صيحة نذير - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1009 - عددالزوار : 122893 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 121 - عددالزوار : 77572 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 62 - عددالزوار : 48995 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 191 - عددالزوار : 61485 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 76 - عددالزوار : 42876 )           »          الدورات القرآنية... موسم صناعة النور في زمن الظلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          تجديد الحياة مع تجدد الأعوام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          المرأة بين حضارتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          رجل يداين ويسامح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 31-08-2020, 03:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,564
الدولة : Egypt
افتراضي صيحة نذير

صيحة نذير


أحمد الجوهري عبد الجواد






إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أغر عليه من نور النبوة خاتم
من نور يلوح ويشهدُ

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ

وشق له من إسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمدُ


أما بعد، فيا أيها الإخوة، إن من أجل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه هي العمل بشريعته سبحانه عند الاتفاق والتراضي، والتحاكم إليها عند الاختلاف والتنازع، فهو برهان الإيمان وعلامة توحيد الرحمن، ولذا نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان عمن لم يفعله، مقسماً على ذلك كما في قوله جل جلاله: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

فتعالوا بنا -أيها الإخوة- نطوف سويّاً حول هذا الموضوع الجليل، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف نحدد الحديث في العناصر التالية:
أولاً: هذا ديننا.
ثانياً: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
ثالثاً: ورقة عمل ما هو واجب المسلمين تجاه تحكيم شريعة رب العالمين؟

أولاً: هذا ديننا:
أيها الإخوة! يتأسس دين الإسلام من جزأين رئيسين: عقيدة تؤسس بنيانه وتقعد أركانه، وشريعة تحدد مسيرة المؤمنين به وتنظم شئونهم، وابتداء أقول: ليس هذا قضاء بتقسيم الدين إلى قسمين، كما أنه ليس فصلا بين حقائقه، فإن الدين كل لا يتجزأ وهو كالبنيان المرصوص لا ينفصل جزء منه عن جزء، بل نسبة الشريعة إلى العقيدة كالثمرة التي تخرج من الزرع فلا هي بدونه تخرج، ولا هو من غيرها يصلح، وقد أحسن من قال: إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، تنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم فليس هذا تقسيمًا للدين أو فصلًا بين حقائقه، وليس هذا كذلك من التوهين لمكانة الشريعة، فالعقيدة والشريعة الكل يرجع في النهاية إلى الأخذ بالدستور القويم والوحي المحفوظ المنزل، المتمثل في القرآن الكريم وبيانه في سنة النبي العظيم. والقرآن كل لا يتجزأ، وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة، بين بعضها وبعض ما يشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يؤثر في بعض، ولا يجوز أن يفصل جزء أو أكثر منها عن سائر الأجزاء، فالعقيدة تغذي العبادة، والعبادة تغذي الأخلاق، وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة، ولا يسوغ في منطق الإيمان ولا منطق العقل أن يقرأ المسلم قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فيقول: سمعنا وأطعنا، ولكنه إذا قرأ في نفس السورة قوله سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178] قال: سمعنا وعصينا!!

ولماذا؟ لأن الآية الأولى في مجال العبادات، والأخرى في مجال العقوبات!
ومعنى هذا أن الإنسان أصبح معقبًا لحكم الله تعالى، يأخذ منه ويدع، ويقبل منه ويرد، بهواه وحده، والله لا معقب لحكمه.

ولا يسوغ في منطق الإيمان ولا منطق العقل أن يأخذ المسلم من سورة البقرة آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255].

ولا يأخذ منها آية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279]. لأن آية الكرسي في الإلهيات، وآيات الربا في المعاملات!!

ومثل ذلك يقال فيمن يقبل من سورة المائدة قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ....... ﴾ [المائدة: 6].

ويرفض من السورة قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38].

ويقرأ قوله تعالى: ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [الحج: 78]، فيقول: آخذ الصلاة ولا آخذ الزكاة، لأن الصلاة شعيرة روحية خالصة، أما الزكاة ففريضة تتعلق بالمال والاقتصاد، فأنا أقبل ذلك، ولا أقبل هذه"![1]


يا لله العجب! هل غدا العبد أعلم من ربه؟ أو بات المخلوق أعلى من خالقه؟!!
إنه لم يعد حينئذ ندًّا لله فحسب، بل زاد على ذلك، فجعل من نفسه محكمة عليا للتمييز، أو للنقض والإبرام، فينقض ما شاء له عقله أو هواه أن ينقض من أحكام الله، ويبرم ما شاء له أن يبرم!

إن الشيء المؤكد الذي لا خلاف عليه، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة ـ بمعنى أنه لم يعد في حاجة إلى إقامة أدلة عليه، لأنه مما يشترك في معرفته الخاص والعام ـ أن تعاليم القرآن كلها واجبة التنفيذ، ولا فرق فيها بين ما يسمى "روحيًّا" وما يسمى "ماديًّا"، ما يعتبر من "شئون الدين" وما يعتبر من "شئون الدنيا"، ما يتعلق بحياة "الفرد" وما يتعلق بحياة "الجماعة".

أيها الإخوة! إن هذه التسميات والعناوين لا وجود لها في كتاب الله تعالى، ولا توجد فوارق معتبرة بين بعضها وبعض، ما دامت كلها في دائرة أمر الله سبحانه أو نهيه.

ومن فتح المصحف وقرأ سورة الفاتحة، ثم شرع في سورة البقرة، وجد أول ما يطالعه وصف المتقين المهتدين بكتاب الله بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، فقرن بين الجانب الاعتقادي "الإيمان بالغيب"، والجانب الشعائري "إقامة الصلاة"، والجانب الاقتصادي "الإنفاق مما رزق الله".

وهكذا نجد أوصاف المؤمنين وأهل التقوى والإحسان، في سائر سور القرآن لا تفرق بين جانب وجانب.

ومثل ذلك نجده في الأوامر والنواهي والوصايا القرآنية، مثل: الوصايا العشر في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ........ ﴾ [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات.

ووصايا الحكمة في سورة الإسراء: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا....... ﴾ [الإسراء: 23].

فهذه الآيات كلها أيها الإخوة! تجمع بين العقيدة والعبادة والخلق والسلوك، مما يتعلق بالدين وما يتعلق بالدنيا، وما يتعلق بالفرد أو بالأسرة أو بالمجتمع، في سياق واحد، ونسج واحد لا ينفصل بعضه عن بعض، ولا يتميز بعضه عن بعض.

وأحيانًا يستخدم القرآن صيغة واحدة في طلب الأمور التي يعتبرها الناس مختلفة باختلاف مجالاتها، مثل قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216].

فهذه صيغة واحدة: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ وهي تفيد تأكيد الوجوب والفرضية استعملت في القصاص وهو في القانون الجنائي، وفي الوصية وهي من الأحوال الشخصية وشئون الأسرة، وفي الصيام وهو من شعائر العبادات، وفي القتال وهو من شئون العلاقات الدولية.. وكلها مما كتبه وفرضه على المؤمنين.[2].


ولذا كان ما أقدم عليه المسلمون في هذا الزمان من تنحية شريعة ربهم، وتحكيم أهوائهم وعقولهم في حكم الحياة كما يشاءون، وما راحوا ينتهجون من طرق ومناهج الحكم التي تصطدم اصطدامًا مباشرًا مع ما يؤمنون به من الإسلام، ليحكموا بها أنفسهم، إنما هي نكبة ورزء لم يصب الإسلام وأهله قبل بمثله، فهلا أفاق المسلمون وابتدروا الرجوع قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون، فلا يستطيعون الحياة الهانئة في الدنيا، بعيدًا عن الذلة التي فيها يحيون، ولاهم يوم القيامة من الفالحين، بما تجرؤوا على أحكام الله فعطلوها وقوانين لأعدائه فأعملوها، هم بسببها يوم القيامة من المقبوحين!!

أيها الإخوة! إن أعظم ما تعانيه الأمة من أمراض وعلل على الإطلاق لا يضارع في خطره وشدة مصابه تعطيل شريعة الله، وما أحوج العالم كله، وليس المسلمين فحسب، إلى تنسم الحياة الهانئة يوم ترفرف راية الله على سمائهم، وذلك يوم يعملون بأوامره، ويقفون عند زواجره، ذلك يوم يحكمون كتابه، أما أن يضيعوا الكتاب ويغيبوا الشريعة عن ساحة الحياة فوا أسفاه على بني الإنسان العقلاء وعلى ملايين المسلمين منهم على وجه الخصوص.

إن تحكيم الشريعة والتحاكم إليها فريضة من أعظم الفرائض المضيعة التي تقف وراءها كل فريضة، والقضية التي تتضاءل بجوارها كل قضية. بل هي كما وصفها أحد العلماء بأنها – ونعم ما قال- القضية الأم، ولله در الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إذ يقول: "اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع" [3].


هذا هو ديننا عقيدة وشريعة وهذه هى مكانة الشريعة فى دين الاسلام، فلا تقدموا بين يدي الله ورسوله.

وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء أيها الإخوة:
ثانياً: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 60 - 65].

ففي هذه الآيات إنكار شديد على من يرغبون ويميلون إلى التحاكم إلى غير الله -عز وجل-، وإخبار بأن ذلك شأن الكافرين والمنافقين لا شأن المسلمين المؤمنين ولذلك نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان عنهم إلا أن يرجعوا فيحكموا الرسولr ويذعنوا وينقادوا ويرضوا بحكمه.

يقول الحافظ ابن كثير: "والآية ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل" [4].


أيها الإخوة.. إن مقتضى الإيمان:
الإذعان والانقياد لأوامر ونواهي الله ورسوله، وأن لا يقول المسلم ولا يفعل إلا ما دله عليه الكتاب والسنة وهذا هو الأمر الذي أمرنا الله -تبارك وتعالى- به منبهاً في الوقت ذاته على خطورة مخالفته فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1]

فأمر الله -تبارك وتعالى- بأن لا نقدم بين يديه ويدي رسوله r قال علماؤنا: ومعنى قوله تعالى: "لا تقدموا بين يدى الله ورسوله" أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، ولا تقولوا قولاً ولا تعملوا عملاً قبل قول الله وقبل قول وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر يحمل التحذير من مخالفته والتنبيه على خطورته فقد سمت الآية مخالفة الكتاب والسنة تقديمًا على الله ورسوله كأن الذي ذهب يعمل بخلاف أحكام الله ورسوله قد جعل من نفسه ربّاً أو من هواه إلهاً فاتبعه على التحليل والتحريم كما قال الله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً" وقال: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]

فلابد للمسلم إن كان صادقاً حقاً أن ينقاد لأوامر الله ورسوله وأن يخضع ويسلم ويذعن لكل ما يقتضيه عقد الإيمان والإسلام فهذا هو المحك العملي الحقيقي الذي يتبين به الوفاء بمقتضى هذا العقد أو نقضه من أساسه، فلا يمكن لأحد أن يدعي الإسلام دون الانقياد لأوامر العزيز المتعال، والانقياد -أيها الإخوة- هو إسلام الوجه لله تعالى كما عبر عنه القرآن الكريم فقال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54].

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22].

﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِأي ينقاد لله جل جلاله ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾: أي وهو موحد لله جل جلاله ومعنى فقد استمسك بالعروة الوثقى: العروة الوثقى هي لا إله إلا الله.

وقال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [لقمان: 22].

وما نجح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما أفلحوا إلا يوم صار الانقياد لأوامر الله تعالى ديدنهم حتى صار لهم سجية أن يسمع الواحد منهم الأمر أو النهي فيستبق إلى العمل ويسارع في تلبيته وإجابته ولذا أثنى الله عليهم بفضل ذلك منهم كما قال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]. وكما قال سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]

وكما قال سبحانه يخفف عنهم ويرفع عنهم الإصر والأغلال وعن هذه الأمة بفضل انقيادهم واستجابتهم لأوامره كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284] قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَىْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ في إِثْرِهَا ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل- ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] قَالَ نَعَمْ ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ قَالَ نَعَمْ ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قَالَ نَعَمْ ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قَالَ نَعَمْ[5].


نعم -أيها الإخوة- إن أول مظاهر الانقياد وأول براهين العقد الذي به يصح الإسلام أن يطيع المسلم الله ورسوله فيما أمر وأن ينتهي عن كل ما نهى الله ورسوله عنه وزجر وأن يسلم لحكم الرسول الذي هو حكم الله و يرضى به وهذا هو صريح الآية ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] يقول بعض المفسرين: يقسم الله سبحانه بذاته العلية أنه لا يؤمن مؤمن حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الإسلام والإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؟؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! [6].


وفي البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» [7].


فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله فيرضي ما يرضي الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض [8].


ولا شك أن من مظاهر الانقياد - أيها الإخوة - قبول شرع الله - عز وجل - ورفض ما سواه فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله والدين ما شرعه الله على لسان رسوله فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

أيها الإخوة! إن من قال لا إله إلا الله يجب أن يعلم أن الحكم لله وحده وليس من حق فرد أو هيئة أو مجلس أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله - عز وجل - فما الخلق إلا خلق الله وما دام الخلق له ولم يكن له شريك فيه وإذا كان هو الذي يرزق الناس وإذا كان هو سبحانه القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير شئونه، ولم يكن له في كل ذلك من شريك وإذا كان هو -سبحانه وتعالى- وحده الذي يستحق أن يعبد بلا منازع أو شريك فهو وحده صاحب الحق في التشريع والحكم ولا مبرر مطلقاً لأن يكون أحد شريكاً له في هذا الجانب، فينبغي على العبد أن يلزم حده وأن يعرف قدره وأن لا يطغى ويجاوز حدوده ويتعدى على شئون وخصوصيات ربه فإنها الهلكة وإذا كان رجل ممن كان قبلنا أخطأ فقال كلمة لكنها كلمة عبرت عما في قلبه من كبير الكبر وعظيم البطر والأشر تجاوز بها هذا العبد حده وتدخل بها في شئون ربه فأوبقت دنياه وأخراه فما بالنا بمن غيروا حكم الله وبدلوا شرعه ونحوا قضاءه ووضعوا بدلاً من دين الله الحق قانوناً وضعيّاً هزيلاً حكموه في الأعراض والأموال واسمع الى خبر هذا الهالك ينبيك عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما فى الحديث الذى رواه أبوداود وصححه الألباني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ رَجُلاَنِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا في يَدِى قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ [9].


فهذا رجل تكلم بكلمة فما بالك بمن نحى دستور السماء ووضع بدل منه زبالة أفكار اليونان والفرنسين والانجليز كأنه يقول هذا خير لكم من هذا؟
فهل هذا هو الانقياد لأحكام الله التي تقتضيه كلمة لا إله إلا الله؟ أم هو التناقض مع ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان؟ راح البشر يشرعون من عقول مهازيلهم تشريعات يضاهئون بها شرع الله وينحون بها أمره وحكمه، بل رميت الشريعة بالعجز والضعف والقصور والجمود وأنها لم تعد قادرة على مواكبة ومسايرة روح العصر... إلى قوله وفي جميع شئون حياتها". [10].


وأود أن أشير هنا إلى أمر جدير بالتنبيه ألا وهو أن فهمًا خاطئًا أو تحريفًا متعمدًا ينصب دومًا على لفظ الشريعة ولاسيما إذا أطلق نداء التطبيق لأحكامها؛ إذ يتصور البعض أو يصورون أن تطبيق الشريعة هو فقط تنفيذ الحدود الجنائية والصحيح أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يقف عند حد إقامة الحدود، فليس التشريع في الإسلام محصورًا في الحدود والعقوبات، "إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب، فهو قانون مدني وإداري، ودستوري ودولي …… إلخ إلى جانب أنه قانون ديني.

ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والمعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والسفر والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضاء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة.

ولا نقول هذا هروبًا من الإقرار بأن للحدود فى الشريعة منزلتها ومكانتها، فإن الحدود كما شرعها الإسلام هي السياج الحارس للمحارم، وهي الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.

والحدود - كما شرعها الإسلام - ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون ومن يركب مركبهم وينهج منهجهم، من علمانيينا ومتغربينا من المتنكرين لدينهم المنسلخين من زي قومهم إلى عباءة أعدائهم العفنة القذرة.

ولقد صار هنالك انتشار لهذا الفهم الخاطئ الذي نشأ لأجل هذا التبشيع الناشئ أصالة عن نظرة خاطئة انتقلت إلى بني قومنا تبعًا لنظرة الغربيين لعقوبات الحدود، والغربيون يستبشعون هذه العقوبات لسببين:
أنه لم تكتمل بعد نشأة شعوره الخلقي، فهو بينما كان يعد الزنا من قبل عيبًا وهجنة إذ به الآن لا يعتبره إلا لعبًا وسلوة، يعلل به شخصان نفسيهما ساعة من الزمن! ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقي والاجتماعي وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو بالإكراه، وكان بامرأة متزوجة أو باكرة، جريمة اجتماعية في كل حال تعود مضارها على المجتمع بأسره.

أن حضارة الغرب قد قامت على إعانة (الفرد) على (الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مغلو فيه للحقوق الفردية، لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدائه على المجموع، فلا ينكره أهل الغرب، بل يحتملونه غالبًا بطيبة نفس، ولكنه كلما امتدت إلى الفرد يد القانون حفظًا لحقوق الجماعة، اقشعرت منه جلودهم خوفًا وفزعًا، وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة.

إن الإسلام يشدد في إثبات الجريمة تشديدًا غير عادي، وخصوصًا في جريمة الزنا، ومن ثم إذا ثبتت لا يتهاون في إنزال العقوبة المقررة على فاعلها وحكمته في ذلك ما أوضحنا وهي حكمة لا تقوم لها تعليلات الغرب في المأخذ عليها ولعل هذا يطمئن القلوب الفزعة والنفوس الهلعة إلى تشريع الحكيم الخبير إن كان لايزال فيهم بعض عقل يسوقهم إلى الحق بتفكيرهم من غير تبعية لغيرهم.

إن المطالبة بتطبيق الشريعة لا يختص بالحدود وحدها ولكنه نداء لتطبيق الشريعة جمعاء في كل شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها كفاية الناس من الإفلاس بحمل ضعيفهم وإعانة محتاجهم وسد حاجة فقيرهم وكفاية معوزهم، كل ذلك قبل أن ينظر في عقوبة فلا قطع يد ولا جلد ظهر فاعقلوا عباد الله.

ومن هنا -أيها الإخوة- كان للشريعة بركاتها ونتائجها الطيبة التي يحصدها كل من التزم بها ويجر التخلي عنها آثار سيئة لا حدود لسوئها.

أيها الإخوة إنّ التزام المسلمين بأحكام شرعهم الحنيف ودينهم القويم هو أساس فلاحهم وعنوان سعادتهم وسبب عزهم ونصرهم على أعدائهم، وهو مصدر أمنهم واستقرارهم. ومتى كانت حالهم بعكس ذلك حصل لهم الخسران والهلاك والذل والهوان. وقد أقسم الله بالعصر على خسارة كل إنسان إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وكتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالنصوص التي توضح هذه الحقيقة، وما سجله التاريخ من حصول العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه يصدق ذلك، والواقع المشاهد المعاين أصدق برهان.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 177.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 175.63 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.97%)]