|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (1) {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الغفور الوهاب، امتنَّ على المؤمنين بالهُدى والرَّشاد، وأقام حُجته على أهل الاستكبار والعناد، ونشر رحمته على العباد؛ {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، نحمده على نِعَمه وآلائه، ونشكره على فضْله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل القرآن هدًى للناس، وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان، وجعله شفاء لما في الصدور والأسقام، فانتفع به المؤمنون، وحاد عن سبيله المستكبرون؛ {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتَّقوا الله ربَّكم، واغتنموا ما بقي من شهركم؛ فإنه عن قريب راحلٌ عنكم، وأنتم عن قريبٍ تُفارقون دنياكم لأخراكم، فتزوَّدوا من الأعمال الصالحة ما يكون أنيسًا لكم في قبوركم، وشفيعًا لكم عند عرضكم على ربكم؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقَّة: 18]. أيها الناس: أنزل الله - تعالى - القرآنَ حياةً لقلوب الناس، وهداية لهم، أغنى الله - تبارك وتعالى - به المؤمنين عن فلسفات العقول وتخبطها فيما يتعلَّق بالمبدأ والمعاد، والحكمة من الخلق، يقرؤه المؤمنُ فيعلَم أن الله - تعالى - مدبِّر الأمر، وخالقُ الخلق، وآمِرُهم بعبادته، وأنهم إليه راجعون، وعلى أعمالهم محاسبون، فيجتهد الواحد منهم في العمل الصالح؛ لنيلِ رضا الله - تعالى - وجنته، وإذا غفل أو نسي ذكَّرتْه الآيات، فكان هذا القرآن هدايةً للمؤمنين؛ {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. وإنما كان القرآن هدى للناس؛ لأنه كلام العليم الحكيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا؛ {رَسُولٌ مِنَ الله يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البيِّنة: 2، 3]، والرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - والصحفُ هي القرآن الذي أُنزل عليه، والكتب القيمة التي فيه هي آياتُه وأحكامه المتضمنةُ لأحسن ما في الكتب المنزلة؛ فإن القرآن قد حواها وزاد عليها، فكان أحسنَ الحديث؛ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمر: 23]، وقصصُه أحسنَ القصص؛ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ} [يوسف: 3]. والكتب القيِّمة هي المستقيمةُ التي لا عوجَ فيها، فمن اتَّبَعها فهو على الحق، وهذا هو وصف القرآن كما في سورة الكهف: {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2]، فهو كتاب لا اعوجاج فيه ألبتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني؛ أخبارُه كلُّها صِدْقٌ، وأحكامُه كلها عدْل، سالمٌ من العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه؛ لأن قوله: {عوجًا} نكرة في سياق النفي، فهي تعمُّ نفيَ جميع أنواع العوج، وقد وصفه الله - تعالى - في موضع آخر بقوله - سبحانه -: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزُّمر: 28]، وقد جمع الله - تعالى - وصف القرآن بأنه صِدق وعدْل في قوله - سبحانه -: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115]، والقرآن كلمة الله - تعالى. إنَّ نفي العوج عن القرآن يقتضي أنه ليس في أخباره كذبٌ، ولا في أوامره ونواهيه ظلمٌ ولا عبث، وإثباتُ الاستقامة يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجلِّ الأخبار وأهمها، وهي التي تملأ القلوبَ معرفةً وإيمانًا وحكمة، كالإخبار بأسماء الله - تعالى - وصفاته وأفعاله، والمبدأِ والمعاد، وأوامرُه ونواهيه تزكِّي النفوس وتطهرها، وتنمِّيها وتكملها؛ لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له. ولذا كانت هداية القرآن هي لأحسن الدين، وأحسن الأقوال، وأحسن الأفعال؛ {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فهو يَهدي للتي هي أقوم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وفي كل مجال من مجالات العلم والعمل والاعتقاد. إن القرآن جاءنا بالإسلام ودلَّنا عليه، فهو وعاء الإسلام، ولأن القرآن قيِّمٌ ولا عوج فيه؛ فإن ما تضمنه من الدين - وهو دين الإسلام - لا بدَّ أن يكون قَيِّمًا ولا عوج فيه، وهذا هو وصف الإسلام في القرآن؛ إذ خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول الله - تعالى -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161]؛ أي: دينًا مستقيمًا لا عوج فيه، وفي آية أخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} [الرُّوم: 30]، وفي آية أخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ} [الرُّوم: 43]، وقد تكرر في القرآن وصفُ دين الإسلام بأنه قيم؛ لأنه من عند الله - تعالى - الذي أنزله في قرآن عربي غير ذي عوج؛ ولذا قال - سبحانه - عن كفار أهل الكتاب ومشركي قريش: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البيِّنة: 5]؛ أي: إن دين الإسلام الذي أُمِروا به، ودُعُوا إليه، دينٌ قَيِّم لا عوج فيه. ومن عارَضَ الإسلامَ أو حادَ عنه، فقد حاد عن الصراط المستقيم، وسلك سُبُلَ العَوَج والضلال، وهذا ما عابه الله - تعالى - على كفار أهل الكتاب بقوله - سبحانه -: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99]. ووصف - سبحانه - به عمومَ الكفار، وتوعَّدهم عليه في قوله - عز وجل -: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 2، 3]. واستحقَّ أهلُ العوج والصدِّ عن سبيل الله - تعالى - لعنةَ الله - تعالى - وغضبَه بسبب أفعالهم؛ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [هود: 18، 19]. إن كل معارضة للقرآن، أو مراغمة لدين الإسلام، فهي من العَوَج ومن الصد عن سبيل الله - تعالى - لأن أصحابها استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وطرحوا دين القيمة، والكتب القيمة، والقرآن الذي هو قيم ولا عوج فيه، إلى أفكار غير قيمة، وأقوال عوجاء لا تهدي ضالاًّ، ولا تدلُّ حائرًا، ولا تزيل مشكلاً، ولا تحلُّ معضلاً. إن أكثر تخبطات البشر من الملاحدة والمشركين، وكفار أهل الكتاب، والزنادقة والمنافقين، والمبتدعة وأهل الأهواء، إنما كانت بسبب الأفكار والمذاهب العوجاء التي صدَّتْهم عن سبيل الله - تعالى - وأوردتْهم المهالك، وأورثتْهم الشقاءَ في دنياهم، والعذابَ في أخراهم؛ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. وإن كل محاولة للوحدة بين الإسلام وغيره من الأديان، أو دعوى المساواة بين الحق والباطل، فهي محاولة للجمع بين مذاهب أهل العَوَج وبين دين القيمة، ومساواة الأقوال المعوجة بالكتب القيمة، وهذه الآية تردُّ ذلك؛ إذ لا حقَّ ولا صواب إلا ما جاء به الكتابُ القيم، وكلُّ ما عارَضَه فهو باطلٌ وخطأ، ولا يجتمع الحق والباطل، ولا يستويان؛ كما لا يجتمع النور والظلمة ولا يستويان؛ {قُلْ لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ} [فاطر: 19]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22]، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ} [الحشر: 20]. جعلنا الله - تعالى - من أهل الحق والرشاد، وجنَّبنا سبل العوج والضلال، وثبَّتنا على دين القيمة، إنه سميع مجيب. وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله - تعالى - لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمْن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أيها المسلمون: الانحراف عن دين الله - تعالى - والحيدة عن منهجه، ومعارضةُ ما جاء في كتابه - سببٌ للعَوَج والضلال، وفسادِ الأمر في الحال والمآل، وكل ما ابتُليتْ به البشرية من أنواع الانحرافات في كافة المجالات، فبسبب بُعدها عن القرآن الذي لا عوج فيه: إما جهلاً به، وإما اتباعًا للهوى؛ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. ولم يَسلم من العوج بسبب الانحراف عن كتاب الله - تعالى - كثيرٌ من أهل الإسلام، ويكون عوجهم بحسب بُعدهم عن القرآن؛ بل لم يسلم من ذلك أهلُ القبلة؛ فمنهم من وقع في البدعة، ومنهم من قارف المعصية، وهذا من العوج عن الدين القيم، وعن الكتب القيمة التي في القرآن الكريم، وبدعةُ تكفير من لا يستحق التكفير من المسلمين، وما يتبعها من استباحة الخروج على السلاطين، وسفك الدماء المعصومة، والتخريب في بلاد المسلمين، وزعزعة أمنهم، وإثارة الخوف فيهم - كلُّ ذلك من سُبُل العوج التي ركبها بعضُ أبناء المسلمين؛ جهلاً أو هوى - نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى. وكانت الحادثة الأخيرة من أبشع أعمالهم في ميزان الدين والأخلاق؛ إذ زادتْ على مثيلاتها بالغدر بعد العهد، وبالخيانة بعد التأمين، والله لا يحب الخائنين، ولا يهدي كيدهم؛ فباء فعلُهم الشنيع بالفشل الذريع، والفضل لله - تعالى - وحده. إن المُؤَمِّنَ لو خان، والمُعَاهِدَ لو غَدَرَ، لكان ذلك عظيمًا عند الله - تعالى - وعند الناس، فكيف إذا كان مستجدي الأمان هو الخائن، وطالب العهد هو الغادر؟! لا شك أن ذلك أعظمُ جرمًا، وأشدُّ قبحًا، وأكثرُ عوجًا عن الحق، والحكماءُ يقولون: إذا ذهب الوفاء نزل البلاء، وإذا مات الاعتصام عاش الانتقام، وإذا ظهرت الخيانات قلَّت البركات. والعرب في جاهليتهم كانوا أهل وفاء، وكانوا يعيبون الغدرَ، ويفرُّون منه، ولو ذهبتْ أموالهم، وسُفكت دماؤهم في سبيله. وضع ملك الحيرة النعمانُ بن المنذر يومَ سَعْدٍ يكافئ فيه، ويومَ بؤسٍ يقتل أول من يمر عليه فيه، فمرَّ أعرابي من طيئ في يوم البؤس؛ فحق عليه القتل، فطلب الإمهال ليوصيَ بصبيته الصغار، فخاف النعمان فِراره، فضمنه كاتبُ النعمان شريكُ بن عمرو، على أن يكون مكانه في القتل لو لم يعد في نفس اليوم بعد حولٍ، فلما كان الأجل المضروب عاد الطائي للقتل؛ وفاء بالعهد، وصدقًا في الوعد، فقال له النعمان: ما حملك على المجيء وأنت تعلم أني أقتلك؟ قال: خفتُ أن يقال: ذهب الوفاء، فالتفت إلى كاتبه وقال له: ما حملك على أن تضمن من لا تعرف وأنت تعلم أنه إن لم يعد قتلتُك؟ قال: خفت أن يقال: ذهب الكرم، فقال النعمان: والله ما رأيت أكرم منكما، وما أدري أيكما أكرم: أهذا الذي ضَمِنك وهو الموت، أم أنت وقد رجعت إلى القتل؟ والله لا أكون ألأم الثلاثة، ثم قال: وأنا أيضًا أخاف أن يقال: ذهب العفو، خلُّوا سبيله، فأطلقه وأمر برفع يوم بؤسه. هكذا كان العرب في جاهليتهم، فلما جاء الله - تعالى - بالإسلام، وأنزل القرآن، عزز الوفاء والأداء، وغلظ في الخيانة والغدر، حتى عدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صفاتِ المنافق، فذَكَر منها: ((إذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا اؤتمن خَان))؛ رواه الشيخان، فكيف بمن اتَّخذ الغدرَ والخيانةَ دينًا ومنهجًا؛ ليسفك الدماء، وينشر الدمار والخراب في أوساط المسلمين؟! إن هذا السبيل الأعوج يخالف طريقَ القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وإن هذا المنهج الفاسد الخاطئ لَيدلُّ أن الشبهة في الدين تفتك بالقلوب، وتؤدِّي إلى إتلاف النفوس، ودخولُ الفتنة ليس كالخروج منها، فالإنسانُ بالخيار ما لم يلجْ بابَ الفتنة، وهو أمير نفسه، فإذا دخلها فقد سلَّم قياد نفسه لغيرها، ودخل نفقًا مظلمًا لا يدري ما نهايتُه، وربما مع بلائه لنفسه وأهله وإخوانه يقع في كبيرات الذنوب، وعظائم الموبقات، كسفكِ الدماء المحرَّمة، وإتلاف الأموال المحترمة، والله - تعالى - يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَزَالُ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا))؛ رواه البخاري، وهو مع ذلك كله يشقُّ عصا الطاعة، ويفارق الجماعة، فيموت على الجاهلية؛ كما في حديث ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رَأَى من أَمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عليه؛ فإنه من فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))؛ متفق عليه. نعوذ بالله - تعالى - من الأهواء والشبهات، ونسأله - سبحانه - أن يسلك بنا سبيل القرآن، وأن يجنِّبنا طرق الاعوجاج والضلال، إنه سميع مجيب. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (2) {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله العليم الخبير، هدانا للإسلام، وعلَّمنا القرآن، وجعلنا من أُمَّةِ الصيام والقيام، نحمده على جزيل عطائه، ونشكره على وافر إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، انحنتْ له جباه الكُبراء ذُلاًّ وتعظيمًا، ونصبتْ له أركان العباد محبَّة وخوفًا ورجاءً، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، كان يقوم من الليل يرتِّل آيات القرآن، حتى تتفطَّر قدماه الشريفتان، صَلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعتبروا بما مَضَى من الشهر الكريم لما بقي منه، فقد طويتْ صحائف أيَّامه السابقة بما استودعها العباد من خير وشرٍّ، فهنيئًا للمشمِّرين، وعزاءً للمقصِّرين؛ ï´؟ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ï´¾ [الزلزلة: 7 - 8]. أيُّها الناس: شهر رمضان هو شهر القرآن، فيه أُنزل على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان جبريل - عليه السلام - يعارضه بالقرآن في كلِّ رمضان، حتى كان آخر رمضان صامَه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عارضَه فيه جبريل بالقرآن مرتين. وفي رمضان يقرع القرآنُ الأسماعَ في صلاة التراويح، وتتحرَّك به الشفاه آناء الليل وآناء النهار، ويحصل من الحفاوة بالقرآن في رمضان ما لا يحصل في غيره، والحمد لله الذي أبْقى هذه السُّنة الحسنة في المسلمين إلى يومنا هذا. إنَّ القرآن الكريم له أوصاف قد بثَّها الله - تعالى - في آياته لو عقلها الناسُ وتدبَّروها وعملوا بموجبها، لصَلَحت قلوبُهم، واستقامتْ أحوالُهم، واجتمع لهم نعيمُ الدنيا والآخرة، ولكن هجران القرآن قراءةً وفَهْمًا وتدبُّرًا أدَّى إلى حِرمان كثيرٍ من المسلمين من بركة القرآن ونفْعه وهدايته. إنَّ أهمَّ وصفٍ للقرآن وأكثره ورودًا في آياته كونه هدًى يهدي البشريَّة أفرادًا، ودولاً، وأُمَمًا لما يصلحُها في كلِّ شؤونها. ذلكم الوصف الربَّاني الذي قُرنَ بتاريخ نزول القرآن على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ï´¾ [البقرة: 185]. وهو أوَّل وصفٍ يقرع الأسماع عند الابتداء في قراءته، ففي مطلع سورة البقرة: ï´؟ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة: 2]. وهداية القرآن جامعة للمصالح العاجلة والآجلة، ومحقِّقة لمنافع الدنيا والآخرة، أمَّا ما يتعلق بالآخرة، فالقرآن عَرَّف العباد بربِّهم - سبحانه وتعالى - ودلَّهم عليه، وبيَّن لهم أفعالَه وأسماءَه وأوصافه، وكشفَ لهم ما يحتاجون إلى العلم به من الغيب، الذي يدفعهم للإيمان والعمل الصالح، وفصَّل لهم بداية خَلْقهم ونهايته، وأعْلمهم بمصيرهم بعد موتهم، وأوضحَ لهم طريقَ السعادة؛ ليسلكوه، وسُبل الشقاء؛ ليجتنبوها، وما ترَكَ شيئًا من دينهم إلا هداهم إليه؛ ï´؟ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [المائدة: 15 - 16]. وأمَّا ما يتعلق بالدنيا ومعاملة الناس بعضهم بعضًا، فقد هدى القرآنُ فيها إلى أحسن السُّبل وأيْسَرها وأنفعها في السياسة والاقتصاد والأخلاق، والمطاعم والمشارب واللباس، والعلاقات الأُسرية والاجتماعية والدوليَّة، في أحكام تفصيليَّة لبعضها، وقواعد عامة تنتظم جميعها، فلا يقع المهتدي بالقرآن في تخبُّطات البشر، ولا يُجَرُّ إلى أهوائهم؛ ï´؟ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ï´¾ [الإسراء: 9]. وقد جِيء بصيغة التفضيل (أقوم)؛ لتدلَّ على أنه لا يمكن أن يساوَى مع غيره أبدًا، وذُكرت الصفة (أقوم)، ولم يُذْكر موصوف؛ لإثبات عموم الهداية بالقرآن للتي هي أقوم في كلِّ شيءٍ. لقد تكرَّر وصفُ القرآن بأنه هدًى في آيات كثيرة؛ ï´؟ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة: 2]، ï´؟ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [النمل: 2]، ï´؟ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ï´¾ [لقمان: 3]، ï´؟ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ï´¾ [غافر: 54]، ï´؟ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ï´¾ [النحل: 102]، ï´؟ هَذَا هُدًى ï´¾} [الجاثية: 11]. ومثلها آيات كثيرة، لكن الملاحَظ فيها جميعًا أنَّ وصْفَ القرآن بالهداية لم يُحدَّد في مجال مُعَيَّن ولا زمان مُعيَّن، ولم يُذْكر له معمول، وإنما كان بهذا الإطلاق والعموم؛ ليدلَّ على أنه هدًى في كل شيء، وأنَّ مَن اهتدى بالقرآن في أيِّ مجال مِن مجالات الدنيا والآخرة، فإنه يُهْدى للأصْوَب والأقْوم والأحْسن. وأكثر ما جاء وصفُ القرآن بالهداية خُصَّ به المؤمنون أو المتقون أو المحسنون؛ لأنهم قبلوا هداه، وعملوا بمقتضاه، وإلا فالأصلُ أنَّ القرآن هدًى للناس جميعًا، لكن الكفَّار والمنافقين لَمَّا لم يرفعوا به رأْسًا، واستبدلوا به غيرَه في الاهتداء، لم ينتفعوا باطلاعهم عليه، ولا بقراءتهم لآياته؛ ï´؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ï´¾ [فصلت: 44]، وفي آية أخرى ذَكَر الله - تعالى - جملة من أوصاف القرآن، وتأثيره في القلوب، ثم قال - سبحانه -: ï´؟ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ï´¾ [الزمر: 23]. لقد هدى الله - تعالى - بالقرآن بشرًا كثيرًا في القديم والحديث، ولا زِلْنا نسمع كلَّ يوم قَصص المهتدين بالقرآن ممن سمعوه، أو وقَعَ في أيديهم فقرؤوه، ومنهم مَن قصد قراءته لنقْده والطعْن فيه وصرْفِ الناس عنه، فكان من المهتدين به، وللمستشرقين والمثقَّفين الغربيين أعاجيبُ في ذلك. وعدد من أئمة الشرْك في الجاهلية اهتدوا بالقرآن، فصاروا من أنصار الإسلام، ومن أعلام الصحابة، ومن كبار هذه الأمة. وكم مِن عاصٍ لله - عز وجل - مُسْرف على نفسه في العصيان، مؤْذٍ للناس، هدتْه آية أو آيات للتوبة النصوح، فكان بهداية القرآن إمامًا من أئمة المسلمين، كما وقَعَ للفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى - إذ كان قبل توبته يمتهنُ قطْعَ الطريق وترويع المسافرين، وسبب توبته أنه سمع تاليًا يتلو: ï´؟ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [الحديد: 16]، فقال: "بلى يا رب قد آن، اللهم إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورة البيت الحرام". وجاء عن ابن المبارك - رحمه الله تعالى - أنَّه كان في شبابه مولعًا بضرب العود، وأنه تابَ بسبب هذه الآية أيضًا. وأخبار المهتدين بالقرآن من عُصاة المسلمين كثيرة جدًّا، ولم يكن الاهتداء بالقرآن خاصًّا بالإنس وقد أُنزل القرآن على واحد منهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما اهتدى به الجنُّ أيضًا؛ وذلك أنهم تسامَعوا بنزول القرآن، فطلبوا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى أدركوه ببطن نخل بين مكة والطائف وهو يقرأ سورة الرحمن، ولم يشعر بحضورهم، فأنصتوا لقراءته وتأثَّروا، وآمنوا ودعوا قومَهم إلى الإيمان؛ ï´؟ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾[الأحقاف: 29 - 32]. وجاء تفصيل مقولاتهم وأخبارهم وموقفهم من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سورة سُمِّيت بهم، افْتُتحتْ بقول الله - تعالى -: ï´؟ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ï´¾[الجن: 1 - 2]. فتأمَّلوا - يا معشر الإنس - مقولة إخوانكم من مؤمني الجنِّ - رضي الله عنهم - حين اهتدوا بالقرآن، وأخبروا أنه يهدي إلى الرشد، ثم صاروا يأتون إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرسالاً، أرسالاً يتلو عليهم القرآن، فيهتدون بآياته، بل يطلبونه ليقرأَ عليهم؛ حتى افتقدَه الصحابة - رضي الله عنهم - ذات ليلة، فإذا هو عند الجنِّ قد طلبوه يعلمهم القرآن؛ كما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات ليلة، ففقدناه فالْتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استُطِيرَ أو اغتيلَ، قال: فبتْنَا بشرِّ ليلة باتَ بها قومٌ، فلمَّا أصبحْنا، إذا هو جاء من قِبَل حِرَاء، قال: فقلْنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك، فلم نجدْك فبتْنا بشرِّ ليلة باتَ بها قومٌ، فقال: ((أتاني داعي الجنِّ، فذهبتُ معه، فقرأتُ عليهم القرآن))"؛ رواه مسلم. فلنهتد - عباد الله - بالقرآن ونحن نستمع إلى ترتيله في هذه الليالي المباركات، ولنتدبَّر ما نقرأ وما نسمع؛ ï´؟ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [ص: 29]. اللهم اهْدنا بالقرآن، اللهم اشْرَحْ به صدورَنا، وأصلحْ به أحوالنا، ويسِّرْ به أمورَنا، اللهم طهِّر به قلوبَنا، ونوِّر به بصائرنا، وارْزقْنا لذَّة قراءته وتدبُّره والمناجاة به، ووفِّقْنا للعمل به، آمين يا ربَّ العالمين. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربُّنا ويَرْضى، نحمده كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره على نعمه وآلائه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وأسْلموا له وجوهَكم، وعلِّقوا به قلوبَكم، وأحسنوا له أعمالَكم، وألِحُّوا عليه في دعائكم؛ ï´؟ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 56]. أيُّها المسلمون، قد أخبرنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - بأنَّ القرآن كتابُ هداية، لا يضل مَن اهتدى به في أيِّ أمرٍ من أمور الدين والدنيا، بل كرَّر علينا أنَّ أعظمَ حِكمة لإنزال القرآن علينا إنما هي للاهتداء به، وكل وصْف مُدحَ به القرآن، فهو راجعٌ إلى أنه كتاب هداية يهدي للتي هي أقوم، وربُّنا - سبحانه وتعالى - حين يخبرنا بذلك، فهو - عز وجل - أعلمُ وأحكمُ وأصدقُ؛ ï´؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ï´¾ [النساء: 122]. وإنما لم ينتفعْ كثيرٌ من المسلمين بالقرآن؛ لأنهم لم يهتدوا به، وقدَّموا غيره عليه، واعتنوا بكلام بشرٍ مثلهم، وأهملوا كلامَ ربِّهم، فضلُّوا في كثير من شؤونهم السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة، والأمنيَّة، والاجتماعيَّة، وآلَ أمرُهم إلى ما نرى من التشتت والتفرُّق والضياع، واستُبِيحوا من أراذل الناس، وشذَّاذ الآفاق، وتسلَّط عليهم أعداءُ الداخل والخارج. كلُّ ذلك كان بسبب تركهم لهداية ربِّهم - سبحانه - واتِّباعهم لأهوائهم وأهواء غيرهم؛ ï´؟ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ï´¾ [البقرة: 120]. إنَّ الأدواء التي في القلوب قد حالتْ بين المسلمين وبين التأثُّر بالقرآن والاهتداء به، فليس التأثُّر بالقرآن مجرَّد البكاء عند وعده ووعيده، مع بقاء حال صاحبه على ما هو عليه من الغفلة والعصيان، ولكن التأثُّر الحقيقي بالقرآن هو التأثُّر الذي يقود إلى الاهتداء به والعمل بأحْكَامه، فبمجرَّد تلاوة آياته يأْتمر بأوامره، ويجتنب نواهيه، ولو خالفتْ مرغوب النفس ومُشتهاها، فمن مِنَّا يفعلُ ذلك؟! وكما أنَّ القرآن لا يَمَسُّه إلا المطهرون، فكذلك معانيه العظيمة لا تتلقَّفها ولا تفقهها ولا تتأثَّر بها إلا القلوب الطاهرة من أدران المعاصي، الخالصة من التعلُّق بغير الله - تعالى. فلنطهِّر قلوبنا في هذه الليالي الفاضلة من أدرانها؛ لتُحْسِنَ تلقِّي آيات القرآن، فينتج عن ذلك اهتداؤنا به، وصلاح أحوالنا في العاجلة والآجلة، ولا سيَّما أننا مقبلون على عشر ليالٍ مباركات، بوركت بليلة القدر؛ï´؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ï´¾ [القدر : 3 - 5]، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكف كل العشر؛ الْتماسًا لها، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخل العشر، شدَّ مئزرَه، وأحيا ليلَه، وأيقظَ أهلَه"؛ رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرِه". فأروا الله - تعالى - فيها من أنفسكم خيرًا، واجتهدوا فيها أكثر من اجتهادكم في غيرها، وحرِّكوا قلوبَكم بالقرآن؛ فلعلَّ نفحة من نفحات ربِّنا - سبحانه - تزيل صدأَ القلوب، فتهتدي بكلامه - عز وجل -: ï´؟ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ï´¾ [الجاثية: 20]. اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (4) ï´؟ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الكريم المنان؛ أنزل القرآن موعظة للناس؛ فمن اتعظ به كفاه عن غيره، ومن أعرض عنه فما له من عظة، نحمده على الهداية والكفاية، ونشكره على العطاء والرعاية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنس بذكره المخبتون، وانقطع لعبادته المعتكفون، وأمّل في جوده الراجون؛ فتركوا المشاغل والصوارف، وأقبلوا في هذه الليالي عليه سبحانه يتعرضون لنفحاته ورحماته، ويتفرغون لعطائه وهباته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يعتكف العشر الأخيرة من رمضان؛ فينقطع عن الناس، ويخلو بالله تعالى، يلتمس ليلة القدر، ويرجو المثوبة والأجر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا في هذه الليالي المباركة؛ فإنكم تعاملون غنيا كريما قديرا؛ فبغناه تعالى تكثرون مسألته فيجزل عطاءكم، ولا ينفد ما عنده. وبكرمه سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه ولو عظم في نفوسكم، وبقدرته عز وجل يحقق مرادكم ولو كان بعيدا، وييسر مطلوبكم ولو كان عسيرا؛ فألحوا عليه بالدعاء، والزموا باب الرجاء؛ فلن يخيب عبد عمل وهو يرجو، ï´؟ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ï´¾ [الكهف:110]. أيها الناس: في هذه الأيام الفاضلة تعمر المساجد بالمصلين والذاكرين والداعين؛ فلا تشكو وحدة ولا وحشة، ولا تجد من الناس هجرا ولا بعدا.. وفي الليل تعج بالقرآن يتلى في أول الليل وآخره، وبين القيامين قوم ركع سجد، وآخرون أخذوا زوايا من المسجد قد نشروا مصاحفهم، وأخضلوا بالدمع لحاهم، يترنمون بالقرآن ترنم الأسيف الكسيف، الذي نظر إلى تتابع نعم الله تعالى عليه، بجانب جنايته في حق ربه سبحانه، فانكسرت نفسه، وذلت لربه، يرجو رحمته ويخشى عذابه. والقرآن خير واعظ، ووعظ القرآن وعد ووعيد، وترغيب وترهيب؛ حتى لا يستبد رجاء بصاحبه فيلقيه في أودية الغرور، ولا يحاصر يأس صاحبه فيغلق دونه أبواب الرحمة.. والوعظ هو التذكير بالعواقب لترق القلوب، ومن أوصاف القرآن أنه موعظة ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ [يونس:57] قال ابن عطية رحمه الله تعالى: هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن؛ لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز. فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب. ولاحظوا عباد الله أن الآية الكريمة تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء ï´؟ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ï´¾ رغم أن الموعظة كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر في أصحابها، وتأخذ بأيديهم إلى الإيمان والعمل الصالح. وتأكيدا على أهمية هذه الموعظة نسبها الله تعالى إليه ï´؟ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ لبيان قيمتها وأهميتها، وحث البشر على الاحتفاء بها.. وما ألطف الله تعالى حين عبر عن ذلك بلفظ الربوبية وليس بلفظ الألوهية؛ وذلك لتحبيب قارئ القرآن في مواعظه، وحمله على قبولها ï´؟ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ وذلك أن الرب هو من خلق الإنسان الموعوظ، وصوره في أحسن صوره، وأغدق عليه من رزقه، ودفع عنه ما يضره، وعلمه ما ينفعه، فمن أسدى هذا الخير للإنسان، فحري به أن يكون رحيما به، محسنا إليه، فإذا وعظه فإنما يعظه لمصلحته بدفعه إلى ما ينفعه، ورده عما يضره.. فيا أيها الإنسان: ربك الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك يعظك، فحري بك أن تقبل موعظته، وموعظته هي القرآن، فاقبل القرآن، وأقبل عليه بقلب يعي ما فيه، ويتأثر به ويتدبره، ويذعن لما فيه ويطبقه. وفي آية أخرى بين سبحانه أن القرآن وما فيه من قصص وأحكام موعظة ï´؟ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [آل عمران:138] وفي آية ثالثة قال تعالى ï´؟ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [النور:34]. وفي آية رابعة أكد سبحانه على أنه إنما يعظنا بالقرآنï´؟ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ï´¾ [البقرة:231] وتالله إن موعظته سبحانه لأحسن المواعظ وأبلغها وأوجزها وأحكمها وأرقها وأصدقها وأخلصها وأنصحها وأكثرها تأثيرا في القلوب، وإصلاحا للعباد ï´؟ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ï´¾ [النساء:58] فلا يمكن أن يتمارى عاقلان في حسن موعظة الله تعالى ومنفعتها للعباد في أعمالهم وأحكامهم، إنها مما يتوقف عليه صلاح العباد في كل زمان ومكان. والقرآن مملوء بما يتعظ القارئ به إذا تدبره وفهم معناه، وأرعى له سمعه، وفرغ له قلبه. والمواعظ منها ما هو كوني قدري، ومنها ما هو شرعي، والموعظة الكونية أشد تأثيرا في قلوب أهل الجهل والغفلة، وذلك كالمصائب التي تنزل بالأفراد والجماعات؛ فإنها مواعظ لمن أصابتهم، ولمن رآها من غيرهم، وكثيرا ما تكون سببا للتوبة والأوبة. ومنها ما جاء في قول الله تعالى ï´؟ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة:66]. بينما تكون المواعظ الشرعية أشد تأثيرا في القلوب الحية.. قلوب أهل العلم والخشية، وأعلاها وأقواها مواعظ القرآن. ومن خصائص القرآن أنه مثاني، أي: يذكر فيه الشيء وما يقابله في سياق واحد، كذكر الرحمة والعذاب، والجنة والنار، والرضا والغضب، والوعد والوعيد، وهذا أبلغ في الوعظ؛ لغرس التوازن في قلب الموعوظ، فيكون بين الرجاء والخوف. فالوعظ بالقرآن وآياته وسوره هو وعظ يجمع ركني الوعظ: الترغيب والترهيب. وما في القرآن من قصص السابقين، وأخبار الثابتين على الحق ومآلهم، وأنباء الناكصين على أدبارهم وعاقبتهم وعظ للقلوب، وتذكير للناس بأخبار من قبلهم، وماذا حل بهم، وهذا يؤثر في النفوس، ويرقق القلوب، ويأخذ بيد القارئ والسامع لمواطن الهداية، واجتناب الغواية. وقد قال الله تعالى ï´؟ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ ï´¾ [يوسف:111] والعبرة هي العظة. ولما ذكر سبحانه قصص النبيين قال ï´؟ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [هود:120] ففيها موعظة لمن قرأها وسمعها. وحين يرى قارئ القرآن أن الله تعالى يعظ رسله عليهم السلام يتطامن من كبريائه، وينزل من عليائه، ويتواضع لله تعالى ويقبل مواعظه، ويعلم أنه لا أحد فوق الوعظ مهما كان علو منزلته، وكثرة علمه، ومتانة دينه، قال الله تعالى لنوح وهو من أولي العزم ï´؟ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ï´¾ [هود:46] فمن نحن أمام نوح عليه السلام وقد وعظه الله تعالى فقبل موعظته واستغفره، ومن يجرؤ على رد موعظة الله تعالى وقد قبلها من هو خير منه. فاقرءوا القرآن بقلوبكم قبل ألسنتكم، وانظروا إلى معانيه بقلوبكم قبل نظر أبصاركم إلى حروفه، واسمعوه وعوه بقلوبكم قبل سماعه بآذانكم؛ فإنه موعظة الله تعالى لنا ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [يونس:57-58]. بارك الله لي ولكم في القرآن.. الخطبة الثانية الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكونوا ممن إذا ذكروا تذكروا، وإذا وعظوا اتعظوا، ومن لم يتعظ هذه الأيام بالقرآن وهو يتلوه ويسمعه آناء الليل والنهار فمتى يتعظ؟ ومتى يتأثر بالقرآن. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعظنا بالقرآن ï´؟ فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ï´¾ [ق:45] أي: فعظ بالقرآن من يخاف وعيدي وعقوبتي. وقد قال الله تعالى في المشركين ï´؟ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ï´¾ [الصَّفات:13] قال جمع من المفسرين: أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون. وكان هذا حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما برح يعظهم بالقرآن فلم يقبلوا موعظته حتى عذبهم الله تعالى في بدر بالقتل والأسر والذل، ولعذاب الأخرى أخزى وهم لا ينصرون. وقد بين الله تعالى ما فاتهم من الخير العظيم، وما حاق بهم من الخسران المبين لما لم يتعظوا بالقرآن فقال سبحانه ï´؟ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ï´¾ [النساء:66-68]. فدلت هذه الآيات على أن من ثمرات الاتعاظ بالقرآن الكريم حصول الخير الكثير، والثبات على الدين، ونيل الأجر العظيم، والهداية إلى الصراط المستقيم؛ فبالله ربي وربكم هل يفرط في هذا كله إلا محروم؟! ومن سبقونا من كفار أهل الكتاب فرطوا في مواعظ الله تعالى لهم فحل بهم العذاب ï´؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ï´¾ [الأعراف:166] أي: لما تركوا ما وعظوا به من كلام الله تعالى، عذبهم الله تعالى ومسخهم قردة برفضهم للموعظة.. فالحذر الحذر عباد الله من هجر القرآن تلاوة وتدبرا وعملا؛ فإن الديمومة على القرآن تعني الديمومة على سماع المواعظ، والتأثر بها، وهذا ما يرفع العذاب ويدفعه. ï´؟ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ï´¾ [السجدة:15] وهم ما خروا سجدا وسبحوا ولم يستكبروا إلا لأنهم قرءوا كلام الله تعالى وانصتوا إليه، فاتعظوا بما قرءوا وسمعوا، بخلاف من هجروا القرآن وأعرضوا عنه، ولم يتعظوا به. ومن أوصاف عباد الرحمن ï´؟ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ï´¾ [الفرقان:73] أي: "إذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صمّا لم يسمعوه، عميانا لم يبصروه، ولكنّهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به". فخذوا حظكم عباد الله من مواعظ القرآن في هذه الليالي المباركات، أرخوا له أسماعكم، واخفضوا له أبصاركم، وطأطئوا لعظمته رؤوسكم، وافتحوا له قلوبكم، وتدبروه فإنه رسائل ربكم إليكم.. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (5) ï´؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ï´¾ الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ï´¾ [الإسراء: 111] والله أكبر كبيرا، فهو الكبير المتعال، شديد المحال، عزيز ذو انتقام، نحمده وهو الولي الحميد، العلي الكبير، العليم القدير، الغفور الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له في هذه الليالي الكريمة هبات وعطايا، ومنح وهدايا، ورحمة وغفران، وعتق من النار، فيا لسعادة من تعرض لهذه النفحات، واصطبر على الطاعات، وأخلص لله تعالى في الباقيات الصالحات، ويا لخسارة من مضت عليه كما يمضي غيرها من الليالي، فذاك المحروم الذي عاش وما عاش، وأدرك رمضان وما أدركه، وحضر ليلة القدر وما حضرها، ونعوذ بالله تعالى أن نكون ممن طالت غفلته، وبعدت توبته، وكثرت معصيته، فدامت حسرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اعتكف العشر الأخيرة من رمضان يلتمس ليلة القدر، ليفوز بعظيم الأجر، ويحظى بخير من ألف شهر، وحض أمته على التماسها وإحيائها؛ لنيل مغفرة ما تقدم من الذنوب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وجدوا وأخلصوا في عملكم، وأحسنوا ختام الشهر الكريم؛ فإنما الأعمال بالخواتيم، ولَرُبَّ عبادة وافقت باب قبول رجحت بعمل العبد كله، ولرب دعوة وافقت ساعة إجابة سعد بها العبد بقية عمره، فلا تفرطوا في قليل العمل ولا كثيره، ولا تضيعوا لحظة مما بقي في نهاره وليله؛ فلعل منا من لا يدرك رمضان القابل ï´؟ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [العنكبوت: 69]. أيها المسلمون: فيما مضى من أيام وليال عشنا أسعد اللحظات، وألذ الساعات، مع كتاب ربنا؛ فشنفنا به الآذان، وحركنا به الألسن.. رطبنا بآياته الأفواه، ونحينا به الغفلة، وأشعلنا بمواعظه القلوب، وأزلنا شوائب النفوس.. هذا الكتاب الذي جعله الله تعالى تذكرة لعباده، يتذكرون إذا نسوا، ويتنبهون إن غفلوا.. بمجرد قراءته وتدبره تسمو القلوب على دنايا الدنيا، وتحلق في الآفاق، حتى تبلغ عنان السماء، تستمطر عفو الله تعالى ورحمته، وتشتاق إلى لقائه وجنته، ومن لم يذق حلاوة القرآن لم يجد طعم الإيمان. وفي آيات كثيرة من القرآن وُصف بأنه ذكر وتذكرة وذكرى، ولو جُردت الآيات الواردة في ذلك دون التعليق عليها؛ لاستغرقت الخطبة كلها وزادت عليها، مما يدل على أن التذكير بالقرآن مهم، وأن من أوصاف القرآن التي يجب على المؤمن أن لا يغفل عنها كونه تذكرة للمؤمنين، وإلا كان من الغافلين، ï´؟ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ï´¾ [ق: 45]. والذكر يكون بالقلب وباللسان، وهو على نوعين، ذكر ضد النسيان والإهمال، ومنه ذكر الله تعالى في كل الأحيان، والقرآن مذكر به سبحانه وتعالى فكان ذكرا.. مذكر بأسمائه وصفاته وآياته وأفعاله وأحكامه، فقارئ القرآن ذاكر لله تعالى؛ ولذا كان القرآن أفضل الذكر. وفي القرآن ذكر البشر وأصلهم وتاريخهم وأحوالهم ونهايتهم؛ حتى يعرفوا حقيقتهم، فلا يستنكفوا عن عبادة ربهم، ولا يبطروا على بشر مثلهم، ويعملوا ليوم لقائهم. وفي القرآن سمعة لأتباع القرآن تقضي بشرفهم، وفيه بقاء ذكرهم في الأرض؛ ولذا شرفت اللغة العربية بالقرآن، وبقي ذكرها في الأرض بسببه، ولولا القرآن لما بقيت العربية، ولما انتشر ذكر العرب في البشر، وجماعة من نصارى العرب يقرون بذلك، ويفاخرون بأن القرآن عربي ولو لم يتبعوه، يفعلون ذلك حمية للعرب وتعصبا لهم، وهذا هو النوع الثاني من الذكر وقد دل عليه قول الله تعالى ï´؟ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ï´¾ [الأنبياء: 10] أي: فيه شرفكم وصيتكم إلى آخر الدهر كما تذكر عظائم الأمور. ومنه قوله تعالى ï´؟ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ï´¾ [الزخرف: 44]. وهذا يحتم على أمة العرب شكر الله تعالى إنزال القرآن بلسانهم، وجعله سببا لذكرهم ومعرفتهم أبد الدهر، حتى إن الأعاجم يتعلمون اللسان العربي لأجل القرآن، وهم أكثر من العرب، ولكن لسان العرب شرف بأنه وعاء القرآن. والشكر لا يكون إلا بأخذ الجانب الآخر من كون القرآن ذكرا، وهو التذكر والتذكير به.. التذكر بتلاوته وتدبره، وتصديق أخباره، والعمل بأحكامه، والوقوف عند حدوده، وتعظيم حرماته، والموعظة به ï´؟ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ï´¾ [سُورَةِ النَّحْلِ: 44] ï´؟ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ï´¾ [سورة ص: 1] فَالذِّكْرُ هو الْكَلَامُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ، أَيْ: يُتْلَى وَيُكَرَّرَ، ويفهم ويتدبر، ويعمل بما فيه. والذِّكْرَى: كثرة الذّكر، وهي أبلغ من الذّكر، وقد وصف القرآن بها ï´؟ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 2]. فهو إنذار للكافرين، وذكرى للمؤمنين. ولما طلب المشركون الآيات رد الله تعالى عليهم بأن القرآن أعظم الآيات المذكرة به سبحانه وتعالى ï´؟ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ï´¾ [العنكبوت: 51]. والتَّذْكِرَةُ: ما يتذكّر به الشيء، وهي أعمّ من الدّلالة، وقد وصف القرآن بها ï´؟ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ï´¾ [طه: 2-3]. ولما ادعى المشركون أن القرآن أقاويل تقولها النبي عليه الصلاة والسلام نفى الله تعالى ذلك عن كتابه ونبيه وقال سبحانه ï´؟ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ï´¾[الحاقة: 48]. ولما زعموا أن القرآن شعر أو سحر أو كهانة أو قول بشر، أو وساوس شيطان؛ رد الله تعالى عليهم بأسلوب قصر القرآن على الذكر لإبطال قولهم فقال سبحانه ï´؟ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ï´¾ [يس: 69] وقال تعالى ï´؟ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ï´¾ [التكوير: 25-27]. والإعراض عن تذكرة القرآن هو أعظم الخسران، وأشد الخذلان، وأبلغ الحرمان، قال الله تعالى: ï´؟ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ï´¾ [المدثر: 49] وفي آية أخرى ï´؟ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ï´¾ [الشعراء: 5]. فهو ذِكْرٌ مُتَجَدِّدٌ مُسْتَمِرٌّ يُعْقِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ، ولا يزال على جدته، فلا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وذكرٌ هذا وصفه وجب الإقبال عليه لا الإعراض عنه. وإن العاقل الحصيف ليأسى حين يرى بعض شباب المسلمين قد أعرضوا عن القرآن وهو الحقيقة المطلقة، والمعلومة المتجددة، والذكر المتأكد، وراحوا لزبالات أفكار الغرب ينقبون فيها عن أسرار الوجود، وابتداء الخليقة. يا للخيبة والضياع. كيف؟ والله تعالى قد وصف هذا القرآن بأنه ذكر محكم ï´؟ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ï´¾ [آل عمران: 58]. قال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، أَقْرَبُ الكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ" رواه البخاري. وهؤلاء المعرضون هم أضل الناس وأظلمهم وأكثرهم جرمًا؛ لأن ذكر الله تعالى بين أيديهم فأعرضوا عنه ï´؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ï´¾ [السجدة: 22] وعقوبتهم في الدنيا تسلط قرنائهم من الشياطين عليهم فتزيدهم إعراضا عن الذكر الحكيم ï´؟ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ï´¾ [الزُّخرف: 36] أي: من يتعامى عنه ويعرض. فلا عجب أن نجد المعرضين عن القرآن هم أشد الناس خصومة مع الإسلام، وأكثرهم سخرية من شعائره، وإزراء بأحكامه، وحقدا على أتباعه المتمسكين به؛ لأن شياطينهم تسلطت عليهم بسبب إعراضهم عن القرآن. ï´؟ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ï´¾ [الجنّ: 17] ï´؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ï´¾ [طه: 124-126]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَأَحْسِنُوا خِتَامَ شَهْرِكُمْ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ ï´؟ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ï´¾ [طه: 112]. أَيُّهَا النَّاسُ: شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ فِي خِتَامِ صَوْمِكُمْ إِخْرَاجَ زَكَاةِ الفِطْرِ عَنْ أَبْدَانِكُمْ، وَتَرْقِيعًا لِمَا تَخَرَّقَ مِنْ صِيَامِكُمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلْصَائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ"؛ رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ. وَهِيَ فَرِيضَةٌ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ نَافِعٌ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ". وَاحْذَرُوا عِبَادَ اللهِ مُنْكِرَاتِ العِيدِ؛ فَلَيْسَ مِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ إِدْرَاكِ رَمَضَانَ وَالتَّوْفِيقِ لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ أَنْ يَقْلِبَ العِبَادُ يَوْمَ العِيدِ إِلَى يَوْمِ مَعْصِيَةٍ وَكُفْرٍ لِلنِّعَمِ وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ï´؟ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 185]. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (6) ï´؟ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ï´¾ الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله باسط الخيرات، كاشف الكربات، مقيل العثرات، مجيب الدعوات؛ يعطي الناس أرزاقهم قبل أن يسألوها، ولا يرد أكفهم إذا رفعوها، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على عطائه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الجواد الكريم، البر الرحيم، العفو القدير، له في هذه الليالي الشريفة هبات وعطايا، يسعد بها من تعرض لها، وأخذ حظه منها، ويتعس من صُدَّ عنها فحرمها، فاللهم لا تحرمنا فضلك، واجعلنا من أتقى خلقك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان إذا دخلت العشر الأخيرة من رمضان شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد واجتهد في العبادة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتزودوا من العمل ما يبقى؛ فإنكم في عشر ليال فضلى، فضلت على سائر الليالي بليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وهي في الحساب قريبا من أربع وثمانين سنة، فيا لفضل الله تعالى وكرمه: أن يعطينا ليلة واحدة بما يقرب من ثلاثين ألف ليلة، فمن ذا الذي يعطي شيئا واحدا بثلاثين ألف شيئا إلا ربنا الجواد الكريم، فالمحروم من حرم خير هذه الليلة فأضاع العشر في مجالس اللهو والزور والباطل، وترك إحياءها بالقرآن والصلاة والدعاء، والمحروم من حرم المواسم الفاضلة. أيها الناس: في هذه الليالي العظيمة تضاء مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بقيام الليل، ويُجهر فيها بآيات الله تعالى تتلى، وهو أعظم الكلام وأطيبه وأصدقه وأحكمه وأنفعه، والعمل الصالح يرفع طيب الكلام إلى الله تعالى ï´؟ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ï´¾ [فاطر: 10] فيا لله العظيم كم من كلم طيب سيرفع إلى الله تعالى في هذه الليالي من مساجد المسلمين، فكونوا من أهل الكلم الطيب في هذه الليالي، وارفعوه بالعمل الصالح؛ وذلك بملازمة المساجد كل الليل أو أكثره. وفي هذه الليالي العظيمة تستنير القلوب بنور القرآن؛ فإن القرآن نور أنزله الله تعالى ليضيء للناس ما أظلم من قلوبهم بسبب الجهل والهوى، ويصلح ما فسد من أحوالهم بسبب الإعراض والاستكبار. وكل وحي أوحاه الله تعالى لرسله فهو نور، وفيه نور؛ كما قال سبحانه عن كتاب موسى عليه السلام ï´؟ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ï´¾ [الأنعام: 91] وفي آية أخرى ï´؟ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ï´¾ [المائدة: 44] وقال سبحانه عن كتاب عيسى عليه السلام ï´؟ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ï´¾ [المائدة: 46]. ولكن أهل الكتابين التوراة والإنجيل أعرضوا عما فيهما من النور، واستبدلوا بهما ظلمات الجهل والهوى، فنقل الله تعالى نور وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزله عليه في الليلة الظلماء من رمضان، فأضاء به القلوب من ظلماتها، وانتشلها من جهلها وهواها. إن القرآن نور استضاء به نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل هذا النور الرباني ونقله ليضيء به العالم كله، ولا زال الموفقون من أمته يحملون هذا النور إلى غيرهم، وهم على ذلك منذ أربعة عشر قرنا، وسيظلون كذلك إلى ما شاء الله تعالى. ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ï´¾ [النساء: 174]. إن الله تعالى قد وصف نفسه بأنه نور ï´؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ï´¾ [النور: 35] وحجابه سبحانه النور، وكلامه عز وجل نور. وما أحوج البشر الجهلاء، المتخبطين في الظلماء، إلى نور ينير لهم طريق العلياء، فيرتفعون به عن دنايا الدنيا الزائلة إلى دار الخلد والنعيم والكرامة. إننا نتلو في هذه الأيام نورا أنار الله تعالى به بصائرنا، وفتح به على قلوبنا، فأبصرنا طريقنا، وعرفنا أن الإيمان والعمل الصالح ينفعنا، وأن الكفر والمعاصي تضرنا. إنه نور بكل ما حواه بين دفتيه من الآيات.. نور فيما قرره من العقائد، وما فرضه من الأحكام، وقد كان الناس قبله تائهين في دياجير العقائد الفاسدة، وسراديب الأوثان البائدة، والأحكام الجائرة، فتُسعر حروب، وتفنى قبائل في ناقة عقرت، أو خيل سبقت. وهو نور بما فيه من بيان أصل الخلق والنشأة، والمآل والمصير. فيهتدي به المؤمنون في هذه القضية التي هي أكبر قضية تؤرق الإنسان وتقلقه، ويعملون على نور من ربهم، ويوقنون بمصير البشر كلهم، بينما يتخبط غير المؤمنين في شكوك مردية، وآراء مهلكة. وهو نور في ألفاظه وتراكيبه، وفي جمله ومعانيه، يأخذ بمجامع القلوب، وتهفو إليه الفطرة السوية، وتنجبذ له أسماع أهل البيان والبلاغة ولو كانوا لا يؤمنون به، ويكذبونه ويحاربون أتباعه، كما وقع ذلك لسادة قريش. وقد جاء في الحديث الصحيح أن الصلاة نور، والصلاة عمادها القرآن، وهو ركن من أركانها، وسنة من سننها، وأفضل الصلاة طول القنوت؛ لأنه يقرأ فيها قدر كثير من آيات القرآن. ولما كان القرآن نورا كان من استضاء به في الدنيا رزق نورا يوم القيامة، ومن أعرض عنه تخبط في ظلمة الآخرة، عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ...» رواه الحاكم وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وأهل الإعراض عن نور القرآن يحاربونه، ويسعون جهدهم لإطفائه؛ حرمانا للناس من نوره لما حرموا هم منه، ولكن الله تعالى كتب أن يبقى هذا النور إلى آخر الزمان؛ ليستضيء به من قبله وأقبل عليه ï´؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ï´¾ [التوبة: 32]. ويحاولون حجب هذا النور عن الناس بتشويهه، والتنفير منه؛ كقول الكفار القدماء: إنه سحر أو كهانة أو جنون أو قول بشر، وكقول كفار العصر بأنه كتاب يرسخ العنصرية والفاشية والنازية، ويدعو إلى التطرف والعنف والإرهاب. وهم يعملون له دعاية من حيث لا يشعرون، فما ينتهون من دعايتهم وأكاذيبهم إلا ويُقبل كثير ممن عاشوا في ظلمات الكفر والتيه والضياع ليروا ما في هذا الكتاب من أوصاف سيئة وصف بها، فيجدوه خلاف ما يذكره أعداؤه، ويجدوا فيه نورا يضيء قلوبهم، فيدخلون في دين الله تعالى أفواجا. والقرآن غالب بنوره ظلمات الكفر والنفاق والجهل والهوى. وكان المشركون الأوائل يشوشون عليه لئلا يسمعه الآخرون حتى لا يتأثروا به، ولكن نور القرآن غلب ظلمات جهلهم وشركهم وأهوائهم، فانتشر نوره في الآفاق رغم أنوفهم ï´؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ï´¾ [فصلت: 26] قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِذَا قَرَأَ مُحَمَّدٌ فَصِيحُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. فهلك أبو جهل بظلمات شركه وجهله، وبقي نور القرآن مشعا في الأرض، يهدي المؤمنين للتي هي أقوم. وواعجبا ممن يعرضون عن نور الله تعالى وييممون وجوههم شطر نظريات الشرق والغرب فيما يسمى بالعلوم الإنسانية، ودخائل النفس البشرية، وعلوم الاجتماع والحضارة، وتاريخ الأديان والثقافة، فيعارضون بها ما جاء به النور المبين!! يا للخيبة والخسران. وقد وُصف القرآن بأنه نور مبين، أي: واضح ظاهر لا خفاء فيه ولا غموض، ولا يحتاج في بلوغه إلى تعالم المثقفين، وتقعر المتكلمين، وتكلف المتعلمين، وفلسفة المتفلسفين. فهو نور مبين يدرك نوره الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ لأن الله تعالى جعله حجة على خلقه، ولا بد في الحجة من الوضوح والظهور، وإذا كان ذلك كذلك فلا عجب أن يتأثر بآياته، ويقتبس من نوره، أميو القرى، وأعراب الصحراء. إنه نور مبين لَن يخفى إلا على من أنفت حواسهم، وفسدت مشاعرهم، وأصيبوا بعمى البصيرة، وكان عليهم غشاوة، لَا يرون معها النور الواضح المبين ï´؟ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ï´¾ [النور: 40]. نسأل الله تعالى أن ينير بالقرآن بصائرنا، ويملأ به قلوبنا، ويرزقنا تلاوته وتدبره والعمل به، ويرفعنا به في الدنيا والآخرة. بارك الله لي ولكم في القرآن... الخطبة الثانية الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وانقطعوا في هذه العشر المباركة للعمل الصالح؛ فلعل نفحة من نفحات الله تعالى تصيب العبد فيرضى عنه ربه، ويسعد فلا يشقى، وأجدر الناس بذلك من لزموا المساجد، وصاحبوا المصاحف، ونصبت أركانهم في الصلاة، وما فترت ألسنتهم عن الذكر والدعاء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر بالاعتكاف لفضلها وعظيم أجرها، ويكفيها شرفا أن ليلة القدر فيها، فجدوا واجتهدوا؛ فإنكم تعاملون جوادا كريما، عفوا عظيما، غفورا رحيما ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ï´¾ [البقرة: 186]. أيها المسلمون: لا أظن أن أياما من السنة يقرأ فيها القرآن كهذه الأيام، ولا أظن أن المصلين يسمعون من آيات القرآن في سائر العام كما يستمعون إليه في هذه الليالي المباركة، وهو نور يلج من أبصارهم بالقراءة، ومن أذانهم بالاستماع فيستقر في قلوبهم، فتنتعش قلوبهم بنور القرآن إلى ما شاء الله تعالى. وتأملوا هذه المقارنة القرآنية العجيبة بين من استنار بالقرآن ومن تاه في ظلمات الجهل ï´؟ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأنعام: 122]والله لا يستويان أبدا، لا في ضياء القلب في الدنيا، ولا في مصير الآخرة. وهذا النور نعمة عظيمة امتن الله تعالى بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهي منة من الله تعالى علينا تستحق الحمد الدائم، والشكر المتتابع، والذكر المتواصل، فمن نحن؟ وماذا سنكون لولا هذا النور المبين ï´؟ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ï´¾ [الشورى 52-53]. وصلوا وسلموا على نبيكم..
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() أوصاف القرآن الكريم (7) (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الكبير المتعال؛ هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، وفرض علينا الصيام، وجعله في شهر القرآن، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا فيما بقي من أيام رمضان ولياليه؛ فقد مضى أكثره وبقي أقله، وفيما بقي أفضله، حيث عشره، وقد خصت بليلة القدر، وهي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فاجتهدوا في التماسها، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا؛ طاعة له، وتأسيا بنبيه محمد عليه الصلاة والسلام فإنه كان "إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ". أيها الناس: هذه الليالي الفاضلة هي ليالي القرآن، يتلى في نهارها، ويسمع في قيامها؛ لأن رمضان شهر القرآن، فيه أنزل وفيه يسمع في التراويح، وكان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فالأمة تتأسى بالملك الكريم جبريل عليه السلام، وبالنبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، ويا له من تأس عجيب بأفضل ملك وأفضل نبي؛ فالحمد لله الذي هدانا للقرآن، وما كنا لنهتدي له وبه لولا أن هدانا الله تعالى، ونسأله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته إنه سميع مجيب. وللقرآن أوصاف كثيرة جدا، وإنما تكثر أوصاف الشيء إذا كثرت منافعه، وليس للبشرية شيء أنفع لها من القرآن، ولكن أكثر البشر ï´؟ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ï´¾ [الأنبياء: 24]. ومن أوصاف القرآن: أنه فرقان، وفي بعض الأحاديث سماه النبي عليه الصلاة والسلام الفرقان العظيم، ï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ï´¾ [الفرقان: 1]. وإنما وصف بأنه فرقان لأنه تنزل مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل. وفي هذا يقول الله تعالى ï´؟ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ï´¾ [الإسراء: 106] فعلل سبحانه كونه قرآنا ليقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس، وإذا تلقوه عنه قرأوه هم، ومنذ أن تنزل وهو يقرأ بحمد الله تعالى، وتتيسر قراءته على الأعاجم والأميين، كما يتيسر حفظه على الكبار والصغار والرجال والنساء، ولا يحصى عدد حفاظه في الأرض من كثرتهم وتفرقهم في الأمصار، وهذا من أسباب حفظه وبقائه لاهتداء الأمة به ï´؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ï´¾ [القمر: 17]. وعلل سبحانه تفريقه في النزول بأن يقرأه الناس على مكث، فتكون ألفاظه ومعانيه أثبت في القلوب مما لو أنزل عليهم مرة واحدة؛ ولذا فإن محفظيه يفرقونه لطلابهم؛ لصعوبة حفظه دفعة واحدة. ومن فوائد نزول القرآن مفرقا تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقصص السابقين، وتصبيره بأخبار الصابرين، وتسليته بآيات النصر المبين ï´؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ï´¾ [الفرقان: 32]. ومن فوائده كذلك: الرد على شبهات اليهود والمشركين، ودحضها في مهدها، وتعرية أصحابها، وهذا كثير في القرآن ï´؟ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ï´¾ [الفرقان: 33] والمعنى: لا يأتونك بشبهة أو بسؤال عجيب من أسئلتهم إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، وبما هو أحسن معنى ومؤدى منه. ومن فوائد تفريقه: التدرج في الأوامر والنواهي؛ لئلا تثقل على الناس، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، وتحبيبهم في الإيمان. وسمي القرآن فرقانا؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، ومن هذا المعنى قول الله تعالى ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ï´¾ [البقرة: 185] وقال المقداد بن الأسود رضي الله عنه: "وَاللَّهِ لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ قَطُّ، فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ" رواه أحمد. فهو فرقان لا يقف الباطل أمامه، ولا يَهزم أهلُ الباطل أتباعَه، بل هو غالب في كل حال، ومن ركن إليه ركن إلى شديد، ومن احتج به خصم كل جبار عنيد. فأهل القرآن هم أهل القوة ولو كانوا أضعف الناس، وهم أملك للحجة ولو كانوا أعيا الناس، وهم أهل الحق ولو ضل عنه كل الناس، ولا بد أن يظهر الحق على الباطل ï´؟ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ï´¾ [الأنبياء: 18]. والقران فرقان بمعنى النصر؛ لأن الله تعالى نصر بالقرآن أهل الإيمان على أهل الشرك والأوثان، بما فيه من الآيات الباهرة، والبينات الواضحة، والحجج الداحضة التي دحضت حججهم، وكشفت سفه عقولهم، وبينت بطلان مذهبهم. ومن هذا المعنى أطلق على غزوة بدر الفرقان، قال الله تعالى ï´؟ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ï´¾ [الأنفال: 41] سميت فرقانا لأنها أول معركة في هذه الأمة فرقت بين الحق والباطل، وما أنزله تعالى يوم بدر على عبده ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام آيات قرآنية ثبتت المؤمنين، وملائكة تقاتل معهم، ونعاسا يؤمنهم وينشطهم، وغيثا يطهرهم ويذهب رجز الشيطان عنهم، ويثبت أقدامهم، فكان الفرقان يوم الفرقان. والنبي صلى الله عليه وسلم فرقان بين الناس؛ لأنه فرق بين المؤمن والكافر؛ ولذا قال الملائكة فيه: "وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ" وفي لفظ "فرَّق بين الناس" رواه البخاري، ومعناه: أنه فَارق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر، فَمن آمن بِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن كفر بِهِ فَهُوَ كَافِر. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفْرَقُ مِنْكَ يَا عُمَرُ" فأُطلق عليه الفاروق. والقرآن يقضي على الشبه والشكوك التي تجتاح الإنسان في الخالق سبحانه وفي الخلق وفي المبدأ والمعاد، وفي كل مجال يتسلط فيه الشيطان على الإنسان، ويجعل لصاحبه نورا يميز به بين الحق والباطل، وبين السنة والبدعة، وبين المحكم والمتشابه، إذا صدق في تعامله مع القرآن، وأعطاه حقه من القراءة والفهم والتدبر والانقياد والاستسلام والعمل، ومن هذا المعنى قول الله تعالى ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ï´¾ [الأنفال: 29] فإذا كان هذا الفرقان الموعود مشروطا بتحقيق التقوى فإن القرآن أكبر داعية للتقوى، وآياته الداعية للتقوى قد نيفت على أربعين ومئتي آية، أفلا يتقي قارئ القرآن فينال الفرقان المرتب على تحقيق التقوى؟! وبفرقان القرآن بين الحق والباطل لا ظلمات يقع فيها أهل القرآن، ولا شكوك تعتريهم فتصرعهم، ولا شبهات ترد على قلوبهم فتلبس عليهم دينهم؛ لأن ملازمتهم للقرآن تزهقها في مهدها، فلا يبقى في القلب إلا أثر القرآن، وهو الحق الخالص من عند الله تعالى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ï´؟ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [الإسراء: 9-10]. بارك الله لي ولكم في القرآن... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من القرآن حظكم؛ فإنه كلام ربكم، ودستور دينكم، ونماء إيمانكم، وصلاح قلوبكم، واستقامة أحوالكم ï´؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2]. إيها المسلمون: إن القرآن لما كان فرقانا بين الحق والباطل أعيا أهل الباطل أن ينشروا باطلهم منذ تنزله إلى يومنا هذا؛ فكفار مكة كانوا مقرين بهزيمتهم أمام القرآن، وأن ما فيه من الحق يدحض باطلهم، فلم يكن لهم معه حيلة إلا صرف الناس عنه بالقوة، والتشويش عليه لئلا يسمعه الناس ï´؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ï´¾ [فصلت: 26]. وحاول بعض المحرفين الإدخال في القرآن أو الانقاص منه فعجزوا، ومن غرائب الانحراف أن بعضهم أراد اختصار القرآن أو اختصار بعض سوره فأتوا بما يزري بعقولهم. وطبعوه محرفا ووزعوه في أوساط المسلمين، وكرروا ذلك، فلم ينطل تحريفهم على المسلمين، وعلم جمهورهم أن هذا ليس قرآنهم الذي عرفوه. وقبل عقد وزيادة قام بعض النصارى بتأليف قرآن خلطوا فيه جملا قرآنية بجمل من التوراة والإنجيل المحرفين، وطبعوه على هيئة مصحف المسلمين، وبأسماء سور وآيات كما في القرآن، وسموه (فرقان الحق) ووزعوه بين المسلمين زاعمين أنه قرآن القرن الحادي والعشرين، فمات في مهده، ولم يعرف أكثر الناس خبره، رغم ما بذلوه فيه من جهد كبير، وما خسروه على طباعته من مال كثير، فمن سمع منكم بفرقانهم الذي اخترعوه، ومن عرفه من المسلمين؟! لقد غاظهم في القرآن تمسك المسلمين به؛ فكل أهل الديانات المحرفة والمخترعة زهدوا في كتبهم، ولم يزهد المسلمون في قرآنهم. بل يقبلون عليه قراءة وحفظا وتعلما وتعليما. وقبل غير المسلمين الطعن في كتبهم، وانتقادها وتكذيبها، ولم يقبل عصاة المسلمين ذلك في قرآنهم، فضلا عن الطائعين منهم، فينتفضون في وجه كل ناقد للقرآن، مشكك فيه. وانبرى قبل سنوات بعض أساطين العلمانية لمحاولة التشكيك في جمع القرآن وتمامه، وعدم زيادته ونقصانه، وافتعلوا ضجيجا في ذلك للفت الانتباه لهم، فما حفل بهم عامة المسلمين، وانبرت لهم أقلام أهل القرآن تدحض باطلهم، وتكشف عورات أفكارهم. فلما أعيتهم حيل صرف الناس عن القرآن، ومحاولات التشكيك فيه عمدوا إلى تأويله على غير وجهه، وتحريفه عن معناه، ومحاولة إفراغه من محتواه، فأول من أنكر عليهم فعلهم قراء القرآن من عوام المسلمين؛ لأن القرآن من الوضوح والبيان بما لا يسمح لمتلاعب أن يتلاعب به أو يحرف معانيه؛ ولذا كان فرقانا بين الحق والباطل. إن حيلتهم مع القرآن ضاقت عليهم حتى حشرتهم في أضيق الزوايا، فلا عجب إن مزقوه وأحرقوه ودنسوه بالنجاسات ليغيظوا المسلمين، فما في قلوبهم من الغيظ على القرآن وأهله قد فاض من قلوبهم فأظهر أفعالهم الرديئة التي تثبت هزيمتهم في مواجهة القرآن وأهله. ولا عجب أن يتمالأ الكفار والمنافقون والمنحرفون على محاولة تزهيد المسلمين في القرآن، والدعوة إلى إفراغ المناهج التعليمية والتربوية منه، وإلغاء حلقات تحفيظه وتعليمه، وسيبقى لأعداء الله تعالى ما يغيظهم، فالقرآن فرقان قد فرق بين حقنا وباطلهم، وسيتعلمه أولاد المسلمين في البلاد الغنية على المقاعد الأنيقة وعبر الشاشات الجميلة، كما سيتعلمه أولاد المسلمين في البلاد الفقيرة في الأكواخ وتحت الأشجار، ويقرؤونه من الألواح، ولن يتركوه مهما ساءت أحوالهم. وأيام المد الشيوعي أراد الشيوعيون الملاحدة تصفية الإسلام فهدموا المساجد، وأحرقوا المصاحف، وأعدموا العلماء والأئمة وأهل القرآن، ونشروا جواسيسهم في البلاد التي سيطروا عليها؛ ليبحثوا عن آية قرآنية لطمسها، وعن أي قارئ لقطع حلقومه، وأنشؤوا جيلا من أولاد المسلمين علموه الإلحاد في المدارس والنوادي والشوارع، وحالوا بينه وبين القرآن زهاء سبعين سنة، ثم ماذا؟ كان المحفظون للقرآن يحفّظونه أولادهم في الأقبية والمغارات والفلوات وفي هجعة الليل، وبالهمس خوفا من آذان الشيوعيين، فما إن سقطت الشيوعية إلا وظهر أهل القرآن قد تناقلوه وحفظوه جيلا بعد جيل، وأنتصر أهل الفرقان على الشيوعية. فتمسكوا بالقرآن فإنه الفرقان بين الحق والباطل، فأهله هم أهل الحق، وأعداؤه من الكفار والمنافقين هم أهل الباطل. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |