتقدّمهم ويستعلي عليهم. ويمدّون علماء اليقظة في أوروبا بما يحتاجونه من الكتب، ويُطلعون الكنيسة والملوك على كلّ ما علموا من أحوال دار الإسلام. ولاحظوا في أثناء ذلك تلك الغفلة المطبقة على العالم الإسلامي، فقد استنام المسلمون للنصر القديم على النصرانية وفتح القسطنطينيّة.



وقد لاحظوا أيضًا سماحة أهل الإسلام مع من يخالف دينهم وبخاصة أهل الكتاب. تلك الطبقة من البعثات هي التي عرفت بعد ذلك باسم "المستشرقين". وهو يصفهم بأنّهم أهمّ وأعظم طبقة تمخّضت عنها اليقظة الأوروبية، لما بذلوه من جهدٍ جهيدٍ وكدٍّ في نهلهم من علوم المسلمين ومعرفة أحوال دار الإسلام، وما أمدّوا به أوروبّا من ذلك كلّه، ثم نشوء طبقة "الساسة" بفضلهم، والتي عملت وأعدّت لردّ غائلة الإسلام، وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال "الاستعمار"، وبفضل هؤلاء ثارت طائفة الرهبان ممن نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل المسيحية، وتحويل العالم الإسلاميّ إلى النصرانيّة. وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال "التبشير". وهمُّ محمود شاكر في رسالته تلك مصروف إلى "الاستشراق"؛ لعلاقته الحميمة - كما يقول - بفساد حياتنا الأدبيّة والاجتماعيّة، ولأنّ حاجة "التبشير" و "الاستعمار" إليه، كانت حاجة ملحّة، وهي إلى اليوم حاجة دائمة[9].



ثم يحدّثنا محمود شاكر عن عمل "الاستشراق" في دار الإسلام، وكيف أن أوروبا اقتنعت أن اختراق دار الإسلام هذه المرّة لا يكون بقوّة السلاح مرة واحدة؛ كي يأمنوا استثارة العالم الإسلامي وهو بعد لا يزال قويًّا، إنما بالعمل الدائب البصير الصامت الذي يتيح لهم إضعاف العالم الإسلامي، ثمّ ممارسة الدّهاء والمكر والسياسة والصبر المتمادي، ومحاولة تطويق العالم الإسلامي، وتحسّس مواطن الضعف، حتى استطاعوا في النهاية الاستيلاء على مراكز القوّة في العالم الإسلامي بعد الحملة الفرنسية والاستعمار الإنجليزيّ[10].



مفهوم الثقافة عند محمود شاكر:



"يبدو أن لفظ (الثقافة) يعدّ من أعقد الكلمات في اللغات، نظرًا لطبيعة الظروف التاريخيّة لنموّها، وكذا لاستعمالاتها غير المتكافئة في الإنثروبولوجيّة الثقافيّة، التي أبدعتها كمبدأ أساسيّ ضمن حقول مختلفة"[11].





عن فهمه للثقافة يقول محمود شاكر: "ومن طريق "الثقافة"، فإنّ "الثقافة"، فاعلم، تكاد تكون سرًّا من الأسرار الملثّمة في كلّ أمة من الأمم وفي كلّ جيل من البشر. وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، متنوّعة أبلغ التنوّع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كلّ مجتمع إنسانيّ للإيمان بها أولا عن طريق العقل والقلب = ثمّ للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحسّ به = ثمّ للانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكّك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك"[12].



ونراه يُدخل مفهوم "الثقافة" في "الدين" بمعناه العام؛ حيث يقول: "ورأسُ كلّ "ثقافة" هو "الدين" بمعناه العامّ، والذي هو فطرة الإنسان، أيّ دين كان = أو ما كان في معنى "الدين""[13].



وهو بهذا المفهوم يتوافق بشكل كبير مع ما يقوله المفكّر إدوارد سعيد في كتابه Representations of the Intellectual بأنّ الإسلام دينٌ وثقافة متمازجان ومركّبان بحيث لا يمكن فصلهما في شكل أحادي.[14]



يقول محمود شاكر بعد ذلك:

"وهذا الذي حدّثتك عنه، ليس خاصًّا بأمّة، بل هو شأن كلّ جيل من الناس وكل أمّة من الأمم، كان لها "لغة" وكان لها "ثقافة"، وكان لها بعد تمام ذلك "حضارة" مؤسّسة على لغتها وثقافتها. فهذا "الأصل الأخلاقيّ" هو العامل الحاسم الذي يمكّن لثقافة الأمة بمعناها الشامل، أن تبقى متماسكة مترابطة تزداد على الأيّام تماسكًا وترابطًا، بقدر ما يكون في هذا "الأصل الأخلاقيّ" من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعًا"[15].



فهو يربط الثقافة، بل حتى الحضارة في "الأصل الأخلاقي" لها الذي هو في نطاق "الدين" بمعناه العامّ، وبذلك فهو يمهّد للبتّ في بيان "فساد الحياة الأدبية" المعاصرة.



وضروريٌّ جدًّا أن ندرك بعمق أهميّة مفهوم "الثقافة" لدى محمود شاكر، فهو يعود للحديث عنه بالتفصيل حينما يتحدّث عن "الاستشراق"؛ كي يبرهن لنا أنّ الآراء والتصورات والتاريخ الذي سطّره الاستشراق حول عالمنا الإسلاميّ وقضاياه وتراثه لم يكن صحيحًا؛ لافتقاره إلى التمكّن من عنصر "اللغة" أوّلا، كما كان العلماء المسلمون يتقنونها، وافتقاره أيضًا إلى عنصر "الثقافة"، الذي من دونه لا يمكن فهم هذا التراث العربي الإسلامي. ولا يمكن بناء على ذلك فهم هذا التراث إلا بأدوات نابعة منه، ومتأصلة في بيئته التي نشأ بها، يقول محمود شاكر في نصّ هامّ يجعلنا ننتقل بعد إثباته إلى جوهر بحثنا هذا:

"فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، "ثقافة" يمكن أن تكون "ثقافة عالمية"، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمّة غالبة على أممٍ مغلوبة، لتبقى تبعًا لها. فالثقافات متعدّدة بتعدّد الملل، ومتميّزة بتميّز الملل، ولكلّ ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من "الدين" الذي تدين به لا محالة. فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئًا، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدّلته وخلّته من الشوائب، وإن استعصى نبذته واطّرحته"[16].



وهذا النصّ على غاية من الأهميّة؛ لأنّه يوصلنا إلى موقف هذا المنهج من نظريات النقد الحديث، سواء التي شاعت في عصر المؤلف وفترات معاركه الأدبية في الثلاثينيات والأربعينيات، وسواء تلك النظريات الحديثة المعاصرة التي تأثّر بها طارحوها من النقاد العرب بالنظريات الغربية الأوروبية أو الأمريكية، ومن منظورنا في هذا البحث نجد أنّ ذلك ينطبق على معظم معطيات نظرية "النقد الثقافي" لعبد الله الغذامي، كونها لا تستجيب لمعطيات النقد "التذوّقي" الذي يطرحه محمود شاكر، ويقول بأنّه هو منهج العرب في النقد من القدم. فمن أهم معطيات هذا المنهج أنه يعتمد على التذوّق، وعلى أن ""الثقافة" و"اللغة" متداخلتان تداخلا لا انفكاك له، ويترادفان ويتلاقحان بأسلوب غامض خفيّ كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجًا واحدًا غير قابل للفصل، في كلّ جيل من البشر وفي كل أمة من الأمم"[17]. فلا يمكن بحسب هذا المنهج أن يُقرأ الأدب العربي أو التراث العربي الأصيل وفق منهج لا يعطي "الجمالية" وزنًا في فهم المحتوى الثقافي، ذلك أنّ اللغة وطرائق التعبير وتذوّق الألفاظ أمور أساسيّة لا يمكن فصلها عن الثقافة بحال من الأحوال، حتى لو كانت هناك اعتباراتٌ تقول بأن "الجمالي" هو أحد إفرازات النسق الثقافي[18]، لإعطائه قيمة سلبيّة، ومن ثمّ فصل تذوّق هذا "الجمالي" عن حقل البحث النقدي. فمن خصائص هذا المنهج أنه يعطي قيمة للذوق، وهذا يعني الجمالية والبلاغة والرقيّ في التعبير، وبناء عليه لا يمكن تغيير وِجهة الفعل النقدي من "التعبير الفصيح الراقي" إلى "الأغنية الشبابية والنكتة والإشاعات واللغة الرياضية كما يطرح الغذامي في منهجه[19]. من هذا المنطلق سنحاول إسقاط رؤية محمود شاكر ومحتوى القصيدة الثقافي على منهج الغذامي في "النقد الثقافي"، ولكن ثمة تفصيل يسير حول الحياة الأدبية الفاسدة قبل الدخول في الحديث عن طبيعة النقد الثقافي.



الحياة الأدبية الفاسدة:



يكرّر محمود شاكر كثيرًا جملة: "الحياة الأدبية الفاسدة"، حتى لتكاد تكون الوِجهة التي يسير فيها البحث، فهو يقول في أول رسالته: "كنتُ منغمسًا في غمار حياة أدبيّة بدأتُ أحسّ إحساسًا مبهمًا متصاعدًا أنها حياة فاسدة من كلّ وجه"[20]. ثم بعد حديثه عن منهج الأسلاف الذي استنبطه وسماه "منهج التذوّق" يقول: "والذي لا يملك القدرة على استيعاب الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتة على أن ينشئ منهجا أدبيًّا لدراسة إرث هذه اللغة، في أي فرع من فروع هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كلّه تبجّحًا وغطرسة وزهوًا وتغريرًا، كما هو الحال في حياتنا الأدبية هذه الفاسدة"[21]. وهذه الحياة الأدبية الفاسدة قد "سنّ للناس سننها شيوخنا الأدباء الكبار، والتي نعيش فيها إلى هذا اليوم، وآفات أخرى كانوا يتعايشون بها، وبثّوها في تلاميذهم وأشياعهم، كل ذلك لم يكن يتيح لأحد، إلا من عصم الله، أن يجد من وقته ساعات للتأمّل والأناة والصبر، للبحث عن هذا المنهج الغريب غير المألوف الذي وجده أمامه مطبّقًا في كتاب كامل، وأحسّ به كلٌّ منهم إحساسًا خفيًّا دعاه إلى المعارضة أو الثناء"[22]. وهو يتحدث هنا عن كتابه "المتنبي".



وأسباب هذه الحياة الأدبية الفاسدة الرئيسية كما في استعراضنا للخط التاريخي هي الاستشراق ومن بعده الاستعمار. وقد تجلّت في أدباء كبار سيطروا بشكل بارز على الساحة الثقافية والأدبية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت في عصر كتابة الرسالة في السبعينيّات، حينما كان الأديبُ يخوض معاركه مع هؤلاء الأدباء، ويمثّل هو بذلك "ثقافة الهامش"، بينما تمثّل الحياة الأدبيّة الفاسدة "ثقافة المتن" السائدة في المجتمع الثقافي[23].



وهي حياة أدبية تسير "في طريق الغموض، لا في طريق الوضوح. وقد استشرى خطر هذه السيرة بما شاع في هذه الحياة من الثرثرة والادّعاء والتحكّم والعجرفيّة وقلّة المبالاة والزهو الفارغ، فأدّى بنا ذلك كلّه إلى أن نألف استعمال ألفاظ موهمة غامضة الدّلالة، فضفاضة المعاني، بجرأة وبلا أناة وبلا ضبط وبلا تعمّق"[24].



وفي نهاية الرسالة، بعد حديثه عن الاحتلال الإنجليزي ودوره، ومنهج "دنلوب" التعليمي الذي وضعه للمدارس المصرية، يقول محمود شاكر عن تفريغ الطلاب المصريين من ثقافتهم المتكاملة: "وأيضًا فإنّ هذا "التفريغ" سوف ينشئ أجيالاً من "تلاميذ المدارس" تتهتّك علائقها التي تربطها بثقافتها العربية الإسلامية اجتماعيًّا وثقافيّا ولغويًّا، حتى يتمّ تفريغها تفريغًا كاملاً من ماضيهم كلّه، ثمّ يَملأُ هذا الفراغ علومٌ وآداب وفنونٌ لا علاقة لها بماضيهم، وإنما هي علوم الغزاة، وفنون الغزاة، وآداب الغزاة، وتاريخ الغزاة، ولغات الغزاة"[25].



هكذا ينظر محمود شاكر إلى المشهد الثقافي المعاصر المسيطر على الساحة الأدبية، وهكذا انتهى حال هذه الحياة الأدبيّة بعد جميع مراحل الاستشراق والاستعمار المادي والفكري التي سردها بتأنٍّ في رسالته.



وبهذه الرؤية نستطيع قراءة "الغذامي"، الذي يعتبر - وفق هذا المنهج - متأثّرًا بشكل سلبيّ بمعطيات الثقافة الغربية، متجلّيًا ذلك في استيعابه لنظرية النقد الثقافي ومحاولة تطبيقها - بمعطياتها الغربية ونشأتها الغربية - على المحتوى الثقافي للتراث الأدبي العربي، وبخاصة الشعريّ. ومن هنا سوف نطّلع على طبيعة النقد الثقافي في الفصل التالي، ونرجئ تحليل القصيدة ثقافيًّا إلى الفصل الثالث والأخير.



النقد الثقافي والغذامي



ظهر النقد الثقافي كامتداد لحشد من التغييرات في ساحة النقد الغربي، بدأت بتوجيه الاهتمام إلى الخطاب بدلاً من مجرّد النص[26]، بعد ظهور ما يسمّى بالدراسات الثقافيّة التي هي عبارة عن "دراسة الثقافة"، أو، على وجه أخص، دراسة الثقافة المعاصرة[27]. وقد سردَ الدكتور الغذامي قصة تولّد هذا النوع من النقد والتغيرات التي سبقته في فصل كامل من كتابه "النقد الثقافي" بعنوان "ذاكرة المصطلح"[28].



ويهمّنا في هذا البحث أن نعرض للنقد الثقافي الذي يقدمه الدكتور عبدالله الغذامي كبديل عن النقد الأدبي، فليس لدينا مجال في بحثٍ مجمل كهذا لبيان كل مذاهب النقد الثقافي الغربية، إنما فقط أثبتنا كون ذلك النقد لم ينبع من لا شيء أو من فراغ، إنما هو بمثابة منظومة أدوات إجرائية مستوردة من النقد الغربي ومطوّرة من قبل الدكتور الغذامي لتلائم المشكلات التي أراد الكشف عنها. غير أنّنا لن نلتزم في بعض ما يقوله الغذامي في شأن النقد الثقافي، كقوله: "ويشترط في النص أن يكون جماليًّا، وأن يكون جماهيريًّا"[29]. فسنحاول إسقاط رؤية الشاعر علي فريد في قصيدته على خطاب الغذامي، رغم كون خطاب الغذامي النقدي ليس جماليًّا بالمعايير المعروفة، وليس جماهيريًّا إنما نخبويّ. ولكنّنا ننطلق من منظور يرى في النقد الثقافي سعةً تسمح بالتصدّي لأي خطاب، حتى لو كان هذا الخطاب هو من النقد "النخبوي" غير "الجماهيري". وكذلك فالبحث يعالج قضية تصدّي منهج محمود شاكر وغيره للثقافة السائدة في الجوّ الأكاديمي، وأنها الثقافة التي تعتمد على أدوات ومناهج غربية غريبة على الحسّ العربي الأصيل، هذا المنظور هو الذي سيحاول الكشف عن عيوب الخطاب الثقافي الحالي ومنه خطاب الغذامي وليس كلّه. وخلاصة الكلام هنا أنّنا بعدم التزامنا بكلّ ما يقوله الغذامي بشأن النقد الثقافي لا نكون قد خرجنا عن قواعده ما دام في الأمر سعة، على اعتبار أنّ النقد الثقافي يستطيع معالجة أيّ خطاب مهما كان.



النقد الثقافي "معنيّ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همّه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/ الجمالي"[30]. يحاول الغذامي البحث عما هو غير الأدبية في الأدب[31]، وبهذا التساؤل يبرر لنا شيئًا فشيئًا اقتراحه في إحلال النقد الثقافي مكان الأدبي. فبدايةً الأدبيّ لن يكون هو الذي وضعت شروطه المؤسسة الثقافية حسب ما توارثته من مواصفات بلاغيّة وجماليّة[32]، وكلّ ما لا يرقى إلى ذوق المؤسّسة النقدية لاعتبارات مختلفة كشعبيّته أو امتلائه بحكايات الصبيان والنساء وضعاف النفوس فهو يصنّف في خانة الأدنى، وغيره مما امتلأ بالحِكم أو بالعقلانية وأخبار الملوك فهو الأرقى في نظر المؤسسة[33]. الجمالية المتعالية أصبحت هي معيار التقييم في النقد الأدبي[34]، ولم يتطور ذلك في الوعي النقدي، وبقيَ هذا الوعيُ حبيس الشرط الجمالي المؤسساتي. ومن ثمّ ظلَّ الفعل النقدي يدور حول دوائره النسقيّة ولم يتجه إلى كشف عيوب الخطاب، بما في ذلك عيوب المؤسّسة النقديّة ذاتها ودورها في تنميط أفعال الاستقبال والتذوّق والتأويل، وإخضاع فعل القراءة لشروط المؤسّسة وأحكامها[35]. ومن هنا اتجه الغذامي إلى محاولة تحرير مصطلح الأدبي والأدبيّة من قيد التصور الرسمي المؤسّساتي، بحيث يعاد النّظر في أسئلة الجمالي وشروطه وأنواع الخطابات التي تمثّله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بدّ من الاتجاه إلى كشف عيوب الجمالي، والإفصاح عمّا هو قبحيّ في الخطاب، وكما أنّ لدينا نظريّات في الجماليّات فإنّه لا بدّ أن نوجد نظريات في (القبحيات) أي في عيوب الجمالي وعلله، وهي نوع من علم العلل - كما في مصطلح الحديث، الذي يبحث عن علل المتن أو في السند أو فيهما معًا، وفي ذلك جهود ضخمة نحتاجها كمثال نقدي حيّ ومجرّب[36]. وهكذا تتبيّن لنا وظيفة هذا النقد الثقافي الذي يريده الغذامي، فهو كعلم العلل، أي مختص بعيوب الخطاب كما اختص علم العلل بعيوب المتن والسند.



والغذامي في ذلك المشروع يريد أن يحرّر المصطلح، فتحرير المصطلح من قيده المؤسساتي هو الشرط الأول لتحرير الأداة النقديّة، مذ كان الارتباط بين الاثنين أزليًّا[37]. وإعمال المصطلح النقديّ الأدبي إعمالاً لا يتسمّى بالأدبيّ، ويتّخذ له صفة أخرى هي الثقافي، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدّي المهمة الجديدة على ذاكرة هذا المصطلح، وهي ذاكرة مكتنزة بالتجارب ومتلبّسة بها، ولن تتخلّص هي، ولن نتخلّص نحن معها من هيمنة الاصطلاح إلا عبر هذا التحويل الذي هو عمليّة تحرير فعليّ لنا وللأداة[38].



ولنا هنا وقفة مع هذا الكلام، سنحاول أن ندخل في العمق الذي عرضناه في الفصل السابق، وهو عمق الثقافة وخصوصية الأدب العربي، مما يجعل من غير المستساغ تفعيل أدوات نقدية غريبة عليه من دون أن تكون خاضعة لأسلوب هذه الثقافة وهذا التراث في النقد. ونستحضر مرة أخرى ما قلناه في الفصل السابق حول منهج محمود شاكر:

"فلا يمكن بحسب هذا المنهج أن يقرأ الأدب العربي أو التراث العربي الأصيل وفق منهج لا يعطي "الجمالية" وزنًا في فهم المحتوى الثقافي، ذلك أن اللغة وطرائق التعبير وتذوق الألفاظ شيءٌ أساسيٌّ لا يمكن فصله عن الثقافة بحال من الأحوال لاعتبارات تقول بأن "الجمالي" هو أحد إفرازات النسق الثقافي[39]. ومن خصائص هذا المنهج أنه يعطي قيمة للذوق، وهذا يعني الجمالية والبلاغة والرقي في التعبير، فبناء عليه لا يمكن أن يتمّ تغيير وجهة الفعل النقدي من "التعبير الفصيح الراقي" إلى "الأغنية الشبابية والنكتة والإشاعات واللغة الرياضية كما يطرح الغذامي في منهجه[40]".



لا يمكن بحسب هذه الرؤية أن نستبدل تراثًا نقديًا طويلا نما مع الأدب العربي والثقافة الإسلامية بمنهج غربيّ في لحظات! وهذا ما يصرّح بفعله الغذاميّ فيما نقلناه عنه إذ يقول: "وإعمال المصطلح النقديّ الأدبيّ إعمالاً لا يتسمّى بالأدبيّ، ويتّخذ له صفة أخرى هي الثقافيّ، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدّي المهمة الجديدة على ذاكرة هذا المصطلح وهي ذاكرة مكتنزة بالتجارب ومتلبّسة بها، ولن تتخلّص هي ولن نتخلّص نحن معها من هيمنة الاصطلاح إلا عبر هذا التحويل الذي هو عمليّة تحرير فعليّ لنا وللأداة"[41].



ويمكننا هنا الاستعانة بما قاله الدكتور عبدالنبي اصطيف في كتاب "نقد ثقافي أم نقد أدبي" وبما قاله ناقد مصري في فترة الأربعينيات وهو سيّد قطب في كتابه "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه".



يقول الدكتور عبدالنبي اصطيف:

"وحقيقة الأمر أنّ دعاة النقد الثقافي في المجتمعات العربيّة الحديثة والمعاصرة إنّما هم قوم فتنوا بما حققه "النقد الثقافي" في الغرب، بوصفه جزءًا ممّا بات يشار إليه في الأوساط الجامعية الغربية والأمريكية بـ "الدراسات الثقافية" cultural studies، فرأوا فيه الحل السحري لجميع مشكلات النقد الأدبي العربي الحديث، غافلين عن أنّ هذا النقد الثقافي - على أهميّة ما حقّقه من إنجازات - لم يلغ دور النقد الأدبي في المجتمعات الغربيّة وغير الغربيّة التي ازدهر فيها، بل إنّ النقد الأدبي قد شهد في هذه المجتمعات ازدهارًا مماثلاً، وهو لا يزال يقوم بالكثير من الوظائف التي يودّ دعاة النقد الثقافي في الوطن العربي أن يُسنِدوها إلى النقد الثقافي[42].



ويقول سيّد قطب:

"هذا ولم أرد أن أحمّل "النقد العربي" على مناهج أجنبيّة عنه، لها ظروف تاريخيّة وطبيعيّة غير ظروفه، بل آثرتُ أن أتحدّث عن هذه المناهج في محيط النقد العربي في القديم والحديث. فإذا اضطررت إلى الاقتباس من مناهج النقد الأوروبي كان ذلك في الحدود التي تقبلها طبيعة النقد في الأدب العربي، وتنتفع بها وتنمو بها نموًّا طبيعيًّا، بعيدًا عن التكلّف والافتعال"[43].



هذا الخطاب هو ذاته خطاب محمود شاكر فيما سبق، وهو يطرح التساؤل: كيف جاز للنقد الحديث أن يتّخذ له بسرعة خاطفة مناهج نقد غربيّة نمت وتطورت في وعاءٍ من الزمان طويل ووعاءٍ من المكان والملابسات والظروف مختلفٍ ليطبّقها على الأدب العربي؟ إنّ هذا الخطاب (خطاب شاكر واصطيف وقطب) يرى في ذلك "عيبًا"، أو مظهرًا "قبحيًّا"[44] يختبئ وراء ستار "التجديد"، فهو يكشف عن أنساق ثقافيّة من وراء الجوّ الثقافي المسيطر، هذه الأنساق توصف بأنها "معيبة"، كونها تحمل صفات مرفوضة على الحسّ العربيّ، لأنها نابعة من تأثير الثقافة الاستعماريّة الغالبة التي كافحت الشعوب لإزالة أسبابها الماديّة، ولكنّها ابتليت بتظاهر هذه الثقافة في المحافل الثقافية والأكاديميّة.



في هذا الجوّ الخانق من سيطرة الثقافة "المغايرة" ولدت قصيدة "هذيان بائع الدموع"، كما ولدت قبلها رسالة محمود شاكر التي عالجناها في الفصل الأول. وقبل أن ننتقل إلى الفصل الأخير وتحليل القصيدة ثقافيًّا نحتاج أن نثبت بعض ما قاله الشاعر في رسالة خاصة أرسلها للباحث، تظهر لنا الرؤية التي ينظر من خلالها للنقد وللغذامي.



أرسل لي مرة رسالة تحدّث فيها عن مناهج النقد الغربيّة وعن العذامي وكتابه "النقد الثقافي" فقال:

"لا أدري لماذا أتخوف دائماً من هذه النظريات الغربية الحديثة التي يوضع الشعر العربي تحت مبضعها كل عقد من السنوات، وكلما خرجت نظرية ألغت سابقتها، كأهل النار كلما دخلت أمة لعنت أختها.. أنا رجل لا أستطيع فهم الشعر العربي إلا من خلال منهج التذوق العربي.. ولا أمانع في الاستعانة بأدوات إجرائية مستوردة من وراء البحار ما دامت ستخدم النص وتعين على التذوق رغم يقيني الكامل أن هذه الأدوات الإجرائية التي يظنها أصحابها جديدة وغير مسبوقة، لها تاريخ كبير وواسع في الأدب العربي.. فأنا من المؤمنين حد التعصب أنه ليس هناك شئ جديد في النقد لم يقله العرب الأقدمون أو يشيروا إليه أو يلمحوا إلى بعضه.. ولكني لا أتعصب برفض الاستفادة من أدوات الآخرين وتزيّداتهم في نقدهم..



"غاية ما هنالك أني أرى أنه من الحمق أن نزرع نخلة في القطب الشمالي... لأنها ببساطة.. لن تنمو..



"لا أحب أن ألبس (شورت) في المسجد، أو ألبس (بيجامة) نومي في الأوبرا..



"لكل شيء شيء..



"والأدب العربي لا يصلح له إلا نقد نابع منه.. من طبيعته.. من خصوصيته.. ولا مشاحة بعد ذلك في إجراءات نقدية لا تجور في التطبيق على خصوصية الأدب..



"قرأت كتاب النقد الثقافي للغذامي.. ورأيي الشخصي فيه سيّء (في الكتاب وليس في الرجل).. ولا أعرف ما الذي يريده الكتاب بالضبط، وليس ثمة مجال لشرح رأيي الذي يطول شرحه"[45].



فعلي فريد وإن كان لا يرفض - على الإطلاق - استخدام أية أداة إجرائيّة نقديّة مستوردة من الغرب، فإنّه لا يرى في ذلك أيّ جدوى من حيث الهدف المبتغى من وراء استخدام هذه الأدوات والنظريات، وهذا يفسّر نفيَهُ وجودَ الهدف الواضح عن كتاب الغذامي وطرحِه في "النقد الثقافي"، فهو لا يعرف ما الذي يريده الكتاب بالضبط. ومع ذلك سنحاول أن نطبّق أداة إجرائيّة من نقد الغذامي الثقافي على محتوى القصيدة الثقافي، وهي أداة "الفرز الثقافي" (المتن والهامش) بحيث لا يشكّل هذا التطبيق أي إجحاف بطبيعة النصّ العربية، استنادًا إلى مقولة علي فريد في قبول الاستعانة بأدوات النقد الغربي الإجرائيّة.



بعد هذا البيان الموجز حول ماهية "النقد الثقافي" من جهة وحول موقف محمود شاكر والشاعر علي فريد من هذا المنهج المستورد لا بدّ لنا أن نبدأ بتحليل القصيدة، فقد حددنا الجوّ الثقافيّ الذي تعيش فيه. والفصل القادم تحليلٌ ثقافي للقصيدة اعتمادًا على نظرية "المتن والهامش" للغذامي بشكل أساسي.





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 212.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 211.03 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.81%)]