لماذا تعبد ربك؟ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الهوية الإمبريالية للحرب الصليبية في الشرق الأوسط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          «ابن الجنرال» ونهاية الحُلم الصهيوني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          التغيير في العلاقات الأمريكية الروسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          هل اقتربت نهاية المشروع الإيراني؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الشيخ عثمان دي فودي: رائد حركات الإصلاح الديني في إفريقيا الغربية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          دور العلماء الرّواة والكُتّاب في نشأة البلاغة العربية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          مرصد الأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          وقفات مع قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أصحّ ما في الباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التدريب على العجز!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-03-2021, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي لماذا تعبد ربك؟

لماذا تعبد ربك؟


عبدالمحسن علي حسن الرملي الأيوبي



أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل جلاله، فلا فلاح للعبد، ولا نجاة إلا بالتقوى، فما أحوجنا إليها لنستجلب البركات، ونستمطر الرحمات، ونستدفع المصائب والبليَّات، انتهى موسم خير وإحسان وبر، أيام عشرة معلومات تلتها ثلاثة أيام معدودات، ذكرنا فيها الله وكبرناه وحمدناه وشكرناه، صمنا وصلينا وضحَّينا، فنسأل الله أن يجعلنا من المقبولين، وأن يرفع درجاتنا في عليِّين، وأن يجعلنا من خير عباده الصائمين، وخير عباده القائمين، وخير عباده المتصدِّقين والذاكرين.
أيها الإخوة، إن أول نداء وجَّهه ربُّنا جلَّ وعلا في كتابه لنا، أمرَنا فيه بعبادته؛ فقال تعالى في سورة البقرة:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ [البقرة: 21]: نداء عام لبني آدم جميعًا؛ عربهم وعجمهم، شبابهم وشيوخهم، رجالهم ونسائهم، حمرهم وبيضهم وسودهم، ناداهم لأمر عظيم وخطب جليل، وإذا ناداك ربُّك فأصغ السَّمْعَ، وأحضر القلب إنما هو خير تأمر به أو شرٌّ تنهى عنه.
قال تعالى: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: 21] فأشار إلى معاني الربوبية؛ لأنه لا يستحق أن يعبد إلا من تحققت له معاني وحقائق الربوبية، ثم دل عباده إلى بعض أفعال الرب جل شأنه الذي لا شريك له فيها، فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 21، 22]، فمن فعل ذلك وجب على العباد عبادته وحده، فقال مشيرًا إلى ذلك ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].
فالعبادة يا عباد الله هي الغاية التي من أجلها خُلقتم، وهي الهدف الذي لأجله وجدتم كما قال ربنا سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 -58].
فما خلقكم الله؛ ليستكثر بكم من قلة، ولا ليستعز بكم من ضَعفٍ وذلة، ولا ليستأنس بكم من غربة ووَحشة، ولا ليستعين بكم على أمر قد عجَز عنه، سبحانه هو الغني، ولكنه خلقكم لتذكروه، وتعبدوه، وتسبِّحوه، وتطيعوه.
الله جل وعلا غني عنا وعن طاعتنا، فلا تنفعه عبادتنا، ولا يضرُّه إعراضنا، فلا ينفعه حمد الحامدين، ولا يضرُّه جحود الجاحدين، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني))؛ رواه مسلم.
الله خلقكم لتعبدوه بقلوبكم وجوارحكم، وبألسنتكم وأبدانكم؛ لتعبدوه في تصرفاتكم وأحوالكم كلها؛ لتكون حياتكم كلها عبادة لله.
فلماذا نعبد الله؟ ولماذا نطيعه؟ ما الدوافع؟ وما الأسباب الباعثة؟
ذلك هو الجواب الذي سنتكلم عنه في خطبتنا هذه.
إننا نعبده؛ لأنه خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، خلقنا ليبتلينا بالخير والشر، بالحسنات والسيئات: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2].
وهو جل وعلا يحب أن نعبده وهو حقُّه علينا؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حقُّ اللهِ على العبادِ أَنْ يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)).
إننا نعبده ونطيعه؛ لأننا لا غنى لنا عن الله ولا حول لنا ولا قوة إلا به جل في علاه، نحن الفقراء إلى إليه، وهو الغنيُّ الحميد، وهو الودود الكريم، وهو البَرُّ الرحيم، مفتقرون إليه، واقفون على بابه، مضطرُّون إلى عطائه، قيامنا به، رزقنا من عنده، حياتُنا بأمره، مضطرُّون إليه طواعيةً وقسرًا: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول:
والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا
كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي

وهذه الحال حالُ الخلق أجمعهم
وكلهم عنده عبدٌ له آتي

فمن بغى مطلبًا من غير خالقه
فهو الجهولُ الظلوم المشرك العاتي

إننا نعبده سبحانه وتعالى؛ لأنه المستحق للعبادة لذاته، فهو رب العالمين، المتفرد بالخلق والملك والتدبير، المتصرف في هذا الكون، لا إله غيره، ولا رب سواه ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 26، 27].
ولأنه الذي أوجدنا من العدم، وأمدَّنا بالنعم، فأسبغها علينا ظاهرًا وباطنًا: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 54 - 56].
إننا نعبده سبحانه لحسن أسمائه، وعلوِّ صفاته، وعظيم أفعاله، نعبده لجلاله وكماله وجماله، فهذا يوجب أن يعبده الخلق لذاته.
كيف لا يعبد مَنْ له الأسماء الحسنى؟ كيف لا يعبد من اجتمع له العلوُّ المطلق؟
سبحانه فهو العلي الكبير: ﴿ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 12 - 16].
سبحانه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 22 -24].
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، كيف لا يعبد من له الصفات العليا، هل تعلم له سَمِيًّا؟
من له الوصف الأعلى سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60].
سبحانه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
له صفات عظيمة كذاته جل وعلا أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثبتها من سار على المنهج المرضي المهدي منهج السلف الصالح سبيل المؤمنين.
كيف لا يعبد من عظمت أفعاله؟! سبحانه هو القدير العليم الخبير.
في نفسك انظر كيف أحسن الله صورتك فعدَّلها وسوَّاها؟!
انظر في الجبال مَنْ أرساها؟! انظر في السماء من رفعها بلا عمدٍ وسوَّاها؟!
انظر في الأرض مَنْ بسطَها ودَحاها؟! من الذي أخرج ماءها ومرعاها؟!
تأمَّل في خلق الله لترى عظمة خلقه تعالى وعظمة أفعاله: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11].
كم يُحسِن إليك ربُّك ويتلطَّف بك، ويغفر لك، ويرحمك ويُعافيك، ويشفيك، ويطعمك ويُسقيك؟ كم يحلم عليك ويصفح عنك؟ أليست هذه من أفعال الله سبحانه، ألا يستحق أن يعبد ويحمد، ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 14]؟!
إننا نعبده سبحانه؛ لأنه: ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 2 -4].
إننا نعبده سبحانه شكرًا له على نعمه الكثيرة وآلائه وأفضاله وكرمه وإحسانه: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
نعم دينية ودنيوية، نعم في الأبدان، ونعم في الأرواح، فله الشكر، وله الحمد، تبارك الله رب العالمين: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
هو المنعم علينا بأجلِّ العطايا والنِّعَم، المحسن إلينا بأعظم إحسان، ألا يكون له وحده الذُّل والخضوع والتعظيم والإجلال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]، كيف تصرفون العبادة لغيره، وتشكرون غيره، وهو المستحقُّ لهما شكرًا منكم على خلقكم ورزَقكم.
جاء في صحيح البخاري ومسلم واللفظ له - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)).
نعبد الله ونطيعه استجابة لدعوة الرسل الكرام سلام الله عليهم، فكلهم أمر الناس بعبادة الله وتوحيده وطاعته؛ كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، واتَّفقت كلمتهم جميعًا على ذلك: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 72]، ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ﴾ [العنكبوت: 16]، نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد سلام الله عليهم أجمعين وغيرهم أمر بها.
بل امتثلوا ما أمروا به وأُمروا به، فكانوا يعبدون الله عز وجل في حركاتهم وسكناتهم، في أقوالهم وأفعالهم، في غُدُوِّهم ورواحهم، في ليلهم ونهارهم، كان الواحد منهم عبدًا لله حتى ينزل به الموت، فاستكملوا هذه الصفة، واستتمُّوها؛ فقال الله عز وجل عن نوح عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3].
وقال الله تعالى عنه أيضًا: ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 78 -81]، وقال الله تعالى عن داود عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17].
عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ((فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ))؛ رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وقال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]، وقال عن أيوب عليه السلام: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 44، 45]، وقال الله عن زوجتيْ نوح ولوط: ﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [التحريم: 10]، وقال الله تعالى عن موسى وهارون عليهما السلام: ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 119 - 122]، وقال الله تعالى عن المسيح عليه السلام: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الزخرف: 59].
ووصف أكرم خلقه، وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال الله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [الكهف: 1]، فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله، وقال: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19]، فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه.
وقال: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، فذكَّره بالعبودية في مقام الإسراء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ))، وقال كما في حَدِيث آخر: ((أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ العَبْدُ)).
يا عباد الله ووصف الله جل وعلا ملائكته الكرام عليهم السلام، بأنهم عباده: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 26، 27]، ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ))؛ رواه الإمام أحمد وغيره وذكره العلامة الألباني في الصحيحة.
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: ((أتَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ؟))، قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: ((إنِّي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّمَاءِ وما تُلامُ أن تَئِطَّ، وَمَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ ساجدٌ أوْ قائِمٌ))؛ رواه الطحاوي في مشكل الآثار، وصحَّح إسناده العلامة الألباني رحمه الله على شرط مسلم في الصحيحة.
فيا عبد الله، إن أشرف أحوالك، وأسمى مقاماتك، وأكمل صفاتك، حين تكون عبدًا لله لا عبدًا لغيره، فهو خلقك لتعبده وحده لا شريك له، لتقوم وتقعد، وتركع وتسجد، وتذكر وتعبد؛ تذلُّلًا لله الواحد الغفار، العزيز القهار.
هذه هي طريق أولياء الله، والصالحين من عباده؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 63، 64] إلى آخر الآيات من سورة الفرقان.
إننا نعبد الله سبحانه؛ لأننا نحبُّه ونحبُّ ما يُقرِّبنا منه جل وعلا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))؛ رواه البخاري.
فعندها يجد المؤمن حلاوة إيمانه كما في الصحيحين عن أَنَسِ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
إننا نعبد الله ونطيعه - يا عباد الله - رجاء ثوابه، وطمعًا في جنَّته ورحمته؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقد بشَّر الله عباده البشارة المطلقة، فقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴾ [الزمر: 17]، ثم بيَّن من هم؟ ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة في الحديث القدسي: ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا، بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُم اللَّهُ عَلَيْهِ)).
إننا نعبد الله ونُطيعه سبحانه؛ لأن في ذلك الأمن المطلق من غضب الله وعذابه، وطريق يجنب العبد من النار، فنعبده خوفًا من غضبه وعذابه وناره، نعبد الله ونحن نرجو قبول أعمالنا ونخاف عدم تقبُّلها منا؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: 68، 69].
وقال الله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57]، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].
في مسند الإمام أحمد عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ! قَالَ: ((لا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيق، لَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يُخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ))"؛ حسَّنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى.
إننا نعبده ونطيعه؛ لأنه ليس للشيطان على عباد الله سلطان، فعبادة الله تعالى تعصم من الشيطان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وَقَالَ: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 99، 100].
إننا نعبده سبحانه ونطيعه؛ لأن حياتنا لا تطيب لنا إلا بتحقيقها، والبركات لا تنال إلا بها ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
بالعبادة يُحفظ المرء في نفسه وماله وأهله وشأنه كله، فَعَنْ ابْنِ عَبَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنْتُ خَلْفَ النَبيِّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه العلامة الألباني رحمه الله في المشكاة.
بالعبادة تنال معية الله تعالى كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، نفعني الله وإياكم بما سمعتم واستغفر الله؟
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا عباد الله، إن هذه بواعث العبادة وأسبابها وعللها ودوافعها، فالعبادة حق ذاتي لله عز وجل، ولأن المخلوق مفتقر مضطر إليها، نعبد الله حبًّا، نعبد الله خوفًا، نعبد الله رجاءً، نعبده شكرًا على نعمه وآلائه، نعبده طاعة لأمره، وطلبًا للجنة، نعبده استعاذة من النار، نعبده تعالى؛ لأنه يحبُّ أن يُعبد ويحب أن يُسأل، ويحب أن يُتقرَّب إليه، وهو غني عنا وعن عبادتنا؛ لكنه يرضاها منهم، ويحبها ويُثيبهم عليها؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54].
عباد الله، أخلصوا لله في عبادتكم، تقربوا إليه بأعمالكم، يا مَن صلَّيتم وصمتم، يا من تصدقتم ودعوتم، يا من تلوتم القرآن، يا من أكثرتم من الذكر والإحسان، واظبوا على عبادة الله، اعلموا أن الله عز وجل قد جعل للعبادة غاية لا تنتهي إلا بالموت: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الناس، وأعبد الناس، وأتقى الناس، وأزكى الناس، ما انقطعت عبادته وهو على فراش الموت، صلوات ربي وسلامه عليه، يذكر الله ذكرًا كثيرًا، يغمس يده في إناء فيه ماء، ثم يمسح جبينه الطاهر ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ لِلموت لَسَكَرات!)).
يذكر الله وهو على فراش الموت، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر وهو على فراش الموت: ((الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم)).
يخرج إلى المسجد وقد عصب رأسه بعصابة، يَتَهَادى بين رجلين، ما قال: أنا صليت كثيرًا، قمت من الليل حتى تورَّمت قدمي، رتلت القرآن ترتيلًا، وهذا يكفيني زادًا عند الله، لا والله! بل كان يعبد الله إلى آخر لحظة من عمره صلوات ربي وسلامه عليه، وهكذا فلتكن يا عبد الله عابدًا لله، ذاكرًا لله، شاكرًا لله، مخبتًا لله، متواضعًا لله، متذلِّلًا له.
فإذا نزل بك الموت في أي ساعة من ليل أو نهار، تلقى ربك وأنت عبد الله، وأنت متقرِّب إلى الله، وأنت متذلل بين يدي الله، وهنيئًا لمن حقق ذلك، وما أعظم بُشراه!
﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [الزخرف: 68 -73].
عباد الله، إن العبادة لا تقبل إلا بشرطين اثنين وإلا ردت:
الأول: أن تكون خالصة لله، دافعها ما ذكرناه من دوافع، وما أسلفناه من بواعث.
والثاني: أن تكون صوابًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه.
وختامًا:
فلتعلموا يا رعاكم الله أن هناك من يحرف الدوافع، ويقطع صلة العباد بالله حينما فسَّروا الدوافع بنظرة أنانية برجماتية، ونظروا لها نظرة مادية نفعية، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنُّوا بها، فقالوا ويقولون: إن الله غني عن عبادتكم، وإنما العبادة لمنفعتكم ومصلحتكم وفائدتكم، تعبدونه لمصلحتكم الدنيوية، فالصلاة عندهم رياضة نفسية وجسدية، والزكاة تكافل اجتماعي، والصيام صحة، والحج مؤتمر سياسي، وسياحة وتقشف وبساطة كالكشافة!
وهكذا فهم بهذا يقطعون الصلة بين العباد وربهم، فلا تكون نية العابد ولا إرادته متوجِّهةً إلا إلى العبادات والأعمال الصالحة نفسها، لا إخلاصًا وامتثالًا لله، بل لمصلحة نفسه، وفائدة نفسه.
فالحذرَ الحذر، ولتكن على دِراية ووعي فتدبُّر القرآن والسنة كفيلٌ بأن يُزيل شبهات القوم، ويُبيِّن لك الدوافع الصحيحة لعبادة الله وهي كثيرة؛ ولكننا ذكرنا أهم الدوافع والبواعث.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.82 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]