|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() السراج الوهاج في لطائف الإسراء والمعراج(1) محمد السيد حسن محمد جاء الإسراء والمعراج زادًا لأصحاب الدعوات أن لهم ربًّا لطيفًا رحيمًا ودودًا يكلؤهم حين يجتمع عليهم الظلم، ودلالة على وجوب التزود بالتقوى، وتزكية النفوس والأرواح؛ استعدادًا لتبعات مراحل الدعوة التالية، وبرهانًا على معية الله تعالى لعبده حال تضييق أهل الأرض عليه، ومنه فليطئمن عبد إلى معية ربه، فإن الله معه، وعلى كل حين من أمره، وعلى سائر كل حال من أحواله، وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وكما أنه تعالى وتقدس وتبارك وتنـزه أيضًا: ﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]. وكما أن هذا الإسراء والمعراج إنما جاء إعجازًا ناطقًا بالتحدي، ولمن تساوره نفسه الأمارة أن يولغ فيما ليس له من طاقة، أو أنه يزعق صوته العالي! وإذ ينسى المسكين، ويكأنه في الصحراء ربعها الخالي! ولا يكاد يسمعه من أحد! وحين أطبقت سجلات التاريخ كله على صحة هذا المستند، صحيفة رسمية ناطقة أخرى، ومن صفحات هذا التاريخ الخالد التليد العتيق، المترامية أطرافه، وكما قد أطبقت سجلاته على هذا الحق الثابت، الذي لا يمكن قول من بعد قوله، وليجيء هذا مشككًا، وقد أيقن الناس عامتهم ومن قبل خواصهم، ولربما جاهلهم ومن قبل عالمهم، ولهذا الإطباق التاريخي، ولهذا الإجماع السرمدي الأبدي الأزلي أيضًا! أو غيره مضيقًا لما وسع الله تعالى على العباد، وأنه هذه نافذة من نوافذ التسلية والتسرية عن أولاء الدعاة العاملين، وحين تضيق بهم مجتمعاتهم وأهلوهم، وإذ ها هم يكلؤهم ربهم، وإن ناصبهم الناس أجمعون كيدًا كيدًا! وكما أنه لإظهار داعيتي التحدي والإعجاز، وإطلاق طاقات ينفذ بها العبد، ومنها إلى طلاقات هذه القدرة الربانية الكريمة المعجزة المبهرة والباهرة أيضًا! وبمثل حدث كهذا الذي بين أيدينا: الإسراء والمعراج! وأكرسه في ثمانٍ وعشرين مسألة. المسألة الأولى: آفاق خلابة وبيئة جذابة وقد جاء الإسراء والمعراج كمحطة من محطات الدعوة؛ طمأنةً وتسلية، وتثبيتًا وتسريةً، ومنه فكان مطلب الترويح عن الدعاة العاملين أمرًا سائغًا مرغوبًا؛ بل إنه كان سبيلًا مأمولًا، وطريقًا مطلوبًا. وقد جاء الإسراء والمعراج آية على اختراق عاملي الزمان والمكان؛ ليعلم العباد أن الله على كل شيء قدير! وجاء الإسراء والمعراج آية ومعجزة؛ لترد الظلم على عقبه، يوم أن يجابه فردًا أعزل، علم أن الله تعالى معه! وجاء الإسراء والمعراج تذكيرًا للرسول صلى الله عليه وسلم بما أصاب إخوانه الأنبياء الذين رآهم؛ ليهون عليه أمره. وجاء الإسراء والمعراج دلالة على أن معية الله تعالى وحده كافية، كان الناس معك، أو كانوا عليك! فقط كن عبدًا ربانيًّا! وجاء الإسراء والمعراج مرحلة فاصلة في تاريخ الدعوة أجمعه؛ لأن فرض الصلاة كان فيها دلالة على عظمها، وهي رسالة لتارك الصلاة ليتدبر أمره. وجاء الإسراء والمعراج طاقة ضافية، حين أضيفت عبودية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وحده، وهذا إكرام ضاف آخر. وجاء الإسراء والمعراج آية ضافية أخرى أيضًا؛ لإثبات أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم عبد لربه، فأنت عبد، ومن باب الأولى؛ ولداعية الاتفاق في البشرية، وليقف بك أمرك عند هذا الحد عبدًا لمولاك؛ لأنه لا إطراء في ديننا! وكيما يقف أحدنا على عتبات هذه العبودية، وإذ لا يكاد يخرج عنها قيد شيء! وجاء الإسراء والمعراج دلالة على التجديد في أطوار الدعوة، بما يلائم مراحلها؛ ليكون زادًا ضافيًا على زادها، فإن شأن الدعوات أنها ليست جامدة. وجاء الإسراء والمعراج آية على وجوب الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول اتُّخِذَ له براق نقل، وكذا معراج، وكان يمكن ألا يكون! المسألة الثانية: تحدٍّ وإعجاز وجاء الإسراء والمعراج آية ضافية لإفحام قريش؛ لأنها رأت وصفًا أبهرها، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عن أمارات المسجد الأقصى! لكنهم لم يؤمنوا! وهكذا الإعراض حين يستحكم جهلًا أو عنادًا، وهكذا إلواء الرؤوس عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المنافقون: 5]! المسألة الثالثة: إزالة حدود وكسر قيود وجاء الإسراء والمعراج آية على ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى أمانة في أعناق هذه الأمة جيلًا من بعد جيل آخر لاحِقٍ له، وأن الدفاع عن حماهما شرف ودين ندين الله تعالى به. وجاء الإسراء والمعراج ربطًا بين بقاع الأرض؛ وكأن لم تكن هنالك حدود فاصلة في وجه حرية التنقل؛ لأن الأرض لله تعالى وحده! وها قد رأينا كيف انتقل مهاجرو مكة- المسلمون والكفار- إلى الحبشة، ودون عوائق أو سواتر! وها قد كانتا رحلتا الشتاء والصيف، ولم يحدثنا التاريخ عن شيء من ذلكم! المسألة الرابعة: اختبار البراء وصدق الولاء وجاء الإسراج والمعراج آية ضافية للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليطمئن إلى صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد أثبت التاريخ سلامة وصدق هذا الرجل النادر، ومنه فلقد كان دلالة واضحة على كشف حال الصديق مع صديقه في ابتلائه وامتحانه في الحق. وهي علامة فارقة في عالم العلاقات، كيما تبنى عليها الوشائج، وكيما تنمو على قاعدتها الروابط. وجاء الإسراء والمعراج تأكيدًا على تلقيب أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالصديق، دلالة على صدق الصديق لصديقه في مواقف تستلزم ذلك! المسألة الخامسة: آية المساجد وتذكير الساجد وجاء الإسراء والمعراج آية على أن المساجد من شعائره تعالى ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]. وجاء الإسراء والمعراج آية ضافية على اعتبار المساجد في الإسلام، وأن لها حرمة بالغة، وأنها منابر حق، يقال فيها ما هو تأكيد لعبودية الكون كله لله تعالى. وذكر المسجدين في أمر الإسراء دلالة واضحة على أن المسجد هو بيته تعالى في الأرض، وكان حقًّا على المزور أن يكرم زائره، ألا فزوروها تكرموا! فقد روى سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن توضَّأَ في بيتِهِ فأحسنَ الوُضوءَ، ثُمَّ أتى المسجِدَ فَهوَ زائرُ اللَّهِ، وحقٌّ علَى المزورِ أن يُكْرِمَ الزَّائرَ))[1]. وذكر المسجدين في أمر الإسراء دلالة على أن المسجد هو نقطة الانطلاق الأولى لقوافل الخير والهدى للناس. إن تأهيل المساجد كيما تكون بيئة جاذبة مسؤولية يقع عاتقها على مجتمع يرنو إلى العلا، ويبتغي التوفيق والسداد والإلهام. إن تحول المسجد كبيئة طاردة لرواده، يجعل المجتمع بأسره عرضة لانهياره في قيمه وآدابه وأخلاقه وإرثه الإسلامي السامق العريق. لا يحسن أن تكون نوادي الشباب والملاعب بديلًا عن المسجد؛ لأنه قل الانحراف في أهله، ولأنه يكثر الانحراف من غيره. إن لكل أمة بيتها الذي تزكو نفوسها عنده، وبيتنا الذي تزكو نفوسنا فيه هو المسجد، ألا فهلموا بإعماره، صلاة فيه وقيامًا، وركوعًا، وسجودًا، وذكرًا، وتسبيحًا. إن أمة تجد سلواها في غير بيت ربها، إن هي إلا أمة فاتها قطار محمل بأنواع الخيرات ونوادر الصالحات. المسألة السادسة: آية الإسراء وبرهان التسبيح قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. فسبح الله تعالى نفسه لمناسبة الإسراء دلالة على قدرة رب قادر، لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء أيضًا! وسبح الله تعالى نفسه لمناسبة الإسراء؛ لأن آياته التي عُرضت أمام رسوله صلى الله عليه وسلم، لتدل على مدى قدرة له تعالى، تخر له الجباه ساجدة ومسبحة، تعظيمًا وتقديرًا. وسبح الله تعالى نفسه لمناسبة الإسراء؛ لأن رحلة بهذه الترتيبات ليحال على غيره فعلها أو قريبًا منها! المسألة السابعة: نسبية الزمن والإسراء والمعراج! إن الإسراء والمعراج آية ضافية على قدرة الرب القدير العزيز، ولست أقول باختزال عامل الزمان، وبقدر ما هو قانون يحكم العلاقات النسبية بين الزمن والسرعة، وعلى اختلاف الأماكن، وهذا الذي اكتشف العلم الحديث منه جانبًا، وليس يفتح منه جوانبه كلها أو جلها؛ بل قليلها! ولأن الله تعالى قال: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، وكما دل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فرج سقفي وأنا بمكة، فنـزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب، ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال: من هذا؟ قال: جبريل))[2]. وإذا قلنا قولنا هذا، وإذ يمكن صياغة ذلك توافقًا مع سبق هذا الدين في بيان ما قالوا عنه من بعد الثورة الصناعية الكبرى، وحين أفرزت شيئًا مما سبق به هذا الدين الإسلامي الحنيف الخالد! ومن يوم الإسراء والمعراج بهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وحين رأوا أن الزمن يتباطأ، وبالنسبة لراصد ثابت، ومع زيادة السرعة، وبرهنوا على ذلك بأنه وعند حساب الزمن بالنسبة لصاروخ منطلق وبسرعة الصاروخ المعروفة تزايدًا، فإنهم لاحظوا أن الزمن يتباطأ عند ذلك، ودلالة تحرك عقارب ساعة وضعت على جسم الصاروخ المنطلق هذا، وإذ كانت أكثر تباطؤًا، وحين كان الصاروخ أكثر تسارعًا! وفي الوقت نفسه ولو راقبنا ساعة على سطح الأرض، ولقياس الزمن، والعلاقة بينه وبين سرعة الصاروخ المنطلق، وبهذه السرعة العظيمة إلا أنهم لاحظوا أن قياس الساعة الأرضية لهذه السرعة إنما تسير بسرعة أيضًا، وبأكثر معدلًا عن هذه الساعة الموضوعة على جسم الصاروخ المنطلق! والأمر أيسر، ويكأنه أبهر! وحين كانت مقاييس الزمن يوم القيامة، وخارج مناطق القياس البشري المحدود، وحين قال الله تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]، ويكأن يومًا واحدًا عند الله تعالى كألف سنة مما يعد الناس من أيامهم! وبغير مقاييس الناس يومهم هذا! ولما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47]. ومنه فإنه مقاييس الزمان عنده تعالى، وفي مثل رحلتي الإسراء والمعراج؛ ليحكمها عوامل أخر، ولتندرج تحت الإعجاز والتحدي، ومن نوع ما توصل إليه أينشتاين؛ ولكنه على حسبة خالق أينشتاين وقانون أينشتاين! وعلى غير قانونه أيضًا! وبقانون آخر يعلمه الله تعالى وحده، يحكم هذه العلاقة اللامتناهية سرعة، والمتباطئة زمنًا أيضًا! المسألة الثامنة: زكاء مَلَكٍ ونبل نبيٍّ وهاك " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بالبراق ليلة أسري به، ملجمًا مسرجًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟! فما ركبك أحد أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقًا"[3]. فهذا قول مَلَكٍ! نعرف منه قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، في الملأ الأعلى! ثم نقوِّم مدى تبعيتنا له، تأسيسًا على ذلك! وحمل الملك جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم على البراق فيه بيان قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم في السماء، وهذه قيمته في الأرض أيضًا! ودلك عليها أن حدثًا بين الفينة والفينة يحدث، وإذ بك ترى الأرض ثائرة؛ لثائرة الناس؛ حبًّا لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وانتصارًا له، طائعهم وعاصيهم معًا! وحمل الملك جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم على البراق فيه أدب ملك، كان من وصف جنسه أنهم ﴿ مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. وكان من حمل الملك جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم على البراق، وانطلاق موكب الإسراء، فلا يفوت أحدهما الآخر! دلالة على قدرة ربنا سبحانه، أن يخلق ملكًا وبراقًا، فتخترق أمام سرعتهما عوامل الزمن! ﴿ آيَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 22]! ودلك على انبهارنا أن القوم كانوا يقطعون هذه المسافة يومها في شهر ذهابًا، ويعودون منها في شهر آخر إيابًا! أما براق خلقه ربنا، فقد قطعها في جزء ليلة، ذهابًا وإيابًا، ولسنا ندري كم هو ذلكم الجزء؟! لأن الرحلة كانت قائمتها عديدة، ومهامها كثيرة، ولعل الذهاب والإياب كانا قدرًا ضئيلًا منها، أمام ضخامة المهام، وعظم المسؤوليات الجسام! المسألة التاسعة: نداء الإيمان ووازع البيان وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى قومه عزيمة نافذة؛ لأنه يعلم نتائجها، ومن حيث تكذيبه؛ ولكنه نداء الإيمان، ولكنه وازع البيان، عن الله تعالى الرحيم الرحمن. وقال الله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]، وهذا وصف ضاف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما زاغ بصره يمينًا أو شمالًا، ولا ارتفع عن المكان الذي حدَّ له النظر إليه، وهذا هو أدبه، وهذا هو معينه، الذي به نقتدي، وهذا هو دأبه الذي به نحتذي، وقوفًا على النصوص إخباتًا، لا تعديًا ولا تغييرًا، ولا تعديلًا، ولا تبديلًا! المسألة العاشرة: أمارات الإسراء ودلالات الصدق إن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أمارات إسرائه، كمروره على بعير لبني فلان، وإناء مغطى شرب منه، ونوم القوم، وأن العير تقبل الآن، ويقدمها جمل أورق![4]. إن كل ذلك لدليل صدقه، وإنه لبرهان أمانته، خاصة وأنها أمارات وعلامات، ما كانت لتقبل ريبًا، وليست تبرهن شكًّا؛ ولأنها قد جاءت أمامهم كفلق الصبح! ورغم ذلك فإنهم كذبوه! وزاد من تكذيبهم، أنهم كانوا "بين مصفق، وبين مصفر، تكذيبًا له، واستبعادًا لخبره"[5]. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أخبرهم فعجبوا، وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط! قال: ((آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير، فدللتهم عليه! وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان، مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نيامًا، ولهم إناء فيه ماء، قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان!))، وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوب من البيضاء ثنية التنعيم! يقدمها جمل أورق! عليه غرارتان؛ إحداهما: سوداء، والأخرى: برقاء! قالت: فابتدر القوم الثنية، فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءًا ماء، ثم غطوه، وإنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه، ولم يجدوا فيه ماء! وسألوا الآخرين، وهم بمكة، فقالوا: صدق والله! لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه[6]. بل إن الإعجاز أنه أحاط بذلك كله، من أمارات، ومن علامات، ويكأن الله تعالى له حكمته البالغة في ذلك، أن القوم سوف يسألونه؛ إحراجًا وتعجيزًا، وإلا فليس كل أحد يرمق ما مر عليه حين سفره أو تجواله، وخاصة على هذا الوجه الدقيق وصفًا! وكأنما كانت أمامه صلى الله عليه وسلم كتابًا مفتوحًا! إن تصديق أم هانئ، زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم نبأه عن الإسراء، لَسببُ إلف، وموجب اطمئنان، ودليل تسلية، وبرهان تسرية عنه صلى الله عليه وسلم، وحين يكون هذا الإلف من داخل بيته عونًا وأزرًا وشدًّا وتصديقًا. لكن قومًا أبوا إلا تكذيبًا! فماذا أنت فاعل؟! وماذا أنت قائل! وقد رأوا وصفًا للمسجد الأقصى! وليس يختلف بل هو صورة طبق الأصل! ويكأنها ليست صورة بل حقيقة! وليس يحكم ذلك ويبينه ويوضحه إلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]! وعن جابر بن عبد الله، أنه قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه))[7]. وفي الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس عليَّ بعض الشيء، فجلا الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم، فقال: أما الصفة فقد أصاب[8]. وإن قريشًا سألت عن الإناء والعير، فجاءهم الخبر على قول الرسول صلى الله عليه وسلم! المسألة الحادية عشرة: أثر الحجة وموجب المحجة إن إقامة الحجة القاطعة أمر إيجابي، قمن بتصديق القوم إذا أرادوا، وبحيث ينقلهم إلى أمر إيجابي أيضًا، يكون لهم، ويحسب لجانبهم، ومنه فتقديم دليلك على صدق منهجك، يكون أثبت لك، وأدعى لحجاج قومك. وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60]؛ وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً، إلا أنه دربة على ما سوف يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم عنتًا من قريش! فقد عودتنا صلفًا! المسألة الثانية عشرة: إثبات النداء والتسليم لغير البشر! وقول المَلَكِ جبريل عليه السلام: ألا تستحي يا براق مما تصنع، فو الله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه، قال: فاستحيا حتى ارفض عرقًا، ثم قر حتى ركبته"[9]، وفيه إمكان مخاطبة غير الإنس! لا سيما إذا كان دابة، ولأن البراق استحى من المَلَكِ جبريل عليه السلام! ولأن من ذلك رجفة الجبل به، حين قال له المَلَكُ جبريلُ عليه السلام أيضًا: اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدًا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان[10]. ولأن الله تعالى أثبت نداء لأرضه، ولأنه تعالى أثبت نداء لسمائه، ولأنه سبحانه أثبت طاعة منهما لأمره تنجيزًا، وحين قال سبحانه ﴿ وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]. ولأن الله تعالى أمر أرضه وسماءه، فلبتا وسلمتا تسليمًا! وذلك حين قال سبحانه: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]. المسألة الثالثة عشرة: إثبات حياء الدابة البراق! وإنما استحى البراق لبعد عهد الأنبياء ركوبه! وفيه تنويه بالبراق حامل الأنبياء، ولئن كان هذا حياء دابة! فحري أن يكون الحياء خلقًا وأدبًا ونظامًا؛ لأنه باعث على كل حسن جميل، ولأنه ناهٍ عن كل مذموم سقيم، ولأنه داعٍ إلى كل نبيل شميل، والحياء دأب سامٍ عالٍ، حاث على كل خلق حميد، ويتأبى على كل شين دنيء! ولقد بلغ من قيمة الحياء أن الله تعالى قد وُصف به؛ لأنه تعالى حيي يحب الحياء، ولحديث: ((إنَّ اللهَ تعالى حييٌّ كريمٌ، يستَحي إذا رفَع الرَّجلُ إليه يدَيهِ أن يردَّهُما صِفرًا خائبتَينِ))[11]. إن ضعف قيمة الحياء في النفوس، أو التحلل منها، يجعل صاحبه وكأنما هو ألعوبة في يد الشيطان يقلبه كيف يشاء! والحياء خلق سامق يمنح صاحبه علوًّا وارتفاعًا وشموخًا وعزةً وكرامةً وإباءً. إن وقوع المعاصي كلها إنما كان راجعًا في جله إلى ضعف خلق الحياء أو تحلل منه! [1] [الترغيب والترهيب، المنذري: 1/ 173]. وخلاصة حكم المحدث: روي بإسنادين أحدهما جيد، وروي نحوه موقوفًا بإسناد صحيح. [2] [صحيح البخاري: 1636]. خلاصة حكم المحدث: معلق. [3] [تخريج مشكاة المصابيح، الألباني: 5863]. [4] [الروض الأنف، أبو القاسم السهيلي:2/ 200 (بتصرف)]. [5] [البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٣ / ١٤٠]. [6] [الروض الأنف، أبو القاسم السهيلي:1/ 117]. [7] [صحيح البخاري: 3886]. [8] [البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٣ / ١٤٠]. وقال الحافظ العماد: أخرجه أحمد في مسنده 1 / 309 عن ابن عباس، وأبو نعيم وابن مردويه من طريق قابوس عن أبيه بسند صحيح. ونقله البيهقي في دلائله ج 2 / 363. [9] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٢ / ٢٦٩]. [10] [صحيح البخاري: 3675]. [11] [صحيح الجامع، الألباني: 1757].
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() السراج الوهاج في لطائف الإسراء والمعراج(2) محمد السيد حسن محمد المسألة الرابعة عشرة: رؤيا الإسراء ابتداء توطئة: وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً؛ لأنه حدث، وكان له أثره العظيم في مراحل الدعوة التالية. وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً؛ تمهيدًا بتسليته صلى الله عليه وسلم، وأمام من سوف يقول: صدق؛ ولأن هذا يزيد المؤمنين إيمانًا مع إيمانهم، أو من سوف يرميه كذبًا، ولأن هذا داعية تثبيت وتمحيص معًا. وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً؛ إعدادًا وتهيئة له صلى الله عليه وسلم، ولربما حصل له مثلما كان أول ابتداء الوحي به صلى الله عليه وسلم، وذلك أخذه خوفه، وما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، وهو ربط لمراحل الدعوة بعضها مع بعض برباط التذكير، وكأنما هي ملحمة واحدة، يشد أحداثها بعضًا ببعض، تقوية وتسلية وتسرية وتذكرة معًا. وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً؛ توطئةً لتحمله، وتمهيدًا لتقبله. وإنما كان تمهيدًا له صلى الله عليه وسلم، أن يريه ربه إسراءه منامًا! كيما لا يفجأه، حين وقع رأي العين، وبعد إذ قد رآه منامًا! ولأن هذا حدث فوق ملكات التصور، ولأنه أمر أعلى من مقامات التحمل! ولولا إذ ثبته مولاه، ولولا إذ كان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم به من الطاقات التي أمكنها تقبل ذلك وتحمُّله، ومن أمر الإسراء، ومرورًا بأحداثه العظام، وكذا أمر المعراج ومرورًا بمراحله الجسام، وإذ كل واحدة من هؤلاء لتمثل فصلًا مستقلًّا من فصول هذه السيرة النبوية المباركة، وبمثلها وفصلًا آخر من فصول هذه الدعوة المباركة أيضًا. وإنما كان توطئة لتحمله؛ لأنها كانت أحداثًا، ليست كأحداث مرت، وليست كوقائع خلت، ومن ثم كانت مألوفة، أو معهودة، أو معروفة! ولأن الأمر كان ليس كذلك؛ فمنه كان التمهيد، ومنه كانت التوطئة! المسألة الخامسة عشرة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾: وانظر عبرة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، ولما كانت لاحقة لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60] طمأنةً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتحريضًا له "على إبلاغ رسالته، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته، وتحت قهره وغلبته"[1]. وفيه من الظن الحسن به تعالى؛ ولأن ما يأتي من عنده تعالى فإنما هو خير، وإن تأبط ظاهرًا ما يحسبه أحدنا دون ذلك! المسألة السادسة عشرة: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾: وفيه إحاطة ربنا سبحانه بكل شيء، وفتنته للناس، وكل على وجهه اللائق به تعالى، والذي كان منه إنا به نؤمن، وإنا به نمرره، وإنا به لا نكيفه، ولا نمثله، ولا نشبهه، ولا نعطله، ولأن الله تعالى محيط وبكل شيء، وكما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ﴾ [فصلت: 54]. وإذ كان إمهاله تعالى لأولئك الذين كفروا وكذبوا، وإنما ليريهم من آياته، ومن آفاقه، وحتى يتبين لهم أنه الحق، وكما قال الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ﴾ [فصلت: 53]. وسواء أذعنوا لذلك راضية نفوسهم، أو أنهم استكبروا وعتوا، وبالغوا مناصبة عدائهم لهذا النبي الأمي العربي القرشي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن بعد ما رأوا الآيات! وهذا بيان لطريق أولئك، وألا يستوحشن نبي طريقًا سلكوه، ولأن أخاه يوسف عليه السلام كان قد بانت براءته، وبالآيات! وإلا أنهم حبسوه وسجنوه وآذوه! وكما قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين ﴾ [يوسف: 35]. وهذا شأن كل معاند متكبر جبار، وإذ يرى الآيات ويعمى، وإذ يسمع الآيات ويبكم، وإذ يوقنها وعنها يتغافل، وماذا أنت قائل، وأمام قوله تعالى عنهم: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 7]؟! إن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ دلالة على أن الله تعالى مانع عبده، كما قد منع نبيه صلى الله عليه وسلم، فليطمئن، وهو دليل قدرة، وبرهان عظمة، لله تعالى ربنا الرحمن! وإنما كان الإسراء رؤيا ابتداءً؛ اختبارًا لمدى تقبل الناس لما يرد إليهم من ربهم الحق سبحانه! وإنما كان الإسراء رؤيا عين، بعد أن كان رؤيا منام؛ ولأنه في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، قال: ﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ﴾ [الإسراء: 60]، قال: هي شجرة الزقوم"[2]. ومجيء قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾لاحقًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ دليل قيومية قاهرة، وقدرة نافذة، وعزة غالبة. ولكن عموم القول الكريم بفتنة الناس، وإذ يعد في حد ذاته برهانًا على صدق البيان وإعجازه معًا، وإلا فنحن أمام من افتتن، وعند من شك، ولدى من رابه ذلكم الأمر العظيم، وحين وضع عقله حاكمًا ضابطًا! وأقول مقسمًا: وإن العقل ليس يحيل شيئًا من ذلكم، وحين يرد الأمر كله لله تعالى، ومعلنًا الإسلام، وحائزًا اليقين، وحينها ليجدن نفسه راضيًا مرضيًا، وأمام ثمرة هذا التسليم والإذعان لله تعالى ربنا الرحمن، وفي كل شيء، ومنه كان أمرا الإسراء والمعراج هذين! المسألة السابعة عشرة: يقين النبي بربه الولي: وانظر كيف كان منع ربنا الرحمن لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن قبلها تأمل كيف كان يقينه بربه تعالى، ذلكم المعدن النفيس، ولما قد توافر، فلا تسل عن خسار، ولا تسل عن عون ربك العزيز الغفار! وذلك "أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرَّق الناس يستظلُّون بالشجر، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط عليَّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، - ثلاثًا - ولم يعاقبه وجلس"[3]. وشاهده قوله: فقال: ((من يمنعك مني؟ فقلت: الله))، فداعية الحق في حصن حصين، وقلعة أسوارها الرعاية الربانية الحافظة الحارسة لثغور دعاة الحق إليه تعالى، وهذا تحقيق لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]. وحين أعلمهم نبينا صلى الله عليه وسلم بالعير، وكادت الشمس أن تغرب قبل قدومها، فدعا الله فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم. وفيه دليل إقحام الخصم بكثرة الأدلة وتضافرها وتتابعها؛ وليكون فعلها فيه كالسيف مضاء، أو أشد فتكًا! وإخباره صلى الله عليه وسلم بأحداث الرحلة كلها لا حدث واحد، إنما يعد عَلمًا من أعلام نبوته المتكررة المتتالية المتتابعة المتضافرة أبدًا أبدًا. وأنت خبير بأن أحدهم وحين يقوم برحلة ما أو سفرة ما، ونادرًا ما يمكنه قص ما حدث كله، وعلى وجهه، وبه يبين الفارق، ومنه يستدل على عظمة الخالق، وحين أمكن نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقصص ما رآه، وحين حكى ما صدقته عيناه، وكأنما هو يرويها بسندها المتصل، وكما قد وقعت تمامًا تمامًا! وإحضار جبريل عليه السلام البراق، وإركاب نبينا صلى الله عليه وسلم عليه، ومن ثم أحضر المعراج، ووضع نبينا صلى الله عليه وسلم فيه، وأصعده إلى السماء! وهذه كلها من كرامات وتواضع الملك جبريل عليه السلام؛ ولأنه من صنف ملائكة كان من وصفهم أنهم ﴿ مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وهو أيضًا علامة فارقة في حياة الأمم، حين يكون أحدهم في موضع خدمة لإخوانه، وليُرفَع قدره، وحين يمنح بذلًا لهم من نفسه. ومنه فإنه ليس يقلل من شأن أحدنا أن يكون خادمًا لإخوانه؛ ولأن هذا وضع جدير ذكره، ولأنه شرف يجب التنويه به؛ استدعاءً لرفعته، واستشرافًا لقيمته! المسألة الثامنة عشرة: اختلاف الوسائل بتباين المراحل: ولأنه قد أسري بنبينا صلى الله عليه وسلم بالبراق، وعرج به بالمعراج! فدل على أن لكل مرحلة وسائلها، والتي تميزها كل مرحلة عما سواها، وحسب مقتضيات الوضع الراهن لكلٍّ، وهو أيضًا مما يعد دليلًا آخر مضافًا إلى مرونة هذا الدين في مواجهة الوقائع والأحداث؛ ولأنه ليس جامدًا يقف محله، ولأنه بهذه المرونة قد كتب الله تعالى له البقاء شاهدًا حاكمًا ضابطًا. وإنما كان التنويع في وسائل تنقله صلى الله عليه وسلم تسلية؛ ولأن الرتابة في كل شيء لتعد من خروج به عن إلفه، ولتعتبر ذهابًا به عن حركته الدائبة، والمفترض أنها من أخص خصائصه. وإن الأمر كذلك ليعد ومن كونه ولكل مرحلة وسائلها المكافئة وعلاوة على ما أنف أيضًا. وهذا فن إداري ممتاز، وحين لا تراوح المنشأة مكانها قوالب جامدة، لا حراك فيها، أو قواعد ثابتة لا مرونة لها؛ ولأن ذلك يصيبها، ولأن ذلك يعوقها ويسوؤها. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتي المعراج، ولم أرَ شيئًا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة، يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك))[4]. وفيه التنويع في التسلية، كما أن فيه وصفًا للمعراج، علاوة على أنه أيضًا ينقل حركة هادرة للحدث؛ ليكون تأثيرها أعمق في المستقبل، كما كان لها ذلك الأثر الفعال في المرسل، وهو هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنبأ الناس بأمره هذا. ودل أيضًا على مرحلية الحركة، وكونها بالأهم فالمهم، فالأقل أهمية، وهكذا في تدرج يفيد، لا عفوية تضر. المسألة التاسعة عشرة: عِظَمُ خلقِ المَلَكِ جبريل عليه السلام: ولئن كان الانبهار الحقيقي أمام قدرة خالق عظيم، كان من خلقه ملك شديد القوى، له ستمائة جناح، كل منها يسد ما بين السماء والأرض! وهو ذلك الملك جبريل عليه السلام، إلا أن الانبهار ليعاود عمله في القلوب والأفئدة؛ حين تتصور أن مَلَكًا واحدًا يعمل تحت إمرته اثنا عشر ألف ملك آخر! ولا ندري من وصفهم إلا أنهم من جملة ما سبق وصفًا لذلك خلق من خلقه تعالى، بأنهم ﴿ مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وهذا مؤذن بالإخبات والخشوع والخضوع لرب عظيم، كان هذا خلقًا من خلقه تعالى! ولئن كان من وصف جبريل عليه السلام أن له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض! دلالة عظم خلق الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه! ويكأنه برهان عظمته سبحانه أيضًا، وإلا أنه يبقى القول: إن خالقًا هذه قدرته، لم يكن إلا ليُعبد وحده، دونما سواه معه أو من دونه؛ إكبارًا وإعظامًا وإفرادًا وإخباتًا أيضًا، وذلك هو حقه تعالى على العبيد، كما أنه أوجب وجوبًا له عليهم أيضًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذلك جبريل، وما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض))[5]!. وتدلى جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض! ليعطي انبهارًا آخر أمام ذلك الرب العزيز القهار، وهذا خلقه، وعلى هذه الصورة التي حكاها نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى ما رأى رأي عينه، لا وصفًا من غيره، وهذا خلق واحد ممن خلق الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه! قال الله تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ [النجم: 5 - 9]، هذه خمس صفات للملك جبريل عليه السلام، ولتغمرك رهبةً وإعظامًا، فقوله: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ متضمن لكثرة قواه، وأن كلًّا من قواه العديدة شديدٌ منفصلٌ؛ ليعطي كلًّا مجتمعًا أكثر قوة، وأعظم نفاذًا، وهذا يتضمن أيضًا ثناءً عليه، كما على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه معلَّم من قَوِي؛ ليكون قويًّا تبعًا دينًا وقولًا وعملًا، وهذه كلية قمنة درسًا وعلمًا وإحاطةً. وقد جاء وصف الملك جبريل عليه السلام بالقوة، وأنه رسول، دلالة على قوته كما سلف، ودلالة على أنه مبلغ، فكان مجيء لفظ رسول قاطعًا على أنه ليس للقول منشئًا؛ وإنما كان دليلًا على كونه عن ربه كان مبلغًا، وهذا أمكن للتصديق، وهو نفي لداعية شك يحوم حول مسألة الوحي عمومًا، وأنه منه تعالى، إلى من كلفه بإيصالها عنه سبحانه إلى رسله، ومن ثم عن رسله عليهم الصلوات والتسليمات والتبريكات أبدًا أبدًا إلى أقوامهم، كما قال تعالى في وصف جبريل عليه السلام: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ [التكوير:20]، وكما قال في شأن جنس الرسل عامة: ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [المائدة: 99]. و﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾ [النجم: 6] يحتمل وجوهًا "أحدها: ذو قوة، وثانيها: ذو كمال في العقل والدين جميعًا، ثالثها: ذو منظر وهيبة عظيمة، رابعها: ذو خلق حسن"[6]. المسألة العشرون: ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾: وقال تعالى: ﴿ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُور ﴾ [الطور: 4]؛ وإنما سمي البيت المعمور بذلك؛ لأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، وإذ كان من وصفهم أنهم يتعبدون فيه، صلاة وطوافًا، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة! إنه يحدونا القرآن العظيم مرة تِلْو أختها، واقفًا بنا أمام خلق كثير من خلقه تعالى؛ لنعتبر، ونتذكر، ونخشع، ونوقن، ونعبد، ونوحِّد، ولا نشرك به شيئًا! المسألة الحادية والعشرون: ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ﴾: قال الله تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 14]، وهذا هو وصفها أيضًا! وإذ "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: ﴿ إِذْ يَغْشَى ﴾ [النجم: 16]، ﴿ السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16]، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا، المقحمات"[7]. وقلت: ولولا أن خلقها كأعظم، ولولا أن شأنها كأعجز، ولولا أن وصفها كأبهر، ما سميت سدرة المنتهى! لأن نهاية الشيء هي أعلاه! المسألة الثانية والعشرون: ﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ﴾: قال الله تعالى: ﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 15]، وهذا تعريف بموضع جنة المأوى، وأنها عند سدرة المنتهى، ومما قيل في أوصافها: إنها جنة المبيت، وهي التي يصير إليها المتقون، وإنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء; قاله ابن عباس، وهي عن يمين العرش، وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها، وهي في السماء السابعة، وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى، وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين، وهي تحت العرش، فيتنعمون بنعيمها، ويتنسمون بطيب ريحها، وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها"[8]. المسألة الثالثة والعشرون: دراسة القوى المؤثرة وإن وقفة خاطفة ولو واحدة عند خلق واحد من خلقه تعالى، ومنه فلا عقد لمقارنة أو مشابهة، ولو من باب بيت، أو شباكه، أو حتى مسمار واحد فيه، أمام خلق باهر معجز كهذا! وسبحان من قال: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]. هذا جناح ملك لا يبلى الدهر أبدًا! وجناح طائرة عمره الافتراضي عدة سنوات! وهذا رب قدير تخر له الجباه خُشعًا سُجدًا! ليس الإعجاز في أن تخلق طائرة يخفيها الرادار؛ لأنك قاصر عن خلق مادة الطائرة، أو الرادار، أو حتى مسمار واحد فيهما! إذا عرف امرؤ قدره، لتغير أمره! عند الوقوف مليًّا أمام دراسة القوى المؤثرة على جسم ككرة! يأخذنا ذهول؛ إذ كيف يمكن دراسة قوى مؤثرة على جناح ملك يسد ما بين السماء والأرض! إن فرض الصلاة من علٍ علو، وإن تركها سفل ودنو! ولعاقل أن يختار مجدًا، ولغيره أن يختار ضعةً! المسألة الرابعة والعشرون: وكفى بها فضلًا!: ولو لم يكن في واقعة الإسراء والمعراج إلا هذه الثلاث لكفى! وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعطي فيها: الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، ويغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئًا المقحمات، وجامعها إعطاؤها من فوق السماء السابعة، وقاسمها منحها معًا لتشكل كلًّا فألًا حسنًا، وظنًّا حسنًا بالله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، أن وهبنا ذلكم العطاء كله، ومن فوق سمائه السابعة، ومشافهة مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولتأطر أحدنا أطرًا نحو آفاق الشكر والعرفان والحمد والتسليم والإذعان والرضا بالله تعالى ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا. وهذا هو الفارق في مسألة التلقي، وحين عبد يمهر فؤاده تسليمًا وانقيادًا، فيرضى ويتابع، وبين آخر يأخذها مادة للثقافة، أو إرهاق العقل فيما لا طائل من ورائه، وسوى أن يبتليه ربه تعالى بالشك والريب، ليتيه ويمرغ، ويزداد مرضًا في قلبه، وحسرة ونكدًا، وحين قال الله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]. [1] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: ج5 /84. [2] صحيح البخاري: 3888. [3] صحيح البخاري: 2910. [4] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 2 / 273. [5] صحيح الجامع، الألباني: 2362. [6] تفسير الرازي، الرازي: ج 28/ 285. [7] صحيح مسلم: 173. [8] تفسير القرطبي: 17 / 96.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() السراج الوهاج في لطائف الإسراء والمعراج(3) إن الميقات المكاني لفرض الصلاة داع بها أن تعلو فوق كل عال في حياتنا، ولأنها فرضت من فوق السماء السابعة! وإنما فرضت الصلاة خمسا، وهي بأجر خمسين على الفرضة الأولى! لأن الحسنة بعشر أمثالها. و ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة:4].محمد السيد حسن محمد المسألة الخامسة والعشرون: من أسرار علو منزلة الصلاة إن فرض الصلاة من علٍ علو، وإن تركها سفل ودنو! ولعاقل أن يختار مجدًا، ولغيره أن يختار ضعةً! وفرض الصلاة من علٍ قمن بها أن تعلو بصاحبها آفاق المجد والعزة والسؤدد والكرامة، فلينظر تاركها حال نفسه وسفلها، وحال أخلاقه ودنوها! إن النظر في وجوه المصلين المخبتين العاملين، وإنما لتعلوها وضاءة ونضرة وبهاء وسرور وحبور، ليشي بشكر رب كريم وأن فرضها سبحانه! إن النظر في وجوه تاركي الصلاة، وهم إذ تعلوهم شيبة، وما هم بشيبة! وهم إذ تكسوهم حسرة، وهم إذ تخيمهم كآبة من مصيرهم المحتوم، وإن لم يتوبوا، لموجب شفقة! ولو لم يكن من معنى الصلاة إلا كونها صلة بين عبد ضعيف محتاج، إلى رب قوي غني، لكفي به معنى ساميا، ولكفى به شرحًا وافيًّا! إن النظر في وجوه المصلين باعث على الأمل والتفاؤل والانجبار؛ لأنهم علموا أنه ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة:143]، دنياكم توفيقًا، وأخراكم فوزًا! إنه لو لم يكن في الصلاة إلا أنها طاعة لمن بها أمر، لكفى بها قيمة عند مليك مقتدر! لأن الأصل وفرعه أنه تعالى ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة:285]. إن الصلاة أنفة وعزة وإباء، وإن تركها وإهمالها ذلة وخوار وخواء! وإنها لتكسب صاحبها من عزتها وإبائها، وبقدر ما حضر قلبه فيها، وإنه ليعلو تاركها حسرة وألم، وبقدر عدم تعظيمه بها أمرًا، وبقدر تجاهلها بها راحة وسكينًا وصلة سببًا. إن إقامة الصلاة زكاة نفس، وطهارة قلب، وإن تركها هفوت وضعف وخور ناخر في نخاع التاركين والمهملين، ويكأنك تراهم به ﴿ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾ [الحج:2]! وتعجيب من تارك الصلاة! لأنها نور، فلماذا يحرم نفسه عاقل نورًا؟ ولماذا يستبدل به فطن ظلامًا دامسًا حالكًا، يتيه به في ظلماته عن غد واعد مشرق؟! إن طهورك شطر إيمانك، وصلاتك نورك، وصدقتك برهانك، وصبرك ضياؤك، والقرآن حجة لك، أو عليك، وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها! عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك، أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها، أو موبقها"[1]. إن الموحدين المصلين الذين يقيمون صلاتهم إنما هم يقدرون ربهم سبحانه حق قدره؛ وذلك لأنهم أسسوا بنيانهم على تقوى من الله تعالى ورضوان. إن المصلين الذين يعلقون معاصيهم على شماعة صلاتهم إنما يقفون ﴿ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [التوبة:109]؛ لأنهم جعلوا الله تعالى أهون الناظرين إليهم، ألا فليدَّبَّر كل أمره؛ لأن مكره تعالى موجب خشية وحياء. كلم نبينا صلى الله عليه وسلم ربنا الجليل ليلة عرج به، وبخصوص الصلاة، فتحصل شرف التكليم، وشرف الصلاة! إنه لا داعي للانبهار كثيرًا أمام الثورة الصناعية الكبرى! لأنها إعادة تدوير لما خلق الله تعالى وحسب! مع عدم تقليل لقيمتها، ولأن كل ما خلقه تعالى إنما هو داعية تعمير، وإن كثيرًا مما صنع الإنسان إنما هو داعية تدمير! والأصل أن يكون معمرًا، لا مدمرًا! حين تنعقد أطراف علاقة، أولها ربنا، وثانيها نبينا، وثالثها ملك الوحي جبريل، فأنت أمام مشهد مهيب لتدبير أمر الناس! فكن على قدر هذا الاهتمام بك. المسألة السادسة والعشرون: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾. قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء:1]. وقعت شبهة في عود ضمير ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾، وظاهره أنه على الله تعالى؛ لأن السياق أن جبريل أوحى إلى عبده تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. إن وجود شبهة عود ضمير ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ لا يخرجنا عن هالة إخبات لذلكم مشهد من مشاهد القرآن العظيم، حين كانت أطرافه ربنا ونبينا وجبريل عليه السلام! إن اختلاف أهل العلم في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، هل هو في السماء، أم هو في بيت المقدس، لا يخرجنا عن مقصوده، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان للمتقين إمامًا! إن كلام الناس حول ماهية صلاتهم معًا في البيت المسجد الأقصى، أو في السماء! وبإمامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليس يخرجنا هذا عن الخلاف القائم، وعلى ذي همة وسبب، وسؤالًا ماكرًا حول ماهية هذه الصلاة، وإذ كيف صلوا، ولم تكن قد فرضت بعد؟! وكأن هذا الرهط الأنبياء الكرام عليهم الصلوات والتسليمات والتبريكات، كانوا يعبثون، وحين تحنثوا لربهم، وكهيئة ليس لنا كثير كلام فيها، وإلا حرمنا من تدبر معانيها ومراميها، وإذ إنها في الابتداء وفي الانتهاء وقوف بين يدي الله تعالى الحليم المنان العزيز الجبار القهار سبحانه وتعالى! المسألة السابعة والعشرون: نور أنَّى أراه؟ وقع الخلاف في رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى، وتوجيهه أنَّا نمسك عنه، ونكتفي بحديث الإمام مسلم رحمه الله الله تعالى أنه نور أنَّى أراه؟فعن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت، فقال: رأيت نورًا[2]. قلت لأبي ذر لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عمَّ كنت تسأله؟ قلت: أسأله هل رأى محمد ربه، فقال قد سألته فقال نور أنى أراه[3]. إنه لتخيم هالات الخضعان حين علم العبد عن ربه أنه ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ [الأعراف:143]. وإن الخلق كله ليعلوه إطباق وإخبات، حين يحيل رب كريم رؤيته على عبد، كنبي الله موسى عليه السلام! فما بالك بغير موسى عليه السلام، كأنا وأنت؟! وإن الكون كله لتكسوه خشية، تند وصفا، وحين علمه أنه ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾، ولما وقع اندكاك الجبل لتجليه تعالى له! إن عبدًا لتتملكه مشاعر الإخبات والخشوع لربه تعالى، وحين علم عنه تعالى أن (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)! كان من وصف ربنا (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، بل كان من وصفه أنه ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾! لا تأخذه سنة! ولو واحدة! فكان قيومًا! إن مصباحًا خافتًا أو غير خافت، أو كان سراجًا وهاجًا، يجعلك تغمض عينيك غير مجترئ على النظر فيه! فما بالك برب كريم هو نور السماوات السبع، والأرضين السبع؟! ولله المثل الأعلى. عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، وفي رواية أبي بكر: النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[4]. إنه لينبغي الوقوف طويلًا، عند قوله تعالى: ﴿ لَن تَرَانِي ﴾ [الأعراف:143]، وتوجيهه في الدنيا قطعًا لخلاف دار، قد يفقد أحدنا حلاوة النص العظيم، وطلاوة النظم الكريم، وإنه له لظلالًا، وإن معه ومنه لريًّا! إنه لو كان بحث في إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا مفيدًا، فما فائدة أن يعد عبد العدة المكينة طمعًا في رؤية ربه تعالى في الفردوس الأعلى؟! إذا كان من معاني التجلي أنه بدو وظهور، فلا ننسى أنه كان لجبل! ولا ننسى أنه اندك فصار رملًا! فما بالك بلحم ودم، لو كان قد تجلى ربه تعالى له؟! إن الوقوف على معنى التجلي اللغوي، في مقابلة إحالة الرؤية على نبي الله تعالى موسى عليه السلام، ليعد خروجًا عن جمع ممكن بينهما! إنه لا قياس على قانون الرب سبحانه حين كان الإسراء والمعراج مقصورًا عليه تعالى، ولأنه هو الذي أسرى بعبده، فكان دليلًا على انفراده تعالى بمطلق الإعجاز في هذا. وإنما يقاس أمر أو وضع على قانون واضعه وحسب؛ لأنه هو الذي يملك دون غيره أبعاده كلها صنعة وإصلاحًا. وإن من أهلك نفسه، وحين تعرض لقياسات الظواهر والأحداث ذات الأسرار الخالية عن عقل آحادنا، ليزيده ذلك تيها وغرقًا وغيًّا، ألا فليقف أحدنا عند علمه بقدرته المحدودة خاشعًا، وأمام هذا الرب القدير القادر الجبار العزيز القهار ذي القدرة المطلقة! وحين ذلكم فإننا أمام عطاء ربنا تعالى، وما قد أعدَّه لنا من مغنم، وإذ كان بديلًا ربانيًّا كريمًا، وعما أصاب متحجر، منتصب أمام الحق فيدمغه، وفوق ما يكتنفه ويصيبه، ويحل عليه من مغرم! المسألة الثامنة والعشرون: ﴿ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ [الممتحنة:7]. ولأن الإسراء أيضًا كان دلالة على مطلق القدرة لله تعالى، ولأن من قدرته تعالى إمكان من لا يُرَى أن يُرَى، وهذا خلاف أحدنا؛ لأننا لا نملك من القدرة إلا ما منحناها الله تعالى ربنا الرحمن، فضلًا منه وجودًا.وانظر قوله: وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1][5]. وكل آية وردت في الإسراء والمعراج، كان من شأنها أنها آية حقًّا، وبرهانًا ودليلًا ودلالة؛ ولأنه لم يسبق أن جاءت من طريق آخر غير هذا القرآن العظيم! وكذا عن قول أمينه تعالى في أرضه نبينا ورسولنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبأحاديث قد ثبتت، وإذ وليس يحوم حولها من قول! ولذا كان من شأنها أيضًا أن تكون آيات كبرى، وكجزء من آيات الله تعالى الكبرى أيضًا، عرفها أحدنا أو قد غابت عنه، ولتبقى دليلًا آخر وبرهانًا على أن مستودع القدرة معين عطاء ومنح وفضل أبدًا! لطائف ذات صلة: أولًا: هل الإسراء بالبدن أو بالروح أو بهما معًا؟ إن القول بجواز أن يكون الإسراء بالروح فقط، هو محاولة لتفريغ أحداثنا العظام من إعجازها، ليخفت نورها في قلوب الأشهاد، وهداية الحيارى! إنه قد أسرى الله بعبده بدنًا وروحًا، ولا فصل بينهما؛ لأن الفصل يحيل الإعجاز في المسألة، وحدث كهذا لا يخلو من إعجاز، بل كله إعجاز! كان أوله كونه روحًا ومادة معًا. لو جارينا قول: إن الإسراء كان بالروح فقط، لفقد الحدث كل معانيه! إذ كيف يمكن تصور براق ليركبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو روح فقط، بل ما لزوم البراق إذًا؟! ومنه المعراج أيضًا. لو جارينا قول: إن الإسراء والمعراج كانا بالروح فقط، لكنا سببًا في تجرؤ القوم على الطعن في القرآن، إذ كيف كان عبدًا بروح فقط؟! لو كان القول: إن الإسراء كان بالروح فقط، لكان التسبيح في آية الإسراء عبثًا؛ لأن التسبيح لا يكون إلا للأمور العظام! وهذا هو إعجاز القرآن! ولأن الرحلة كانت أحداثها متضافرة متتابعة متكاثفة متواترة أيضًا، وهذان هما اللذان أكسباها هذا الزخم العريض عرضًا عرضًا، والطويل طولًا طولًا! إن مقولة: إن الإسراء كان بالروح فقط، يجعلنا في معزل عن صلاة، كان الرسول فيها لإخوانه الأنبياء إمامًا! وقول بغيره لا يمكن تخيله! جاء النص على كون الإسراء ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾؛ لأن أي عبد نراه هو مادة وروح معا! فلماذا يستثنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذًا؟! وإن هذا إلا مكر للتوهين من شأنه، وما هم ببالغيه! وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان منامًا، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالًا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماءً سماءً، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة[6]. ثانيًا: إمامة الرجل في بيته: وإنما جُعلت إمامة الرجل في بيته شرعًا ودينًا، وله التنازل عنه، وبقرار منه؛ لأن الرجل راع، وهو راع ومسؤول في بيته! وهذا تكريم إسلامنا لأرباب البيوت! وتقديرًا لشأنهم، وإعظاما لقدرهم، وتنوبها بحقهم، واعترافًا بسلطانهم في بيوتهم، وهذه أخلاق ديننا! إنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا لأهل بيت المقدس وبه أئمته! ومنه جواز إمامة الإمام الأعظم للرجل، ولو في بيته. ثالثا: من أسرار حدوث الإسراء والمعراج ليلًا: جاء ذكر أن الإسراء كان ﴿ لَيْلًا ﴾ إشارة على أنه ليس من إمكاننا القول بأنه استغرق الليلة كلها أو بعضها، وهذا بحث ليس يفيد كثيرًا، ولكنه الإمعان في الإعجاز، وتأكيدًا لسلطان الله تعالى القاهر سبحانه! إنه لا يخلو ذكر أن الإسراء كان ليلًا من إعجاز؛ لأن الليل سكون وهدوء ولباس، ولذا جاء مقدمًا على النهار في القرآن العظيم. إنه لا يخلو أن الإسراء كان ليلًا من موافقة رؤيا رآها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلًا. رابعًا: ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء:65]: وقوله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، ولأنه جاء التسليم في سورة النور مفعولًا مطلقًا مؤكِدًا لفعله؛ إمعانًا في مدى قبول عبد لأمر ربه غير مشفوع برد، بل ممهور بقبول فائق، لا شائبة فيه! وجاء التسليم مفعولًا مطلقًا في سورة النور؛ دلالة على توكيد الانقياد والرضا حين صدوره من العبد، وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. إن العبودية الحقة، وحين يكون القلب مسلمًا لما قضى الله تعالى وقدر، لأنه ثقة في أنه تعالى رؤوف رحيم. إنه لا يكفي الرضا لأنه عمل قلبي، وعلامته الظاهرة هي التسليم والانقياد. وقوله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وهذا شأن ثمرة الحياء عطاءً ومنحًا وفيضًا! وفيه اعتزاز الرسول صلى الله عليه وسلم بربوبية ربه سبحانه؛ لأنها ملاذ كل عبد، وحين تتأخر الملاذات! وقوله هذا لمناسبة فرض الصلاة وتخفيفه عن الأمة، لكن سؤاله تعالى كل حين قربة ودين. وعود مرة أخرى إلى الحياء، وما أدراك ما الحياء؟ إنه خلق حميد، وإنه أدب مجيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، فيه إمضاؤه تعالى الأمر وتخفيفه، رحمة بعباده ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل[7]. إن هذا التخفيف كان منه تعالى، وقد وقع لإتمام النعمة، وإكمال الدين، أما بعده فليس لأحدنا بذلك؛ لأن الله تعالى قال ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3]. إن التغيير والتبديل والتعطيل والإضافة والحذف من أحكامه تعالى استدراك على الله تعالى، وليس يليق! ولأن ذلك يصير أحكامه مفرغة من أسمائها ومعانيها وحكمتها، وعلة وسبب نزولها أساسًا، والله تعالى بهذه الأحكام، وإنما بها أتم النعمة، وأكمل الدين، وحين تنزلت مرنة، وإذ تشي بحكمة التشريع الرباني وملاءمته لسائر الأزمان، وكافة الأحوال والأماكن أيضًا. ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن مالك بن صعصعة الأنصاري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به: بينما أنا في الحطيم وربما قال: في الحجر مضطجعًا؛ إذ أتاني آت، فقدَّ [وفي رواية]: فشق ما بين هذه إلى هذه - فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته، وفي رواية: من قصه إلى شعرته - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار أبيض - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم - يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى - وهما ابنا الخالة - قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي، حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي[8]. [1] [صحيح مسلم: 223]. [2] [صحيح مسلم: 178]. [3] [صحيح الترمذي: 3282]. [4] [صحيح مسلم: 179]. [5] [الرحيق المختوم، المباركفوري: 66]. [6] [زاد المعاد، ابن القيم الجوزية: 3 /36]. [7] [صحيح أبي داود، الألباني: 4278]. [8] [صحيح البخاري: 3887].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |