|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() خلق الأقوياء أحمد بن عبد الله الحزيمي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا عِزَّ إلّا فِي طَاعَتِهِ، وَلَا سَعَادَةَ إلّا فِي رِضاهُ، وَلَا نَعِيمَ إلّا فِي ذِكْرِهِ، الَّذِي إِذَا أُطِيعَ شَكَرَ، وَإِذَا عُصِيَ تَابَ وَغَفَرَ، وَالَّذِي إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا اسْتُعِيذَ بِهِ أَعَاذَ. وَأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا... أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللَّهِ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]. عِبَادَ اللَّهِ: لَمَّا دَخَلَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَاتِحًا مُنْتَصِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، جَعَلَ عَلَيه السلامُ يَتَأَمَّلُ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَهُوَ فِي قِمَّةِ عِزِّهِ وَمُلْكِهِ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَهُمْ فِي غَايَةِ ذُلِّهِمْ وَضَعْفِهِمْ، فِي مَكَانٍ طَالَمَا كَذَّبُوهُ فِيهِ وَأَهَانُوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيهِ الْأَوْسَاخَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَكَفَّارُ قُرَيْشٍ الْيَوْمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَهْزُومِينَ أَذِلاءَ صَاغِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنَّي فَاعِلٌ بكُمْ؟" فَانْتَفَضُوا وَقَالُوا: تَفْعَلُ بِنَا خَيْرًا؛ أَنْتَ أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. عَجَبًا! هَلْ نَسُوا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِهَذَا الْأَخِ الْكَرِيمِ؟! أَيْنَ سَبُّكُمْ: مَجْنُونٌ.. سَاحِرٌ.. كَاهِنٌ؟! مَا دَامَ أَنَّه أَخٌ كَرِيمٌ فَلِماذا حَاربتُمُوهُ؟! أَيْنَ تَعْذِيبُكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاضطِهادُكُمْ لِلضُّعفاءِ؟! أَيْنَ حَرْبُكُمْ لَهُ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَتَحَزُّبُكُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ؟! أَيْنَ شَرِيطٌ طَوِيلٌ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ الْمُؤْلِمَةِ؟! وَالْيَوْمَ تَقُولُونَ: أَخٌ كَرِيمٌ! كَانَ عَلَيهِ السّلامُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ أقْسَى أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، فَهُمْ أَعْدَاءٌ مُحَارِبُونَ مُعْتَدُونَ خَوَنَةٌ، فَإِذَا بِهِ عَلَيه السّلامُ يَدُوسُ عَلَى الْأَحْقَادِ وَيُحَلِّقُ بِهِمَّتِهِ عَالِيًا وَيَقُولُ كَلِمَةً يَهْتِفُ بِهَا التَّارِيخُ: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ". وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ الْأَوَّلُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَتَفَاخَرُونَ بِالْبَغِيِّ عَلَى بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، وَبِشِدَّةِ بَطْشِهِمْ بِمَنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَينَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلامُ فَتَغَيَّرَتِ الْمَوَازِينُ، وَتَبَدَّلَتِ الْمَفَاهِيمُ، أَتَى الْإِسْلامُ لِيَكْبَحَ جِماحَ هَذَا الشَّرِّ الْمُتَطايِرِ الَّذِي إِنْ بَدَأَ لَا يُبْقِي وَلَا يَذَرُ، جَاءَ هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ لِيُعْلِنَ لِلْعَالَمِ أَجْمَع أَنَّهُ دِينُ التَّسَامُحِ وَالْعَفْوِ وَالرُّقِيِّ. اقْرَؤوا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، وَتَأَمَّلُوا أَحادِيثَ سَيِّدِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ لَنْ تَجِدُوا غَيْرَ هَذَا الأمرِ. عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جاءتِ الآياتُ مُتَضَافِرَةٌ فِي ذِكْرِ خُلُقِ الْعَفْوِ وَالسَّمَاحَةِ وَالتَّغَاضِي عَنِ الآخَرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، وَاسْتَفَاضَتْ عَنْ رَسُولِ الْهُدَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَحادِيثٌ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ قَدْرَ هَذَا الْخُلُقِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: "وَمَا زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلاَّ عِزًّا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ". أَيُّهَا الْكرامُ: مَا أَجْمَلَ الْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ، وَمَا أَحْسَنَ التَّغَاضِي عَنْ زَلاَّتِهِمْ، وَنِسْيَانَ الْمَاضِي الْألِيمِ! هَذَا خُلُقٌ لَا يَسْتَطِيعُهُ إلّا الْعُظَماءُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَرَفَّعُونَ بِأخْلاقِهِمْ عَنْ سَفَالَةِ الاِنْتِقامِ وَالْحِقدِ وَشِفَاءِ الْغَيْظِ. شَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيمِيَّة -رَحِمَهُ اللهُ- أُوذِيَ وَرُمِيَ بِالْعظائِمِ، وَكَفَّرَهُ عُلَمَاءٌ وَأَفْتَوا السُّلْطَانَ بِقَتْلِهِ، وَضَرَبَ بَعْضُهُمْ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: دَمُهُ فِي عُنُقِي، دَمُهُ حَلالٌ، وَبَقِيَ -رَحِمَهُ اللهُ- يُقَادُ مِنْ سِجْنٍ إِلَى سِجْنٍ، قَامَ عَلَيهِ أهْلُ عَصْرِهِ مِنْ شُيُوخِ أهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلالِ وَالْأَهْوَاءِ، وَمِنَ الْحَسَدَةِ الَّذِينَ امْتَلأتْ قُلُوبُهُمْ غَيْظًا وَحنقًا عَلَى هَذَا الإمَامِ، الَّذِي مَلأَ الدُّنْيا عِلْمًا وَدَعْوَةً؛ وَكَسَرَ أَهْلَ الضَّلالِ وَالْبِدَعِ بِصَوارِمِ السُّنَّةِ؛ وَلا زَالَتْ كُتُبُهُ شَاهِدَةً بِذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ أَلَدِّ أَعْدَاءِ شَيْخِ الْإِسْلامِ الَّذِينَ يُفْتُونَ بِقَتْلِهِ، وَبِحِلِّ دَمِهِ، وَبِكُفْرِهِ: رَجُلٌ مِنْ فقهاءِ الْمالِكِيَّةِ يُقَالُ لَهُ "ابْنُ مَخْلُوفٍ"، مَاتَ ابْنُ مَخْلُوفٍ فِي حَيَاةِ شَيْخِ الْإِسْلامِ اِبْنِ تَيمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فَعَلِمَ بِذَلِكَ تِلْميذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَجَاءَ يُهَرْوِلُ إِلَيه يُبَشِّرُهُ بِمَوْتِ أَلَدِّ أَعْدَائِهِ يَقُولُ لَهُ: "أَبْشِرْ؛ قَدْ مَاتَ ابْنُ مَخْلُوفٍ"، فَمَاذَا صَنَعَ الشَّيْخُ؟ هَلْ سَجَدَ سَجْدَةَ شُكْرٍ؟ هل حَمِدَ اللهَ الَّذِي خَلَّصَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ؟! وهَلْ قَالَ عندَ اللهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ، كُلُّ ذلكَ لَمْ يَقُلْ، بَلْ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "فَنَهَرَنِي وَتَنَكَّرَ لِي، ثُمَّ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: "إنَّا للهِ وإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ"، ثُمَّ قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ فعَزَّاهُم، وَقَالَ: "إِنِّي لَكُمْ مَكَانَهُ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَمْرٌ تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ إلّا وَسَاعَدْتُكُمْ فِيهِ، فَسُرُّوا بِهِ وَدَعَوا لَهُ. مَنْ مِنَّا يَصْنَعُ ذَلِكَ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ؟ مَنْ مِنَّا يُطِيقُ ذَلِكَ؟ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْكَبِيرَةِ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، الأَقوياءُ حَقاً هُمْ مَنْ يَقْوَونَ عَلَى ذَلِكَ. بَلْ وأَكْثَرُ مِنْ هَذَا وأَعجَبُ.. لَمَّا وَقَعَ على الْمَلِكِ النَّاصِرِ انْقِلابٌ ذَهَبَ عَلَيهِ مُلْكَهُ فيهِ؛ وَكَانَ الَّذِي قَامَ بِهَذَا الاِنْقِلابِ "الْمُظَفَّرُ رُكْنُ الدِّينِ بيبَرس"؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ وَالْفقهاءُ وَالْقضاةُ وَالْحَسَدَةُ الَّذِينَ لَمْ يَفتَئُوا وَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا فِي الْوِشَايَةِ بِشَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيمِيَّة -رَحِمَهُ اللهُ- كَانُوا قَدِ الْتَفُّوا حَوْلَ هَذَا الْمَلِكِ الْجَدِيدِ، وَصَارُوا حَاشِيَتَهُ وَجلَسَاءَهُ وَنُدمَاءَهُ، وَأَدَارُوا ظُهُورَهُمْ لِلأَوَّلِ! ثُمَّ اسْتَطَاعَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مُلْكَهُ مِنْ جَدِيدٍ، فَجَاءَ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلكِهِ، وَأَحْضَرَ هَؤُلَاءِ الْقضاةَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْفقهاءَ وأَجلَسَهُم بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ طَأْطَئُوا رُؤُوسَهُمْ، لَا يَدْرُونَ مَاذَا سَيَصْنَعُ بِهِمْ؟ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ سَيَفْتِكُ بِهِمْ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَعيدٍ لَمْ يُمَيِّزُوهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ فَلَمَّا اقْتَرَبَ إِذَا هُوَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ الَّذِي كَانَ فِي السِّجْنِ قَدْ أَمَرَ الْمَلِكُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ جَدِيدٍ؛ وَدَعَاهُ إِلَى مَجْلِسِهِ فَأسقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَالُوا: الْآنَ يَتِمُّ الاِنْتِقامُ بِفَتْوَى وَنُذْبَحُ كَمَا الْخِرَاف، فَقَامَ الْمَلِكُ يَمْشِي إِلَى شَيْخِ الْإِسْلامِ مُظْهِرًا تَعْظِيمَهُ، ثُمَّ عَانَقَهُ وَأخَذَهُ إِلَى شُرْفَةٍ وَنَاحِيَةٍ فِي الْقَصْرِ وَسَارَّهُ، وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ سِرًّا، فَمَاذَا قَالَ لَهُ؟ قَالَ لَهُ: مَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلامِ: فَعَلِمْتُ أَنَّه قَدْ حنقَ عَلَيهِمْ، وَأَنَّه أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِمَ لِنَفْسِه، فَشَرَعْتُ فِي مَدْحِهِمْ وَالثَّناءِ عَلَيهِمْ وَشُكْرِهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ ذَهَبُوا لَن تَجِدَ مِثْلَهُمْ فِي دَوْلَتِكَ، وَلَا قِيَامَ لِمُلْكِكَ إلّا بِهِمْ، فَهُمْ قُضاةُ الْبَلَدِ وَفقهَائِهِ، فَأَخْرَجَ لِي أَوْرَاقًا وَقَرَاطِيسَ مِنْ جَيْبِهِ فِيهَا فَتَاوَى بِخُطُوطِهِمْ، فقالَ لي: اُنْظُرْ مَاذَا قَالُوا فِيكَ؟ كَفَّرُوكَ، وَأَفْتَوْا بِقَتْلِكَ. فكَانَ جَوابُ شَيْخِ الْإِسْلامِ: أَمَّا أَنَا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَاللهُ يَتَوَلَّى الْجَمِيعَ. أَرَأَيْتُم أَيُّهَا السَّادَةُ كَيْفَ هِي أخْلاقُ الْكِبَارِ؟ كَيْفَ هِي أخْلاقُ الْأقوياءِ. أسألُ الله أنْ يرْزقنا راحةَ المتقين، وسعادةَ المؤمنينَ، ودعاءَ الصالحينَ، وأجَر الصابرينَ، وأنْ يغفرَ لنا ولوالدينَ، ولجميع المسلمينَ. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيه مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ، إِنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ خطأً فَمِنْ نَفْسِي وَالشَّيْطَانِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا. الخطبة الثانية الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلاَةُ وَالسّلامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَه. وَبَعْدُ -يا رَعَاكُمُ اللهُ- قَدْ يَرَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَفْوَ ذُلٌّ وَمَهَانَةٌ وَإهَانَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَمَامَ النَّاسِ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ فِي الاِنْتِقامِ، وَالْقُوَّةَ فِي التَّشَفِّي، وَهَذَا -وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاللهِ- مُجَانَبَةٌ للْحَقِيقَةِ؛ فَالْعِزُّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَفْوِ، بَلْ إِنَّه قِمَّةُ الشَّجَاعَةِ وَالاِمْتِنانِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، لَا سِيَّما إِذَا كَانَ الْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الاِنْتِصَارِ، فَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ -رحمهُ اللهُ- فِي "صَحِيحِهِ" بَابًا عَنِ الاِنْتِصارِ مِنَ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، وَذَكَرَ عَنْ إِبراهيمَ النَّخَعِيِّ قَوْلَهُ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا". وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَحِمَهُ اللهُ: "لِأَنْ أَنْدَمَ عَلَى الْعَفْوِ عِشْرِينَ مَرَّةً أَحَبُّ إليَّ مِنَ النَّدَمِ عَلَى الْعُقُوبَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً". ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ -عِبَادَ اللَّهِ- قَدْ بَلَغَ مِنَ الْقَسْوَةِ مَا لا يُمْكِنُ مَعَهَا أَنْ يَعْفُوَ لأَحَدٍ أَوْ يَتَجَاوَزَ عَنْه، لَا يَرى فِي حَيَاتِهِ إلاَّ الاِنْتِقامَ والتَّشَفِّي، وَالاِنْتِصارَ لِلنَّفْسِ لَيْسَ إلاَّ! وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أحَدٍ أَنْ يَصْدُرَ مِنْه خَلَلٌ أَوْ تَقْصيرٌ أَو نَقْصٌ، وَإِذَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَفْوَ وَلَا مُسامَحَةَ، وَلَا تَذَكُّرَ لِصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ السَّابِقَةِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى الْحَسَنَاتِ الْكَثِيرَةِ وَأَوَاصِرِ الْمَحَبَّةِ وَالرّوابطِ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُتَحابِّينَ، يَنْسَى ذَلِكَ كُلَّه، وَيَفْجُرُ فِي خُصُومَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ، قَارِنْ هَذَا بِخُلُقِ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: تَسَامَحُوا، تَصَافَحُوا، وَلْيَعْفُ كُلُّ أَخٍ عَنْ أَخِيهِ، فَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَلْيَبشرْ بِالْخَيْرِ الْعَمِيمِ، وَالْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَالْحَيَاةِ الْهَانِئَةِ. وَتَذَكَّرُوا دَائِمًا أَنَّ الْبَقاءَ فِي الدُّنْيا قَلِيلٌ، وأنَّ هَذهِ الدارُ ليسَتْ هي الدارُ الحقيقيةُ الَّتِي أعدَّها اللهُ لعِبادهِ المؤمنينَ، بلْ هي دارُ زوالٍ وارتحالٍ، وبالتالي لَا تَسْتَحِقُّ هَذَا كُلَّه. هَذَا وَصَلُّوا -رحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ صَاحِبِ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِمَلاَئِكَتِهِ المسبِّحةِ بِقُدسِهِ، وثلَّثَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. وَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسلامُهُ عَلَيهِ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْرًا". اللهم صل وسلم وبارك عليه ...
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |