الرضا والبلاء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         How can we prepare for the arrival of Ramadaan? (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الأسباب المعينـــــــة على قيام الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حكم بيع جوزة الطيب واستعمالها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          تريد لبس الحجاب وأهلها يرفضون فهل تطيعهم ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          ما هي سنن الصوم ؟ . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          هل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين لم يروه ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حكم قول بحق جاه النبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          ليلة النصف من شعبان ..... الواجب والممنوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          فضل صيام شهر رمضان.خصائص وفضائل شهر رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          المقصود بالتثليث النصراني الذي أبطله القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-07-2022, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,610
الدولة : Egypt
افتراضي الرضا والبلاء

الرضا والبلاء (1)
إبراهيم الدميجي

الحمدُ لله الرحيم الرحمن، علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمَه البيانَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل الْقُرْآن هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، سيد ولد عدنان، صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون، وعلى آله وأزواجه وخلفائه وجميع أصحابه ومَنْ تَبِعَهم بإحسان؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن معيار الرضا هو البلاء، وإلا فالنعيم مرضيّ على كل حال، أما البلاء فالغريزة تمنع الرضا به ما لم يأتِها دافعٌ من خارجها يُحبِّب لها الرضا، ويقلب مرارته حلاوةً، فالدواء كريهُ المَأْخَذ، رضيٌّ الغاية، وابتغاء الأجر والتقلُّب مع مراد الحبيب حيثما أراد، فأحبّه إليه أحبّه إليه، والعاقبة: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا))[1].

وروى الطبراني في الكبير أن عمران بن حصين رضي الله عنه اشتكى، فدخل عليه جارٌ له، فاستبطأه في العيادة، فقال له: يا أبا نجيد، إن بعض ما يمنعني من عيادتك ما أرى بك من الجهد، قال: فلا تفعل، فإنَّ أحبَّه إليَّ أحبُّه إلى الله، فلا تبتئس لي بما ترى، أرأيت إذا كان ما ترى مجازاة بذنوب قد مضت، وأنا أرجو عفو الله على ما بقي، فإنه قال: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30][2].

ومن البشارات للعبد الصالح المريض أو العاجز عن صالحات أعمال كان قد اعتادها لسفر أو حبس أو غيره؛ أنَّ ثوابها يجري له وإن لم يعمل؛ كرامةً من الله وَجُودًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا))[3]، فعلى المريض ومن في حكمه أن يصبر ويرضى، ويحمد ويشكر الله على هذا البلاء، فإن ذلك عبودية الضرّاء.

وخيرٌ للمؤمن أن تُعجَّل عقوبته في الدنيا – إذا لم يكتب له ربُّه مغفرة لها وعفوًا عنها – ويعظم التكفير، ويجلُّ الجزاء بحسب حجم الابتلاء، ودرجة وقوعه على العبد، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذا أَرادَ اللَّهُ بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بِهِ [4] يومَ القيامةِ، وإِنَّ عِظَمَ الْجَزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ، وإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَومًا ابتلاهُمْ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرِّضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) [5]، قال العثيمين رحمه الله: "الأمور كلُّها بيد الله عز وجل وبإرادته؛ لأن الله يقول عن نفسه: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، ويقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18]، فكل الأمور بيد الله، والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب، فإذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبة في الدنيا؛ إما بماله، أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل به.

المهم أن تُعجَّل له العقوبة؛ لأن العقوبات تُكفِّر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة، وكفَّر الله بها عن العبد؛ فإنه يوافي الله، وليس عليه ذنب، قد طهَّرته المصائب والبلايا، حتى إنه ليُشدّدُ على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدنيا نقيًّا من الذنوب، وهذه نعمة؛ لأن عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة.

لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له، واستدرجه، وأدرَّ عليه النِّعَم، ودفع عنه النقم حتى يبطر ويفرح فرحًا مذمومًا بما أنعم الله به عليه، وحينئذٍ يُلاقي ربَّه وهو مغمور بسيئاته؛ فيُعاقب بها في الآخرة، نسأل الله العافية!

فإذا رأيتَ شخصًا يُبارز الله بالعِصيان، وقد وقاه الله البلاء، وأدرَّ عليه النِّعَم؛ فاعلم أن الله إنما أراد به شرًّا؛ لأنَّ الله أخَّر عنه العقوبة حتى يُوافي بها يوم القيامة.

ثم ذكر في هذا الحديث: ((أنَّ عِظَمَ الجزاء من عِظَم البلاء))؛ يعني: أنه كلما عظُمَ البلاءُ عَظُمَ الجزاء، فالبلاءُ السهلُ له أجْرٌ يسيرٌ، والبلاءُ الشديدُ له أجْرٌ كبيرٌ؛ لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها من الأجر الكبير، وإذا هانت المصائب هان الأجر.

وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضا، ومن سخط فله السُّخْط، وهذه بُشرى للمؤمن إذا ابتُلي بالمصيبة، فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه؛ بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد، يبتليه سبحانه بالمصائب، فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرِّضا، وإن سَخِط فله السَّخَط.

وفي هذا حثٌّ على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يُكتَب له الرِّضا من الله عز وجل، والله الموفق"[6].

"وقد تكون المصائبُ أكبرَ من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

والمراد بالرِّضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: ((ومَنْ سَخِطَ))، فقابل الرضا بالسخط؛ وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.

ولم يقل هنا: فعليه السخط، مع أن مقتضى السياق أن يقول: فعليه، كقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]؛ لأنها لام الاستحقاق؛ أي: صار عليه السَّخَط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من "على"، كقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ﴾ [الرعد: 25]؛ أي: حقَّت عليهم باستحقاقهم لها" [7]، وقوله: ((وإذا أرادَ اللهُ بعبدِهِ الشرَّ))، هنا سمّى الإمساك عن العقوبة شرًّا باعتبار العبد، وإلا باعتبار فعل الله فعَدْل[8]. [9]

ومعنى: ((أمسك عنه بذنبه)): الممسوك عنه هي البلايا والعقوبة. ((بذنبه)): الباء سببية، بمعنى أنه ما عاقبه بسبب ذنوبه، ولكن أمسك عنه العقوبة، وقد تكون بمعنى الاستحقاق؛ أي: مع أنه مستحق بذنبه، ونسب الذنوب إلى العبد؛ لأنها كسْبُه، وهذه الذنوب هي ما دون المكفرات، أما "حتى" هنا فهي لانتهاء الغاية؛ أي: إلى غاية أن يوافي به يوم القيامة.

وهل كل مصيبة علامةُ خيرٍ؟ لا، إلا إن وُفِّق إلى الصبر فهي علامة خير، وإن لم يصبر فهي علامة شرّ.

وقوله: ((إنَّ عِظَم الجزاءِ)): فإذا نظرت إلى هذه الكلمة «الجزاء» وآخر الحديث تبيَّن لك أن في هذا الحديث دلالةً على أن المصائب رافعةٌ للدرجات، ((مع عِظَم البلاء)): المعيّة هنا ليست معيّة مقترنة، وإنما الجزاء يأتي بعد البلاء؛ لأنه مُترتِّب عليه، وهل الجزاء مع كل بلاء مطلقًا؟ والجواب: لا، ليس كل بلاء معه جزاء إلا بشرطه، وشرطه هنا: الصبر والرضا[10].

وقوله: ((مع عِظَم البلاء))؛ أي: إن عِظَم البلاء معه عِظَم جزاء، هل هو باعتبار الكمية أو الكيفية؟ قد يكون هذا وقد يكون هذا.

((وإنَّ اللهَ تعالى إذا أحَبَّ قومًا)): فيه إثبات أن الله يحب، والمعطِّلة لا يثبتون المحبة لله تعالى، وقوله: ((قومًا)): هنا نكرة، والمقصود بقوم؛ أي: المؤمنين، والدليل: أن الله لا يحب الكافرين، وهؤلاء القوم محبوبون، وقوله: ((ابتلاهم))؛ أي: أصابهم ببلايا ومصائب، ورزقهم ما يثيبهم عليها ويثبتهم، ويدل هذا الحديث بالمفهوم أن قلة الجزاء مع قلة البلاء.

قوله: ((فمَنْ رَضِي)): هنا ذكر الرِّضا فهو يدل على الصبر وزيادة، وقوله: ((فله الرِّضَا)) هذا جزاء رضائه أن يرضى الله عنه، فيترتَّب على ذلك كثرةُ الثواب، ((ومَنْ سَخِط))؛ أي: كره، وما تبع الكراهة من أعمال الجوارح، ((فله السَّخَط))، فهذا جزاءً وفاقًا، فلما سخِطَ سخِطَ الله عليه، فيترتب على ذلك العقوبة، ودلَّ الحديث على فضل الرِّضا، وأنه يزيد في الدرجات، ويزيد في التوحيد"[11].

وههنا سؤال: كيف يُميِّز العبد في المقضيّ المؤلم (المصيبة) بين العقوبة والابتلاء؟
والجواب: أنَّ بينهما عمومًا وخصوصًا، فما كان على ذنب فهو عقوبة، ومنه قول الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وما لم يكن على سالف ذنب أو كان مغفورًا فهو محض الابتلاء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مغفور الذنوب سالفها ولاحقها، ومع هذا فقد كان من أشدِّ الناس بلاءً، وهو القائل: ((أشَدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمْثَلُ فالأمْثَلُ، يُبْتلى الإنسانُ على حسَبِ دِينه، فإن كان في دِينه صلابةٌ زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ خُفِّف في بلائه))[12]، وقد تكون المصيبة مستغرقةً للعقوبة والابتلاء، فتستنفد الذنب وتدخل في الابتلاء.

وكلُّ المصائب خيرٌ للمؤمن خلا مصيبة الدِّين، فالمصائب مُمَحِّصة، مُكفِّرة، رافعة للدرجة، مقرِّبة من الله، فالبلاء يجمع بين العبد وربِّه، والعافية تجمع بينه وبين نفسه، ويا بن آدم: لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وصدق البُسْتي رحمه الله إذ يقول:
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجْبُرُهُ
وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ




بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وارضوا به ربًّا وإلهًا ومدبِّرًا ومُقدِّرًا.

واعلموا أن فعل الله كُلُّه خيرُّ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد اللهُ بعبدِهِ الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا))؛ أي: يصبُّ عليه البلاء والمصائب؛ لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المصائب نعمة؛ لأنها مُكفِّرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيُثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذُّل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.

فنفس البلاء يُكفِّر الله به الخطايا، وهذا من أعظم النِّعَم، فالمصائبُ رحمةٌ ونِعْمةٌ في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتُلي بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه، فهذا كانت العافيةُ خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقِّه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمودٌ عليها"[13].

وعليه؛ فالمصائب تُكفِّر الذنوب، أما حصول الثواب والأجر فهو بأسباب أخرى، كأن يكون بالصبر عليها، وكونها تحدث للإنسان إنابة إلى الله، وذل وتعلق به، ودعاء إليه، فهذا أمر آخر، أما المصيبة نفسها فهي كَفَّارة فقط، تكفر ما وقع منه، وليس فيها أنه يكتب له فيها الثواب، وإنما يكفر عنه بها ما وقع من المعاصي، وترك الطاعات الواجبة عليه إذا اتصل بها شيء سواء كان مما يدعو إلى الإنابة والتوبة والاستغفار والدعاء، فهذا أمر آخر يثاب عليه، أما إذا كانت سببًا للإعراض والتضجُّر والاعتراض على الله جل وعلا والسخط مما قضاه عليه، فإنها تكون مصيبةً أخرى ليس له فيها كَفَّارة، وربما وقعت منه مصيبة أكبر من المصيبة التي أصيب بها، فهذا يقع فيه كثيرٌ من الناس.

وبعض الناس يكون المرض الذي يقع فيه غير مُنبِّه له، بل يبقى على حالته التي هو عليها حتى تجده يترك الصلاة؛ لأن كونه مريضًا لا يستطيع أن يتوضَّأ ولا يستطيع أن يُصلي، وهذا يوجد في كثير من المرضى، وهذا خطرٌ عظيمٌ ومعصيةٌ كبيرةٌ، بل قد تكون كُفْرًا، نسأل الله العافية.

فالصلاةُ لا تسقط عن الإنسان بحال من الأحوال، وإذا مرض الإنسان فينبغي له أن يحرص على أداء الصلاة على حسب حاله ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة:286]، ولكن لا يترك الصلاة، وإن استطاع أن يتوضَّأ توضَّأ، وإن استطاع أن يُصلِّي قائمًا صلَّى قائمًا، وإن لم يستطِع الوضوء تيمَّم، فالتيمُّم ليس صعبًا، فإذا لم يكن عنده من يوضِّئه ويُعينه على وضوئه تيمَّم، فإن كان عنده من يفعل ذلك فإنه يجب عليه ذلك، أما إذا كان لا يستطيع أن يخرج فيوضع له قليل من التراب في إناء ويتيمَّم فيمسح وجهه ويديه، وإذا لم يستطِع هو ذلك فالذي عنده يفعل به ذلك ويُيَمِّمُه، فيأخذ بيديه ويضعها على التراب، ثم يسمح بها وجهه وكفَّيْه، ثم يقول له: صَلِّ، فيُصلي على حسب حاله ولو بالإشارة يشير برأسه، فإذا لم يستطِع يُومئ بعينيه، فما دام العقل عنده صاحيًا فلا تسقط عنه الصلاة بحال، ولا يجوز أن يترك الصلاة، فقد يموت قبل أن يُشفى فيكون موته وهو تارك للصلاة، نسأل الله العافية، فهذا خطرٌ عظيمٌ يجب أن يُنبَّه عليه الناس، فمثل هذا يكون المرض- وهو مصيبة- قد سبَّب مصيبةً أخرى أكبر منها، نسأل الله العافية.

فالمسألة: أن الناس يختلفون في البلاء الذي يصيبهم، فمنهم من يرجع إلى الله بسببه ويُنيب، ومنهم من يبتعد عن الله جل وعلا ويكون سببًا في تضجُّره وتسخُّطه على الله، ويقول: أنا لا أستحق هذا الشيء- يعني: أن الله ظلمه عياذًا بالله- وأنا ما عملت شيئًا، أنا أصلِّي وأنا أفعل كذا، وأنا وأنا ولكن ما أدري من أين جاءت هذه المصيبة؟! هكذا نسمع بعضهم يقول! والذي لا يقول هذا بلسانه يمكن أن يقول في قلبه شيئًا من ذلك، وإذا كان في قلب الإنسان شيء من ذلك فإنه يكفي في هلاكه؛ لأن الله جل وعلا يحكم بالعدل، ولا يصاب من مُصاب إلا بسبب أمرٍ تركه أو ذنب ارتكبه، كما أخبر الله جل وعلا.

ويجب أن يتَّعِظ الإنسانُ بالمصائب، فتكون المصيبةُ موعظةً له، فيتَّعِظ ويُحاسب نفسَه، ويبتعد عن المعائب التي يُعاب عليها دينًا، فيبتعد عنها ويستغفر ربَّه منها، فمثل هذا تكون المصيبة قد طهَّرَتْه من الذنب، وكفَّرَتْ عنه ذَنْبِه، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اللهمَّ صلِّ على محمد.

[1] الترمذي (2396) وصححه الألباني.

[2] الطبراني في الكبير (193).

[3] البخاري (2996).

[4] الموافاة هنا هي الاستيفاء؛ أي: أخذ الحق كاملًا مستوفيًا، والمراد؛ أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب، عياذًا بالله تعالى.

[5] الترمذي (2396) وقال: حديث حسن، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي، وأخرجه ابن ماجه (4031) باللفظ الثاني فقط، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الزاد (3/ 506): "يؤدِّب اللهُ عبدَه المؤمنَ الذي يحبُّه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حذرًا، وأما من سقط من عينه، وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث الله له نعمةً، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد، والعقوبة التي لا عافية معها".

[6] شرح رياض الصالحين للعثيمين (1 / 48).

[7] القول المفيد على كتاب التوحيد (2 / 79).

[8]أحمد في المسند (803) ومسلم (1 / 215).

[9] قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: حديث: ((والشرُّ ليس إليك))؛ يعني: أنَّ أفعال الله تعالى لا تُوصَف بالشرِّ؛ بل كلُّها عَدْل أو فَضْلٌ وخيرٌ؛ لما فيها من الغايات المحمودة؛ لكن ما يُضَافُ للعبد يكون شرًّا بالنسبة له؛ لكن بالنسبة للقدر هو خير.
مثلًا: أصيب فلان بفقد والده، أصيب بفقد ماله؛ فهذا بالنسبة له سوء وشرٌّ؛ لكن بالنسبة إلى القَدَر وفعل الله تعالى هو خير؛ لأنَّهُ لا يُنْظَرُ إلى المسألة بمجردها؛ بل إلى الغاية المحمودة من ورائها، والغاية المحمودة من ورائها أن يَبْتَلِيَ العباد بذلك، يبتلي الحي، يبتلي الميت ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، فإذًا أفعال الله تعالى كلها خير، وأما ما يُضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر"؛ إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (38 / 17).

[10] الأظهر أن أقله واحد وهو الصبر؛ لأنه واجب، والعبد مستحق للأجر بأداء الواجب، أما الرضا ففضيلة، وأعني به الرضا بالمقضي، أما أكثره فأربعة بزيادة الحمد؛ لأن الحمد غير الشكر؛ فالحمد أعم من جهة أسبابه، والشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد عبادة جليلة، وهي داخلة في هذا الباب دخولًا أوليًّا، والله أعلم.

[11] المعتصر شرح كتاب التوحيد للخضير (1 / 219) باختصار وتصرف يسيرين.

[12] أحمد (1494)، وحسَّنه محققوه من أجل عاصم بن بهدلة، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (996).

[13] انظر: مجموع الفتاوى (١٠/ ٤١، ٢٨/ ٤٦٠).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-07-2022, 08:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,610
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرضا والبلاء

الرضا والبلاء (2)
إبراهيم الدميجي
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إرغامًا لمن جحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، سيد الخلائق والبشر، الشفيع المشفَّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عينٌ بنَظَرٍ، وسمِعتْ أُذُن بخَبَر، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن فعلَ الله كلُّه خيرٌ.

فيجب على العبد أن يحمد ربَّه على كل حال، وهذه صفة المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عجبًا للمؤمن! إنَّ أمْرَه كله له خيرٌ، إنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له، وإنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شكَر فكانَ خيرًا له، وليس ذلك إلَّا للمُؤمنِ))؛ رواه مسلم[1].

أمَّا المنافق والكافر فهو مثل البعير الذي يُعقَل ثم يُطلَق عِقالُه، ولا يدري لماذا عُقِل، ولا يدري لماذا أُطلِق عِقالُه! فالمؤمن ينبغي أن يكون بهذه الصفة: إذا أصيب بشيء يكرهه صبر واحتسب، وصار هذا سببًا في خضوعه وذُلِّه ورجوعه إلى الله واستغفاره، وإن أصيب بنِعَم حمد الله وشكره، وأوجب ذلك له زيادة طاعة لله جل وعلا، حيث أحدث له نِعَمًا فيُحدِث لله طاعةً.

عباد الله، "من ابتُلي فرُزق الصبر، كان الصبر عليه نعمةً في دِينه، وحصل له بعدما كفَّر من خطاياه رحمةٌ، وحصل له بثنائه على ربه صلاةُ ربِّه عليه، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157]، وحصل له غُفْرانُ السيئات ورَفْعُ الدرجات، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك"؛ انتهى ملخصًا.

أي: إنه يمتثل الآية، كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، ومعنى: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ ﴾؛ أي: نحن ملك له وعبيد له، يتصرف فينا كيف يشاء، لا نملك لأنفسنا شيئًا، فإذا أصابنا بشيء فهو إليه جل وعلا، ولا يجوز لنا أن نعترض على شيء من ذلك، إنا لله ملكًا وعبيدًا، يفعل بنا ما يشاء، ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾؛ أي: مرجعنا إليه، فيُجازينا على أعمالنا، فإن كان الإنسان شاكرًا جازاه خيرًا، وإن كان كافرًا لا يَلْقى إلا جزاء عمله فقط، ولا يُظلَم شيئًا، والشاكرون هم الذين يقول عنهم جل وعلا: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157]، وصلاة الله على عبده أن يُثني عليه عند الملائكة، ومن أثنى الله عليه عند ملائكته أحبَّتْه الملائكة، وصارت تدعو له بسبب بذلك، ملائكة الله جل وعلا الذين في السماء يستغفرون له، ويدعون الله له، فيكتسب عملًا ما كان يعمله؛ هو استغفار الملائكة، وهذه الصلوات صلوات الله، وأما الرحمة فأمْرٌ آخَر: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157]، ثم ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه العبد إذا أصيب بشيء أن يقول هذا، لعله يتحصل على هذا الفضل العظيم، وهو صلاة الله ورحمته جل وعلا، ولو لم يكن في المصيبة إلا هذا لكفى أن يرتبط الإنسان به، وكون الإنسان يكون معافًى دائمًا ينبغي ألَّا يفرح، فقد يكون دليلًا على أن الله لا ينظر إليه، وأنه معرض عنه، نسأل الله العافية!

وقوله: ((وإذا أرادَ بعَبْدِهِ شَرًّا أمْسَك عنه بذَنْبِهِ))؛ أي: أخَّر عنه العقوبة بذنبه ((حتَّى يُوافِي به يومَ القيامةِ))، وفيه التنبيه على حسن الرجاء، وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

عباد الرحمن، الابتلاء سُنَّةٌ ماضيةٌ، يُبْتلَى الناسُ على قدر دِينهم، فمن ثَخُنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه، ومن قلَّ دِينُه قلَّ بلاؤه، وأشدُّ الناس ابتلاءً هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخُّط، فمن صبر ورضي أُجِر على مصيبته، وكفَّر بها من سيئاته، ومن سخط وقعتْ عليه مصيبتُه، ولم يُؤجَر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء[2].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاءِ)) فالبلاءُ عليه الجزاءُ لمن صبر، ومعناه: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم، فجزاؤه أعظم وأكبر، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود: لمّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: إنَّك لتُوعَك وعكًا شديدًا، قال: ((نَعَم))، أو قال: ((أجَلْ، كما يُوعَك اثنانِ منكم))، وقال: ألأنَّ لك أجرينِ؟ قال: ((نَعَم))؛ يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أُصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كُفِّرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبدًا، ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[3]، وفي الحديث الصحيح: ((لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))[4]؛ لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفَّار والعفو والرحيم والتواب، فلا بد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، وفي الأثر: "إنَّ الإنسانَ تكون له درجةٌ عند اللهِ لا يبلُغُها بعملِهِ، فيبتليه اللهُ جل وعلا بالمصائبِ حتى يبلُغَ تلك الدرجةَ".

عباد الله، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك، فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته؛ ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يُبْتَلَوْنَ بتكذيب قومِهم وبأذيَّتهم، وربما بقَتْلِهم.

ومعلوم أنهم خيرُ الخَلْق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلى الإنسانُ على حسَبِ دِينِهِ، فإنْ كان في دِينِهِ صلابةٌ زِيدَ في بلائه، وإنْ كان في دِينه رِقَّةٌ خُفِّف في بلائه))[5]، فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدِّين، وهذا من رحمة الله جل وعلا؛ لأنه لو زِيدَ في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقَدَّم دِينه دون عِرْضه حتى يسلَم، فالله جل وعلا لطيفٌ بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيَّأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب.

هذا وإنَّ ابتلاء الأنبياء والأولياء دليلٌ على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا دفعًا، ((وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قَوْمًا ابْتَلاهم))[6]؛ ولهذا ورد في حديث سعد: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياءُ، ثمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ..))، وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرَف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله، عرَف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا دفعًا، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يُحصى.

هذا واضح وجَلِيٌّ، فقد ابتُلي بعض الناس- نسأل الله العافية- بالتعلُّق بدعاء المخلوق والشرك به، ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده[7].

والله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون، ولا يعصون الله ما أمرهم قال: ﴿ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الأنبياء: 29]، ماذا يكون؟ ﴿ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ [الأنبياء: 29]، يَصْلَى جهنم.

فالقرآن كلُّه ودعوات الرسل كلُّها تصبُّ في هذا الأصل العظيم الذي ضلَّ عنه كثيرٌ من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا، وفلان رأى كذا، أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلانًا دعا الولي الفلاني، أو تعلَّق به فحصل له كذا، وحصل له كذا، أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرَّفوا النصوص تحريفات واضحة.

ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أُخْرِج من مكة ثم لم يستطِع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرمَوْه بالحجارة حتى أدْمَوا عَقِبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردُّوا عليه ردًّا من أسوأ ما يكون، ثم بعد ذلك يُغْرى به السفهاء والصبيان، فيرمُونه بالحجارة، ويضربون عَقِبَيه حتى يخرج منهما الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولم يُفِق إلا وهو بقَرْن الثعالب الذي يسمى: السيل الكبير من الطائف، وهناك - فيما يروى - دعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: ((إنْ لم يكُنْ بكَ عليَّ غَضَبٌ فلا أُبالي، غير أنَّ عافيتَكَ أوْسَعُ لي))[8]، فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك.

ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: ((كيفَ يُفلِحُ قومٌ فعَلُوا هذا بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى الله؟!))[9]، ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128]، فما أعظمَ حقَّه علينا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه!

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وارضوا بقضائه، واحمدوه على كل حال.

عباد الرحمن، على العبد أن يرضى بالقضاء وبالقدر، وأن يُسلِّم أمره لله، ولا يعترض ولا يتضجر، بل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصابنا شيء إلا بإذن ربنا، وله الحمد على ذلك، فيكون عبدًا صحيحًا، فيسلم وينقاد، لا يعترض ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا ينافي هذا كونه يتعالج إذا كان مريضًا، أو كونه يصف المرض، ويقول: أنا عندي كذا وكذا، وأجد كذا وكذا لمن يكون عنده شيء من العلاج، فهذا لا ينافي كونه يسلم وينقاد لعدم الاعتراض.

فالمقصود: التسليم والرضا، وهو أن يُسلِّم وينقاد، وألا يكون قلبه متسخِّطًا أو متوجعًا من ربِّه، فإذا تعالج أو وصف مرضه فإنه لا يكون منافيًا لذلك؛ لأن العلاج سبب من الأسباب التي وضعها رب العالمين، والأسباب أمر الله جل وعلا أن نبذلها كما جاء في الحديث لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل نتداوى؟ قال: ((نَعَم، تَداوَوا عبادَ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ ما وضَعَ داءً إلا ووَضَعَ لهُ شِفاءً، عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، إلا داءً واحدًا وهو الهَرَم))، وفي رواية: ((الموت))[10]؛ لأن هذه الحياة لا بد أن تنتهي، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوْح والفرح باليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن بالشك والسخط"[11].[12]

و"إنَّ الناس إذا أُرسِل إليهم الرُّسُل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنَّا، وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنَّا، امتحنه ربُّه وابتلاه وفتَنَه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليتبيَّن الصادق من الكاذب، ومن لم يقل آمنَّا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه، فإنَّه إنما يطوي المراحل في يديه.
وكيفَ يفِرُّ المَرْءُ عنه بذَنْبِه
إذا كان تُطْوى في يديه المراحلُ




فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتُلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهم عُوقِب في الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألمًا، وأدوم من ألم اتِّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنَتْ أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم.

وسُئِل الشافعي رحمه الله: أيُّما أفضلُ للرجل أن يُمكَّن أو يُبْتَلى؟ فقال: "لا يُمكَّن حتى يُبتلى"، والله تعالى ابتلى أُولي العزم من الرسل، فلمَّا صبروا مَكَّنهم، فلا يظنَّ أحدٌ أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا مستمرًّا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمرّ، فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا النقد والنسيئة[13]، والنفس مُوكَلةٌ بحبِّ العاجلِ"[14].

وللمؤمن الصالح موقف ثابت مع الابتلاء، فعليه أن يعلم أنَّ المصائب والبلاء امتحانٌ من الله تعالى له؛ لصبره ورضاه وحمده وشكره، بل وإيمانه، وهي علامةُ حبِّ الله له، فهي كالدواء؛ فإنَّه وإن كان مُرًّا إلا أنَّك تُسديه على مرارته لمن تحبُّ، وتتجرَّعه على كراهة مذاقه، ولله المثل الأعلى، كيف وهو يُلِظُّ حينها بـ"يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام"!

ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة - وإن كانت العافية خيرًا - وكيف لا؟! وفيه تُرفع درجاته، وتُكفَّر سيئاته، قال الحسن البصري رحمه الله: "لا تكرهوا البلايا الواقعة، والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطَبُك[15]"[16]، وقال الفضل بن سهل: "إن في العلل لنِعَمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وتذكيرٌ بالنعمة في حال الصحة، واستدعاءٌ للتوبة، وحضٌّ على الصَّدَقة".

والمؤمن يجتهد لمراضي ربه تبارك وتعالى، فهو يبحث في البلاء عن الأجر، ولا سبيل إليه إلَّا بالصبر، وفوقه الرضا والحمد والشكر، ولا سبيل إلى ذلك بعد توفيق الله إلَّا بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ بالله قوية.

اللهم صلِّ على محمدٍ.

[1] مسلم 8/ 227 (2999).

[2] فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى (ت: 1285).

[3] الترمذي (2499)، وابن ماجه (2451)، وحسنه الألباني.

[4] مسلم 8/ 94 (2749) (11)، وفيه قد ابتدأ الخبر بالقسم فقال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا..)).

[5] أحمد (1494)، وحسَّنه محققوه من أجل عاصم بن بهدلة، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (996).

[6] البخاري 7/ 109 (5470)، ومسلم 6/ 174 (2144) (23).

[7] تأمَّل ثناء الله تعالى في سورة الأنعام على ثمانية عشر رسولًا ونبيًّا في سياق واحد مُتَّصِل، ثم خُتم الثناء العظيم بقوله الحاسم: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88]، وقال في سورة الإخلاص الكبرى "الزمر" للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، فلا مسامحة في نقض التوحيد، فالشرك ينقض العمل كله: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].

[8] الطبراني في الكبير (13/ 73/ 181)، وضعَّفه الألباني في السلسلة (6 / 487) من جهة تدليس وعنعنة ابن إسحاق.

[9] البخاري 4/ 139 (3231)، ومسلم 5/ 181 (1795) (111)، وتمامه: عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أُحُد؟ قال: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمُ الْعَقَبَةِ إذ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عبد كلال، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ تعالى قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجِبالِ لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إنَّ اللهَ قد سَمِع قولَ قومِكَ لَكَ، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمْرِك، فما شئت، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخْشَبَيْنِ))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

[10] البخاري (4068)، ومسلم (1791) بنحوه.

[11] ابن ماجه (3427)، وصحَّحه الألباني، وأحمد (18455) بلفظ: ((إِلَّا الْمَوْتَ، وَالْهَرَمَ))، وحسَّنه محققوه.

[12] شعب الإيمان (1/ 176)، والحلية (3/ 122)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (2009).

[13] شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (94-103/ 1) مختصرًا.

[14] النقد: هو العاجلة؛ أي: متاع الدنيا الزائل، أما النسيئة فهي التأخير، والمراد بالآجلة: وهو أجر الآخرة.

[15] أي: هلاكك.

[16] زاد المعاد (3/ 11).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 83.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 81.36 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]