المتقون والمعاصي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 959 - عددالزوار : 121355 )           »          الصلاة دواء الروح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          أنين مسجد (4) وجوب صلاة الجماعة وأهميتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          عاشوراء بين ظهور الحق وزوال الباطل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          يكفي إهمالا يا أبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          فتنة التكاثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          حفظ اللسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          التحذير من الغيبة والشائعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          كيف ننشئ أولادنا على حب كتاب الله؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          قصة سيدنا موسى عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-12-2020, 10:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي المتقون والمعاصي

المتقون والمعاصي (1/5).


أ.د. الشريف حاتم العوني


علاقة المتقين بالمعاصي علاقة معقدة ! ليس من السهل إدراكها ؛ إلا إذا اغترفنا من معين القرآن الكريم غرفةً تروي ظمأ جهلنا .
يقول الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
فتبدأ الآية الكريمة بـ{الَّذِينَ} وهو اسم موصول ، والمقصود بهم في الآية هم (المتقون) ؛ لأن الآية قبل هذه الآية كانت هي قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، ثم ذكر صفات المتقين ، فقال سبحانه : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، ثم قال تعالى { {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله ... } .
فالآية إذن تذكر صفات أشرف درجات المؤمنين المسارعين إلى مغفرة الله تعالى ورضوانه والموعودين بجنة عرضها السموات والأرض : وهم المتقون .
ولكن الغريب أن الآية لا تنزه هؤلاء المتقين من المعاصي ، كما قد يتوقع بعضنا ! بل إنها لا تنزههم حتى من الكبائر (الفواحش) ، كما قد يتوقعه كثيرون منا !! بل الآية لم تكتف بعدم تنزيه المتقين من المعاصي ، بل إنها لـتُـثني علىهم بارتكابها !! نعم .. تُثني عليهم بارتكاب المعاصي ، لكن في حالةٍ واحدة فقط : هي حيث يُتبعونها بالاستغفار الصادق ، الذي يستلزم فيما يستلزم : عدم العزم على الإصرار !! ولا تُثني عليهم بارتكاب المعاصي مطلقا (فهذا لا يمكن أصلا) ، ولا تُثني عليهم بعدم ارتكابها مطلقًا أيضًا (وهذا هو ما أحببت لفت الانتباه إليه) !!
ومن هذه المقدمة ندخل في استلهام بعض فوائد هذه الآية ، فمن فوائدها :
أولا : تُبيّنُ هذه الآيةُ أن المتقين ( وهم أصحاب هذا الوصف الشريف : المتقين ) لا ينحصرون في المعصومين فقط ! فالمعصومون هم أنبياء الله وحدهم ( عليهم الصلاة والسلام ) . ولا ينحصرون أيضًا في الذين يجتنبون الكبائر ، ممن لا تتجاوز معصيتهم الصغائر من الذنوب ، فليسوا محصورين في الذين لا يرتكبون الكبائر ولا يأتون الفواحش فقط ! فهذه الآية توضح أن المتقين قد يقترفون حتى الفاحشة ، وقد يقعون حتى في الكبيرة ؛ لكن الذي يميز هؤلاء المتقين من أهل الإيمان عن غيرهم ممن يقترفون الآثام (صغيرها وكبيرها) : هو أن المتقين يسارعون إلى طلب المغفرة ، أي إلى الاستغفار الحقيقي (بالقلب واللسان) .
وذلك أن وصف الفاحشة لا يكون وصفا لصغائر الذنوب ، كما قال تعالى { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } ، فجعل الله تعالى ( اللمم ) وهي الصغائر شيئا مخالفا للكبائر والفواحش ، مما يبين أن الفواحش جنس من الكبائر ، أو لقب آخر لها .
ومن معاني هذه الفائدة : أن مجرد ارتكاب الكبيرة لا ينافي صفة التقوى ؛ إلا مع الإصرار (الذي سيأتي بيان المقصود به ) ، ومع عدم الاستغفار .
ووازنوا كلام الله تعالى هذا بما يشيع بين كثير من المسلمين ، بسبب وَعْظ جهلة الوعاظ ، من استحالة أن يجتمع وصف المتقين مع ارتكاب فاحشة .
ولذلك يكون الكلام الآتي للإمام أبي القاسم القشيري على جماله ، وعلى صحته (من وجه) ؛ لكنه ليس هو معنى الآية ! وذلك عندما قال (رحمه الله) في تفسيره : ((ويقال فاحشةُ كلِّ أحدٍ على حسب حاله ومَقامه ، وكذلك ظلمهم . وإن خُطور المخالفات ببال الأكابر ، كفِعلها من الأغيار !
قال قائلهم [شعرًا] :
أنت عيني وليس من حقِّ عيني
غضُّ أجفانها على الأقذاءِ
فليس الجُرم على البساط كالذّنب على الباب .
ويُقال : فعلوا فاحشةً : بركونهم إلى أفعالهم ، أو ظلموا أنفسهم : بملاحظة أحوالهم ؛ فاستغفروا لذنوبهم ، بالتَّـبَـرِّي عن حركاتهم وسكناتهم ، علمًا منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به ، فخَلّصهم من ظلمات نفوسهم . وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمَاتٌ عند ظهور الحقائق ، ومنْ طهَّره الله بنور العناية ، صانه عن التورط في المغاليط البشرية)) .
فهذا كلام جميل جدا ؛ لكن لا ينبغي أن يخالف ظاهر الآية الواضح ، من أن المتقين قد يقعون في الكبيرة من كبائر الذنوب !
وسنكمل بقية التعليق على هذه الآية الكريمة في مقال الأسبوع القادم بإذن الله تعالى .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-12-2020, 10:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المتقون والمعاصي

المتقون والمعاصي(2/5)
أ.د. الشريف حاتم العوني


تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الفائدة الأولى التي نستفيدها من قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
ونكمل اليوم فائدتين جديدتين :
ثانيا : تَذكُرُ الآيةُ ظُلمَ النفس بعد ذكر الفاحشة في سياق ما يُوجب الاستغفار ، مع أن ظلم النفس اسم شامل لكل معصية : صغرت أو كبرت ، اقتصر ضررها على العاصي أو تعدّاه إلى غيره . مما يعني أن ذكر ظلم النفس بعد ذكر الفواحش والكبائر هو من باب ذكر العام بعد الخاص ، فالكبائر نوع من أنواع ظلم النفس . مما يدلنا على المغزى من ذكر الفواحش ، ومما يعيننا على اكتشاف السر في ذكر الكبائر ، بل في تخصيصها بالذكر ، مع إمكان الاستغناء عنها بلفظ (ظلم النفس) الذي يشملها ! ومن أوضح ما يبين ذلك المغزى ويكشفُ سِرَّ ذلك التخصيص بالذِّكر هو : لتصحيح التصور عن علاقة التقوى بارتكاب الكبائر ؛ ولبيان أن الضعف البشري قد يحط المتقي في لحظة جَذْبِه الطيني ودَفْعِ غريزته الجسديّة من علياء الإيمان والتقوى إلى حضيض التمرّغ في وحل الفواحش ، وأن ذلك (مع ذلك) لا يخرجه عن وصف المتقين ، ما دام يُتبع ذلك بالرجوع إلى ربه والفرار إليه بالاستغفار !
ومن فوائد ذكر ظلم النفس في هذا السياق أيضًا : بيان أن الصغائر تُوجِبُ على المتقين الاستغفارَ منها أيضًا ، وأن المتقين لا يستخفّون بضرورة الاستغفار .. حتى من الصغائر
بل العبد محتاج للاستغفار (حاجةَ استحبابٍ لا وجوب) في كل وقت ، حتى بعد الطاعة ؛ لما ينتاب الطاعةَ من تقصير عن حق جلال الله تعالى وعظمته ولا بُدّ ، وإعلانا للعجز عن موافاة الله تعالى حقَّه من الشكر على التوفيق والإعانة على أداء الطاعة ؛ ولذلك كما أمر الله تعالى بالاستغفار عقب أداء مناسك الحج ، في قوله تعالى { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وكما قال تعالى في الأمر بالاستغفار عقب قيام الليل {ِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } إلى أن قال تعالى في خاتمة الآية { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم صلاته للفريضة بالاستغفار ثلاثا !
فإذا كان الاستغفار مستحبًّا حتى بعد الطاعة ، وهي طاعة تُرضي الربَّ عزّ وجل ، وتُقرِّبُ إليه العبد ؛ فكيف سينزل حُكمُه عن الوجوب بعد مخالفة أمر الله تعالى بالمعصية ، ولو كانت معصيةً صغيرة !
ثالثا : بعد أن ذكر الله تعالى إمكانية مواقعة المتقين للفاحشة وظلم النفس ذكر ما يجعل المتقين أوّابين لله تعالى بطُهر الإيمان وورِقّة طلب المغفرة (الاستغفار) ، فكان هذا الأمر الذي يرفعهم من حضيض المعصية إلى سُمُوّ القُرْب من العليّ سبحانه هو أنهم { ذَكَرُوا اللَّهَ }! نعم .. إنهم فقط { ذَكَرُوا اللَّهَ } !! فلم يقل الله تعالى : تَذكّروا عذابَ الله الأليم وأَخْذَه السريع ، ولا قال الله تعالى : تذكّروا جلالةَ من عَصَوْه ، وعظمةَ سلطانِ من خالفوه .. ولا غير ذلك من دواعي الردع القوية الحقيقية , ومن أسباب الزجر العظيمة . بل اكتفت الآية أن يكون (ذِكْرُ الله) .. مجرّدُ (ذِكْرِ الله) هو أعظمَ رادعٍ وأشَدَّ زاجرٍ . وكفى بذكر الله رادعا عن معصيته ! وكفى بذكر الله زاجرا عن التقصير في حقه سبحانه وتعالى .
الأمر حقًّا لا يحتاج أكثر من أن تَذْكُـرَ الله تعالى ، تَذْكُـرَه فقط ؛ لكي تجتنب مخالفةَ أمره . لا تحتاج إلا أن لا تَغْفُلَ عن ذِكْرِه فقط ؛ لكي يدوم أُنْسُك بلذّةِ القُرب بطاعته . فمجرد تذكّر الله تعالى يكفي لاستحضار كل معاني التعظيم حُبًّا ورجاءً وخشية ؛ ولهذا كان كافيًا للعاصي أن يذكر الله لكي يؤوب إلى رشده ويفرّ إلى ربه ! فليست الخشية وحدها هي الرادعة (كما ظنّ بعضهم) ؛ فرُبَّ حياءٍ من مُنْعِم كريمٍ كان أشدَّ في الردع عن مخالفة أمره من خوف عذابه ! ورُبَّ حبٍّ حَجَبَ النفسَ عن كل ما لا يحبه المحبوب أكثر مِن الحَذَرِ مِن عقوبة غضبه! فذِكْرُ الله على كل أنحائه أعظمُ مانعٍ عن معصيته ، وذِكْرُ الله لا يجتمع قط مع غفلة الجهالة عن واجب تعظيمه عز وجلّ !
ولذلك كان الاستغفارُ العاجِلُ السريعُ هو النتيجةَ الـمُـتَـحَـتِّ ـمةَ لمن ذَكَر الله تعالى عقب معصيته { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ }! وهذا نحو قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـٰئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
ونستكمل ذكر فائدة جديدة في مقال جديد بإذن الله تعالى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-12-2020, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المتقون والمعاصي


المتقون والمعاصي(3/5)
أ.د. الشريف حاتم العوني




تكلمنا في الأسابيع الثلاثة الماضية عن بعض الفوائد التي نستفيدها من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ونذكر اليوم فائدة جديدة :
الفائدة الرابعة : بعد أن ذكر الله تعالى ما يؤول إليه حال المتقين بعد وقوعهم في المعصية، وبعد تذكرهم لربّهم عز وجل ، وأنهم يسارعون إلى الاستغفار بلا تردّدٍ ولا تأخُّرٍ ، ذكر الله تعالى سبب هذه المبادرة إلى الاستغفار والعجلةَ في اللجوء إليه ، فقال تعالى (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه). والمعنى : لا عجب من هذه المبادرة إلى طلب الصفح والغفران ؛ فإنه طلبٌ ممن تفرّد بكرم الصفح والغفران على وجه الحقيقة , وهو الله تعالى .
فالآية جاءت على وجه السؤال التقريري (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه)؟, والجواب المعلوم عن هذا السؤال : هو الله تعالى .
لكن الغريب أن الآية جاءت وكأنها تمنع وقوع مغفرة الذنوب إلا من الله تعالى ؛ لأنها حصرت غفران الذنوب في غفران الله تعالى . فلقائل أن يقول: ما معنى هذا الحصر؟ ومِن عباد الله من يعفو ويغفر أيضًا (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)� � فكيف يُـخبَـرُ عن امتناع وقوع الغفران إلا من الله تعالى ، مع وقوعه من بعض خلقه؟!
قد يُقال: إن المقصود هو أن الله وحده هو الذي له حق غفرانِ مخالفةِ أمره ؛ فالناس قد يغفرون لمن عصاهم ، لكن معصية الله تعالى لا يغفرها إلا هو وحده . وهذا معنى صحيح في ذاته بغير أدنى شك ، فحقُّ المؤاخذة على المعاصي وغُفرانُها حقٌّ إلهي لا شَراكة فيه لأحد أبدًا ؛ لكن هذا المعنى مع صحته فهو لا ينفع أن يكون هو المقصود في سياق هذه الآية ؛ لأن الآية ليست في سياق الحديث عن كمال ربوبيته عز وجل وانفراده سبحانه بالحكم في خلقه ، حتى يكون هذا هو معنى ذلك الحصر لمغفرة الذنوب . وإنما كان سياق الآية عن بيان سعة رحمة الله وعظيم حلمه وكريم عطائه في الصفح والغفران ، مما لا يجعل لمذنب عذرًا في التأخر عن طلب المغفرة، ولا يُجيز لعاصٍ أن ييأس من رحمة الله تعالى .
إذن : فما المقصود من هذا الحصر؟!
المقصود : التنبيه على أن الفرق كبيرٌ جدا بين غفران رب العباد للعباد وغفران بعض العباد للعباد ، حتى استحق أن لا يكون لغفران العباد للعباد ذكرٌ ولا له معنى في مقابل مغفرة ربهم ! وهذا استعمالٌ عربيٌّ صحيح ، فأنت تقول : وهل الشجاع إلا عنترة ؟! وهل الجواد إلا حاتم ؟! ولا تعني نفي الشجاعة عمن سوى عنترة، ولا نفي الجود عمن سوى حاتم ؛ ولكنك قد تريد : إنه لا ذِكر لشجاعة أحد أمام شجاعة عنترة، ولا بقاء لـجُود كريمٍ أمامَ جُود حاتم .
وكانت مغفرة الله تعالى لذنوب عباده تستحق أن تنفي وجود مغفرة كل من سواه لأسباب كثيرة جدا ، لو لم يكن منها إلا السببَ الحاضرَ في عامة الأذهان لكفى : وهو أن مغفرة عباده لعباده ما كان لها أن تقع بغير إذنه عز وجل ، فهي في الحقيقة مِنّة الله على عباده ، التي أجراها على يدي بعضهم لبعض . فكيف إذا استحضرنا أيضًا :
-أن معصية العبد لربه معصية حقيقية ؛ لأنها معصية لمن تجب طاعته بانفراده بالخلق والأمر والربوبية. وأما معصية العبد لغيره من العباد فهي معصية غير حقيقية ؛ لأنها معصية لمن لا تجب طاعته أصلا ؛ إلا بإيجاب الله تعالى لها . فكيف تشابه مغفرة الرب مغفرة العبد ؟! وكيف لا تكون لاغيةً معها ؟!
-أن قبح معصية العبد للرب لا تقاربها في القبح ولا تشبهها معصية غيره من خلقه! لأنها معصية للعظيم الذي انفرد بالعظمة الذاتية الأزلية سبحانه وتعالى. فأين يأتي قبح معصية خلقه لخلقه من قبح معصيتهم ربَّهم؟! وكلما عَظُمَ قبحُ المعصية ، عَظُمَ قَدْرُ غُفرانِها .
-أن كل غافرٍ من الخلق فَلِغُفْرانِه حُدودٌ ، لو لم تكن إلا حدَّ حياته , وحدَّ انْطواءِ مَحْوِ غفرانه بوفاته ، لكفى أن يكون غفران الخلق لا شيء في مقابل غفران خالقهم عز وجلّ ، الذي لا حدَّ له، ولا يحجبه عن عباده كثرةٌ ولا فُحشٌ ولا عِظمٌ ؛ إلا الشرك والكفر. وهو غفرانٌ لا ينتهي أبدًا ، فهو غفرانٌ أزلي : سَبَـقَ وجود الخلق , وباقٍ بعد فنائهم ، وينتظرهم يوم معادهم , ويصاحبهم في خلودهم في مستقرّ كرامتهم!!
فأنَّى يكون لمغفرة من سوى الله تعالى (بعد ذلك) ذكرٌ مع مغفرته سبحانه ! فاللهم مغفرتَك التي لا تُردُّ عن أهل توحيدك!!



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.76 كيلو بايت... تم توفير 2.59 كيلو بايت...بمعدل (3.85%)]