مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ليلة النصف من شعبان ..... الواجب والممنوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فضل صيام شهر رمضان.خصائص وفضائل شهر رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          المقصود بالتثليث النصراني الذي أبطله القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حكم تخصيص ليلة النصف من شعبان أو يومه بعبادة معينة بدعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مواضع الدعاء في الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ذرية الشيطان.. وطريقة حصولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          هل الإشهاد شرط لصحة الطلاق ؟ (الشيخ اﻷلباني) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          هل يجوز للجنب قراءة او مس المصحف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ( مَحَبَّةِ الْجَمَالِ )كلمات لابن تيمية رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          هل الدعاء في الوتر في رمضان قبل الوتر أم بعده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-06-2021, 03:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (1)


الشيخ عبدالله محمد الطوالة


الحمد لله الذي يسبحه المُلْكُ والملكُوتُ والمَلَك، والفُلك والأفْلَاك والفَلَك، كذلك السَّمَاواتُ الْحُبُكِ، والنور والظلماء والحلَك، والأرض ذات المُنْسلَك، وسالِكٌ وما سَلَك: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ [غافر: 55]، سبحانه وبحمده: ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ [فاطر: 13]، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحدهُ لا شريك له، ولا رب سواه.


إِلهَنَا، مَا أعْدَلَكْ ما أكرمك، ما أعظمك، مليكُ كُلِّ مَنْ مَلَكْ، الخَلقُ والإنعَامُ لك وحدكَ لا شريك لك، وكلُّ شيءٍ سبَّحَ لك، والفَضلُ مِنكَ ثم عنكَ ثم لك: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَ ﴾ [الزمر: 65]، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، امتنَّ الله عليه بقوله: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 - 4]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].

إِلهَنَا، ما أرأفك، ما أحلمك، ما أرحمك، مَا خَابَ عَبْدٌ سَأَلَكْ، أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكْ، لَوْلاَكَ يَا رَبِّ هَلَكْ، يَا مُخْطِئًا مَا أَغْفَلَكْ، ما أَجْرَأك، ما أَجْهَلَك، عَجِّلْ وَبَادِرْ أَجَلَكْ، وَلا تُضيع فُرَصَك، هَيا وأحْسِن عَمَلَكْ، لعلهُ أن يقبلك: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158].

أحبتي في الله، اقتضت حكمة الله تعالى أن يتباين الناس في مستويات إدراكهـم وتفكيرهم، وهذا أفـضى إلى الخـلاف والتنازع وظهور الآراء والمذاهب؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]، وهذا ما سبب ظهور مجموعة من وسائل تبيين الحق والدعوة إليه، ومن أشهر وأقوى تلك الأساليب والوسائل، أسلوب الحوار والمناظرات والمناظرة هي نقاش وجدال يُعقَد بين متحدثين أو أكثر، حول قضية خلافية معينة، في جلسة عامة يديرها حكم أو لجنةٌ خاصة، تُقدَّم فيها حجج مُتَعارضة؛ ليَنصُرَ كلُّ طرفٍ رأيه وما يذهب إليه، وتنتهي غالبًا بترجيح كِفَّة أحد الأطراف، والمناظرة وسيلة فعالة للتعلم والفهم وتبادل المعارف والمعلومات بأسلوب مقنع وجذاب، ومن أروع فوائدها إظهار الحق بدليه، وكشف الباطل وفضْح عَواره، وتبيين زيفه وفساده وتناقضه، ومن أروع فوائدها أيضًا أنها تكشف مدَّعِي العلم على حقيقتهم، وتجلِّيهم للجميع خصوصًا لمن اغتر بهم وخُدع بزخرف كلامهم، وبَهرجِ قولهم، ومن أروع فوائدها أيضًا أنها تبين قوة هذا الدين ومتانته، وأنه ما شادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، وتبين كذلك مدى قوةِ وروعةِ ما في القرآن والسنة من أدلةٍ دامغةٍ، وحججٍ قاطعةٍ، وبراهين حاسمةٍ، تجعلُ الحقَ يعلو ولا يعلى عليه، كما أن من فوائد المناظرة توضيحَ أن الحق بحاجةٍ ماسةٍ إلى القوي الأمين، والذكي الفطين الذي يعرف كيف يُجلِّي الحق ويظهره حتى يرجِعَ إليه من يطلبهُ بصدق، ويعرف من أين تُؤتى كَتِفُ الباطلِ، فيحمِل عليه حتى يُزهِقهُ ويبينَ بطلانهُ؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا مَن حيَّ عن بيِّنة، وقد أشاد القرآنُ بهذا الأسلوب في كثير من الآيات والمواطن ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ﴾ [المجادلة: 1]، وكذلك كل ما ذكره الله تبارك وتعالى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حوارات ومناظرات مع أقوامهم، وما ذكره الله تبارك من حججٍ وأدلة وبراهينَ عقلية في الرد على المشركين واليهود والنصارى، وكذا ما حصل مع إبليس.


ومن أدلة السنة: ما حدث من مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران كما في سورة آل عمران، وقد وقعت للصحابة وغيرهم من السلف مناظرات كثيرة على مر العصور، اشتَهر منها مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج، التي رجع بسببها أكثر من ثلثهم للحق، ومن أشهر المناظرات وأكبرها وأعظمها مناظرة العلامة عبدالعزيز بن يحيى بن مسلم الكناني، وهو من تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله وتوفي سنة 240 للهجرة، ولُقِّب بالغول لدَمامته وقُبحه، فقد جرت هذه المناظرة القوية بينه وبين زعيم القول بخلق القرآن بشر المريسي وذلك في دار الخلافة بين يدي الخليفة العباسي المأمون، وبحضور خلق كثير جدًّا، واستمرت من صلاة الفجر إلى قرابة العصر، وكانت في إبطال القول بخلق القرآن، وقد انتصر فيها الحق انتصارًا عجيبًا مدويًا، وقد ألف العلامة عبدالعزيز الكناني بعدها كتابًا قيمًا سرد فيه معظم ما جرى في هذه المناظرة الكبرى من حوارات ونقاشات، أسماه كتاب الحيدة والاعتذار، ولقوَّةِ هذا المناظرة وروعتها، ولقوة ذكاء الإمام المناظر، وحسن استنباطه للأدلة القرآنية، وتوظيفها بشكل رائع ومتقن؛ مما جعل الباطل المنتفش يزهق ويتهاوى أمامه نهائيًّا، لهذا فسأستعين بالله وأنقل لكم تفاصيل هذه المناظرة الكبرى، ومع أنني سأختصر بما لا يخل بأصل المناظرة، فإن الأمر سيستغرق عدة خطب بإذن الله، فأسأل الله بمنه وكرمه أن يجعل في هذا الجهد المتواضع، العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعله خالصًا لوجهه تبارك وتعالى، إنه أكرم مسؤول، وخير مأمول؛ قال الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني: بلغني وأنا بمكة ما قد أظهره بشرٌ بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعوته الناس إلى هذا المذهب الباطل، وخوف الناس وفزعهم من مناظرته، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسر قوله، ويدحض حجته، فأزعجني ذلك وأقلقني، وأطال همي وغمي، فخرجت من بلدي حتى قدمت بغداد، فشاهدت من شناعة الأمر وفظاعته أضعاف ما كان يصل إلي وأنا بمكة، ففزعت إلى ربي أدعوه وأسأله إرشادي وتسديدي، وتوفيقي وإعانتي، والأخذ بيدي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يُطلق لشرح بيانه لساني، واستقر رأي على أن أُظهر نفسي وأصدع بقولي على رؤوس الخلائق، وأن يكون ذلك في المسجد الجامع الكبير بالرصافة، وفي يوم الجمعة، وأيقنت أنهم لن يقدموا على قتلي أو عقوبتي إلا بعد مناظرتي والسماع مني، ولم ألجأ لمشاورة أحدٍ، بل جعلت أستر أمري، وأخفي خبري عن الناس جمعيًا خوفًا من أن يشيع خبري، فاُقْتَل قبل أن يُسمع كلامي وكان الناس قد مُنعوا من الحديث والفتوى والتدريس في المساجد وسائر الأماكن، إلا جماعة المريسي، ومن كان موافقًا لهم على مذهبهم الباطل بالقول بخلق القرآن، فقد كانوا يقعدون للناس فيعلمونهم هذا الكفر والضلال وكانوا يحاربون كل من أظهر مخالفتهم وذم مذهبهم، فيأتون به بقوة السلطان، فإن وافقهم ودخل في كفرهم، وأجابهم إلى ما يدعونه إليه، وإلا سجنوه وعذبوه، ونكلوا به وعرَضوه على السيف، وكم من قتيل لهم لم يُعلم به، وكم ممن خاف فأجابهم، واتبعهم على قولهم الباطل، إيثارًا للسلامة؛ قال الشيخ عبدالعزيز: فلما كانت الجمعة التي عزمت فيها على إظهار نفسي، دخلت مسجد الرصافة، وصليت بأول صف من صفوف العامة، فلما سلَّم الإمام من صلاة الجمعة، وثبت واقفًا وناديت بأعلى صوتي يا بني، وكنت قد أوقفته عند الأسطوانة الأخرى، فقلت له: يا بني، ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غيرُ مخلوق، قال عبدالعزيز: فلما سمع الناس كلامنا، هربوا على وجوههم يستبقون الأبواب، وأتي أصحاب السلطان، فاحتملوني وابني حتى أوقفوني بين يدي وزير المأمون: عمرو بن مسعدة، وكان قد حضر الجمعة، فلما نظر إلى وجهي، قال: أمجنون أنت؟ قلت: لا، قال: أفمظلوم أنت؟ قلت: لا، فقال لرجاله: مروا بهما إلى منزلي قال الشيخ: فحُملنا على أيدي الرجال يتعادون بنا سحبًا شديدًا، يَمنة ويَسرة، حتى وصلنا إلى دار الوزير، فلما صرنا بين يديه، أقبل علي فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك؟ قلت: طلب القربة إلى الله عز وجل، والمناظرة لأجله، قال: فهلا فعلت ذلك سرًّا، ومن غير إظهار مخالفة أمير المؤمنين، فما أظنك إلا طالبًا للشهرة، أو متكسبًا للمال، قلت: إنما أردت الوصول لأمير المؤمنين والمناظرة بين يديه ليس إلا، فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم، ولذلك غامرت بنفسي، فقال الوزير: وإن كان غير ذلك، فقلت له: إن تكلمت في شيءٍ غير هذا، فدمي حلال لأمير المؤمنين، فوثب الوزير حتى دخل على أمير المؤمنين، ثم رجع بعد ساعة، فلما أدخلت عليه، قال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين بخبرك وما تريد، وقد أمر أطال الله بقاءه، بإجابتك إلى ما سألت في يوم الاثنين الآتي، وستكون المناظرة في مجلسه بدار الخلافة، فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته، ودعوت لأمير المؤمنين وللوزير، قال الشيخ عبدالعزيز: فلما كان يوم الاثنين، وحين فرغت من صلاة الفجر؛ إذ برسول الوزير قد جاء ومعه خلقٌ كثير من الفرسان والرجال، فحملوني مكرمًا على دابة حتى صاروا بي على باب قصر أمير المؤمنين، فأوقفوني حتى جاء الوزير، فلما أُدخلت عليه أجلسني، ثم قال لي: أما زلت مقيمًا على رأيك أم أنك قد رجعت عنه، فقلت: بل والله لقد ازددت بتوفيق الله بصيرة في أمري، فقال لي: أيها الرجل: لقد حملت نفسك على أمرٍ عظيم، ولئن قامت عليك الحجة فما جزاؤك إلا السيف، فبادر أمرك قبل ألا تنفعك الندامة، ولا يُقبل منك عذرٌ، وسأشفع لك عند أمير المؤمنين؛ ليصفح عن جُرمك إن أظهرت الرجوع والندم على ما كان منك، فقلت له: أعزك الله ما ندمت ولا تراجعت، وإني لأرجو الله أن يوفقني ويعينني على إظهار الحق ونصره، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل، فقام الوزير وهو يقول: قد حرصت على إنقاذك جهدي، ولكنك تأبي إلا سفك دمك، قوموا فأدخلوه.

بارك الله، الحمد لله وكفى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره؛ يقول الإمام العلامة: عبدالعزيز بن يحيى الكناني رحمه الله: ثم أُمر بي، فأُخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد دُعي للحضور جموع الفقهاء والقضاة والعلماء، وسائر المتكلمين والمناظرين، كما أُمر كبار القادة والأمراء والأعيان أن يحضروا في السلاح؛ كل ذلك ليرهبوني بهم، فلما اجتمع الناس وملؤوا المكان عن آخرة، أُذن لي بالدخول، فلم أزل أُنقل من دهليز إلى دهليز، ومن ديوان إلى ديوان حتى صرت إلى حاجب الستر الذي على باب صحن الإيوان، إيوان الخليفة، فلما رآني الحاجب أمر بي، فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي: إن احتجت لأن تجدد طهورك، فقلت: لا حاجة لي بذلك، فقال: إذًا فصلِّ ركعتين قبل أن تدخل، فصليت أربع ركعات ودعوت الله وتضرَّعت إليه، فلما فرغت، أمر الحاجب من كان عنده فخرج، ثم دنا مني، فهامسني قائلًا: يا هذا، إن أمير المؤمنين بشرٌ مثلك، وكذلك كلُّ من يناظرك إنما هم بشرٌ مثلك، فلا تتهيَّبهم، واجمع فَهمك وعقلك لمناظرتهم، ولا تدعنَّ شيئًا مما تحسنه أو تحتاج أن تتكلم به خوفًا من أحد، وتوكَّل على الله واستعنْ به، وقمْ فادخل على بركة الله، فقلت له: جزاك الله خيرًا فقد أدَّيت النصيحة، وسكنت الروعة، فلما فُتح الستر، أخذ الرجال بيدي وعضدي وجعلوا يتعادون بي عدوًا عنيفًا، وأيديهم في ظهري وعنقي، فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يصيح فيهم خَلُّوا عنه، خَلُّوا عنه، وكثُر الضجيج من الحجاب والقادة بمثل ذلك، فخُلِّيَ عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدَّة الجزع وعظيم ما رأيت من كثرة السلاح والرجال، فقد رأيت شيئًا ما رأيت مثله في حياتي، أممٌ كثيرة قد انبسطت الشمس عليهم، وملؤوا الصحن صفوفًا، وما زال الحاجب يقربني حتى انتهى بي إلى الموضع المعد لي، فسلمت على أمير المؤمنين، فردَّ علي السلام، وقال: اجلس فجلست، وهذا ما تيسر قوله اليوم، وسنكمل بإذن الله في الخطبة القادمة.

يا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21-06-2021, 03:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (2)

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمد لله، الحكيم العلام، الملك القدوس السلام، الحي القيوم، الباقي سرمدًا على الدوام، لا تأخذه سنة ولا يموت ولا ينام، سبحانه وبحمده، عز جلاله فلا تدركه الأفهام، وتعالى كماله فلا تحيط به الأوهام، ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الآيات المبهرة، ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، ﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ﴾ [الرحمن: 10، 11]، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، ومصطفاه وخليله، النبي الأمي الإمام، أزكى الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، وخير من صلى وصام، وتعبد لربه وقام، وطاف بالبيت الحرام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأهل بيته الكرام، وصحابته الأعلام، والتابعين وتابعيهم بإحسان، وكل مَن قال: ربي الله ثم استقام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فتقوى الله عز بلا عشيرة، وعلم بلا مدارسة، وغنًى بلا تجارة، وأنس بلا خِلَّان، ألا وإن بركة العمر في حسن العمل، والندم طريق التوبة، وآفة الرأي الهوى، وأشد البلاء شماتة الأعداء، وكثرة العتاب تورث الضغينة، والتودد نصف العقل، وكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، ومن طلب صديقًا بلا عيب، بقي بلا صديق، وفي طول اللسان هلاك الإنسان، وإحسان الظن بالآخرين يجنب الكثير من المتاعب، ومن أراد إصلاح غيره فليصلح نفسه: ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31].

أما بعد أحبتي في الله:
فهذه هي الحلقة الثانية من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز بن يحيى الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر بن غياث المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة خروج الشيخ عبدالعزيز الكناني من مكة إلى بغداد، وقيامه في مسجد الرصافة بعد صلاة الجمعة، وصدحه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما جرى له مع وزير المأمون من حوارٍ انتهى بتحديد موعد للمناظرة في يوم الاثنين التالي، وذلك في دار الخلافة، وبين يدي الخليفة المأمون، وبحضور جمع كبير جدًّا من العلماء والقادة والأعيان، ووصلنا في الحديث حين أُدخل الشيخ عبدالعزيز إلى إيوان الخليفة يتعادى به الرجال، وذكرنا ما أصابه من روعة وفزع وخوف شديد، وتوقفنا في الحديث حين سلم الشيخ على الخليفة، وجلس في المكان المعد له:
قال الشيخ عبدالعزيز: فسمعت قبل أن أجلس رجلًا من جلساء الخليفة يقول: يا أمير المؤمنين، يكفيك من كلام هذا قبحُ وجهه، لا والله ما رأيت من خلق الله قط مَن هو أقبح منه وجهًا، فحفظت كلامه وميزت شخصه، على ما بي من الروعة والفزع الشديد، وجعل أمير المؤمنين ينظر إليَّ وأنا أرتعد وأنتفض، فأحب أن يؤنسني وأن يسكن روعتي، فجعل يكلم جلسائه، ويتكلم بأشياءَ لا يحتاج إليها، يريد بذلك إيناسي، ثم جعل يطيل النظر إلى سقف الإيوان، فوقعت عينه على موضع من النقش قد انتفخ، فقال لوزيره: يا عمرو، أما ترى إلى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش؟ بادر بإصلاحه، فقال الوزير: قطع الله يد صانعه؛ فإنه قد استحق العقوبة على عمله الرديء، قال الشيخ عبدالعزيز: ثم أقبل عليَّ الخليفة، فقال لي: مَن الرجل؟ فقلت: عبدالعزيز، فقال: ابن مَن؟ فقلت: ابن يحيى، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن مسلم، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن ميمون الكناني، قال: وأنت من كنانة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم تركني لبعض الوقت، ثم أقبل عليَّ مرة أخرى، فقال: من أين يا عبدالعزيز؟ فقلت: من الحجاز، قال: من أي الحجاز؟ قلت: من مكة، فأخذ يسألني عن أهل مكة: أتعرف فلانًا؟ أتعرف فلانًا؟ حتى عدَّ جماعة من بني هاشم، كلهم أعرفهم حق المعرفة، فجعلت أقول: نعم أعرفه، ويسألني عن أولادهم وأنسابهم، فأخبره من غير ما حاجة، إنما يريد إيناسي وتسكين روعتي، جزاه الله عني خيرًا؛ فقد قوَّى قلبي، واجتمع فهمي، وانشرح بذلك صدري، وانطلق لساني، وارتفعت آمالي، حتى رجوت النصر على من خالفني وعاداني.


قال الشيخ عبدالعزيز الكناني: ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبدالعزيز، قد علمتُ بخبرك وما تريد، وقيامك في المسجد الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله وإنه غير مخلوق، وطلبك لمناظرة من خالفوك بين يديَّ، وها قد جمعتك بالمخالفين لك؛ لتتناظروا بين يديَّ، وأكون أنا الحكم فيما بينكم، فإن تكن الحجة لك والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ثم أقبل المأمون على بشر المريسي، فقال: يا بشر، قم إلى عبدالعزيز، فناظره وأنصفه، فوثب إليَّ بشر من موضعه كالأسد يثب إلى فريسته، فجاء فانحط عليَّ، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، حتى كاد أن يحطمها، واعتمد عليَّ بقوته كلها، فقلت له: مهلًا؛ فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي، وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون: تنحَّ عنه، وكرر ذلك، حتى ابتعد عني، ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبدالعزيز، ناظره على ما تريد واحتج عليه، ويحتج عليك، وسَلْهُ ويسألك، وتناصفا في كلامكما، فإني مستمع إليكما، ومتحفظ ألفاظكما.

قال الشيخ عبدالعزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم قبل هذا بشيء قد شغل قلبي وعقلي، فقال لي: تكلم بما شئت، فقد أذنت لك، فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين: من هو أجمل ولد آدم جمالًا في الوجه فيما تعلم؟ فقال بعد تروٍّ: أليس يوسف عليه السلام؟ فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين، فوالله ما سُجن يوسف وما ضُيِّق عليه إلا بسبب حسن وجهه، ولقد ثبتت براءته عندهم قبل أن يسجنوه؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، وإنما سجنوه لحسن وجهه، وليغيبوه عن المرأة التي فُتنت به وعن غيرها، ثم طال حبسه في السجن حتى إذا عبر الرؤيا، عرف الملك قدره وعلمه؛ فرغب في صحبته: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [يوسف: 54]، وكان هذا قبل أن يسمع كلامه، فلما سمع كلامه وحسن تعبيره، صيَّره أمينًا على خزائن الأرض، وفوَّض إليه الأمور كلها، فكان ما وصل إليه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه، لا بجماله وحسن وجهه؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 54، 55]، ولم يقل: إني جميل الوجه حسن المنظر؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]، فوالله يا أمير المؤمنين، ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو عليه الآن، وإني أُحسِن من الفهم والعلم في كتاب الله أكثر مما أحسن، فقال المأمون: وأي شيء أردت من هذا القول يا عبدالعزيز، وما الذي دعاك إليه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت هذا الشخص الجالس بجوارك يعيب شكلي، ويقول لك: يكفيك يا أمير المؤمنين من كلام هذا قبح وجهه، فما يضرني يا أمير المؤمنين قبح وجهي، مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، لقد رأيتك تنظر إلى هذا النقش المنتفخ، وتأمر وزيرك أن يصلحه، وسمعت الوزير يدعو على الصانع، ولا يدعو على الجص المصنوع، فقال المأمون: نعم، فالعيب لا يقع على من لا إرادة له، فلا عيب على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع، قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، فهذا العائب لشكلي ووجهي، إنما يعيب ربي الذي خلقني وصورني بهذه الصورة، فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهرت ثناياه، قال عبدالعزيز: فأقبل عليَّ المأمون، وقال: يا عبدالعزيز، ناظر صاحبك فقد مضى الوقت بدون مناظرة، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا بد لكل متناظرين من أصل يرجعان إليه إذا اختلفا، وإلا كانا كالسائر على غير طريق، لا يعرف وجهةً فيتبعها، ولا الموضع الذي يريد فيقصده، ولا من أين جاء فيرجع، فهو على ضلال أبدًا، فلنؤصِّل بيننا أصلًا، حتى إذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه في هذا الأصل، وإلا لم نعتد به.

فقال المأمون: نِعْمَ ما قلت يا عبدالعزيز، فما هو هذا الأصل الذي تريد أن يكون بينكما؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، أوصل بيني وبينه ما أمرنا الله أن نرجع إليه عند التنازع والاختلاف؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

وقد تنازعت أنا وبشر، فلنؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله تعالى، فإن اختلفنا في شيء من الفروع، رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه، وإلا رددناه إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها، وإلا ضربنا به عرض الحائط ولم نلتفت إليه.

قال بشر: إنما أمر الله في هذه الآية أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز، أو إلى سنة نبيه عليه السلام.

فقلت: هذا ما لا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم، أن "رددناه إلى الله"؛ أي: إلى كتاب الله، وأن "رددناه إلى رسوله" بعد وفاته؛ أي: رددناه إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقال المأمون: فأصِّلا بينكما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى.

فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه من ألحدَ وغيَّرَ في كتاب الله عز وجل بزيادة أو نقصان لم يناظَر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث، فقال المأمون: فبأي شيء تناظره إذًا؟ قال عبدالعزيز: بنص التنزيل؛ كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، فأمره بالتلاوة، وكما قال حين ادعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 93].

فإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وإما من ألحدَ وغيَّرَ في التنزيل، فكيف يناظر بالتأويل؟ فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل؟ قلت: نعم، ليخالفني بالتنزيل؛ فإما أن يكون الحق معي فيتبعني، أو يكون الحق معه فأتبعه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره، فلإن جاز أن أطلق على هذه المناظرة الكبرى اسمًا مناسبًا، فسأسميها: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، حقًّا يا عباد الله، فالباطل بنص القرآن، كان ولا يزال وسيظل زهوقًا، لا يقوى على الوقوف في وجه الحق إذا جاءه، فلنتابع المناظرة لنرى مصداق ذلك.

قال الشيخ عبدالعزيز: ثم أقبلت على بشر، فقلت له: يا بشر، ما حجتك بنص التنزيل أن القرآن مخلوق؟ وانظر إلى أحدِّ سهم في كنانتك فارمني به؛ حتى لا تحتاج معه إلى معاودتي بغيره، فقال بشر: أتقول أن القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت: إنه شيء، أقررت إنه مخلوق؛ إذ كانت الأشياء كلها مخلوقة بنص التنزيل؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وإن قلت: إنه ليس بشيء، فقد كفرت؛ لأنك تزعم أن القرآن ليس بشيء.

قال الشيخ عبدالعزيز: فقلت ما رأيت أعجب منك يا بشر؛ تسألني وتجيب عني، وتكفرني ولم تسمع إجابتي، فإن كنت سألتني لأجيبك، فاسمع مني فإني أحسن أن أجيب، وإن كنت تريد أن تدهشني وتنسيَني حجتي، فلن أزداد بتوفيق الله إلا بصيرةً وفهمًا، وما أظنك يا بشر إلا معجبًا بهذه المقالة التي قلتها، فأنت تكره أن تقطعها، حتى تأتيَ بها عن آخرها، قال الخليفة المأمون: صدق عبدالعزيز، فاسمع منه جوابه، ثم رد عليه بعد ذلك بما شئت، قال عبدالعزيز: سألتني يا بشر عن القرآن: أهو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تقصد أنه شيء موجود كبقية الأشياء، فنعم هو شيء من هذا الوجه، وأما إن كنت تقصد أنه مثل بقية الأشياء المخلوقة فلا، فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله، ولا بد من جواب يفهم ويعقل: أهو شيء أم ليس بشيء؟

فقلت: إن الله عز وجل أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه العلية؛ إذ إن كلامه من صفاته جل وعلا، فلم يتسم هو سبحانه بالشيء، ولم يجعل الشيء اسمًا من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء؛ إثباتًا لوجوده تعالى، وردًّا على من أنكر ذلك من الملحدين؛ فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، فدلَّ على نفسه أنه أكبر شيء موجود، لكن وحتى لا يتوهم متوهم أنه كبقية الأشياء المخلوقة، أنزل سبحانه آيةً خاصةً في ذلك فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة، قال بشر: يا أمير المؤمنين، قد أقر عبدالعزيز أن كلام الله شيء، وزعم أنه ليس كالأشياء المخلوقة، فليأتِ بنص التنزيل كما أخذ عليَّ وعلى نفسه أنه ليس كالأشياء، وإلا فقد بطل ما ادعاه، وصح قولي: إنه مخلوق؛ إذ كنا قد اتفقنا أنه شيء، فقلت أنا هو كالأشياء المخلوقة، وقال عبدالعزيز هو شيء لكنه ليس كالأشياء المخلوقة، فليأتِ بنص التنزيل على ما ادعاه، وإلا فقد ثبتت عليه الحجة؛ إذ إن الله عز وجل قد أخبرنا تعالى بنص التنزيل أنه خالق كل شيء؛ فقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، قال عبدالعزيز: فقال لي المأمون: هذا يلزمك يا عبدالعزيز، فجعلوا يصيحون ويرفعون أصواتهم، ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق الباطل، فسكت حتى أمسكوا. وهذا ما تيسر ذكره اليوم، نتوقف هنا، ونكمل بإذن الله في خطبة قادمة.

ويا ابن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ وسلم على البشير النذير.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21-06-2021, 03:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (3)


الشيخ عبدالله محمد الطوالة


الحمد لله، ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾ [الأنعام: 96]، القائمِ بأرزاق خلقهِ، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى، الخلائقُ كلُّهم فُقراء إليه، وله سبحانه وحده مطلقُ الغنى، أحمده سبحانه وأشْكُره على جزيلِ نعمائه وعظيم إفضالهِ سِرًّا وعلَنًا، بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بنى السبع الشداد فأحكم ما بنى، وأجزل العطاء لمن كان محسِنًا، وغفر الذنب لمن أساء وجنى، ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31].

وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، دعا إلى الله وجاهدَ في سبيله، فما ضعُفَ وما استكان وما وَنَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار الأطهار الأمناء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، ما سجَى ليلٌ، وما أضاءَ سَناء.

أمَّا بعد:
فأوصيكم أيُّها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله، ومن أرادَ محبة الله، فالله يحب المتقين، ومن أحبَّ أن يكونَ الله وليَّه فالله وليُّ المتقين، ومن أراد معية الله، فالله مع المتقين، ومن أراد كرامة الله، فأكرم الناس عند الله أتقاهم، ومن أراد فوز الآخرة، فالآخرة عند ربِّك للمتقين، والعاقبةُ للتقوى، ومن أراد قبول أعماله، فإنما يتقبل الله من المتقين، فاتَّقوا الله رحمكم الله، فهي أكثر خصال المدح ذكرًا في كتاب الله: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]، فـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

وبعد أحبتي في الله، فهذه هي الحلقة الثالثة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة رد الشيخ عبدالعزيز المفحم على أحد زملاء بِشرٍ، والذي عاب شكل الشيخ، بأنه إنما يعيبُ الخالق جلَّ وعلا فهو الذي خلقه بهذه الصورة، ثم ذكرنا كيف تمكن الشيخ من وضع منهجٍ مقننٍ للمناظرة؛ حيث أصَّل القرآن والسنة مرجعًا عند الاختلاف، واشترط التزام نص التنزيل، بلا تأويل ولا تفسير، وبدأت المناظرة بقول بشرٍ: قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، وبما أن القرآن شيءٌ، فالقرآن إذًا مخلوقٌ بنص القرآن، فرد عليه الشيخ عبدالعزيز بأن وصف الشيء يمكن أن يطلقَ على الخالق والمخلوق، فالله بنص التنزيل هو أكبرُ الأشياء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 19]، وكلام الله وصفاته مثل ذاته في هذا، فهي أشياء من حيث الوجود، لكنها غير مخلوقه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتوقَّفنا حين قال بشرٌ: قد أقررت يا عبدالعزيز أن القرآن شيء، فأتِ بدليل من نص التنزيل، إنه ليس كالأشياء المخلوقة، وإلا بطل كلامُك وصح كلامي، فصاح أصحاب بشر، جاء الحق وزهق الباطل، ظهرَ أمرُ اللهِ وهم كارهون، فسكت الشيخ عبدالعزيز حتى سكتوا، ثم قال: قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فدل عزَّ وجلَّ بهذه الأخبار وأمثالها في القرآن كثير على أن أمره وكلامه ليس من ضمن الأشياء المخلوقة، وأنه خارج عنها، وأن الأشياء المخلوقة إنما تكون وتخلق بقوله وأمره، فقوله وأمره ليس من تلك الأشياء المخلوقة، وإذا نظرنا في آية أخرى سنلاحظ أن الله تعالى قد ذكر خلق الأشياء كلها، فلم يدع منها شيئًا إلا ذكره، إلا كلامه وأمره فقد أخرجه من ذلك، ليدل على أن كلامهُ وأمرهُ مغايرٌ للأشياء المخلوقة، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، فبيَّن الله تعالى في مطلع هذه الآية أنه هو الذي خلق الخلق كله، ثم قال في آخر الآية: ألا له الخلقُ والأمر، يعني الأمرُ الذي تمَّ به هذا الخلق، ففرَّق الله عز وجل بين خلقه كله، وبين الأمر الذي تمَّ به الخلق، فجعل الخلق خلقًا، والأمر أمرًا، وجعل هذا غير هذا، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾؛ يعني لله الأمرُ والقولُ من قبل الخلق ومن بعد الخلق، ثم جمع عز وجل بين الأشياء المخلوقة في آيات كثيرة من كتابه، وأخبر أنه خلقها بقوله وكلامه، وأن كلامه وقوله ليس منها ولا مثلها، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الحجر: 85]، فقد أخبرنا الله عز وجل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهذا يشمل بقية المخلوقات كلها، وأخبر تعالى أنه إنما خلقها بالحق، والحق هو قوله وكلامه الذي خلق به الخلق كله، إذًا فكلامه شيء غيرُ الخلق، وخارجٌ عن الخلق، وهذا نص التنزيل على أن كلام اللهِ شيءٌ غيرُ الأشياء المخلوقة، وأنه ليس كالأشياء المخلوقة، وإنما به يكون خلق الأشياء.


فقال بشر: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ادَّعى عبدالعزيز أولًا أن الأشياء إنما تكون بقوله، ثم جاء بأشياء متباينات متفرقات، فزعم أن الله عز وجل يخلق بها الأشياء، فأكذب نفسه، ونقض قوله، ورجع عما ادعاه من حيث لا يدري، وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد عليه والحاكم بيننا، فقال المأمون: أوضح قولك يا عبدالعزيز حتى لا ينقض بعضه بعضًا.

فقال عبدالعزيز: أتزعم يا بشر أني قد أتيت بأشياء متباينات متفرقات خلق الله بها الأشياء، وما قلتُ إلا ما قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وما جئتُ بشيءٍ إلا من كلام الله وفي كتابه الكريم، وكلها تدل على أن الله خلقَ الأشياء بكلامه، قال بشر: يا أمير المؤمنين، ألم يقل: إن الله خلق الأشياء بقوله ومرة قلت بأمره، ومرة بكلامه، ومرة بالحق، فقال المأمون: بلى قد قلت هذا يا عبدالعزيز.

فقال عبدالعزيز: نعم يا أمير المؤمنين، قد قلته، وما قلته إلا على صحته، ولا خرجت عن كتاب الله عز وجل، ولا قلت إلا ما قال الله عز وجل، ولا أخبرت إلا بما أخبر الله عز وجل به أنه خلق به (مما) يوافق بعضه بعضًا، ويصدِّق بعضه بعضًا، وأنها كلها شيءٌ واحدٌ، له أسماءٌ متعددةٌ، فهو كلام الله، وهو قولُ الله، وهو أمرُ الله، وهو الحقُ، فقول الله هو كلامه، وكلامه هو الحق، والحق هو أمره، وأمره هو قوله، وقوله هو الحق، فهي أسماء متعددة لشيء واحد، ألم يسمِّ الله كلامه نورًا وهدًى وشفاءً ورحمة وقرآنًا وفرقانًا، فهذه مثل تلك، وإنما أجرى الله عز وجل مثل هذا على كلامه، كما أجراه على نفسه؛ لأنه من ذاته، فسمى كلامه بأسماء كثيرة، وهو شيءٌ واحد، كما سمى نفسه بأسماء كثيرة، وهو ذاتٌ واحدٌ، أحدٌ فردٌ صمدٌ، وإنما ينكر بشرٌ هذا ويستعظمه لجهله وقلة فَهْمه؛ قال بشرٌ: يا أمير المؤمنين، قد أصَّل بيني وبينه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه لا يقبل إلا نص التنزيل، فلست أقبل منه إلا بنص التنزيل أن قول الله هو كلام الله، وهو أمره، وهو الحق، فقال المأمون: ذلك يلزمك يا عبدالعزيز لما شرطت على نفسك، فقال الشيخ عبدالعزيز: صدقت يا أمير المؤمنين، يلزمني ذلك، وعلي أن آتي به من نص التنزيل، قال المأمون: فهاته؛ قال عبدالعزيز: قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]؛ يعني حتى يسمع القرآن؛ لأنه لا يقدر أن يسمع كلام الله من الله مباشرة، لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك، هذه واحدة، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الفتح: 15]، فسمى الله القرآن كلامه، وسماه قوله، وهذه الثانية، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، وهذه الثالثة، فقد أخبر الله عن القرآن أنه الحق، وقال الله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4]، وهذه الرابعة، فقد ذكر الله عز وجل أن القرآن قوله وأن قوله هو الحق، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 82]، وهذه الخامسة، فقد ذكر الله أن الحق كلامه وأن كلامه الحق، وقال جلَّ وعلا: ﴿ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ﴾ [الطلاق: 5]، وهذه السادسة، فقد ذكر الله عز وجل أن القرآن أمره، وأن أمره القرآن، وكل هذه أسماء متعددة لشيء واحد، وهو الشيء الذي خلق الله به الأشياء الأخرى، وهو خارج عن تلك الأشياء المخلوقة، وهو ليس كالأشياء المخلوقة، وإنما تكون به الأشياء المخلوقة، وهو كلامه، وهو قوله، وهو أمره، وهو الحق، وهذا نص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير، فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبدالعزيز، قال بشر: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إنه يحب أن يخطب ويهذي بما لا أعقله، ولا التفت إليه، ولا أقبل من هذا شيئًا، قال عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إذا كان لا يعقل عن الله ما خاطب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما علَّمه الله لعباده المؤمنين في كتابه المبين، وإذا كان لا يعلم مراد الله من كلامه، وهو واضح لكل من له أدنى بصيرة، فكيف ينصِبُ نفسهُ داعيةً، وكيف يدعو الناس بلا علم وبلا بصيرة، والله تعالى يقول: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فقال بشر: يا أمير المؤمنين، قد اقرَّ عبدالعزيز بين يديك أن القرآن شيء، فليكن عنده كيف (شاء)، فقد اتفقنا على أنه شيء، والله عز وجل يقول: ﴿ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، وهذه لفظةٌ عامة تشمل كلَّ شيء، فلم تدع شيئًا إلا أدخلته في الخلق، ولا يخرج عنها شيءٌ البتةَ، فصار القرآن مخلوقًا بنصِ التنزيل بلا تأويل ولا تفسير؛ قال الشيخ عبدالعزيز: فعليَّ يا أمير المؤمنين أن أكسِرَ قولهُ وأُكذِّبهُ فيما قال بنص التنزيل، وهذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية بإذن الله، أقول ما تسمعون واستغفر الله.
♦♦♦♦♦

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره، قال الشيخ عبدالعزيز: قال الله عز وجل عن الريح التي أُرسلت على قوم عاد: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]، فهل أبقت الريحُ يا بشر شيئًا لم تدمرهُ، قال بشرٌ: لا لم يبق شيءٌ إلا دمرته، لأنها دمرت كل شيء؛ قال الشيخ: فقد أكذب الله من قال هذا بقوله تعالى: ﴿ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25]، فقد بقيت مساكنهم بعد تدميرهم، ومساكنهم أشياءُ كثيرة، هذه واحدة يا أمير المؤمنين، ومثلُها قول الله عز وجل: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 41، 42]، ومع ذلك فقد أتت الريح على الجبال والمساكن والشجر، فلم تجعلها كالرميم، والثالثة قال عز وجل عن مُلك بلقيس: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]، فكأنك بقولك يا بشر يجب ألا يبقى شيءٌ يقع عليه اسمُ الشيءِ إلا دخلَ في هذه اللفظةِ وأوتيتهُ بلقيس، وقد بقي مُلكُ سليمانَ الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فلم يدخل في هذه اللفظة، فهذا كله مما يكسرُ قولك، ويدحضُ حجتك، بل إن هناك ما هو أشنعُ وأظهرُ في فضحِ مذهبك، وأبطال بدعتك، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ ﴾ [القصص: 50]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]، أفتقرُّ يا بشرٌ أن لله علمًا كما أخبرنا عن نفسه أو تخالف نص التنزيل؟

فقال بشرٌ: إن الله لا يجهل، وحاد عن الجواب، وأبى أن يقول: إن لله علمًا، فيسأله الشيخ عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا، وفهم ما يرمي إليه الشيخ، وما يلزمه في ذلك من كسر قوله، فجاء بجوابِ ما لم يُسأل عنه، فقال: إن الله لا يجهل؛ قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين فليقرَّ بشرٌ أن للهِ علمًا كما أخبرنا الله في كتابه، فإني سألته عن علم الله، ولم أسأله عن الجهل، حتى يجيب بما قال، فقد حادَ بشرٌ يا أمير المؤمنين، وراغ عن جوابي، فقال المأمون: وهل تُعرفُ الحيدةُ في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: وأين هيَ من كتاب الله عزَّ وجلَّ؛ قال الشيخ: قال الله عزَّ وجلَّ في قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: ﴿ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، وإنما قال لهم إبراهيم هذا ليكذبهم وليعِيبَ آلهتهم ويسفه أحلامهم، فعرفوا ما أراد بهم، وإنهم بين أمرين: فإما أن يقولوا نعم يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فيشهدوا على أنفسهم بالكذب، أو يقولوا: لا يسمعوننا ولا ينفعوننا ولا يضروننا، فينفوا عن آلهتهم النفع والضر، وعلموا أن الحُجةَ قائمةٌ عليهم في أيِّ القولين أجابوه، فحادوا عن الجواب، وجاؤوا بجوابٍ لم يسألوا عنه، فقالوا: ﴿ بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وهذا ليس جوابًا لمسألة إبراهيم عليه السلام، فأقبل المأمون على بشر، فقال: يأبي عليك عبدالعزيز إلا أن تقرَّ أن للهِ علمًا، فأجبهُ ولا تحِد عن جوابهِ، وهذا ما تيسر ذكره اليوم، فنتوقف هنا، ونكمل في خطبة قادمة بإذن الله.

ويا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اللهم صلِّ على نبيك محمد...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21-06-2021, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (4)

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الواقِي من اتَّقاه، الهادي لمن استَهداه، المستجيب لمن دعاه، لا ناقضَ لما بناه، ولا باني لما أوهاه، ولا مانعَ لما أعطاه، ولا رادَّ لما قضاه، ولا مُضِلَّ لمنْ هَداه، ولا هاديَ لمن أغواه، بقدرته أنشأَ الكون وسواه، وبحكمته دبَّر الأمر وأجراه، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]، أحمَده سبحانه وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وعظيم ما أسداه، ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه، الله ربي لا إله سواهُ، الشمـس والقمر مـن أنـوار حكمتـه، والبـر والبحـر فـيـضٌ مــن عطـايـاهُ، الطـيـرُ سبـَّحـهُ، والـوحــشُ مـجــدهُ، والـمــوجُ كـبَّــرهُ، والـحــوتُ نـاجــاهُ، والنمـلُ تحـت الصخـور الصُّم قدَّسـهُ، والنحـلُ يهتـفُ حمـدًا فــي خـلايـاهُ، والنـاسُ يعصونـهُ جهـرًا فيسترهـم، والعـبـدُ ينـسـى وربــي لـيـس ينـسـاهُ، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومصطفاه، وخليلهُ وخيرتهُ ومجتباه، من قرَّبَه ربه وأدناه، وآواه وأعطاه، وأرضاه وزكاه، وأراه من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.

أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله ما استطعتم، واستدركوا بالتوبة ما أضعتم، وبادروا بالأعمال الصالحة ما فرَّطتم، من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لدينه يسَّر الله له أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين الله، أحسن الله فيما بينه وبين الناس، فاتقِ الله يا عبد الله حيثما كنت، وأحفظ الله يحفظك، وأتبِع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

وبعد أحبتي في الله، فهذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف رد الشيخ على الفهم الخاطئ في تعميم قوله تعالى: ﴿ كُلُّ شيء ﴾، وأنها ليست دائمًا على إطلاقها، فالريح التي قال الله عنها ﴿ تدمر كُلَّ شيء ﴾، لم تدمر الجبال والمساكن، ثم ذكرنا كيف حاد بشرٌ وراغ عن الجواب حين سأله الشيخ عبدالعزيز: أتقرُّ أن لله علمًا، كما أخبر سبحانه عن نفسه بقوله: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾ [النساء: 166]، فأجاب بشرٌ بأن الله لا يجهل، وتوقَّفنا حين قال الخليفة المأمون لبشر: يأبى عليك عبدالعزيز إلا أن تقرَّ أن للهِ علمًا، فأجبهُ ولا تَحِد عن جوابهِ، فقال بشر: قد أجبته أن معنى العلم أن الله لا يجهل، ولكنه يتعنت، قال الشيخ: صحيحٌ أن الله لا يجهل، ولكني يا أمير المؤمنين لم أسأله عن هذا، وإنما سألته عن الإقرار بعلم الله، فإما أن يثبت ويقرَّ أن لله علمًا كما أخبر سبحانه عن نفسه، أو أن يردَّ نص التنزيل، أو أن يحيد عن الجواب ويراوغ كما فعل بقوله: إن الله لا يجهل.

فقال بشرٌ: هذا هو الجواب، وليس عندي غيره، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن من الواجب على الخلق جميعًا أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه، وأن يقرُّوا له بذلك، وأن ينفوا ما نفى الله عن نفسه، وأن يسكتوا عما سكت الله عنه، قال الخليفة: فلو أقرَّ بشرٌ أن لله علمًا، فماذا سيكون عليه في ذلك يا عبدالعزيز؟

قال الشيخ: فإني سأسأله يا أمير المؤمنين عن علم الله، هل هو داخل في الأشياء المخلوقة حين احتج بقوله تعالى: ﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، وزعم أنه لم يبق شيءٌ إلا وقد شمله هذا الخبر العام، فإن قال: نعم، علمُ الله مخلوق، فقد نسب الجهل والنقص لله قبل خلق العلم، وشبه اللهَ بخلقه الذين أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، والله أعظم وأجلُّ من أن يُنسَب إليه شيءٌ من النقص أو الجهل، ومن قال ذلك فقد كفر وحلَّ دمُه، وإن قال لا، وأقرَّ أن علم الله ليس من الأشياء المخلوقة، فمثله كذلك كلام الله، فهو أيضًا ليس من الأشياء المخلوقة، وبذلك يكون قد ترك قوله وأبطَل مذهبه، وثبتت عليه الحجة يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبدالعزيز، وإنما فرَّ بشرٌ من أن يجيبك لهذا، فقال بشرٌ: قد زعمت أن لله علمًا، فأيُّ شيءٍ هو علمُ الله، فقال الشيخ: هذا مما تفرد الله بعلمه، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255].


فقال بشر: لا بد أن تقول أي شيءٍ هو عِلمُ اللهِ، أو يقفُ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه على حيدتك عن الجواب، فأكون أنا وأنت في الحيدة سواء، فقال الشيخ: إنما تأمرني بما نهاني الله عنه وحرَّم علي القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان، فتبسم الخليفة وقال: يا عبدالعزيز أأمرك بشرٌ بما نهاك الله عنه وأمرك به الشيطان؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، قال الخليفة: وكيف ذلك؟ قال الشيخ: من كتاب الله وكلامه بنص التنزيل، قال الخليفة: فهاته، قال الشيخ: قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]، فحرَّم الله على الخلق أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وقال عزَّ وجل عن الشيطان: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168، 169]، فكثُر تبسُّم المأمون حتى غطى فمه بيده.

فقال بشرٌ: فلو جاءك يا عبدالعزيز شخصان قد تنازعا في علم الله عز وجل، فحلف أحدهما بالطلاق أن علم الله هو الله، وحلف الآخر بالطلاق أن علم الله غيرُ الله، فماذا سيكون جوابك لهما، قال الشيخ: الجواب تركهما بغير جواب، قال بشرٌ: يلزمك إن كنت تدَّعي العلم أن تجيبهما، وإلا فأنت وهما في الجهل سواء، فقال الشيخ: هل يجب عليَّ يا بشر أن أُجيب كل من سألني عن مسألة، ولو لم أجد لها جوابًا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بشرٌ: نعم، يجبُ عليك أن تجيبهُ، فإنه لا بدَّ لكلِّ مسألة من جواب، قال الشيخ: بل هذا من أجهل الجهل، فلو جاءك يا أمير المؤمنين ثلاثة نفرٍ يتنازعون في الكوكب الذي أخبر الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام قد رآه بقوله: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إنه المشترى، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنه الزهرة، وقال الثالث حلفت بالطلاق إنه المريخ، فأفتنا في أيماننا وأجبنا في مسألتنا، أكان عليَّ أن أُجيبهم في مسألتهم، وأُفتِيهم في أيمانهم، وذلك مما لم يخبرنا الله عز وجل به ولا رسوله، ولا أجد لجوابه سبيلًا صحيحًا، هذه واحدة، ولو جاءك ثلاثةُ نفرٍ قد تنازعوا في المؤذن الذي يؤذن بين أهل الجنة والنار كما أخبر الله عز وجل في سورة الأعرف بقوله: ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44]، فقال أحدهم: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الملائكة، وقال الآخر: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الإنس، وقال الثالث: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الجن، فأجبنا عن مسألتنا، وأفتنا في أيماننا، وذلك مما لا أجده في كتاب الله عز وجل ولا في سنه نبيه صلى الله عليه وسلم، أكان علي يا أمير المؤمنين أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم، فقال المأمون: لا، ليس عليك إجابتهم ولا يلزمك إفتاؤهم، فقال بشرٌ: واحدة بواحدة يا أمير المؤمنين، سألني عبدالعزيز أن أقول أن لله علمًا فلم أجبه، وسألته ما هو عِلمُ الله فلم يُجبني، فقد استوينا في الحيدة عن الجواب، ونخرج من هذه المسألة متساويين سواءً بسواء، من غير حُجة تَثبُتُ لأحدنا على صاحبه.

قال عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن بشرًا حين أُفحم وانقطع عن الجواب، لجأ إلى مسألةِ مُحال، لا جواب لها، لكي يقول: سألني عبدالعزيز عن مسألة فلم أُجبه، وسألته عن مسألةٍ فلم يجبني عنها فقد تعادلنا، ونحن لسنا كذلك؛ لأنني سألته عن مسألةٍ جوابها في كتاب الله، شهد الله بها لنفسه وشهدت له بها الملائكة، وأمر الله الناس أن يؤمنوا بها، وآمن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرَّ بها، وبشرٌ يا أمير المؤمنين يأبى أن يؤمن ويقرَّ بها، وسألني بشرٌ عن مسألةٍ أخفى الله علمها عن الخلق جميعًا، فلم يكن لي أن أجيبه عن مسألته، وإنما يدخلُ النقص عليَّ يا أمير المؤمنين لو كان بشرٌ يعلم جواب ما سألني عنه، فأما إن كنت أنا وهو وسائر الخلق سواءً في الجهل بهذه المسألة، فمسألتينا ليستا بسواءٍ، فقال الخليفة: أنتما في مسألتيكما على غير السواء، وقد صح قولك في هذه المسألة يا عبدالعزيز، وظهرت حُجتك على بشرٍ فيها، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، قد انقطع بشرٌ وظهرت الحجةُ لي عليه، ومع ذلك فسأدع مسألةَ علم اللهِ، لأُبطلَ مذهبه بشيء آخر، فقال المأمون: هات ما عندك يا عبدالعزيز، قال الشيخ: أطال الله بقاءك من اكتال بمكيالٍ وُفِّي به، ألست يا بشرُ تزعمُ أن قوله تعالى: ﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ لفظهٌ عامة شاملة، لا يخرج عنها شيءٌ البتةَ؟ قال بشر: نعم، هكذا قلت وهكذا أقول، ولستُ أرجعُ عنه أبدًا، فقال الشيخ: فقد قال الله يا بشر: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، وقال أيضًا: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، أفتُقر يا بشر أنَّ لله نفسًا كما أخبرنا الله عزَّ وجلَّ بهذه الأخبار؟ قال بشرٌ: نعم، أقرُّ أن لله نفسًا، قال الشيخ عبدالعزيز: فقد قال الله عز وجل: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، أفتقول يا بشر أن نفسَ ربِّ العالمين داخلة في هذا؟ فصاح المأمون بأعلى صوته وكان جهير الصوت: معاذ الله، معاذ الله، قال الشيخ: فرفعت صوتي وقلت: ومعاذ الله، معاذ الله أن يكون كلامُ الله داخلًا في الأشياء المخلوقة، كما أن نفسهُ العلية ليست بداخلة في الأنفسِ الميتة، وأن كلامُه ليس من الأشياءِ المخلوقةِ، كما أن نفسهُ العلية ليست من الأنفس الميتة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد كسرتُ قولهُ بقوله، ودحضتُ حُجتهُ بحجته، وبطلَ ما كان يدعو إليه من بدعته، فقال المأمون: نعم يا عبدالعزيز قد وضَحت حُجتك، وبان قولك، وانكسرَ قولُ بشرٍ، لكن نحتاج أن تشرح ذلك بشكل أوسع، وتفصِّل هذه الأخبار التي في القرآن ومعانيها، وما أراد الله عز وجل بها ليسمع من بحضرتنا، فقد أتيت اليوم بأشياء كثيرة يحتاج من سمعها إلى معرفتها وفَهْمها، وهذا ما سنعرفه بإذن الله في الخطبة الثانية فبارك الله لي ولكم في القرآن...
♦ ♦ ♦


الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره، قال الشيخ عبدالعزيز: أجل يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل من حيث العموم والخصوص أنزل أخبار القرآن على أربعة أقسام، فالأول: خبرٌ لفظه عام ومعناه عام؛ كقوله عز وجل: ﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 91]، فيشمل هذا الخبر كلَّ الخلقِ والأمرِ، لا يُستثنى من ذلك شيءٌ، مما هو مخلوق وغير مخلوق، فهذا خبرُ لفظه عام ومعناه عام، والثاني: خبرٌ لفظه خاص ومعناهُ عام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴾ [النجم: 49]، فكان لفظُ الخبر خاص، ولكن معناه عام؛ إذ إن الجميع يَعقِلُ أن الله عز وجل كما أنه هو ربُّ الشعرى، فهو أيضًا ربُّ غيرها من النجوم والمخلوقات، والثالث: خبرٌ لفظه خاص ومعناه خاص؛ كقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فكان لفظُ الخبر خاص بآدم وعيسى عليهما السلام، وكذلك معناه فهو خاص بهما فقط، ثم قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات: 13]، والناسُ لفظٌ عام يشملُ آدم وعيسى، لكن المؤمنين عقلوا عن الله عز وجل أن هذا اللفظ العام لا يشملُ آدم وعيسى عليهما السلام؛ لأنه قد قدم في حقهما ذلك خبر خاص، فكان الخبر لفظه عام لهما ولغيرهما، ومعناه خاص بالناس دونهما، وهذا هو القسم الرابع: خبرٌ لفظه عام ومعناهُ خاص، ومثله قوله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، فالمؤمنون قد عقلوا عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر العام أنه لم يشمل إبليس وأتباعه، فلا تشملهم رحمة الله؛ لأن الله قد قدَّم فيهم خبرًا خاصًّا قبل ذلك؛ قال تعالى: ﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 85]، فإبليس وأتباعه قد خرجوا بهذا الخبر الخاص من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهذا خبرٌ لفظه عام ومعناه خاص، ومثله كذلك حين أخبرنا الله عز وجل عن نفسه العلية خبرًا خاصًّا أنه حيٌّ لا يموت بقوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]، ثم أنزل خبرًا لفظه عام ومعناه خاص، فقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، فعقل المؤمنون أن الله عز وجل لم يشمل نفسه مع هذه النفوس الميتة؛ لأنه قد قدم إليهم في الخبر الخاص أنه حي لا يموت، ومثله كذلك حين قدم الله إلينا في كتابه خبرًا خاصًّا عن كلامه، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، فدل على أن قوله ليس من الأشياء المخلوق، بل إنه تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله للشيء المخلوق: كن فيكون، ثم قال الله عز وجل: ﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، فعقَل المؤمنون عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر العام، إنه لم يشمل كلامه وقوله في الأشياء المخلوقة؛ لأنه قد قدم في ذلك خبرًا خاصًّا، وأن الأشياء المخلوقة إنما تخلق بقوله، فقوله إذًا ليس من الأشياء المخلوقة، فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبدالعزيز.

قال بشر: قد تركتك تخطب وتهذي، ومعي الآن آية من كتاب الله لا يتهيَّأ لك معارضتها ولا دفعها، كما فعلت في غيرها، وإنما أخَّرتها لتكون قاطعة لحجتك، ويكون بها سفك دمك، وهذا ما تيسَّر ذكره اليوم، نتوقَّف هنا، ونكمل بإذن الله في الخطبة القادمة.

ويا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يَبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اللهم صلِّ على نبيك محمد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-06-2021, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (5)

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ أتَمَّ النِّعمة َعلى الأمَّة وأكملَ لها دِينها: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾ [الفتح: 26]، وتَمَّمَ بمُحمدٍ مكارمَ الأخلاقِ كلها، نَحْمَدُهُ سبحانهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ الشكرَ كلهُ، عَلَى هِدَايَةٍ مَنَحَهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعْمٍ أَتَمَّهَا، وَشَرِيعَةٍ أَكْمَلَهَا، ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ﴾ [الأنعام: 160]، وأشـهـدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شَهادة تنجي قائلها ويَسْتظِلُّ بظلِّها، ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [محمد: 10]، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عبدُ الله ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، جاءَ إلى جُمُوع الطغيانِ ففلَّها، وإلى رموز الكفرِ فأذلَّها، وإلى عُقَد الشِّرْكِ فَحَلَّها، وإلى دَواعِي الخلافِ فَسَلَّها، وبشَّرَ أُمَّتهُ وأنذَرها ودَلَّها، فصَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه وعلى آله وأصحابهِ من حازُوا المكارمَ والمفاخرَ كُلَّها، والتابعين ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يَوم ِأن تَضَعَ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وسلَّمَ، أمَّا بعدُ:


فاتقوا اللهَ في كلِّ أحايينِكم تربحوا، وتوكلوا عليه في كلِّ أحوالِكم تفلِحوا، والجؤوا إليه في كلِّ شؤونِكم تنجحُوا، وعلى قدر نيةِ العبدِ ورغبتهِ، يكونُ توفيقُ اللهِ لهُ وإعانتهُ، ومن أبصرَ عيبَ نفسِهِ شُغِلَ عن عيوبِ غيرِهِ، الأمورُ ثلاثةٌ: أمرٌ بانَ لكَ رشدُهُ فاتبعهُ، وأمرٌ بانَ لك عيبُهُ فدعهُ، وأمرٌ اشتبهَ عليك الحقَ فيهِ فتوقَّف حتى تعلمَهُ، صِلُوا من قطعكم، وأَعطوا من حرَمكم، واعفوا عمَّن ظلَمكم، وأدوا الأمانة لمن ائتمنكم، ولا تخونوا من خانكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].

وبعد أحبَّتي في الله، فهذه هي الحلقة الخامسةُ من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقات السابقة كيف استطاع الشيخ عبدالعزيز أن يبطلَ استدلال بشرٍ بقول الله تعالى: "الله خالق كلِّ شيء" على أن القرآن مخلوق، وظهر كيف انقطع بشرٌ وأُفحِمَ من كل وجهٍ حاول فيه إثباتَ صحةَ استدلالهِ، وتوقَّفنا عند قولِ بشرٍ: قد تركتك يا عبدالعزيز تخطب وتهذي كما تشاء، ومعي الآن آية أخرى من كتاب الله لا يُمكِنُك مُعارضتُها ولا ردُّهَا، كما فعلتَ في الآية الأولى، وإنما أخَّرتُها لتكون قاطعةً لحجتك، ويكون بها سفك دمك؛ قال الشيخ عبدالعزيز: هاتها وأنا أُشهدُ أمير المؤمنينَ على نفسي أنيَ أولُ من يتابعك عليها، ويقول بها، ويرجعُ عن قوله، إن كان معك نص التنزيلِ، فإن كلَّ من خالف نص التنزيل فهو كافر.

قال بشرٌ: قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ [الزخرف: 3]، قال الشيخ: وأي شيء في هذا، وما الذي فيها يدل على أن القرآنَ مخلوقٌ، فقال بشرٌ: وهل هناك من يشك في أن معنى جعلناه؛ أي: خلقناه، فيكون معنى الآية: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾؛ أي: (إنَّا خلقناه قرآنًا عربيًّا)؛ قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أهذا نص التنزيل الذي زعم أنه سيأتي به، أم أن هذا تأويلهُ الخاص، فقال بشرٌ: ما هذا بتأويلي، إنما هو نص التنزيل، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن بشرًا يقول ما يخطرُ بباله تخرُّصًا من غير علمٍ، ولا يدري عواقبَ ما يقول، فإن رأى أمير المؤمنينَ أن يتحفظَ علينا ألفاظنا، ويَشهدَ علينا بما نقول، فقال المأمون: فأنا أفعل ذلك منذُ اليوم يا عبدالعزيز، قال الشيخ عبدالعزيز: فأخبرني يا بشر عن كلمةِ (جَعَلَ) أهي كلمةٌ محكمةٌ لا تحتملُ غيرَ معنى الخلْقِ عندك، قال بشرٌ: نعم، هي كلمةٌ محكمةٌ لا تحتمل غيرَ معنى الخلْقِ، وما مِنْ فرقٍ بين جعلَ وخلقَ عندي وعند سائر الناس، فسواء قالوا: خلَقَ، أو قالوا: جعَلَ، فكلاهما سِيان، قال الشيخُ عبدالعزيز: أخبرني عن نفسك ودعْ سائر الناس، فأنا من الناس، وأنا أُخالفك ولا أُوافقك، لكن أخبرني يا بشرُ بحسب زعمك أن جعلَ وخلقَ بمعنًى واحدٍ، ولا فرق بينهما أفي هذه الآية فقط، أم في سائر آيات القرآن الكريم، قال بشرٌ: بل في سائر آيات القرآن الكريم، وفي سائر كلام العرب، قال عبدالعزيز: لقد شهدَ عليك أميرُ المؤمنين أطالَ الله بقاءهُ بكلِّ ما قلت، فقال بشرٌ: فأنا أُعيدُ عليك هذا القولَ متى ما أردتَ ولا أرجعُ عنه أبدًا، قال الشيخ: فأنت تزعمُ يا بشر أن معنى قوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾؛ أي: (إنا خلقناه قرآنًا عربيًّا)، قال بشر: نعم هكذا قلت، وهكذا أقول أبدًا، قال الشيخ: فهل اللهُ عز وجلَّ تفردَ بخلق القرآنِ، أم شاركهُ في خلقه أحدٌ غيرُ اللهِ، قال بشر: بل الله خلقهُ وحده، وتفردَ بخلقه ولم يشاركهُ في خلقه أحدٌ غيرَ الله، قال الشيخ: فأخبرني عمن قال أن بعضَ بني آدم خلقوا القرآنَ من دون اللهِ، أمؤمنٌ هو عندك أم كافرٌ؟ قال بشر: بل هو كافرٌ حلالُ الدمِ قال الشيخ: وأنا أقول أيضًا أنه كافرٌ حلالُ الدم، فأخبرني يا بشر عمن قال أن اليهودَ هم من خلقوا التوراةَ من دون الله تعالى، أمؤمن هو أم كافر؟ قال بشر: بل هو كافر حلال الدم، قال الشيخ: وأنا أقولُ أيضًا أنه كافرٌ حلال الدم، قال بشر: أيُّ شيء هذه الخرافاتُ التي تسأل عنها، إنما تريد أن تُطيلَ الكلام لينقضي المجلسَ، فتنصرف سالِمًا دون أن يكون عندك جوابٌ لمسألتي، قال الشيخ عبدالعزيز: ليس يُنصفني يا أمير المؤمنين، فأمرهُ أن يجيبني عن كلِّ ما أسألهُ عنه، ثم أُجيبهُ عن مسألته وعن كلامه، فقال المأمون: أجبهُ يا بشر عما يسألك، فإني متحفظٌ على كلِّ ما يجري بينكما وشاهدٌ عليكما به، قال الشيخ: فأخبرني يا بشر عمن زعمَ أن بعضَ بني آدم خلقوا الملائكةَ من دون الله تعالى أمؤمنٌ هو عندك أم كافرٌ؟ قال بشر: بل هو كافرٌ حلالُ الدمِ، قال الشيخ: وأنا أقول هكذا أيضًا، فأخبرني يا بشرُ عمن قال أن بني آدم خلقوا الله تعالى أمؤمنٌ هو أم كافرٌ؟ قال بشر: بل هو كافرٌ حلالُ الدمِ، قال الشيخ: وأنا أيضًا أقولُ أنه كافرٌ حلالُ الدمِ، ثم أقبل الشيخ على الخليفة المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أقرَّ بشرٌ بلسانه أنه كافرٌ حلال الدم، أربعَ مرات، قال المأمون: وكيف ذلك يا عبدالعزيز، قال الشيخ: قال الله عز وجل: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]، معناها عند بشر وقد خلقتم الله عليكم كفيلًا، لا معنى لها عنده غير ذلك، ثم قال هو بنفسه: من قال هذا فهو كافرٌ حلال الدم، فها هو قد حكم على نفسه، وقال الله عزَّ وجلَّ في آية أخرى: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 224]؛ معناها عند بشر: أي ولا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم، لا معنى لها عنده غيرَ هذا، وأمير المؤمنين شاهدٌ عليه بما قال، وقد شهدَ على نفسهِ أن من قال هذا، فهو كافرٌ حلالُ الدم، وقال الله عزَّ وجلَّ في آية أخرى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ [الإسراء: 22]، معناها عند بشرٍ لا تخلق مع الله إلَهًا آخر ليس لها معنى عند بشر إلا هذا، ثم شهدَ على نفسه أن من قال هذا فهو كافرٌ حلال الدم، وقل مثل ذلك في الآيات التي تتحدث عن الملائكة والجنِّ والتوراة وغيرها، وهي كثيرة جدًّا في كتاب الله تعالى، وقد أقرَّ بشر أن من قال هذا فهو كافرٌ حلالُ الدم، فقال المأمون: ما أقبحَ هذا وما أشنعهُ، وما أعظمَ القولَ به! حسبُك يا عبدُالعزيز، فقد أقرَّ بشر على نفسه بالكفر وإحلالِ الدمِ، وأشهدَ على نفسه بذلك، وقد صدقتَ في كلِّ ما قُلتَ، ولكنَّ بشرًا قال ما قال، وهو لا يعقلُ ولا يعلمُ ما سيترتبُ عليهِ في ذلك، قال الشيخ عبدالعزيز: ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبدالعزيز، فصِّل لنا في كلمتي جَعَلِ وخَلَقِ، وما الفرق بينهما، واشرح ذلك؛ ليعرفه كُلُّ من حضرَ، قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك.


وهذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية بإذن الله، فبارَك الله لي ولكم في القرآن...
♦ ♦ ♦


الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره؛ قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، إن كلمةَ جَعَلَ تأتي بمعنيين، الأولُ بمعنى خلَقَ، والثاني بمعنى صيَّرَ، ولذا فإن الله عز وجل بحكمته لم يدع شيئًا من ذلك يلتَبِسُ على الناس، بل جعلَ لكلِّ معنًى منهما دليلًا يُميزهُ السامعُ بسهولة، ويعرفُ به الفرقَ بين جَعَلَ التي بمعنى خَلقَ، وجَعَلَ التي بمعنى صيَّرَ، فأمَّا جعلَ التي بمعنى خلقَ، فإن اللهَ عز وجل جعلَها من القول المفَصَّل, الذي يُمكنُ للقارئ أن يقفَ عليهِ دونَ أن يحتاجَ إلى وصلِهِ بما بعدهُ؛ إذ إن المعنى يصلحُ ويتمُ بذاته؛ كقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، فجعلَ هنا بمعنى خلَقَ؛ لأن القارئ يُمكنهُ أن يُدركَ نفس المعنى، ولو لم يُكمل الجملةَ ويصِلَها بما بعدها، كأن يقرأ فيقول: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ﴾، فإن المعنى بهذا التوقف لا يتغير، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72]، ومثل هذا في القرآن كثيرٌ جدًّا، وأما جعلَ التي بمعنى صيَّرَ، فهي التي لا يفهمُها السامعُ حتى يصِلَها بما بعدها؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾ [ص: 26]، فلو قال القارئ: يا داود إنا جعلناك، ولم يصلها بما بعدها، فلنْ يفهم السامعُ مرادَ الله من هذا النداء؛ لأنه معلومٌ أن داودَ عليه السلام مخلوقٌ قبل هذا النداء، فلما وصلَ كلمة جعلناك بقوله خليفةٍ في الأرض، عقلَ السامعُ مرادَ اللهِ وكذلك حين قال الله عز وجل لأم موسى: ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، فلو لم يصل كلمةَ جاعلوهُ بالمرسلين لم تعقل أمُّ موسى ما خاطبها الله به ولم تفهمهُ؛ إذ إن موسى عليه السلام مخلوقٌ قبل إرجاعه إليها، فلما وصلَ كلمة جاعلوه بالمرسلين، عقلت أم موسى مرادَ الله بخطابها، وكذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، ومعلوم أن الجبل مخلوقٌ قبلَ أن يتجلى له ربُّ العزةِ، فلو لم يصل كلمةَ جعلهُ بـ(دكًّا)، لَما عقل السامعُ مُراد الله من خطابه، وكذلك قولُ الله عز وجل: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ [البقرة: 128]، ومعلوم أن إبراهيمَ وإسماعيلَ مخلوقان قبل هذا الدعاء، فلو لم يصل الكلمة بمسلِمينِ لك، لما عقِل السامع ما أرادا بدعائهما، وكذلك قولُ إبراهيم عليه السلامُ: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126]، ومعلومٌ أن الله قد خلقَ مكةَ قبلَ هذا الدعاء، فلو لم يصله بـ(آمنًا)، لَمَا عقلَ السامع ما أراد إبراهيم بدعائه، ومثل هذا في القرآن كثيرٌ جدًّا يا أمير المؤمنين وهو مما تتعارفه العربُ، وتتعامل به في كلامها، وهو الذي جرت به سُنَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في كتابه، من القول الموصَلِ والمفصَّلِ، فلنرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين إلى ما اختلفنا فيه من قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ إلى سُنة الله في كتابه في الجَعَلين جميعًا، وإلى سُنَّةِ العربِ وما تتعارفه وتتعاملُ به في كلامها، فإن كان من القولِ الموصَلِ، فهو كما قُلتُ أنا؛ أي: إن جعلهُ قرآنًا عربيًّا؛ أي: صيَّرهُ قرآنًا عربيًّا، ومعناها أنزلهُ بلغه العرب، فقال بشر: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك يذمُنا ويكفرنا، ويقول: إنا نحرِّفُ القرآن عن مواضعه، وهو قد جاء بما هو أشنع وأفظعُ، ووصف القرآن بأسوء صفةٍ، حين سماه مُوصَلًَا ومفصَّلًا، ومعلومٌ أن الموصَلَ أقلَ شأنًا من التام الصحيحِ الكامل، والموصَلَ هو الملفقُ الذي قد وصِّلَ بعضهُ ببعضٍ، فإذا أراد أحدٌ أن يضعَ من قدر الشيء ويذُمهُ، قال: هو موصَلٌ وليس بصحيح، فقد نسبَ عبدالعزيز إلى كتابَ الله النقصَ، وقال فيه إثمًا مبينًا وبهتانًا عظيمًا، ولو قلت أنا مثل هذا الكلام، لكان قد خطب وتكلم واستغاث بأمير المؤمنين، ولأخرَجَنا من دائرة الإسلام، وأميرُ المؤمنين أطال الله بقاءه يحلُم عليه بفضله، وهو يتقوى علينا بذلك، هذا ما تيسَّر ذكرُه اليوم، نتوقف هنا، ونكمل بإذن الله في خطبة قادمة.

ويا بن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اللهم صلِّ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22-06-2021, 03:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (6)









الشيخ عبدالله محمد الطوالة




الحمدُ للهِ، الأولِ والآخر، والواحد الأحد، الفرد الصمد، فلا وزراءَ ولا أُمراءَ، ولا أبناءَ ولا شركاءَ، الظاهر القاهر، فليس فوقهُ شيءٌ، الباطن القادر، فليس دونهُ شيءٌ، سبحانه وبحمده: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، كلمَةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وفطرَ اللهُ عليها جميعَ المخلوقات، فلو تكلمتِ الأحجارُ، ونطقتِ الأشجارُ، وخطبتِ الأطيارُ، لقالت: لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الجبارُ، جلَّ جلالهُ: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5]، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ وسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، نبيٌّ شرحَ اللهُ لهُ صدرهُ، ورفعَ لهُ ذكرهُ، ووضعَ عنهُ وزرهُ، وأعلى في العالمين قدرهُ، وجعلَ الذِّلةَ والصَّغارَ على من خالفَ أمرهُ، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آله وأصحابهِ البررةِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.







أمَّا بعدُ:



فاتَّقوا اللهَ حقَّ تُقاتهِ، واسعوا في مرضاتهِ، وأيقنوا من الدنيا بالفناء، ومن الآخرةِ بالبقاء، واعملوا لما بعدَ الموتِ، فكأنكم بالدنيا كأن لم تكن، وكأنكم بالآخرة كأن لم تزل، فرحمَ اللهُ امرَأً نظرَ لنفسهِ، ومهَّدَ لرِمسهِ، وأخذَ لغدهِ من أمسهِ، قبلَ أن ينفدَ أجلُهُ، وينقطِعَ عملُهُ، ويخيبَ أملُهُ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].







وبعد أحبتي في الله، فهذه هي الحلقة السادسةٌ من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشرٍ المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنَّا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف أثبت الشيخ عبدالعزيز أن قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾؛ أي: إنا صيَّرناه قرآنًا عربيًّا، وليس إنا خلقناه قرآنا عربيًّا، كما زعم بشرٌ، وتوقَّفنا عند قول بشرٍ: يا أمير المؤمنين، إن عبدالعزيز قد وصف القرآن بأسوأ صفةٍ، حين سماهُ مُوصَلًَا ومفصَّلًا، ومعلومٌ أن الموصَلَ أقلَ شأنًا من التام الصحيحِ الكامل، والموصَلُ هو الملفقُ الذي قد وصِّلَ بعضهُ ببعضٍ إلى آخر ما قاله بشرٌ.







قال الشيخ عبدالعزيز: وهذا أيضًا من جهلك بكتاب الله عز وجل يا بشر، حيثُ تزعم إني وصفتُ كتابَ الله بأسوأ صفةٍ، وما قلت إلا ما قاله الله عزَّ وجلَّ عن كتابهُ، وما وصف به كلامه، بينما أنت من انتقص كلام الله وكتابهُ، حين زعمت أنه مخلوقٌ، وشبهته بكلام المخلوقين، تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمون علوًّا كبيرًا، فقال بشرٌ: وأين سماهُ اللهُ موصلًا ومفصلًا؛ قال الشيخ: في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 51]، فهكذا سمى اللهُ عزَّ وجلَّ كلامهُ موصولًا، بنص التنزيلِ لا بتأويلٍ ولا بتفسيرٍ، وفي المقابل ذمَ اللهُ عزَّ وجلَّ الذين قطعوا ما أمرَ اللهُ بصلتهِ ولعنهم، وجعلهم من الخاسرين، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25]، فهذا ذمُّ اللهِ ووعيدُه لمن قطعَ ما وصلهُ اللهُ، وأمرَ بصلتهِ، ثم مدح الله كتابه الكريم بأنه مفصل، فقال عز وجل: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، وقال تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 1 - 3]، فهذا قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ عن الوصل والفصل، وهذه تسميته لكتابه ولكلامه بلا تأويلٍ ولا تفسير، ثم قال الشيخ: يا أمير المؤمنين: إنما يقصْدُ بشرٌ أن يذمَّ كلامَ العربَ ولغتَهم وينتقصَهَم؛ لأنه ليسَ من العرب، وإلا فمعلومٌ أن العربَ تسمي كلام الله تعالى موصلًا ومفصلًا، وكذلك تسمي كلامها مفصًّلًا وموصلًا، وتراها أوصافًا حسنةً جميلةً، قال بشرٌ: وهل هو واجبٌ على الخلقِ أن يتعلموا لغة العرب، وهل تعبد الله أولادَ العجمِ بإتقان لغة العرب، إنما يُكلفُ الإنسانُ بحسب لغته وبقدر معرفته؛ قال الشيخ: وهل كلَّفك الله يا بشرُ أن تتكلم في كتاب الله بما لا تعلم، أوما ادَّعيت يا بشرٌ العلمَ، وتكلمت في القرآن العظيم برأيك، وادعيت أنه مخلوق، وتأوَّلت كتاب الله وكلامه على غير ما أراده الله، وليتك توقَّفت عند هذا، بل إنك قد دعوت الخلق إلى اتباعك، وكفَّرت من خالفك وأبحت دمه، قال بشرٌ: أخطب يا عبدالعزيز كما تشاء، فلن أدعك حتى تجيب سؤالي، قال الشيخ: أيَّ سؤالٍ تعني، قال بشرٌ: هل تَعَبدَ اللهُ الخلقَ بمعرفة هذا الموصلِ والمفصَّلِ، وهل يضرُ الخلقَ ألا يعرفوا ذلك وألا يتعلموه؟ قال الشيخُ عبدالعزيز: نعم، لقد تعبدَ اللهُ الخلقَ أن يعرفوا ذلك ويتعلموهُ؛ لئلا يصلوا ما فصَل الله، أو يفصِلوا ما وصلَ اللهُ عزَّ وجلَّ، قال بشر: فما دليلك؟ قال عبدالعزيز: فأخبرني يا بشرُ عمن زادَ أو نقصَ أو غيَّرَ في كتاب اللهَ، ما حُكمهُ عندك؟ قال بشرٌ: من فعلَ شيئًا من ذلك فقد كفرَ، قال الشيخ: وأنا أقول مثل ذلك، فحين يقولُ الله تبارك وتعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، فاللهُ تعالى قد أخبرَ أنه لا إله إلا هو، وشهِدَ بذلك لنفسه، وشهِدت له الملائكةُ بمثل ذلك، وكذلك شهِدَ له أولو العلمِ، فلو أن رجلًا قرأ هذه الآية هكذا: "شهِدَ اللهُ أنه لا إله"، وقطعَ الكلامَ ولم يصِلَهُ بما بعدهُ عمدًا، فإنه يكفرُ بذلك؛ لأنه قلبَ شهادةَ اللهِ والملائكةِ وأولو العلمِ، وجعلها دليلًا على بُطلَان الربوبية، أما إذا وصلَ الكلام بما بعده، كما وصله اللهُ عزَّ وجلَّ، فقال: "شهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولو العلم"، كان بذلكَ صادقًا، وكان قد قالَ ما يوافقُ مرادَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما شهِدَ اللهُ به لنفسهِ وشهِدت له به الملائكةُ وأولو العلم، ومثلُ ذلك في قولهِ تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53]، فلو قرأها رجلٌ: هكذا: "والله لا يستحيي"، وقطع الصِلةَ عامدًا، لكان بذلك كافرًا حلالَ الدمِ، إلا أن يصلَ ما وصلَه اللهُ تعالى ولا يقطعهُ، فيقول: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾، ومثلُ هذا في القرآن كثيرٌ جدِّا، وأمَّا العكسُ من ذلك وهو المفصَّلُ الذي لا يجوزُ وصلُهُ، فكقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ﴾ [النحل: 60]، فها هنا تَمَّ الكلامُ، ثم يبتدئُ القارئُ، فيقول: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60]، فلو قرأها رجلٌ متصلةٌ هكذا: ﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثلُ السَوءِ وللهِ ﴾، ثم قطعَ الكلامَ عامدًا، لكان بذلك كافرًا حلالَ الدمِ؛ لأنهُ زعمَ أن للهِ مثلُ السوءِ أيضًا، ومثلهُ قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾ [التوبة: 40]، فها هنا تَمَّ الكلامُ، ثم يبتدئ القارئ، فيقرأ: ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ [التوبة: 40]، فلو قرأها رجلٌ هكذا: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ ﴾، ثم قطع عامدًا، لكان بذلك كافرًا حلالَ الدمِ؛ لأنه زعم أن كلمة اللهِ أيضًا سُفلى، فقال المأمون: أحسنتَ أحسنتَ يا عبدالعزيز، يكفي هذا، ثم أقبل الخليفة على بشرٍ، فقال: يا بشرُ، هل عندك شيءٌ تَحتجُّ به، أو تسألُ عبدالعزيز عنه، فقد ظهرت حُجتهُ عليك، ووضحَ قولهُ عندنا، قال بشرٌ: يا أمير المؤمنين، إنه يُريدُ نصَّ التنزيلِ بكلِّ شيء يتكلمُ به، ولا يقبلُ التأويلَ ولا التفسيرَ؛ لأنه يحفظ القرآنَ كمن يشاهدُ المصحفَ، وهذا ما لا أُحسنهُ أنا، ولو كان الأمرُ كما يقولُ لبطُلَ التفسيرُ، ولتحيَّرَ الناس في كلام اللهِ عزَّ وجلَّ؛ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، يقول الله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، ويقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء ﴾ [النحل: 89]، فليس شيءٌ يحتاجُ الناسُ لمعرفته إلا وهو موجودٌ في القرآن، عقَلهُ مَن عقَلَهُ وجهِلَهُ من جَهِلَهُ، وهنا قامَ أحدُ كبارِ أصحابِ بشرٍ، يلقبُ بابن الجَهم، قام على ركبتيه وقال: يا عبدالعزيز، تزعمُ أن كلَّ شيءٍ يحتاجُ الناسُ لمعرفته موجودٌ في كتاب اللهِ بنص التنزيل بلا تأويلٍ ولا تفسير، قال الشيخ: نعم، قال ابن الجهمِ: فأوجد لنا بنص التنزيل أن هذا الحصيرَ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ، وضربَ بيده على الحصيرٍ الذي كان يجلسُ عليه، قال الشيخ: نعم، عليَّ أن أوجدَ لك ذلك بإذن الله، وهذا ما سنعرفهُ في الخطبة الثانية إن شاء الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.



♦♦♦♦♦







الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:



فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره، قال الشيخ عبدالعزيز: أخبرني يا ابن الجهم عن هذا الحصير، أليس هو من سعَف النخلِ وجلودِ الأنعامِ؟ قال ابن الجهم: نعم، قال الشيخ: فهل فيه شيءٌ غيرُ هذا؟ قال ابن الجهم: لا، قال الشيخ: بلى، فبمَ صارَ حصيرًا يُجلس عليه، أليس بالإنسانِ الذي صنعه؛ قال ابن الجهم: بلى، قال الشيخ: قال الله عزَّ وجلَّ عن خلق الأنعام: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ﴾ [النحل: 5]، وقال تعالى عن خلق السعفِ: ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُونَ ﴾ [الواقعة: 72]، وقال عن خلق الإنسان: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12]، فقد كملُ خلقُ الحصيرِ بنص القرآن، بلا تأويلٍ ولا تفسيرٍ، فهل عندك في خلق القرآن مثلَ هذا؛ لتحتج به وتدعو الناس لبدعتك، وإلا فقد بطلَ زعمُكم أن القرآن مخلوق، وثبت لكم أن كلام الله تعالى منزلٌ غير مخلوق، فصاح المأمون: يا بن الجهم، مالك وللكلام، خلِّ بين الرجل وصاحبهِ، قال الشيخ عبدالعزيز وكان خلف ظهري رجلٌ كلما أردتُ أن أتكلم قرَّبَ رأسهُ من أذني، فيضل يهذي خلفي ليشوش عليَّ، ويقطعني عن حُجتي، فشكوته لأميرِ المؤمنين، فصاح به وباعدهُ عني، فلما قلت لبشرٍ: ما من شيءٍ يحتاجُ الناسُ لمعرفته وعِلمِه إلا وقد ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه، عقَله مَن عقَله، وجهِله مَن جهِله، فإذا به يضربُ يدهُ على فَخِذه، ويقول: يا سبحان الله، ما أعظمَ هذه الفرية؟







قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن هذا ينكرُ أن يكونَ اللهُ عزَّ وجلَّ يعلمُ ما يكونُ قبل أن يكون، فقال المأمون: وما تقول أنت في هذا، قال الشيخ: إن أذنت لي - أطال الله بقاءك - رددتُ عليه بآيةٍ واحدةٍ فقط، فقال المأمون: قل ما تريد، قال الشيخ عبدالعزيز: فقلت له: أتنكر أن الله يعلمُ ما يكونُ قبل أن يكونَ، قال: نعم، أنا أنكر هذا، فقلت: فوالله يا أمير المؤمنين لقد علم الله ما لم يكن أن لو كان كيف كان سيكون، فصاح الرجل: ما أجرأك على الكذب، الحمدُ لله الذي أخذك بلسانك، فقال المأمون: أعد هذا الكلام يا عبدالعزيز، قال الشيخ: نعم والله لقد علِم الله ما لم يحدث أن لو كان حدث كيف كان سيحدث، فقال المأمون: ومن أين هذا يا عبدالعزيز، قال الشيخ: من كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال المأمون: فهاته، قال الشيخ: قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27، 28]، فطلبُ الكفارِ للرجوع للدنيا، مما لا يمكنُ أن يحدثَ، لا لهم ولا لغيرهم، فأخبر اللهُ عزَّ وجلَّ بعلمه السابقِ فيهم أنهم لو رُدوا للدنيا، فلن يؤمنوا ولن يصدقوا، وهذا مما لا يمكن أن يحدُث لو أنه حدث، فكيف كان سيحدثُ ويكون، فقال المأمون: أحسنت يا عبدالعزيز، وما قلتَ في يومك هذا أحسنَ ولا أدقَّ من هذا؟ قال الشيخ: فقد أكذبت بحمد الله أهل هذه المقالة، وكسرت قولهم، ودحضت حُجتهم، وأبطلت مذهبهم بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير، الله أكبر، جاء الحقُّ وزهق، ثم أقبل الخليفة على بشرٍ، فقال: يا بشر، هل عندك شيءٌ تناظرُ به عبدالعزيز قبل أن نقوم، فقد فات وقت الصلاةِ، قال بشرٌ: يا أميرَ المؤمنين، عندي أشياءُ كثيرةٌ، إلا أنه يقولُ بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والمنطق والقياس، فليدع مطالبتي بنص التنزيل، وليناظرني بالنظر والقياس والمنطق، فإن لم يدع قوله ويرجِع عنه، ويقول بقولي، ويقرَّ بخلق القرآن الساعة، فدمي له حلال، قال الشيخ عبدالعزيز: فأنا أقبلُ يا أمير المؤمنين ما يقول، وسأدعُ مطالبتَهُ بنص التنزيلِ، وأناظرهُ كما طلب بالقياس والمنطق.







هذا ما تيسَّر ذكره اليوم، نتوقف هنا ونُكمل بإذن الله في الخطبة القادمة، ولعلها تكون الحلقة الأخيرة إن شاء الله تعالى.







ويا بن آدم، عِش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت. اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22-06-2021, 03:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (7)















الشيخ عبدالله محمد الطوالة




الْحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ الْقَهَّارِ العَزِيزِ الْجَبَّارِ، مَنْ خَضَعَ لَهُ أَعَزَّهُ، وَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ أَنْجَاهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَرْضَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُقِيلُ العَثَراتِ، وَيُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيُكَفِّرُ الخَطِيئاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَهُوَ الغَنِيُّ الكَرِيمُ.







وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيهِ نِعْمَتَهُ، شرح صدره، وَرَفَع ذِكْرَهُ، ووضع عنه وزره، وأعَلَى في العالمين قدره، أَزْكَى النَّاسِ نَفْسًا، وَأَكْرَمُهُمْ طَبْعًا، وَأَوْسَعُهُمْ حِلْمًا، وَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وسلم تسليمًا، أما بعد:



فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واطلبوا الكرامة في التقوى، والأُنس في كتاب الله، والغِنى في القناعة، والنجاة في الصدق، والراحة في ترك الحسد، والسلامة في حفظ اللسان، وثِقَل الميزان في حسن الخلق، ونِعم الصاحبُ العمل الصالح: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].







وبعد أحبتي في الله، فهذه هي الحلقةُ السابعة والأخيرة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشرٍ المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف بيَّن الشيخ المفصل والموصل في كتاب الله، وكيف انقطع بشرٌ من كلِّ وجهٍ، فلجأ إلى الهروب من نص التنزيل إلى المنطق والنظر والقياس، قائلًا: يا أمير المؤمنين، ليدع مطالبتي بنص التنزيل، وليناظرني بالنظر والقياس والمنطق، فإن لم يدع قوله ويقرُّ بخلق القرآن، فدمي له حلال، قال الشيخ عبدالعزيز: فأنا أقبلُ يا أمير المؤمنين أن أناظرهُ كما طلب بالقياس والمنطق، أتسألني يا بشرٌ أم أسألُك؟ قال بشرٌ: بل سلْ أنت، وطمع فيَّ هو وبقية أصحابه، وظنوا أنَّي إذا تركتُ نص التنزيل، فلن أُحسنَ أن أتكلم بشيء.







قال الشيخ عبدالعزيز: أتقول يا بشرُ أن القرآن مخلوقٌ؟ قال بشرٌ: نعم هكذا أقول، قال الشيخ: فإن كان القرآن حقًّا مخلوق، فيلزمُك واحدةٌ من ثلاث حالات: إمَّا أن تقولَ أن الله عزَّ وجلَّ خلقَ القرآنَ في نفسه العليةِ، أو أن اللهَ خلقهُ في غيره من المخلوقاتِ، أو أن اللهَ خلقهُ كيانًا مستقلًّا قائمًا بذاته، فقل ما عندك، قال بشرٌ: أقولُ أنه مخلوقٌ، وأنه خلقهُ كما خلقَ الأشياء كلها.







قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، تركنا القرآن الكريم والسُّنن والأخبارَ كما طلب هو، وناظرناه بما يحسنُ من القياس والمنطق، وما ادَّعى أنه يقيمُ الحجةَ عليَّ به، وأني سأُقرُّ معهُ بخلق القرآن، وإلا فدمهُ حلالٌ لي، فها هو قد رجعَ إلى الحيدةِ، وهربَ من الجوابِ، وانقطعت حُجتُهُ، فإن كان يَملِكُ جوابًا فليردَّ عليَّ، وإلا فأميرُ المؤمنين أعلا عينًا بما يراهُ.







قال المأمون: يا بشرُ، أجِب عبدالعزيز عمَّا سألك، فقد ترك قوله ومذهبهُ، وناظركَ على مذهَبِك وما ادَّعيت أنَّك تُحسِنُه.








قال بشرُ: قد أجبتهُ ولكنَّهُ يتَعنتُ، قال المأمون: يا بشرُ، يأبىَ عليكَ عبدالعزيزِ إلَّا أن تقولَ واحدةً من هذه الثلاث.







قال بشرٌ: هذه أشدُّ من المطالبةِ بنص التنزيلِ، ما عندي غيرُ ما قلت، قال المأمون: يا عبدالعزيز دعْ بشرًا فقد انقطَع عن الجواب من كلِّ وجهٍ، وبيِّن لنا هذه المسألةَ واشرحَها.







قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، سألتهُ عن كلام اللهِ عزَّ وجلَّ أمخلوقٌ هو قال: نعم، فقلت له: فإن كان مخلوقًا فيلزمُك واحدةٌ من ثلاث: إما أن يكون اللهُ قد خلقَ كلامهُ في نفسهِ، أو أنه خلقهُ في غيره من المخلوقين، أو أنه خلقَ كلامهُ كيانًا مستقلِّا قائمًا بذاته، فإن قال: إن اللهَ خلقَ كلامهُ في نفسه العليةٍ، فهذا محالٌ لا يقبله قياسٌ ولا نظرٌ معقول، لأن اللهَ عزَّ وجلَّ يستحيلُ أن يكونَ مكانًا للحوادث، ولا يمكنُ للخالق أن يكونَ فيهِ جزءٌ مخلوقٌ، ولا يمكنُ للكامل أن يكونَ ناقصًا، فيحتاجَ لمخلوقٍ يُكمِّلُه، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإن قال: خلقهُ في غيره من المخلوقينَ، فيلزمهُ في النظرِ والقياسِ أن يستوي كلامُ الخالقِ والمخلوق، وبالتالي سيُنسبُ كلامُ اللهِ للمخلوقينَ، وكذلك العكسَ وهو أن ينسبَ كلامُ المخلوقين لله، بما في ذلك الكلام السيئُ؛ لأنه لا سبيل للتفريق بينهما، وهذا أيضًا محالٌ، لظهور شَناعته، ولتشبيه الخالق بالمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإما أن يقول: خلقَ الله كلامهُ كيانًا مُستقلًّا قائمًا بنفسه، وهذا محالٌ ظاهرُ البطلان؛ لأنه لم يُرَ قطُّ ولا يمكن أن يُرى كلامٌ قائمٌ بنفسهِ بدون متكلِّم، وإثباتُ هذا مستحيلٌ، ولا سبيلَ إليه لا في القياس ولا في النظر ولا في المعقول، فلما استحالت كلُّ هذه الاحتمالات الثلاث، ثبَت أن كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ صِفةٌ من صِفاتهِ تباركَ وتعالى، وصفاتُ الله عزَّ وجلَّ من ذاته العليَّة، فهي كُلُّها غُيرُ مخلوقةٍ، فبطلَ قولُ بشرٍ يا أمير المؤمنين من جهة النظرِ والمنطق، كما بَطَلَ من جهة نص التنزيل.







فقال المأمون: أحسَنتَ يا عبدالعزيز أحسَنتَ، قال بشرٌ: تسألُ عن غيرِ هذهِ المسألةِ، فلعلهُ يخرجُ بيننا شيءُ نتفقُ عليه.







قال الشيخ: نعم سأدعُ هذه المسألةَ أيضًا، وأسألُك عن غيرها، فقال بشرٌ: سل يا عبدالعزيز، وطَمِعَ أن يظفر بي مرةً أخرى، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، لو كان بشرٌ مسافرًا، وكان له ولدان، يقال لأحدهما: خالد، ويقال للآخر: يزيد، لكني لا أعرفُ حقًّا إن كانا ولداهُ أم لا، فكتب إليَّ بشرٌ ثماني عشرة رسالةً مختلفة، يقول في كلِّ رسالةٍ منها، بلغ ولدي خالدًا السلام، وكتبَ إلي بشرٌ أيضًا أربعًا وخمسين رسالةً أخرى، يقول في كلِّ رسالةٍ منها: بلِّغ يزيدًا السلام، ولم يقُل في أيِّ رسالةٍ منها ولدي يزيد، ثم أرسلَ إليَّ بشرٌ رسالة أخرى بخلاف رسائله السابقة، جمع فيها بين خالد ويزيد، فقال في هذه الرسالة: بلِّغ ولدي خالدًا السلام، وكذلك بلِّغ يزيدًا السلام، وأيضًا لم يقل عن يزيد أنه ولده، ثم جاءَ بشرٌ من السفر، فقال لي: ألا تعلمُ أن يزيدًا هذا هو ولدي أيضًا؟ فقلت له: ومن أين لي أن أعلمَ يا بشرٌ، لقد أرسلت إليَّ أربعًا وخمسين رسالةً تقول في كلٍّ منها: بلغ يزيدًا السلام، ولم تذكر في أيِّ رسالة منها أن يزيدًا هو ولدك، بينما أرسلت إليَّ ثمانية عشرة رسالةً أخرى، تقول في كلٍّ منها: بلِّغ ولدي خالدًا السلام، فعلِمتُ أن خالدًا ولدك بلا أدني ريبٍ، وأرسلت لي رسالةً واحدةً جمعتَ فيها بين خالد ويزيد، فقلت فيها: بلِّغ ولدي خالدًا السلام، وكذلك بلِّغ يزيدًا السلام، وأيضًا لم تقُل عنه ولدي، فمن أين لي أن أعلمَ يا بشرُ أن يزيدًا هو ولدُك أيضًا، علمًا أنه لم يسبق لك أن قلت لي قبلَ هذا أنه ولدك، ولا سبيل لي أن أعرف ذلك إلا منك فقط، وأنت لم تخبرني بذلك في جميع رسائلك، فحلف بشرٌ يا أمير المؤمنين أني قد فرَّطت وقصَّرت بحقه إذ لم أَعرِف ولده من رسائله، وحلَفتُ أنا أنه هو الذي فرَّط وقصَّر، فأينا المفرطُ والمقصرُ يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: بشرٌ هو المفرِّط، فقال بشرٌ: وأي ُّشيءٍ هذا مما نحن فيه، قال الشيخ عبدالعزيز: تفسير ذلك أن الله عزَّ وجلَّ أخبرَ في كتابه العظيم عن خلقِ الإنسانِ في ثمانية عشر موضعًا مختلفًا من كتابه الكريم، فما ذكره في موضعٍ منها إلا أخبرَ عن خلقه، وذكر القرآن الكريم في أربعةِ وخمسين موضعًا مختلفًا من كتابه الحكيم، فلم يُخبر في أيِّ موضعٍ منها أنه خلقَ القرآن، أو أن القرآن مخلوقٌ، ولا أشارَ إلي ذلك بأيِّ شيءٍ من صفاتِ الخلقِ البتةَ، ثم جمعَ اللهُ بين القرآن والإنسانِ في موضعٍ واحدٍ من كتابه، فأخبرَ أنه خلقَ الإنسانَ، ولم يُخبر أنه خلقَ القرآنَ، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 3]، ففرَّق بين القرآن وبين الإنسان من جهة الخلق، فزعم بشر يا أمير المؤمنين أن الله عزَّ وجلَّ فرَّطَ في الكتاب، وكان يجبُ عليه أن يخبرَ عن خلق القرآن، وقال اللهُ عزَّ وجلَّ عن القرآن: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فهذا كسرُ قوله في القياس، والحمد لله رب العالمين، قال المأمون: أحسنتَ يا عبدالعزيز، قد بان أن الحق معك في كلِّ ما قلت، قال الشيخ عبدالعزيز: ثم إن الخليفة أمر لي بعشرة آلاف درهم، وانصرفت من مجلسه على أحسن حال وأجملها، قد أعز الله دين الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.







أيها الأحبة، انتهت هذه المناظر الكبرى، ولكن الصراع بين الحق والباطل لم ينتهِ، فلقد ظلت هذه الفتنة العمياء تَخبِطُ في طول الأمة وعرضها خبطَ عشواء أكثر من عشرين عامًا، فالخليفة المأمون لم يرجع عن هذه المقالة رغم أن الحق قد ظهر له في المناظرة، ورغم إنصافه الشديد للشيخ عبدالعزيز، واستمرت هذه الفتنة العصيبة للخليفة التالي وهو الخليفة المعتصم، والذي سجن وعذب الإمام أحمد بن حنبل وغيره من العلماء، رحِم الله الجميع، وقد ظل الأمر كذلك على شِدته إلى الخليفة التالي وهو الخليفة الواثق، وقد جاء في سير أعلام النبلاء قصةَ مناظرةٍ لطيفة قصيرة، حدثت في مجلس الخليفة الواثق، وكانت بتوفيق الله هي السبب في نهاية فتنة القول بخلق القرآن، نتعرف على هذه المناظرة في الخطبة الثانية إن شاء الله، فبارك الله لي ولكم في القرآن...



♦ ♦ ♦







الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:



فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره؛ تقول القصة أنه جيء بشيخٍ كبيرٍ من أهل السنة والجماعة اسمه عبدالله بن محمد الآذرمي، فأدخل على الخليفة الواثق مقيدًا بالسلاسل، وكان أحمد بن أبي دؤاد في المجلس، وهو زعيم القائلين بخلق القرآن في ذلك الوقت، فسلَّم الشيخ على الخليفة ودعا فأوجز وأحسن، فقال له الواثق: اجلس لتناظر ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ الآذرمي: يا أمير المؤمنين، إنه أقلُ وأضعفُ من أن يناظرني، فغضب الواثق وقال: أبو عبدالله يضعفُ عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، وأذَنْ لي أن أُرِيك الآن، ثم التفت الشيخ إلى ابن أبي دؤاد وقال له: يا أحمدُ ما تقول في القرآن؟ قال أحمد: أقول أنه مخلوقٌ، قال الشيخ الآذرمي: فأخبرني يا أحمدُ عن مقالتك هذه، أهي مقالةٌ واجبةٌ على المسلمِ، فلا يكون دينهُ تامًّا حتى يقولَ بها؟، قال أحمدُ: نعم، فقال الشيخ: فأخبرني يا أحمد، هل أخفى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أمرهُ اللهُ بتبليغه؟، فقال أحمد: لا، فقال الشيخ: فهل دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأمَّةَ إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: تكلَّم يا أحمد، فلم يجب بشيءٍ، فالتفت الشيخ إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين واحدة، فقال الواثقُ: واحدة، قال الشيخ الآذرمي: فأخبرني يا أحمد حين قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فهل صدق الله تعالى في إكمالِ دينهِ وإتمامه، أم أن الدين ناقصٌ حتى تُتِمَّهُ أنت بمقالتك هذه، فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجب بشيءٍ، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان، فقال الواثق: نعم اثنتان، قال الشيخ: فأخبرني يا أحمدُ هل علمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ وخلفاؤه الراشدون بمقالتك هذه أم لم يعلموا بها؟ قال أحمد: لا، لم يعلموها، قال الشيخ: يا سبحان الله، شيءٌ لم يعلمه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدونَ علمتهُ أنت! فخجل ابن أبي دؤاد وقال: بل علموها، قال الشيخ: فهل حين علموها، عمِلوا بها أم لم يعملوا بها؟ فسكت أحمد، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث، قال الواثق: نعم ثلاث، فقال الشيخ: فأخبرني يا أحمد حين علم الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤهُ الراشدون هذه المقالة، هل اتَّسع لهم أن يسكتوا عنها، ولم يطالبوا الأمَّة بها؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم، فأقبل الشيخ على الخليفة الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، أفلا يَسَعُنَا ما وسِعَ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فلا وسَعَ اللهُ على مَن لم يتَّسع لهُ ما اتسَعَ لهم، فأخذ الواثقُ يحدث نفسه قائلًا: شيءٌ لم يعلمهُ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، علمته أنت يا سبحان الله! شيءٌ علِموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسِعهم، ثم صالح بالجنود فكوا قيودَ الشيخ، ومنذ ذلك الحين انتهت بفضل الله تلك البدعة المنكرة التي راجت طويلًا: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، ولعله أن يكون لنا بعون الله وفضله وتوفيقه وقفةٌ نأخذ فيها العبر والدروس والفوائد من هذه المناظرة الكبرى.







يا بن آدمَ، عِش ما شئت فإنك ميِّت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يَبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-06-2021, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى

مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (8)

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمدُ للهِ خالقُ كلِّ شيء وهاديهِ، ورازقُ كلِّ حي وكافيهِ، وجامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، كلُّ فوزٍ فلديه، كلُّ خيرٍ بيديه، نشكُرُ اللهَ عليه، فهو منهُ وإليه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، حامِلُ لواءِ الحقِّ ومُعلِيه، ومُعلِّمِ الهُدى وداعِيه، ومؤسسِ مجدِ الأُمَّةِ وبانيه، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أمَّا بعدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فاتقوا اللهَ ربكم، واعتبروا بما فات من أوقاتكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واتَّعظوا بمن مضوا من أسلافكم؛ فإنكم على دربهم سائرون، وإلى مآلهم صائرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، وبعد عباد الله، فموعدنا اليوم بإذن الله مع دروس وعبر من مناظرة الحيدة التي سبق أن طرحناها على مسامعكم في سبع حلقات متتالية، وبداية نقول: إن أمتنا المكلومة تمر بفترة عصيبة تلاطمت فيها الآراء والأفكار، وتغيَّرت فيها كثير من الثوابت والمفاهيم، زمنُ شبهاتٍ وشهوات، أرجفَ بها الأعداء وأذنابهم بخيْلهم ورَجْلهم، ليسقطوا كثيرًا من ضعفاء الإيمان صرعى لفتنِهم، فتنٌ من العيار الثقيل، طوفان من الفتن كقطع الليل المظلم، حتى أمسى الجميع وهو بأمسِّ الحاجة إلى ما يشدُّ أزرهُ، ويثبت الإيمان في قلبه، ليصمد أمام ذلك الطوفان، ولا مخرج ولا ثبات ولا صمود، إلا بأن يتجه المرء بكليته إلى كتاب ربه، يتعلم ويتدبر ويعمل، وليس هذا بالأمر الاختياري، بل هو ضرورة حتمية على كل مسلم ومسلمة؛ قال تعالى: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل: 91، 92]، ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45] ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، وفي المقابل فقد أنذر الله وحذر من الإعراض عنه وتركه، فقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124- 126].

إنه كتاب الله وكفى، فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع به العلماء، ولا يَخلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم،كتابٌ كاملٌ شامل، قد حوى كل ما تحتاجه الأمة؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38].

أمرنا الله بتدبره وفَهْمه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وأمرنا أن نتبعه: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]، فإذا اتبعناه عن فهْم وتدبُّر، فسنجد فيه الهداية والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].

فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بكتاب ربكم، وتدبروا آياته، تصيبوا من بركاته، وتنتفعوا بعظاته، وتفوزوا بهداياته، اتلوه حق تلاوته، واعملوا به تكونوا من أهله، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وخيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه، ومن الدروس المهمة التي نستقيها من مناظرة الحيدة، أن الصراع بين الحق والباطل كان وما زال وسيستمر إلى قيام الساعة: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123]، الحق يُمثله الصالحون المصلحون، وهم الأنبياء وأتباعهم من العلماء الربانيين، والدعاة المصلحين؛ جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ"، والمفسدون هم أعداء الرسل والرسالات بأي لبوس تلبسوا، وبأي شكل ظهروا، ولأن الناس قد اختلفوا كثيرًا في تحديد الصلاح من الفساد، ومن هو المصلح من المفسد، فالإصلاح يدِّعِيه كلُّ أحدٍ، والفساد والإفساد يتبرأُ منه كلُّ الناس، وكلُّ المفسدون في الأرض لا يرون أنفسهم إلا أنهم مصلحون، بل إن الملاحدة يرون أن الدين هو المفسِد للناس، وقديمًا قال كبير المفسدين فرعون: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]، فإذا كان الاختلاف في تحديد الصلاح من الفساد، والمصلح من المفسد، قد بلغ إلى هذا الحد، فإن الميزان الحق في ذلك هو شريعة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [البقرة: 220]، وفي آية أخرى: ﴿ ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 63]، فكلُّ مؤمنٍ بالله تعالى، مصدقٍ بموعوده، متمسكًا بهدي كتابه وسنةِ نبيه، داعي إلى دينه، محاربٍ لكلِّ ما يعارضه، فهو صالحٌ مصلح وإن رُمي بغير ذلك، وكلُّ معارضٍ لشريعة الله تعالى، مخالفٍ لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو فاسدٌ مفسد، ولو زعم خلاف ذلك.


ومن الدروس المهمة أن الله تعالى حين أراد هداية الأمَّة ونجاتها، بعث إليها نبيًّا واحدًا، وأنزل عليه كتابًا واحدًا، وجعل لها دينًا واحدًا، وقبلةً واحدة، وأمرها بالاعتصام وعدم التفرق: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، ومِن ثَمَّ أصبحت أمَّةً متماسكةً موحدة: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، شريعتها واحدة، ونبيها واحد، ودينها واحد، وربها واحد، فلا مسوغ للتفرق في الدين، ومن استقرأ القرآن الكريم وجد أن آياته تكرِّسُ في وِجدان المسلم الانتماء إلى الأمة الواحدة، والاجتماع على الدين الواحد، وتحذرُ من الفرقة والاختلاف: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وحبل الله هو دينه وكتابهُ، وفي آية أخرى يُذكِّر الله الأمَّة بوصية ربانية عظيمة؛ ما أسعد الأمَّة لو وعتها وعملت بها: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، ولعِظم هذه الوصية الربانية تكررت في القرآن كثيرًا: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، تأملوا يا عباد الله نوحًا وإبراهيمَ وموسى وعيسى، ثم محمدًا صلوات الله عليهم جميعًا، هؤلاء هم أولى العزم من الرسل، أوصاهم الله جمعًا: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، وفي المقابل يُنكر الله عزَّ وجلَّ على أهل الكتاب اختلافهم في كتبهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85]، ونهانا الله تعالى أن نكون مثلهم، فنتفرق كما تفرَّقوا: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]

ومن الدروس المهمة من تلك المناظرة الكبرى، عزة الحق واستعلائه على الباطل، فللحق عزة حقيقة متى استقرت في قلوب أصحابه قوَّتْهم، ورفعت من شأنهم، فاستعلوا بها على أسباب الذلة والانحناء للباطل، عزة الحق منزِلة شريفة تنشأ عن معرفة المرء بقدر نفسه وما معه من الحق، فلا يخنع للباطل ولا يرضى به، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].

ومن الدروس المهمة أن اللهُ تَعَالَى جَعَلَ بَقَاءَ دِينِهِ وَانْتِشَارَ ملته، وَقِيَامَ شَرِيعَتِهِ بِاحْتِسَابِ الناسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وتقديمالنصح والتوجيه على الوجه الشرعي، وَالدْعُوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وَالصبر عَلَى ما قد يلحق الداعي من الأَذَى، فعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم؛ متفق عليه، وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".


ومن الدروس المهمة أن الكلام الساقط والمنطِق الفاسِد، عنوانُ الحرمان ودليل الخِذلان، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ [إبراهيم: 24 - 26]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلُّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب"؛ متفق عليه، وشرُّ الناس المائِلٌ عن الحق بمقاله المميلٌ بلحن لسانِه، وشرُّ الكلام ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، وإنَّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: "ثكِلتكَ أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!"؛ أخرجه الترمذي، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ، فليقل خيرًا أو ليصمُت"؛ متفق عليه، بارك الله لي ولكم في القرآن...

الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره، ومن أهم الدروس التي نستلهمها من مناظرة الحيدة أن الجولة الأخيرة للحق وأهله، وأن العاقبة للمتقين، وأن الهزيمة والخذلان للباطل وأعوانه من المفسدين، نعم قد ينتفش الباطل كثيرًا، وقد يطفو على السطح وقد يتمدَّد لبعض الوقت، حتى يظن الغالبية أنْ لا مكان للحق، وأن الباطل متمكن لا مَحالة، فـ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾ [آل عمران: 196]، لا يغرَّنَّك ما هم فيه من العتاد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي، لا يغرنَّك ما يملكونه من قوة وعُدَّة واستعداد، فكل ذلك مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وحين يأتي الحق سيزلزل كيان الباطل من أساسه، وتجتثه من أركانَه؛ يقول تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]، فالحق ساحق، والباطل زاهق، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والحق أبلج، والباطل لجلج: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118]، ونلاحظ التلازم بين الأمرين، جاء الحق وزهق الباطل، فلا يزهق الباطل إلا بمجيء الحق، ولا يزول الشرك إلا بمجيء التوحيد، ولا تذهب البدعة إلا بانتشار السنة، ولا تختفي المعاصي إلا بظهور الطاعات، فإذا جاء التوحيد بطل الشرك، وإذا جاءت السنة بطلت البدعة، وإذا جاء المعروف زال المنكر؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 7 - 11].

ومن الدروس المهمة أيضًا أن ندرك جيدًا خطورَة الفتن، وكيف يلتبس الحق فيها بالباطل، وكيف تتغير القناعات، حتى تُنزلَ الشُّبُهات منزِلة المسلَّمات، فعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "تكون فتنةٌ تعوج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد تَرى رجلًا عاقلًا"، وروى ابن عبدالبرِّ عن حذيفة رضي الله عنه أنه سئل أي: الفتن أشد؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب"، وها هي الفتن تَعصِف بالأمة، ولو لم يكن إلا عصفها لكفى، كيف وفي الأمة منافقون ومخذِّلون، يكثر خروجهم أيام الفتن، فينفثون سمومهم، ويزينون باطلهم، ولقد عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وجعل النجاة فيها لمن استمسك بالكتاب والسنة ولزم الجماعة، ولقد حبا اللهُ هذه الأمة نجومًا تُزيِّن سماءها تهدي السالكين، وتهوي على الشياطين، أعني بهم العلماءَ الربانين، أنقى صفحات هذه الأمة وأسناها، بهم يهتدي الناس، وإليهم يرجعون، وعنهم يصدرون، فهم صمام الأمان قبل وقوع الفتن، وطوق النجاة عند حلولها، فإذا ذهبوا ذهب العلم وأقبل الجهل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، قيل: وما الهرج؟ قال: القتل".

فالزموا يا عباد الله غَرْزَ العلماء، والتفوا حولهم، ذُبُّوا عن أعراضهم، واحفظوا عيبتهم، وإن رأيتم منهم ما تكرهون، فاستبينوا أمرهم، وانصحوا لهم، فإنهم بشرٌ لهم وعليهم، ومن نال منهم، فإنما ينال من حملة الدين، ويَثلِمُ في بنيانه، وإننا اليوم كما في تلك المناظرة أحوجُ ما نكون إلى أهل العلم، وتوحيد الصف تحت رايتهم، وألا ندع لمغرضٍ علينا ولا عليهم سبيلًا: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].

ويا بن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديَّان لا يموت، اللهم صلِّ وسلِّم على نبيك محمد...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 191.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 186.39 كيلو بايت... تم توفير 4.90 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]