
07-12-2020, 09:28 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,538
الدولة :
|
|
حتى لا تضيع المروءة
حتى لا تضيع المروءة
الشيخ د. : علي بن عمر با دحدح
عناصر الخطبة
1/ قصة في الحفاظ على المروءة 2/ مظاهر ضياع المروءة 3/ مفهوم المروءة الصحيحة 4/ أهمية المروءة 5/ صور من المفهوم الخاطئ للمروءة 6/ شروط المروءة 7/ التأكيد على الحفاظ على المروءة وتنميتها.
اقتباس
ينبغي أن ندرك أن المروءة دواعيها علو الهمة وشرف النفس، إنها أمر سامٍ رفيع، إنها قمة عالية, من يصل إليها فإنه يستطيع أن يملك نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصّرعة, ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب”, ويستطيع كذلك أن يترفّع عن الدنايا والرزايا؛ فيكون محلِّقا فيما هو أسمى وأعلى.
نداء رب العالمين لكم -معاشر المؤمنين- بتقواه في كل آن وحين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[آل عمران/102].
قصة مذكورة في بعض كتب التراث والأدب أفتتح بها هذا المقام لما فيها من عظة وعبرة تتصل بحياتنا اليومية وسلوكياتنا الأخلاقية, رجلٌ تاجر كريم حسن الخلق يركب خيلاً ويسير في دروبٍ من الصحراء منتقلاً من مكان إلى مكان, اعترضه رجلٌ ضعيف الحال رثُّ الثياب يستنخيه ويستنجده ويطلب منه أن يحمله وينقله معه؛ فكانت شهامة الكرم وحسن الخلق داعيان له إلا أن ينزل عن فرسه ثم يعين ذلك الضعيف؛ حتى يرقى فوق الفرس, فما إن تمكّن حتى تغيّر ثم انطلق بالفرس وترك الرجل, وإذا بالرجل يصيح ويقول يا هذا’ فتوقف قليلاً, قال له: لا تخبر الناس بما جرى, قال ولماذا أتخشى أن يلحقوا الخزي بك, قال: لا ولكن حتى لا تضيع المروءة بين الناس فلا يقف أحدٌ لمحتاج أو عابر سبيل.
أراد ألا يعرف أحدٌ بهذا الأمر حتى لا يكون مدعاة لما نقوله اليوم لا تفعل خيرًا ولا تصنع معروفًا؛ فإنك لن تجد من يشكر, بل ستجد من يكفر, ولن تجد من يذكر, بل ستجد من يجحد, ولذا بدأنا نتحدث بلغة تريد محو كلّ جميل في حياتنا, لا تتحدث بكلام حسن لين لأنك ستكون ضعيفًا هينًا ذليلاً, بل اجعل كلامك قاسيًا ولفظك جافيًا وستستمع يوم تلين فتسامح أو تغض الطرف فتعفو أو تعرض عن الجاهل ولا ترد بأنك شخصٌ لا ينبغي أن تكون هذه صفتك؛ لأن هذا الحال وهذه السمة ستجعلك مذمومًا محتقرًا ذليلاً بين الناس.
وهنا نسأل أين إذًا ستكون المروءة؟ انظروا إلى هذا الذي أراد رغم تضرره بهذه الخدعة وهذا المكر وهذا الخلق السيء أراد أن يستر هذا السوء حتى لا يعم، حتى لا يشيع في المجتمع، حتى لا نكرر اليوم إذا سمعنا رجلاً يشتم فأنكرنا ذلك قال أحدنا: وماذا قال إن الذي نسمعه أضعاف أضعاف ذلك، وإن رأينا منكرًا صغيرًا فتمعرت الوجوه وتغيرت القلوب قال لنا غيرنا: وماذا فعل فإن الذي نراه ونعلمه وفي كل مكان هو أشد وأفظع وأبعد في الجرم والنكارة من ذلك.
إننا بمثل هذا السلوك نئد المروءة في قلوبنا، ونمحو السماحة في نفوسنا، ونقتلع جذور حسن الظن من أعماقنا، ونغيّر في تفكيرنا فلا نعود نرى إلا السوء متجسدًا في كل صورة، وإلا السواد مظلمًا في كل ناحية، وهذا لعمري أمرٌ خطير؛ فإن محاسن الإسلام جاءت بعكسه وضده؛ لأن المروءة خلة كريمة وخصلة شريفة، إنها أدبٌ نفسي يحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات دون التأثر بما يكون حولها أو يقال عنها.
إنها صدقٌ في اللسان وحسنٌ في الخلق وبذلٌ للمعروف وكفٌ للأذى وصيانة للنفس وطلاقة في الوجه وإحسان في الظن، إنها جملة من سماحة النفس ودماثة الخلق وطيب المعشر، تقدّم الخير ولا تنتظر عليه مكافأة ولا شكرا، وترد السوء وتغضي عنه ولا تنتظر انتصارًا ولا انتقامًا، لا عن ضعف وذلّ وهوان، ولكن عن شرف نفس ورفيع خلق وعلو مقام ومكان ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) [الفرقان/63].
ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا ولا طعّانًا ولا سبابًا ولا شتّامًا في الأسواق صلى الله عليه وسلم.
المروءة هذه قد ينظر إليها الناس أنها ضعف كما أشرت، لكن المروءة في حقيقتها هي كمال الرجولة، ومن كانت رجولته كاملة كانت مروءته حاضرة.
وإليك هذه الخلاصة، اليسير من الألفاظ الوجيزة ذات الدلالات العميقة، التي هي فيض من أوتيه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من جوامع الكلم، روى أحمد في مسنده من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنما بعثٌ لأتمم صالح الأخلاق".
كل بعثته لهذا التقويم الخلقي والرقي الإنساني, وإذا به كذلك يقول كما في حديث سبطه الحسن بن علي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك"، وحديثه "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديثه الجامع: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وغير ذلك من جملة هذه الأحاديث التي تدلّنا على أن هذه المروءة قمة من قمم الأخلاق الفاضلة والمعاملات الرفيعة.
وسئُل سفيان بن عيينة: إنك تستنبط من القرآن عجائب فأين المروءة في كتاب الله عز وجل؟ إننا لا نرى لها آية ولا لفظًا؟ فقال: تأمل قوله جل وعلا: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [الأعراف/199] فإنها جمعت المروءة من أبوابها كلها، خذ العفو قال: فيه المروءة، وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق, لماذا؟ لأن ( خُذِ الْعَفْوَ ) فيه صلة بالأرحام والمقرّبين، وفيه رفق بالمخطئين والمذنبين، وفيه كذلك صلة للأرحام، وتعفّف عن ما جاء من الحلال والحرام, و (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) فيه التخلّق بخلق الحلم والعفو والصفح والمسامحة والإعراض عن أهل الظلم والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلاء.
وهي آية الأمر فيها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إعجاز القرآن في هذه الأوامر الثلاثة ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
إنها صورة مهمة لكي نرى سمت المروءة الذي ينبغي أن نكون عليه وأؤكد هذا لأن صورًا من واقعنا قد تعارضه وتناقضه ولو كانت معارضتها في السلوك والممارسة لكان الأمر هينًا, لكن هذه المعارضة تأتي كذلك بالتقرير والتعليم، فنرى الأب يعلم ابنه انتبه لا تكن ساذجًا فتعفو عن كل من أخطأ عليك، عليك أن ترد الصاع صاعين، انتبه لا تجعل أي أحد يتلفظ عليك بلفظ إلا وكلت عليه كيلاً من السباب و الشتائم ونحو ذلك.
نجد صورة من التأزّم والتوتر والتسفّل وعدم الترفّع والحرص على إثبات الموقف دون كسب القلوب.
صورة تتغير في واقع مجتمعاتنا وتزداد ضراوتها، وبشاعتها عندما نلغي أصولها فنقول: لا تحسن الظن بالناس؛ فإنك حينئذ تكون مغفلاً، ولا تعفوا عن أحد؛ فإنك حينئذ تكون جاهلاً، وهكذا.
ولذلك ينبغي أن ندرك أن المروءة دواعيها علو الهمة وشرف النفس، إنها أمر سامٍ رفيع، إنها قمة عالية, من يصل إليها فإنه يستطيع أن يملك نفسه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب", ويستطيع كذلك أن يترفّع عن الدنايا والرزايا فيكون محلِّقا فيما هو أسمى وأعلى.
علو الهمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صح عنه أنه قال: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" وفي لفظ آخر: "إن الله تعالى كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".
من السهل أن يكون المرء -والعياذ بالله- سفيهًا، لكنه من غير اليسير أن يكون حليمًا، من السهل أن يكون باطشًا وظالمًا، لكنه ليس من السهل أن يكون متغاضيًا وعادلاً، ومن هنا كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يسأل القصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا، أي في الأحوال التي تتقلب فتزل فيها النفوس وتجنح مسالك الأخلاق يمنة ويسرة بعيدًا عن سمو الخلق ومنهج الإسلام وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
كم نحن في حاجة إلى تقويم نظرتنا، وتصحيح أصولها بعد أن تغيرت وتبدّلت، فلنعد بها إلى أصول المنبع الرباني في آيات القرآن، وإلى أصول الهدي النبوي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا الفاروق عمر -رضي الله عنه- يقول: "لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمة" صغيرُ الهمة يردّ مباشرة، وعالي الهمة يغضّ الطرف ويسمو:
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسامُ
ولذلك المرء حيث يضع نفسَه، فإن وضعت نفسك في صف السفهاء فقل مثل قولهم، وافعل مثل فعلهم واجهل كجهلهم, وإن أردت أن تكون مع الشرفاء فارْقَ إلى حلمهم، وكرمهم، ومروءتهم، وحسن أخلاقهم.
كثيرة هي المواقف التي تمرّ بنا، وشرف النفس هو -أيضًا- من دواعي الهمة:
إذا أنت لم تعرفْ لنفسك قدرَها * هوانًا كانت على الناس أهونا
فنفسَك أكرمْها فإن ضاق مسكَنٌ * عليك لها فاطلبْ لنفسك مسكنا
وهذه أمور كثيرة ومهمة، شروط هذه المروءة في ثلاثة مجالات هي نوع من السلوك اليومي، بل هي تدخل في كل لحظة، لقاءاتنا، وتعاملاتنا, المعاونة والمؤازرة، أن يكون بعضنا لبعض أعوانًا ومؤازرين حتى في النصح؛ فإن النصح نوع من العون إذا كان في السّر، وإذا كان بالحكمة واللطف, وهكذا يكون كلٌّ منا عون لأخيه بالإعانة الشرعية، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قالوا: عرفنا نصرته مظلومًا فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تردعه عن ظلمه فتلك نصرته".
مفاهيم إيمانية إسلامية أخلاقية إنسانية راقية، ليست منطلقة من ردود الأفعال، ولا من ضيق النفوس ولا من نزغ الأهواء, وإنما من شرف الوحي، وعظمة الرسالة، ومقام أخلاق النبوة الكريمة، ومن هنا نجد الأمر الآخر: المسامحة والمياسرة، فإن طبيعة الحياة تقتضي شيئًا من الخلاف, ويكون فيها بعض من النزاع, واليوم وللأسف ضاقت الصدور وتحشرجت النفوس، وكلمةٌ واحدةٌ ربما يصل بها الأمر إلى قطيعة دهر كامل, وكأنه لم يعد عندنا مساحة لتلك المسامحة والمياسرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في هذا الشأن: "رحم الله امرأ سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى" لماذا كل هذا الضيق؟ لم هذا التوتر؟ لم هذه الكلمات الجافة القاسية؟ أين نداوة الكلمات الرّطبة؟ أين حلاوة الأخلاق الحسنة؟ أين طلاقة الوجوه المشرقة؟ أين حياتنا التي نريد فيها بردًا وسكينة وسلاما، بدلاً من هذه النار المتأججة والحرارة الملتهبة التي كادت تفسد علاقاتنا حتى دخلت إلى عقر بيوتنا, فلا نسمع كلمة حسنة من زوج لزوجته, ولا كلمة رحيمة من أب لابنه، ولا كلمة تقدير وإجلال من ابن لأبيه، فقدنا كثيرًا وخسرنا كثيرًا يوم ضيّعنا مثل هذه المروءات وهذه الأخلاقيات وهو الميدان الثالث.
الإفضال والإحسان، لا ترد الصاع صاعين، بل ولا ترد الصاع صاعًا، ولكن (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) [الفرقان/63]، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )[الأعراف/199]، (بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ )[فصلت/34].
ويأتي الأعرابيُّ فيجذب بردة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تؤثِّر في صفحة عنقه, يطلب حقًا له فيبتسم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويهدئ من حوله ويقول: "أعطوا له حقه".
ويوم يجدون حقًا لأحدٍ لكن عندهم ما هو أعظم منه من النوق والجمال فيقول: "أعطوه أحسن منه؛ فإن أحسنَكم أحسنُكم قضاءً".
أين نحن من هذه الأخلاقيات؟ أين نحن من هذه المروءة؟ التي لو عُمِّرنا بها حياتنا لغمرنا قلوبنا بالمحبة والوئام والراحة والسكينة والطمأنينة.
وتأملوا هذه الأهمية في واقع الحياة في مقالة للشعبي -رحمه الله- قال: "تعامل الناس بالدِّين زمانًا، بالدّين: أي بالتديّن ومراقبة الله -عز وجل- فلما ذهب الدِّين – أي ضعف – تعاملوا بالمروءة زمانًا، فلما ذهبت المروءة تعاملوا بالحياء زمانًا، ثم قال: وبعد ذلك تعاملوا بالرغبة والرهبة زمانًا، ثم قال: ولا أدري ما يتعاملون بعد إلا وهو شر منه".
نحن نريد أن نغيّر، أن نعود إلى أصولنا، إلى منطلقاتنا، إلى الراحة الكبرى والمنّة العظمى، الذي قدّمها وأكرمنا بها الله -عز وجل- في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتأمّل -كما قلتُ- الرد المخالفَ، المغايرَ لكثير مما نسمعه، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون/96] وكما قال قائلهم: لا تكمل مروءة الرجل حتى يسلم منه عدوه.
والسؤال هنا فكيف والآن لا يسلم منه صديقه، إذا كان الصديق والقريب لا يسلم فكيف بالمخالف والمعادي؟ ونحن نصطنع –وللأسف- في بعض الأحوال أعداءً من هنا وهناك.
واختم في هذا المقام في صورة معبّرة عن مجتمعنا المسلم، في حادثة كان فيها معاوية -رضي الله عنه- جالسًا وعنده عمرو بن العاص, فدخل عليهما عبدالملك بن مروان، فجلس ثم انصرف، فقال: معاوية ما أكمل مروءة هذا الفتى، فقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في وصف هذه المروءة: إنه أخذ أربعًا وترك ثلاثًا، قال:
أحسنَ البِّشْر إذا لُقي – يعني: كان إذا لقي ودخل أحسن البشر وطلاقة الوجه لا يدخل متجهمًا مقطب الجبين غائر العينين شزر النظرات.
وأخذ بحسن الحديث إذا حدث: – الكلمة الطيبة صدقة-.
وأحسن الاستماع إذا حُدِّث –فلا يقاطع ولا ينازع ولا يعارض– .
وأيسر المؤونة إذا خُلف – فإذا خُلف في أمرٍ كان هينًا لينًا, حسن التجاوب والرد–.
وترك نفسه:
من كل ما يليق فعله، وترك مخالفة الناس، وترك من الكلام ما يعاب عليه).
وهكذا ينبغي -أيها الإخوة الكرام- أن نحوّل حياتنا إلى هذه المروءة, وأن نحرص على ألا تضيع.
لا تسوّدوا الحياة في وجوه الناس، لا تقولوا فسد الناس ولا هلك الناس؛ فقد صح عند مسلم في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال هلك الناس فهو أهلَكُهُم" وفي بعض ضبط لفظ الحديث: "فهو أهلَكَهُم"، لا نقل في كل حادثة صغيرة إن هناك ما هو أعظم وأكثر فنقلّل الخير ونكثّر الشر، ونجعل أمر السوء عظيمًا متضاعفًا متكاثرًا، ونجعل الخير الكثير الذي فينا، وحسن الظن بالله -عز وجل- الذي يعمر قلوبنا ومساجدنا المليئة بمصلينا، وكثير من وجوه الخير التي فينا كأنها لا وجود لها، أو لا وزن لها، أو لا أثر لها، نحن بخير بحمد الله ونحتاج أن نستكثر من الخير.
فنسأل الله -عز وجل- كما حسّن خلقنا أن يحسّن أخلاقنا، وأن يرزقنا حسن الأخلاق ويهدينا إليها؛ فإنه لا يهدي إليها إلا هو.
الخطبة الثانية:
فإننا بحمد الله -عز وجل- مدعوون في كتاب الله في كل آنٍ وحينٍ بتقواه.
وتقوى الله -عز وجل- هي منبع محاسن الأخلاق ومكارم الخلال.
وإن المروءة سمة عظيمة ينبغي أن نحرص عليها، وأن نتنادى إليها وأن نتواصى بها، وأن نشيعها فيما بيننا، وأن نحسن القول والفعل، وأن نجعل دائرة الخير تعم، ونور الفضيلة يشع، وأن نوسّع من صدورنا، ومن قلوبنا، ومن أخلاقنا
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها * ولكن أخلاق الرجال تضيقُ
وقيل لأحد الحكماء -وكانوا في مجلس ضيق-: إن المكان ضيّق، قال: إن الدنيا سعتها لا تتسع متشاحنين, وإن شبرًا في شبر يتسع لمتحابين.
فإن الضيق ليس في الأماكن ولا البيوت، ولا الطرقات ولا الشوارع، ولا زحام السيارات، إنه هنا في داخل الصدور والقلوب، في الأخلاق التي ضمرت نوعًا ما، في كثير من الماديات الشرسة التي بدأت تأخذ القيادة من سماحتنا ومروءتنا وتجنح بها إلى طريق آخر ومسلك آخر، حتى إننا لم يعد يسلم بعضنا من بعض.
اتهامات موزّعة بالجملة، وأختام بالأحكام جاهزة لكل أحد، ونسينا أننا بين يدي الله موقوفون، وأننا عن كل كلمة مسؤولون (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق/18].
وتأمّلوا حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه- عند ابن حبّان في صحيحه بسند صحيح، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا", فكيف بسب الأحياء إذا كان المصطفى يقول: قد مات من مات فلا تذكروه بسوء إلا إن كان مقامًا يقتضي ذلك من علم أو بيان حق.
وفي حديث المغيرة -أيضًا-، عند ابن حبان في صحيحه بسند حسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الأموات؛ فتؤذوا الأحياء" إن سببت رجلاً قد مات فكأنما تسب أهله وأبناءه، وتسيء إليهم، أو عالمًا من بلد فكأنما تسيء إلى أهل بلده ونحو ذلك.
وعند أبي داوود والترمذي في سننهما، وهو عند ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بسند فيه مقال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم".
إذا كانت كل هذه الأحاديث فيمن مات وانتقل عن الدنيا وما زال الإسلام يحفظ حقه، ويمنع ذكره بسوء، فكيف بنا ونحن نتنابز بالألقاب، والله -عز وجل- ينادينا (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) [الحجرات/11].
وهكذا نجد الآيات ونجد الأحاديث، حتى جاءنا -أيضًا- التوجيه العظيم في المروءة السامية، في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه- وهو كذلك بسند حسن، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم أو زلاتهم).
ومن ذووا الهيئات؟ الذين يعرفون بالخير والمعروف فإن أخطأوا مرة أو زلّوا زلّة فغضّوا الطرف واستروا مالم يكن حدًا فالحد له حكمه.
وأما إقالة ذوي العثرات فأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- فما بالنا نتتبع العثرات؟ وما بالنا اليوم مع هذه الفوضى الإعلامية لا نكاد نذر أحدًا شرقًا ولا غربًا إلا نلنا منه أو من علمه أو من فضله أو من أي شيء متصل به.
حريٌ بنا أن ننتبه إلى أول حديثنا وحرص ذلك الرجل الذي خُدع وسُرق ومع ذلك كان يريد أن يحافظ في مجتمعه على المروءة فقال: لا تخبر الناس، قال أتخشى أن يقولوا: قد لحق الخزي بك، قال: لا، ولكن حتى لا تضيع المروءة بين الناس، فلا يقف أحد لصاحب حاجة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|