مظاهر التوحيد في الحج - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4956 - عددالزوار : 2060089 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4532 - عددالزوار : 1328352 )           »          نباتات منزلية تمتص رطوبة الصيف من البيت.. الصبار أبرزها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          طريقة عمل برجر الفول الصويا.. وجبة سريعة وصحية للنباتيين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          4 وسائل علمية لتكون أكثر لطفًا فى حياتك اليومية.. ابدأ بتحسين طاقتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          وصفة طبيعية بالقهوة والزبادى لبشرة صافية ومشرقة قبل المناسبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          3 عادات يومية تزيد من تساقط الشعر مع ارتفاع درجات الحرارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          6 خطوات فى روتين الإنقاذ السريع للبشرة قبل الخروج من المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          تريندات ألوان الطلاء فى صيف 2025.. الأحمر مع الأصفر موضة ساخنة جدًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          طريقة عمل كرات اللحم بالبطاطس والمشروم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-02-2020, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل













الحمد لله رب العالمين؛ خلق الخلق تفضلا منه وإنعاما، وكلفهم بعبادته ابتلاء منه وامتحانا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) نحمده على ما وفق وهدى، ونشكره على ما أعطى وأسدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الحج ركنا من أركان الإسلام، وفرقانا بين أهل الشرك وأهل الإيمان، وراغم بمناسكه وشعائره عُبّاد الأوثان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ حج حجة واحدة، أقام فيها التوحيد، وأبان المناسك، وودع المسلمين فقال (لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) فسميت حجة الوداع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.








أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، وتعظيم شعائره، والوقوف عند حدوده (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).



أيها الناس: الحج توحيد لله تعالى في زمانه ومكانه ومناسكه؛ فزمانه هو الزمان الذي اختاره الله تعالى لتكون مناسك الحج فيه (الحج أشهر معلومات) ومناسكه قد جمعت بين الأقوال والأفعال في توحيد الله تعالى، وإخلاص الدين له، وخلع ما سواه من الشركاء والأنداد، فقلوب الحجيج متجهة إلى الله تعالى تلبي له وتكبره، وتذكره وتشكره، وتستغفره وتسأله، فسبحان من جمع قلوب الحجيج على توحيده تعالى وذكره وشكره، وتعظيم شعائره.



وأما مكان المناسك فله قصة في تاريخ البشر عظيمة، والبيت العظيم شيدته أسرة نبع منها التوحيد بعد انتشار الشرك في البشر، وأنجبت الأنبياء والرسل عليهم السلام عقب فترة من الرسل، وانقطاع الوحي.


إنها أسرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ممثلة في شخصه الكريم، وابنه إسماعيل الذي أنجبته أمكم الصالحة هاجر عليهما السلام، وهي أسرة توحيد وإيمان، أخلصت دينها لله تعالى، ونابذت الشرك والأوثان، وتحملت في سبيل ذلك العنت والمشقة، والهجرة والوحدة، فكانت عاقبتها حميدة؛ إذ شرفها الله تعالى -بعد موجات من الابتلاء والامتحان- بأن تكون بانية البيت الحرام، والمؤذنة بالحج في الناس، وبارك في عقب الخليل إبراهيم، فكان أكثر الأنبياء والرسل من ذريته، منهم أولو العزم الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.


وإبراهيم عليه السلام هو إبراهيم، وكيف لا يعرف إبراهيم من يقرأ القرآن!! هو أبو الموحدين بعد آدم ونوح عليهما السلام، وهو الإمام الذي جعله الله تعالى أمة، وحمل راية التوحيد لوحده، وواجه الشرك والوثنية بمفرده، بالجهاد والمفاصلة، وبالحجاج والمناظرة.


إنه الخليل إبراهيم عليه السلام الذي ناظر النمرود بن كنعان في الربوبية، فثبت أمامه بلا خوف ولا وجل، وبرهن له أنه العبد الحقير، وأن الله تعالى هو الرب الكبير (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر).


وتنزل في مناظرته مع الصابئة من قومه فحجهم بأفول الكوكب والقمر والشمس، وأعلن توحيده لله تعالى، وبراءته من شرك قومه (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).


إنه الخليل الذي كسر الأصنام بيده الشريفة؛ دحرا للشرك وإقامة للتوحيد (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون، قال أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون) فألقاه قومه في النار عقابا له، بعد أن أقام عليهم الحجة، وأبان لهم المحجة، وأثبت بطلان ما كانوا عليه من الشرك، ولكن الله تعالى نجاه منها (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون، قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين).


فلما لم ير استجابتهم لدعوته للتوحيد، وأيقن بإصرارهم على الشرك، هجرهم في الله تعالى، وهاجر من بلادهم ليقيم التوحيد في بلاد أخرى (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) فرزقه الله تعالى ذرية طيبة بإيمانه ودعوته، وصدقه ويقينه، وصبره وإخلاصه، فدعا أن يحفظه ربه جل جلاله وذريته من الشرك فقال عليه السلام (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم).


تلك هي أجزاء من سيرة باني البيت، وهي سيرة موحد لله تعالى، منابذ للشرك والمشركين، وقد تحمل في سبيل ذلك ألوانا من المشقة والأذى، وشاركه في بناء البيت ابنه إسماعيل عليه السلام، وهو على التوحيد الذي دعا والده الناس إليه، وقد عده الله تعالى من الصابرين الأخيار (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) وفي الآية الأخرى (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) وقد رضي الله تعالى عنه بإيمانه وصلاحه (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا).


وابتلي هو ووالده عليهما السلام بأعظم ما يبتلى به ابن وأبوه؛ إذ أمر الله تعالى إبراهيم أن ينحر إسماعيل بيده، فبادر إبراهيم واضطجع إسماعيل، بلا تردد ولا تفكير، طائعين لأمر ربهما، مستسلمين له، فأي توحيد وإيمان ويقين قد ملأ قلبيهما، فما طلب إبراهيم أن يخفف الله عنه في هذا البلاء، ولا امتنع إسماعيل عن تنفيذه، بل بادر يحث أباه على الاستسلام لأمر الله تعالى (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين).



وأم هذا النبي الكريم الذي شارك في بناء البيت هي هاجر عليها السلام، التي ابتليت أعظم البلاء بتوطينها ورضيعها في وادي مكة وهو الوادي المقفر من أسباب الحياة، فسلمت أمرها لله تعالى، ورضيت بقضائه وقدره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا) وفي رواية (نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله) رواه البخاري.



فتأملوا رحمكم الله تعالى كيف بلغ رضاها بالله عز وجل، ويقينها به سبحانه، وتوكلها عليه وحده دون سواه، حتى رضيت أن تبقى في ذلك الوادي المهجور المقفر لما كان الأمر أمر الله تعالى، وأيقنت أنه سبحانه لن يضيعها ورضيعها، فكان ما كان من مدد الله تعالى لها بماء زمزم، وقدوم قبيلة جرهم؛ حتى عمرت مكة بعد إقفارها، واستوطنت بعد هجرانها، وأول من استوطنها هي وابنها عليهما السلام.


لقد علمت أمكم هاجر عليها السلام أن حال مكة سيتغير، وستكون مهوى الأفئدة، ومقصد الحجاج؛ وذلك أنها لما كانت تسعى بحثا عن الماء، وجاء الملك فنبع زمزم؛ ثم قال لها عليه السلاملا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتا لله عز وجل يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله) رواه البخاري.


تلك هي الأسرة المباركة التي شرفت باستيطان مكة، وبناء البيت، وهي أسرة توحيد وعلم، وتوكل ويقين، ظهر ذلك من مواقف الابن وأبيه وأمه عليهم السلام.


بل إن المقصد الأعظم الذي ترك من أجله إبراهيم عليه السلام زوجه وولده في مكة إنما كان إقامة الدين لله تعالى، ويظهر ذلك بجلاء في دعوة الخليل حين فارقهم متجها إلى الشام؛ إذ لهج لله تعالى داعيا (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).


ومرت السنون، وأزهرت مكة بساكنيها، فجاء الأمر الرباني لإبراهيم عليه السلام ببناء البيت الحرام، فسافر من الشام إلى مكة لهذه الغاية الجليلة، والتقى الابن بأبيه في مكة بعد طول الفراق، فجرى بينهما ما يجري بين الأب وابنه من المصافحة والعناق، فقاليا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا، قال: أطع ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذن أفعل، فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.


وهذا الدعاء منهما عليهما السلام وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله تعالى، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وكان وهيب بن الورد يبكى إذا قرأ (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) ثم يقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك).


وأراد الله تعالى أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام موضع المناسك، ومكان الطواف، وأمر سبحانه بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود).


ولما اكتمل بناء البيت على التوحيد، وبناه إمام الموحدين في وقته إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى أن ينادي في الناس بأن يقصدوا هذا البيت لتوحيد الله تعالى وعبادته وذكره وشكره (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات). فأذن إبراهيم عليه السلام يدعو الموحدين من البشر في كل زمان ومكان ليثوبوا إلى البيت الحرام، فاستجاب لدعوته أهل التوحيد، ونكل عنها المشركون.


قال ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت؛ قيل له: أذّنْ في الناس بالحج. قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟! قال: أذّنْ وعليَّ البلاغ. فنادى إبراهيم: أيها الناس! كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحُجّوا. قال: فسمعه ما بين السماء والأرض؛ أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يُلبّون؟!) وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) رواه الفاكهي بإسناد صحيح.


وتوارث هذا التعظيم لبيت الله تعالى الموحدون من ذرية الخليل عليه السلام، وأقاموا المناسك، وعظموا الشعائر، ولا زالوا كذلك إلى يومنا هذا، وسيبقى من يقيم ذلك إلى آخر الزمان، وبعد نزول عيسى عليه السلام وقتله للدجال سيُهِّل بالحج قاصدا البيت الحرام؛ طاعة لله تعالى، وإجابة لدعوة خليل الرحمن، وأعرض عن الحج أهل الشرك والأوثان؛ ليتخذوا من أوثانهم وقبور سادتهم محجا لهم عن الحج الشرعي الذي رضيه الله تعالى لعباده، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن أجابوا دعوة الخليل عليه السلام، ونسأله أن يرزقنا الثبات على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) بارك الله لي ولكم...



الخطبة الثانية



الحمد لله على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لذنوبنا وخطايانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم في أيام عظيمة هي خير أيام السنة، والعمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها (والفجر وليال عشر) قيل: هي عشر ذي الحجة، وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قالما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري والدارمي واللفظ له. فأروا الله تعالى فيها من أنفسكم خيرا، واجتهدوا في الأعمال الصالحة كما تجتهدون في عشر رمضان أو أشدَّ اجتهادا؛ فإن هذه العشر المباركات لا تقلُّ فضلا عند الله تعالى عن عشر رمضان الأخيرة، وظاهر الحديث أنها أفضل منها.


أيها المسلمون: لقد بنى إبراهيم وإسماعيل بيت الله تعالى على التوحيد، بأمر الله تعالى لهما بذلك، وفي المكان الذي اختاره؛ لإقامة التوحيد، وإخلاص الدين لله تعالى، فالموحدون من البشر هم أولى ببيت الله تعالى، وبالولاء لبانيه عليه السلام من أية أمة أخرى؛ ولما زعمت اليهود والنصارى أن الخليل عليه السلام على يهوديتهم ونصرانيتهم، وأنهم هم أتباعه كذبهم الله تعالى فيما زعموا، وبين سبحانه أن أتباعه هم من كانوا على دينه، وهم من لبوا نداءه بالحج، وهم المسلمون (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين).


وكثير من كتاب اليهود والنصارى في هذا العصر يزعمون أن الحج ومناسكه من شعائر الوثنية التي تسربت إلى الإسلام، ويريدون بهذا الطعن ادعاء تحريف الإسلام بعد أن عجزوا عن التشكيك فيه كرسالة ربانية أنزلها الله تعالى لهداية البشر، ويستدلون على إفكهم المبين بما جاء في التاريخ من حج قبائل العرب وهي على الشرك.


وقد تلقف عنهم هذه الفرية بعض زنادقة هذا العصر ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين، وهم في واقع الأمر ملاحدة لا يؤمنون برب العالمين، ولا يصدقون بيوم الدين، وبعضهم يتباكى على هذا التسابق إلى الحج والازدحام عليه وهو لا يعدو أن يكون من بقايا الجاهلية حسب قولهم.


وتالله إنهم لمن أجهل الناس، وأشدهم تكذيبا بالقرآن؛ لأن الحج ومناسكه من الطواف والسعي والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة وغير ذلك جاء ذكره في القرآن، فماذا سيقولون؟!


ثم إنهم من أجهل الناس بالتاريخ وبما يسمى بعلوم الاجتماع وتناقل الحضارات؛ وذلك بنسبتهم شعائر الحج للمشركين؛ إذ من الثابت في التاريخ أن المؤذن بالحج إبراهيم عليه السلام، ثم انحرف الناس في مكة بعد دعوته ودعوة ابنه إسماعيل، وبقيت بقايا من دينهما يتوارثها الناس، وداخلها شيء كثير من التحريف والشرك، كالاعتقاد في الأصنام، وعبادتها من دون الله تعالى، وملء البيت الحرام بها، والتمييز في الحج بين الحمس وغيرهم، والطواف بالبيت عراة وغير ذلك.


فبعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام في المكان الذي أذن فيه إبراهيم عليه السلام بالحج؛ ليزيل ما زاده الناس في دينه، وليقضي على أوضار الشرك، ويعيد الناس إلى التوحيد الذي دعاهم إليه إبراهيم عليه السلام، وتم ذلك بحمد الله تعالى، وحج الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على وفق التوحيد الذي أذن به إبراهيم عليه السلام لما بنى البيت.


أفإن كان كذلك يأتي جاهل أخرق، قد اسود قلبه بالحقد، وأعمى الضلال بصيرته ليقرأ صفحات من التاريخ فيرى أن قريشا كانوا يحجون في جاهليتهم، فيطير فرحا بما اكتشف، ويصيح في الناس أن الحج من بقايا الوثنية، وهو من جهله لا يعلم أن عوام المسلمين في طول العالم الإسلامي وعرضه يعلمون أن قريشا ورثت الحج عن إبراهيم عليه السلام، وبقي فيهم شيء من مناسكه وشعائره مع ما داخلها من التحريف والشرك الذي أزاله النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام.


وهؤلاء المنحرفون يصدرون في الإعلام الفاسد،ويشار إليهم بالبنان، ويفرضون على الناس صباحا ومساء، بدعوى أنهم مفكرون وباحثون، وقد بلغ جهلهم بالشريعة والتاريخ والتوارث الحضاري ما قد سمعتم وعلمتم، فإلى الله تعالى المشتكى من زمن صدر فيه الأراذل، وأخفيت الحقائق، وتكلم الرويبضة.


ونسأل الله تعالى أن يكبت كل منافق ومنافقة، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته إنه سميع مجيب.


وصلوا وسلموا.....







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-02-2020, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج(2)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



المناسك والتوحيد



الحمد لله؛ مالك الملك، ومدبر الأمر؛ فرض على عباده توحيده وطاعته، وحذرهم من الإشراك به ومن معصيته {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] نحمده فهو أهل الحمد والشكر، وأحق من حمده الحامدون، وشكره الشاكرون {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الجاثية:36-37] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي؛ فأصلح به القلوب، وزكى النفوس، وأعاد الحنيفية، وقضى على مظاهر الوثنية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:33] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعرفوا له عز وجل حقه، واقدروه سبحانه قدره؛ فإنه خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، وباعثكم ومحاسبكم على أعمالكم، يعلم سركم وجهركم، ولا يخفى عليه شيء من أمركم، ولا يريد منكم إلا توحيده وطاعته، ومجانبة الإشراك به ومعصيته، لم يخلقكم ليستقوي بكم من ضعف، ولا ليكاثر بكم من قلة، ولا ليقدر بكم من عجز، بل هو القادر القوي الغني عن العالمين {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات:56-58].


أيها الناس: الحج ركن من أركان الإسلام، ومبنى من مبانيه العظام، شرعه الله تعالى لمصالح عباده ومنافعهم في الدنيا والآخرة.

والحج في زمانه ومكانه وأعماله شعيرة من الشعائر الكبرى، ومظهر من مظاهر توحيد الله تعالى، ونبذ الشرك والوثنية؛ فزمانه من الله تعالى وليس من البشر {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ومكانه بقعة مباركة مقدسة باركها الله تعالى، وفضلها على سائر البقاع، وأمر عباده بأن يفدوا إليها من فجاج الأرض حجاجا ومعتمرين وزائرين {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].

هكذا أراد الله تعالى أن يكون زمان الحج ومكانه، ولا معقب لحكم الله تعالى، وليس على المؤمنين إلا القبول والإذعان، والقبول والامتثال، فلبى النداء من أراد الله تعالى بهم خيرا من عباده -ولا زالوا وإلى آخر الزمان- واستنكف عنه أهل الجهل والشرك والاستكبار.


والحج في أعماله وشعائره مبنيٌ على توحيد الله تعالى وطاعته؛ فالحاج يخرج من بلده، ويفارق أهله وولده وحبه، ولا يدري أيرجع إليهم أم يموت بعيدا عنهم، ويتحمل مشقة السفر ومخاطره، ويبذل نفيس المال، لا لشيء إلا لمرضاة الله تعالى وتلبية لنداء الخليل عليه السلام حين أمره الله تعالى أن يبتني بيتا، وينادي في الناس بأن يحجوا إليه.


مسلمون يفدون إلى مكة للحج من أقاصي البلدان.. شيب وعجائز أخذت السنون منهم حظها، فهزلت أجسامهم، وضعفت حركتهم، وأحاطت بهم الأسقام من كل جانب ما إن يبشروا بأنهم سيحجون إلا نهضت لهم هِمَمٌ تناطح السحاب، وتدك الجبال..


منهم من ينتظر هذه البشرى منذ عشرين سنة وثلاثين وأربعين..


ومنهم من بذل كل ثروته في هذا السبيل..


ومنهم من باع بيته لأجل الحج..


فهل ترون يا عباد الله أن هؤلاء قدموا إلى مكة يريدون عرضا من الدنيا، وقد بذلوا كل دنياهم لأجل الحج؟!


ما إن تطأ أقدامهم أرض الحرم، فيروا الكعبة الشريفة إلا وتقشعر جلودهم، وتفيض بالدمع عيونهم؛ شاكرين الله تعالى على بلوغ الهدف، وتحقق الأمنية، وأداء الفريضة!!


وتالله الذي لا يحلف إلا به إن خروجهم من بلادهم إلى مكة مظهر عظيم من مظاهر التوحيد، وإن في خروجهم بهذه الأعداد الهائلة في كل عام، ومن مختلف البلدان حتى لا تكاد توجد بلاد لا يفد منها حجاج، إن فيه دعوةً إلى التوحيد؛ فكم من ملحد ومشرك وضال هداه الله تعالى إلى الإسلام، وكان الحج سبب هدايته حين رأى أهل بلده يحجون، أو رأى جموع الحجيج في المشاعر على شاشات التلفزة، فسأل نفسه ماذا يفعل هؤلاء؟ وماذا يريدون؟! ولماذا كان لباسهم هكذا؟ ولماذا كان لباسا واحدا؛ غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم، ولماذا يطوفون ويقفون ويجأرون ويبكون؟ فكانت هذه الأسئلة و وبحثه عن أجوبتها سبب هدايته، وكان سفر الحجيج واجتماعهم ومشهدهم سببا لتلك الأسئلة. فما أعظم الحج وشعائره، وما أدله على توحيد الله تعالى وتعظيمه!!


والحاج حين يبلغ الميقات يتجرد من لباسه المعتاد، ويلبس ما لا يعتاد ولو كان فيه مشقة؛ فإن مفارقة المألوف شاق على النفوس.


وهو كذلك يجتنب محظورات الإحرام، لا يفعل ذلك لمصلحة مالية، أو مراعاة طبية، أو غيرها، بل يفعله طاعة لله تعالى، وإيمانا بأنه سبحانه فرض الحج، وأوجب على الحاج أن يفعل ذلك، وهذه الطاعة في ترك ما هو مألوف، وفعل غير المألوف، واجتناب المحبوب ما هي إلا مظهر من مظاهر توحيد الله تعالى والإيمان به.


وأول جملة ينطق بها الحاج حال دخوله النسك هي التلبية، والتلبية إعلان للتوحيد ونبذ للشرك، روى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ تَلْبِيَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لك) وفي رواية: (لَا يَزِيدُ على هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) متفق عليه.


وهذه التلبية العظيمة هي إهلال بالتوحيد كما قال جابر رضي الله عنه وهو يحكي حجة النبي صلى الله عليه وسلم ويصف حالهم معه: (وما عَمِلَ بِهِ من شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لك، وَأَهَلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّونَ بِهِ، فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه وَلَزِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ) رواه مسلم


فكانت هذه التلبية المباركة هي أفضل صيغ التلبية؛ لالتزام النبي صلى الله عليه وسلم بها، وعدم زيادته عليها؛ ولما تضمنته من معاني التوحيد، والبراءة من الشرك؛ ولما فيها من الاستجابة لدعوة الخليل عليه السلام حين أذن في الناس بالحج؛ فإن معناها: إجابة لك بعد إجابة، إجابة خالصة لا شرك فيها.


وتضمنت التلبية كذلك حمد الله تعالى، والإقرار بنعمه الظاهرة والباطنة، وبأنه عز وجل مالك الملك، وكل ذلك من مظاهر توحيد الله تعالى في تلك التلبية المباركة.


وهي ردٌ على تلبية المشركين حين كانوا يلبون فيَقُولُونَ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك إلا شَرِيكًا هو لك تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ) فكان النبي عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك عليهم ويقول: (وَيْلَكُمْ قَدٍ قَدٍ) رواه مسلم. أي: تكفيكم تلبية التوحيد عن هذه الزيادة الشركية في التلبية.


فالحمد لله الذي شرع الحج لعباده المؤمنين، والحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين الحنيف {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنكم في أيام عظيمة، العمل الصالح فيها خير وأحب إلى الله تعالى من العمل في غيرها؛ كما روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى الله من هذه الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا: يا رَسُولَ الله، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له.


فاعمروها -أيها المؤمنون-بذكر الله تعالى وطاعته، وتعظيم شعائره {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].


أيها المسلمون: إذا تأمل المتأمل مناسك الحج والعمرة بأقولها وأفعالها فسيجد أن لها ارتباطا وثيقا بتوحيد الله تعالى؛ فهي أعمال يعملها المسلم انطلاقا من إيمانه بالله تعالى، وتوحيده له عز وجل، منذ خروجه من بلده لأداء هذا النسك العظيم إلى رجوعه بعد أداء المناسك.


وإذا ما بلغ الحاج البيت الحرام استحضر وهو يرى الكعبة أن باني البيت بأمر الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي كان إماما في دعوته إلى الحنيفية التي هي التوحيد حتى نسبت إليه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل:120] وأمر الله تعالى عباده باتباعها فقال سبحانه {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران:95].


كما يستحضر أن إبراهيم عليه السلام قد شيد البيت على التوحيد، كيف وهو من دعا الله تعالى قائلا {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].


فإذا استحضر المسلم هذا المعنى العظيم وهو يرى البيت الحرام، لم يشرك مع الله تعالى آلهة أخرى؛ ولذا فإنه يبتدئ طوافه بالبيت بذكر اسم الله تعالى وتكبيره، وهذا من إعلان التوحيد في بداية الطواف، وهو يطوف حين يطوف تعظيما لله تعالى؛ لأن الله تعالى جعل الطواف بالكعبة عبادة وقربة يتقرب بها المؤمنون إليه.


إن الحجاج لا يطوفون بالكعبة لأنها بناء جميل، أو لأنها أقدم بناء على الأرض فهي من التراث، أو لأن أبويهم إبراهيم وإسماعيل قد بنياها، أو لاعتقادهم أنها تنفع وتضر وهي أكوام حجارة كغيرها، بل يطوفون بها لأن الله تعالى أمرهم بذلك، وقضى سبحانه بأن الطواف بها من شعائره سبحانه وتعالى، ومن مناسك الحج والعمرة التي كتبها على عباده، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج:29] ولذا كان الطواف بها قربة إلى الله تعالى، وكان الطواف بأي بناء على وجه التعبد شركا بالله تعالى، فما أعظم هذا المعنى من معاني التوحيد وقد غفل عنه كثير من الناس!!


وإن تيسر للطائف أن يستلم الحجر الأسود ويقبله فإنه يفعل ذلك لأن الله تعالى شرع ذلك وجعله عبادة له سبحانه، لا لأنه يعبد الحجر الأسود أو يعتقد فيه النفع والضر، وفي هذا المعنى ثبت عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جاء إلى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فقال: (إني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ) متفق عليه.


ولو أن رجلا قبل حجرا غير الحجر الأسود على وجه التعبد لكان مشركا؛ فسبحان من جعل الطواف بالبيت عبادة، وجعل الطواف بغيره شركا، وسبحان من جعل تقبيل الحجر الأسود عبادة، وجعل تقبيل غيره شركا!!


وهل التوحيد إلا التزام أمر الله تعالى، والعمل بشريعته، والوقوف عندها، والحذر مما أحدثه المحدثون من أنواع الشرك والبدع والضلال؟!


عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله) رواه أبو داود.


ولو فقه المسلمون هذا المعنى العظيم في الحج لما كان في كثير من بلاد المسلمين قبور وأضرحة تعبد من دون الله تعالى؛ فيطاف بها، وينذر لها، ويدعى عندها، ويصرف لها ما لا يجوز صرفه إلا لله تعالى من المحبة والتعظيم والخوف والرجاء، فما أشد غربة التوحيد في كثير من بلاد المسلمين؟!


وما أحوجنا إلى معرفة ارتباط العبادات من صلاة وصيام وصدقة وحج وغيرها بتوحيد الله تعالى، وأن الدافع الذي يدفع المسلم إلى هذه العبادات مع ما فيها من مشقة هو توحيده لله تعالى، ولو فقه المسلمون ذلك حق الفقه لما انقلبت العبادات عند كثير من الناس إلى ما يشبه العادات، فلا تتحرك بها قلوبهم، ولا تزكو بها أعمالهم وأخلاقهم.


ألا فاتقوا الله ربكم، واستشعروا في كل عبادة تؤدونها حقه سبحانه عليكم، واستحضروا عظمته وقدرته، وأنه عز وجل ربكم وإلهكم وأنتم عبيده، وأنه تعالى غني عنكم وأنتم مفتقرون إليه في كل أحوالكم وأحيانكم وشؤونكم، فمن استحضر ذلك في كل عبادة يؤديها وجد في قلبه لذة لا يجدها في أي شيء آخر.


وصلوا وسلموا على نبيكم...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-02-2020, 04:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج(3)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




الحمد لله رب العالمين؛ فرض الحج على عباده، وجعله موسما لتعظيم شعائره، فله الحكمة الباهرة في شرعه، وله الحجة البالغة على خلقه؛ {قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].

نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا؛ فلا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لبَّى الحجَّاج تعبُّدًا له، وأداءً لنسكه، وتعظيمًا لشعائره، وإجابةً لنداء خليله حين أذَّن في الناس بالحج؛ فقال الحجاج إجابةً له: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلَّغ رسالة ربِّه، وأدَّى مناسكه، وعظَّم شعائره، وبيَّن للناس مناسكهم؛ قال جَابرٌ - رضي الله عنه -: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على رَاحِلَتِهِ يوم النَّحْرِ وَيَقُولُ: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لا أَدْرِي: لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذه)).


فما نراه من المناسك اليوم هي المناسك التي أدَّاها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لم تتغير بتطاول الزمان، ولم تختلف بتعاقب الدول، قد حفظها الله تعالى بحفظ دينه، وأداها المسلمون جيلاً بعد جيل كما جاءهم بها أبو القاسم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا شعائره؛ فإنكم في أيام عظيمة، قد فضَّلها الله تعالى على سائر الأيام، وجعلها زمنًا لحج بيته الحرام، فإياكم أن تنتهكوا حرمتها، واحذروا المعصية فيها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].

أيها الناس:

حين خلق الله تعالى الناس بيَّن سبحانه الحكمة من خلقهم؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأمرهم بتوحيده في عبادته، ونهاهم أن يشركوا به شيئًا.

والعبادات كلها: فرائضُها ونوافلُها - هي من توحيد الله تعالى؛ لأن العبد يفعلها لأمر الله تعالى بها، وتصديقه بموعده فيها، فكانت توحيدًا بهذا الاعتبار، ثم إن مظاهر التوحيد تتجلَّى في تفاصيلها، سواء كانت أقوالاً أم أفعالاً، أم كانت جامعةً بين الأقوال والأفعال.

والحج ركن الإسلام الخامس، فرضه الله تعالى على المستطيعين من عباده مرةً في العمر، وندب إلى التطوُّع به، وفيه من مظاهر التوحيد ما ليس في غيره؛ بل إن أكثر شعائره ومشاعره تُكَرِّسُ التوحيد، وتدعو إليه؛ ولذا كانت مناسكه ظاهرة، وشعائره معلنة؛ لأن في إعلانها إعلانًا لتوحيد الله تبارك وتعالى، وبراءةً من الشرك وأهله.

والحاج يبتدئ نسكه بالتلبية، وهي إعلانٌ للتوحيد، ونبذ للشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.

ويطوف بالبيت؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمره بالطواف بالبيت: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج:29]؛ ولا يطوف بغيره؛ لأن الطواف بغيره نهى الله تعالى عنه، فكان شركًا.

ويرقى الصفا ليبتدئ سعيه؛ فيُعلن فوقه التوحيد لله تعالى، وجبل الصفا كان موضعًا لحَدَثٍ عظيم عقب بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أوائل دعوته، فهو المكان الذي صدع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، ونادى قريشًا بطنًا بطنًا حتى اجتمعوا، ثم سألهم عن صِدْقِهِ، فشهدوا له بذلك، ثم صدع بالحق أمامهم، وقذف به باطلهم، وأخبرهم أنه رسولٌ من الله تعالى، جاء لينذرهم وينقذهم.

قال ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ)) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حتى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذا لم يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ ما هو، فَجَاءَ أبو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أَرَأَيْتَكُمْ لو أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)). قالوا: نعم، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلا صِدْقًا، قال: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بين يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)). فقال أبو لَهَبٍ: تَبًّا لك سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1-2]))"؛ رواه الشيخان.

فكانت هذه السورة العظيمة قرآنا يتًلى إلى يوم القيامة، وذهب أبو لهب إلى النار، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه على دعوة الحق، وما هي إلا سنوات قلائل مضت على حادثة الصفا، فعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجًّا بعد أن فتح مكة ودخلت في الإسلام، وأعلن التوحيد في حجَّته من نفس المكان الذي صدع به إبَّان بعثته؛ قال جابر - رضي الله عنه - يصف حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عليه، حتى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وَكَبَّرَهُ وقال: ((لا إِلَهَ إلا الله، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ)). ثُمَّ دَعَا بين ذلك، قال مِثْلَ هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ"؛ رواه مسلم.

ما أعظمه من موقف، وما أعزَّه من مقام، عاد الذي شتمه أبو لهب حين صدع بدين ربِّه ليوحد الله تعالى في نفس المكان الذي شُتِم فيه، ويذكر نعمة الله تعالى عليه بالنصر والتأييد، وهزيمة الشرك وأهله!! وصار هذا الذكرُ شعارًا من شعائر الحج والعمرة، وسنةً مباركةً من سنن السعي بين الصفا والمروة، يفعله المسلمون من أربعة عشر قرنًا، وسيظل كذلك إلى آخر الزمان، وسيفعله المسيح ابن مريم - عليه السلام - حين يزور البيت الحرام حاجًّا أو معتمرًا أو جامعًا بينهما.

وكرَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الذِّكْر العظيم على الصفا والمروة في كلِّ شوْط؛ كما قال جابر - رضي الله عنه -: "ثُمَّ نَزَلَ إلى الْمَرْوَةِ، حتى إذا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حتى إذا صَعِدَتَا مَشَى حتى أتى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ على الْمَرْوَةِ كما فَعَلَ على الصَّفَا".

وإنما كرَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الذِّكْر كلما رَقِيَ الصفا والمروة تعظيمًا لله تعالى، وتأكيدًا على توحيده، وتذكيرًا بنعمته، وبلاغًا لأهل الإيمان والتقوى بأن الله تعالى معهم وإن كانوا أضعف وأقل، وأنه سبحانه ناصِرُهم على أعدائهم مهما بلغوا كثرةً وقوةً، فليَتَّقوا، وليصبروا، وليثبتوا على دينهم كما ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ معه من المؤمنين في مكة؛ فإن العاقبة للتَّقوى.

والحاجُّ حين يسعى بين الصفا والمروة، ويمشي هذه المسافة الطويلة مع ما هو فيه من رَهَق البدن، ومشقَّة السَّفر، وزحام الحَرَم، لا يفعل ذلك رياضةً أو تطبُّبًا، أو لمَزِيَّةٍ في المسعى عن غيره من الأماكن، وإنما يفعله قربةً لله تعالى، وأداءً لشعيرةٍ من شعائره، وإتمامًا لمنسكه، وهذا التقرُّب لله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة من أَبْيَن مظاهر التوحيد في الحج، حتى إن الساعي يشتد سعيه بين العَلَمين؛ اقتداءً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتطبيقًا لسنَّته، حين رَاغَمَ أهل الشرك والوثنية، وأظهر هو والمؤمنون معه قُوَّتَهم؛ لإعزاز الدين، وإرهاب المشركين، والثَّبات على كلمة التوحيد؛ كما روى ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: "إنما سَعَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ"؛ رواه الشيخان.

وفي شعيرة السعي بين الصفا والمروة تأسٍّ بباني البيت على التوحيد؛ إبراهيم - عليه السلام - حين سعى، وقد أمرنا الله تعالى باتِّباع ملَّتَه في قوله سبحانه: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].

وأما سعيه - عليه السلام - فجاء في الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إن إبراهيم لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ؛ عَرَضَ له الشَّيْطَانُ عِنْدَ السعي، فَسَابَقَهُ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ"؛ رواه أحمد، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "فكانت سنَّةً".

وسعت قبله زوجُه هاجرُ - عليها السلام - حين تركها الخليل ووليدها بمكة، وهي وادٍ غير ذي زَرْعٍ؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - يحكي قصتها وهي تبحث عن الماء لرضيعها العطشان: ((فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرض يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ؛ تَنْظُرُ: هل تَرَى أَحَدًا؟! فلم تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ من الصَّفَا، حتى إذا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حتى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ، فَقَامَتْ عليها وَنَظَرَتْ: هل تَرَى أَحَدًا؟! فلم تَرَ أَحَدًا. فَفَعَلَتْ ذلك سَبْعَ مَرَّاتٍ))، قال ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فَذَلِكَ سَعْيُ الناس بَيْنَهُمَا))"؛رواه البخاري.

فكان السعي شعيرةً من شعائر الله تعالى، قام بها أهلُ التوحيد من لَدُن إبراهيم وآل إبراهيم، وسنَّةً سنَّها رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ تعظيمًا لله تعالى، وإقامةً لشعائره، واقتداءً بالخليل وآله - عليهم السلام - حتى كان السعي ركنًا من أركان الحجِّ والعمرة، فحَرِيٌّ بالسَّاعي أن يستشعر هذه المعاني العظيمة أثناء تأديته لشعيرة السَّعي، ويتذكَّر ما جرى في المَسْعى وعلى الصفا والمروة من أحداثٍ عظيمة قام بها الموحِّدون؛ نصرةً لدين الله تعالى، وتعظيمًا له، وإقامةً لشعائره، ودعوةً إلى توحيده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...



الخطبة الثانية

الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا دِينَه، والزموا طاعته؛ فإنكم في أيامٍ عظيمةٍ، هي أعظم أيام السَّنَة، فاعْمُروها بذِكْر الله تعالى وتكبيره، وعظِّموا فيها شعائره: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32].

أيها المسلمون:

لئن كان الحجاج قد أَمُّوا البيتَ الحرام والمشاعر المقدسة؛ لأداء مناسك الحج والعمرة، والتقرُّب إلى الله تعالى بهذه العبادة العظيمة في تلك الأيام المباركة - فإن الله تعالى قد شرع لأهل الأمصار عبادات كثيرة؛ منها:
التكبير المطلَق في كل وقتٍ من ليلٍ أو نهار؛ تعظيمًا لله تعالى، وإظهارًا لشعائره، وقيامًا بحقوقه على عباده، فلا شيءَ أكبرُ من الله تعالى، ولا أيام أفضل من هذه الأيام، فناسب أن يُكبَّر الكبير سبحانه فيها، ولا ينتهي التكبير المطلق إلا بغياب شمس يوم الثالث عشر.

وشُرع التكبير المقيَّد بأدبار الصلوات، من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم الثالث عشر؛ فاحرصوا - رحمكم الله تعالى - على إظهار هذه الشعيرة العظيمة؛ بالجَهْر بها في المساجد والبيوت والأسواق وغيرها، وكان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق، ليس لهما فيه غرضٌ إلا التكبير، وإظهار هذه الشعيرة العظيمة في مجامع الناس.

ومما شرع الله تعالى لأهل الأمصار: صيام تلك الأيام، ولا سيَّما يوم عرفة؛ فإنه يومٌ عظيمٌ، يُعتِق الله تعالى فيه خَلْقًا كثيرًا من النار، وصيامه يكفِّر سنتَيْن؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعْدَهُ))؛ رواه مسلم.

فما أعظم فضل الله تعالى على عباده، حين كتب لهم تكفير سنتَيْن بصيام يومٍ واحد، ولا يُحْرَم هذا الفضل العظيم إلا محروم.

ومما شرع الله تعالى لأهل الأمصار: الأُضْحِيَة، وهي أعظم قربان يُتَقرَّب به إلى الله تعالى في العيد الأكبر يوم النَّحْر؛ قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

فمَنْ وجد سعةً؛ فلا يَحْرِمَنَّ نفسه أجرها وفضلها، فله لحمها وله أجرها: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج: 37].

وصلوا وسلموا على نبيِّكم...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-02-2020, 04:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج(4)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل






التوحيد في ليالي مِنًى







الحمد لله العلي العظيم؛ كتَب الحج على المؤمنين، وأجزَل الأجر للحجاج والمعتمرين؛ فالعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، نحمده على نِعَمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لبَّى الملبُّون له محبَّة وتعظيمًا، ولهَج الذاكرون بذكره بكرة وأصيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ حجَّ حجة واحدة ودَّع فيها أمَّته، وبيَّن المناسك وعظَّم الشعائر، وقال للناس: ((لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.





أما بعد:


فأُوصِي نفسي وإياكم - عبادَ الله - بتقوى الله وطاعته، واغتنام هذه الأيام الفاضلة بأنواع الطاعات، وعمارة الوقت بما يرضي الله - تعالى - فإن العمر يمضي، والأعمال تكتب، وسيجد كل عبد ما عمل في الدنيا من خير وشر، فيا سعادة مَن وجد في صحيفته عملاً صالحًا، ويا شقوة مَن وجد غير ذلك؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8].





أيها الناس:


الحج شعيرة من الشعائر الكبيرة الظاهرة التي تقرِّب إلى الله - تعالى - وهو من أهمِّ العبادات التي ترسِّخ التوحيد والطاعة لله - عز وجل.





ورغم طول السفر، وكثرة الحُجَّاج، وشِدَّة الزحام، ومشقَّة المناسك، فإن الملايين من المسلمين يَفِدُون إلى البيت الحرام حُجَّاجًا ومعتمرين في كل عام، ومَن حرموا ذلك لعجْز مالي أو بدني، تبكي قلوبهم قبل عيونهم على ما فاتهم من الخير، فسبحان مَن عبَّدهم له! وسبحان مَن هداهم إليه! وسبحان مَن علَّمهم المناسك! وسبحان مَن قذَف في قلوبهم محبَّة المشاعر وتعظيم الشعائر!





إن مظاهر التوحيد لله - تعالى - في الحج كثيرةٌ، منذ أن يخرج الحاجُّ من بيته يريد البيت الحرام، إلى أن ينهي نسُكَه فيعود إلى بلده، توحيد في الإحرام والإهلال، وتوحيد في الطواف والسعي، وتوحيد في مِنًى وفي عرفات وفي مزدلفة، وتوحيد في النحر ورمي الجمار، توحيد بالأقوال وتوحيد بالأفعال، توحيد يملأ القلوب إجلالاً لله - تعالى - ومحبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً.





وفي مِنًى يبيت الحجَّاج محرِمين ليلة التاسع متأهِّبين ليوم عرفة، يصلُّون في رحالهم ويقصرون صلاتهم؛ طاعة لله - تعالى - فهم يتمُّون صلاتهم بأمره - سبحانه - ويقصِرونها بأمره - عز وجل - ويعودون لمِنًى بعد الوقوف والمبيت بمزدلفة؛ ليبيتوا بها ليالي التشريق، وهذا المبيت من واجبات الحج.





إنهم هجروا ديارهم، وفارقوا أحبابهم، وأتَوْا من كل فجٍّ يزدحمون على بقعة صحراوية صغيرة، حرُّها شديد، وموضعها بعيد، يفارِقون فرُشَهم الوثيرة، ومساكنهم المشيدة؛ ليبيتوا في خيام، لا وجه للمقارنة بينها وبين مساكنهم وفرشهم، وكل ذلك من أجل ماذا؟ ولِمَ يتحمَّلون شدة الحر وكثرة الزحام؟ إنهم يفعلون ذلك ليس لشيء إلا لإرضاء الله - تعالى - وطمعًا في ثوابه، فيا لله العظيم! ما أعظمه من جمع! وما أشده تأثيرًا في القلوب، وأسْرًا للنفوس! ولذا ترَوْن غير الحجيج وهم يشاهدون جمعَهم في الشاشات تحنُّ قلوبهم، وتقشعرُّ جلودهم، وتدمع عيونهم؛ غبطة لهم، وتمنِّيًا لو أنهم كانوا معهم، فشاركوهم بقلوبهم، وإن بقيت أبدانهم في ديارهم.





إنه مظهر من مظاهر التوحيد واضح، ومقام من مقامات العبودية ظاهر، لا يماري فيه إلا جاهل أو مُكابِر.





يصدرون ضحى يوم التاسع من مِنىً إلى عرفات وهم يلبُّون، ويعودون إليها ضحًى يوم النحر وهم يلبُّون، والتلبية إهلال بالتوحيد، ونبْذ للشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.





وفي منًى تُرْمَى الجِمَار، سبعون حصاة لِمَن تأخَّر، وتسعة وأربعون لِمَن تعجَّل، ويكبِّر الحجاج مع كل حصاة يرمونها، والتكبير توحيد لله - تعالى - وتعظيم، فلا شيء أكبر من الله - عز وجل.





وعند الجمرات أنزِلت أطول سورة في القرآن تدعو إلى التوحيد، وتفصل التشريع، وتحذِّر من الشرك، وتذكِّرنا بقصة عدوِّنا الشيطان الرجيم حين وسوس لأبينا آدم - عليه السلام - فأكل من الشجرة التي نُهِي عنها، وهدف هذه القصة في هذه السورة العظيمة تحذيرنا من وسوسة الشيطان لنا، ووجوب اتخاذه عدوًّا، وإذا ما استشعر المسلم عداوة الشيطان له باعد بينه وبين ما يريد، والبراءة من الشيطان هي براءة من الشرك، وتحقيق للتوحيد؛ لأن الشيطان يدعو إلى الشرك والمعصية، ويصد عن التوحيد والطاعة؛ رُوِي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه لما رمى الجمرة قال: "هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة"؛ رواه الشيخان.





والحاج حين يرمي الجمار فهو لا يزيد على سبع حصَيَات ولا ينقص منها، ولا يعلم لِمَ كانت سبعًا، ولم تكن خمسًا أو ثمانيًا، ويختار من الجمار الحجْم الذي ورد في السُّنة، ولا يرمي بغير ذلك؛ لأنه ممتثل لا مبتدع، طائع غير عاصٍ، مستسلم لأمر الله - تعالى - لا يعقل من معنى الرمي، وحكمة مشروعيته، وتحديد مكانه إلا أنه لإقامة لذكر الله - تعالى - وبه أمر - سبحانه - عباده على هذه الصفة وفي هذا المكان، وتأسِّيًا بالخليلين إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - في رميهما، وقد حكى جابر - رضي الله عنه - رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته فقال: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي"؛ رواه مسلم، وحصى الخذف هي التي يخذف بها بالأصابع.





وفي مِنًى تنحر البُدْن وتذبح البقر والغنم تنسُّكًا لله - تعالى - وهذا الفعل من أعظم مظاهر التوحيد؛ إذ إن الذبح لغير الله - تعالى – شرك؛ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فهي من الله - تعالى - وإليه - سبحانه - وتذبح على اسمه، وتقرُّبًا له، ومِنًى موضعٌ لهذا التوحيد، وقد جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وكل مِنًى منحر))؛ رواه أبو داود، وتقرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المشعر العظيم لله - تعالى - بنحر مائة بدنة؛ كما في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "ثم انصرف إلى المنحَر فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه"؛ رواه مسلم.





وبعد الرمْي يحلق الحاج رأسه؛ قربة لله - تعالى - ويتحلَّل من إحرامه، فهو يحرم تعبُّدًا، ويحل تعبُّدًا، وهذا أبلغ ما يكون في ترسيخ العبودية لله - تعالى - والاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة.





وهذه الشعائر العظيمة في مشعر مِنًى عِلَّتها المنصوصة:


إقامة ذكر الله - تعالى - بالأقوال والأفعال، بل كل مناسك الحج هذه علَّتها وغايتها الكبرى، والذكر من أبلغ معاني التوحيد، وقد قال الله - تعالى - في أيام مِنًى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وروت عائشة - رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعِل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله))؛ رواه أبو داود.





وفي أيام التشريق يرمي الحاجُّ الجِمَار الثلاث، ويدعو طويلاً بعد الجمرة الصغرى وبعد الوسطى، ولا يدعو بعد الكبرى، وهذا الدعاء في هذين الموضعين من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم يقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو برفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: "هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل"، قال عطاء بن أبي رباح - رحمه الله تعالى -: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة"، وعن هارون بن إبراهيم قال: "رأيت عطاء بن أبي رباح على حمار واقفًا عند الجمرة الوسطى قدر ما كان إنسان قارئًا سورة البقرة"، فتأمَّلوا تتابع السلف - رحمهم الله تعالى - واحدًا عن واحد في تحقيق هذا المظهر العظيم من مظاهر التوحيد عند الجمرات في مشعر مِنًى؛ وذلك بالحرص على الدعاء، وإطالته وفقًا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم.





ومعلوم أن الدعاء من أخصِّ خصائص التوحيد، فلا يجوز أن يُصْرَف منه شيء لغير الله - تعالى - وقد جاء في الحديث أن الدعاء هو العبادة، والله - تعالى - قد ذم المشركين حين دعوا غيره في الرخاء، ودعوه في الشدة: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].





ولو أن الحجاج استشعروا هذا المعنى العظيم من معاني الحج، ونقلوا هذا التوحيد إلى ديارهم - لاضمحلَّت مظاهر الشرك من بلدان المسلمين، فلا يعظمون إلا الله - تعالى - ولا يدعون غيره، ولا يتبرَّكون بأحد من البشَر، ولا يطوفون بالمشاهد والقبور، ولا يبنون عليها، ولا يدعون عندها، ولا يذبحون بساحتها، فكلُّ هذا من الشرك الذي لا يرضاه الله - تعالى.





نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجنبنا ما يسخطه، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع قريب.





وأقول قولي هذا وأستغفر الله.















الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.





أما بعد:


فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واقدروا هذه الأيام قدرها، واعمروها بأنواع الطاعات؛ فإن العمل فيها أفضل منه في غيرها؛ كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من عمل أزكى عند الله - عز وجل - ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله - عز وجل - إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، قال الراوي: وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكاد يقدر عليه؛ رواه الدارمي.





ومما شرع الله - تعالى - لكم في هذا الموسم الكريم الأضحية؛ فإنها فداء أبينا إسماعيل، وسنة الخليلين - عليهما السلام - وقد ضحَّى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "ضحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشَين أملحَين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده"؛ رواه الشيخان.





ومَن أراد أن يضحِّي فليمسك عن شعره وأظفاره إلى أن تذبح أضحيته؛ لحديث أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحِّي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا))، وفي رواية: ((فلا يأخذن شعرًا ولا يقلمن ظفرًا))؛ رواه مسلم.





ومَن طرأت عليه الأضحية بعد أن أخذ من شعره وأظفاره، فإن أخذه منها لا يمنعه من الأضحية، ومن الحرمان العظيم أن يترك المسلم سنَّة الأضحية المؤكدة مع القدرة عليها لأجل تحريم الأخذ من الشعر والأظافر، وأكثر مَن يقع في مثل ذلك مَن يحلقون لحاهم من إخواننا؛ لأن كثيرًا منهم لا يطيقون صبرًا عليها عشر ليال، هدانا الله - تعالى - وإياهم لما يرضيه.





أيها الإخوة:


عظِّموا الله - تعالى - في العيد كما تعظِّمونه في العشر؛ فإنه أفضل الأيام عند الله - تعالى - وهو يوم الحج الأكبر، وفيه تراق الدماء؛ تعظيمًا لله - تعالى - وتوحيدًا وعبادة وقربًا، واحذروا المنكرات؛ فإنها سببٌ لقسوة القلوب والكسل عن الطاعات؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].





وصلوا وسلموا على نبيكم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-02-2020, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج(5)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



التوحيد في عرفة ومزدلفة


الحمد لله الرحيم الرحمن الكريم الوهاب؛ ينزل رحماته على عباده، ويفيض من خزائنه على خلقه ï´؟ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ï´¾[الشُّورى:25-26] نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا ندعو ولا نرجو سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خير من صلى وزكى وصام وحج البيت الحرام.. علمنا ديننا، وأرانا مناسكنا، واختبأ دعوته ذخرا له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستشعروا عظمة هذه الأيام، وفضيلة الأعمال الصالحة فيها؛ فهي مقدمة العيد الكبير، وهي أيام الذكر والعبادة، وذكر الله تعالى إعلان بتوحيده سبحانه ï´؟ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ï´¾ [الحج:27] هي أيام العشر ï´؟ وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ï´¾ [البقرة:203] هي أيام التشريق، وفي يوم النحر ï´؟ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ï´¾[الكوثر:2] والصلاة من أعظم الذكر.

أيها الناس:
لكل أمة من الأمم مناسكها وشعائرها ï´؟ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ï´¾ [المائدة:48] وفي آية أخرى ï´؟ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ï´¾ [الحج:67].

وفريضة الحج منسك من مناسك هذه الأمة، فرضه الله تعالى على عباده، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)).

وغرض هذا المنسك العظيم إعلان توحيد الله تعالى، وإقامة ذكره، وتكريس العبودية له سبحانه في أظهر صورها، وأبين شعائرها؛ حيث السفر لأدائه، والتجرد من الملابس للإحرام به، وكثرة الأعمال التي فيها مشقة..

إن مظاهر التوحيد في مناسك الحج كثيرة، وما من شعيرة من شعائره، ولا مشعر من مشاعره إلا وفيه من تكريس التوحيد قولا وفعلا ما يدل على أن المناسك إنما شرعت لأجل ذلك، ويكفي دليلا عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله))؛ رواه أبو داود.

فالإحرام والإهلال والطواف والسعي والمبيت بمنى ورمي الجمار وكل مناسك الحج هي لإعلان التوحيد، وإقامة الذكر.

ومشعر عرفة مشعر تهفوا إليه قلوب الموحدين، وتشرئب له أعناق المؤمنين، وكم سالت المدامع لرؤية الحجاج فيه؛ غبطة لهم، وشوقاً إلى الوقوف فيه..

عرفة.. وما أدراكم ما عرفة؟! عرفة ركن الحج الأكبر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ من جاء لَيْلَةَ جَمْعٍ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ))؛ رواه أهل السنن إلا أبا داود.

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: "تواطأت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من بعدهم من علماء الأمصار أن إدراك الحج هو أن يطأ المرء عرفات مع الناس أو بعد ذلك إلى قرب الصبح من ليلة النحر فان أدركه الصبح ولما يدخل عرفات قبل ذلك فقد فاته الحج ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك".

وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العظيم، والوقوف بعرفة مظهر من مظاهر التوحيد؛ إذ تؤم ذلك الموقف جموع الحجيج لا غاية لهم إلا امتثال أمر الله تعالى، والإذعان لشريعته حين جعل الوقوف بعرفة منسكا من مناسك الحج، وشعيرة من شعائره.. وإظهار الشعائر الدينية دليل على الإذعان والانقياد، ودعوة صريحة للتوحيد.. فكم تأثر بمظهر الحجيج وهم وقوف بعرفة من عصاة فتابوا، ومن كفار فآمنوا، ومن مؤمنين بكوا؛ تعظيما لله تعالى حين رأوا هذه الجموع الغفيرة قدمت من كل فج عميق، وتحملت بعد الشقة، وبذل النفقة، وشدة الزحام، لا لطلب شيء من الدنيا، وإنما لتعظيم شعائر الله تعالى، وإظهار دينه، وإعلان توحيده.

إن يوم عرفة هو يوم الدعاء: دعاء الثناء ودعاء المسألة، والدعاء أبلغ العبادات وأظهرها، وأدلها على انعقاد القلب على التوحيد، وأكثر الشرك في البشر إنما وقع من جهة الدعاء ï´؟ وَأَنَّ المَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا ï´¾ [الجنّ:18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدُّعَاءُ هو الْعِبَادَةُ))؛ رواه أهل السنن وصححه الترمذي.

وقد جاء في الحديث المرسل: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ ما قلت أنا وَالنَّبِيُّونَ من قَبْلِي لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ))؛ رواه مالك.

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "وجاء الاستدلال بهذا الحديث على أن دعاء عرفة مجاب كله في الأغلب إن شاء الله إلا للمعتدين في الدعاء بما لا يرضى الله تعالى". اهـ

فإذا كان الدعاء هو العبادة، وكان إخلاصه لله تعالى إخلاصا في عبادته سبحانه، وهذا هو التوحيد الخالص، وكان دعاء عرفة خير الدعاء؛ كان ظهور العبادة الخالصة والتوحيد الخالص في ذلك اليوم العظيم في مشعر عرفة..

بل لا يوم من أيام السنة يظهر فيه إخلاص الدعاء لله تعالى كيوم عرفة، ولا مكان في الأرض يصعد منه دعوات إلى الله تعالى أكثر من مشعر عرفات؛ فأكف مليوني حاج مرفوعة إلى الله تعالى تدعوه، في أطول وقت للدعاء من العام كله، من زوال الشمس إلى مغيبها.. يفعلون ذلك في أبلغ حال من الاستكانة وإظهار الفقر والفاقة والحاجة لله تعالى..

إنهم يرفعون أيديهم إلى الكريم الوهاب شعثا من طول السفر، غبرا من شدة الزحام والسير، ضاحين لا شيء يغطي رءوسهم.. يلحون في دعائهم، ويقرون بتقصيرهم، ويسألون ربهم أن يعفو عنهم، ويعرضون حاجاتهم الدنيوية والأخروية منطرحين على بابه، يضرعون في دعائهم ويبكون.. فيا لله العظيم.. أي مظهر من مظاهر التوحيد أبين من دعاء الحجاج في يوم عرفة؟!

كيف والواقفون بعرفة - وهم يدعون الله تعالى ويلحون عليه سبحانه في دعائهم - يعلمون بدنوه تعالى منهم، ومباهاته بهم ملائكته، ويرجون العتق من النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يَوْمٍ أَكْثَرُ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ))؛ رواه مسلم.

فلا دعاء أكثر من دعائهم، ولا تضرع أشد من تضرعهم، ولا رجاء عند غيرهم كرجائهم، ولا حال أولى بالإجابة من حالهم وهم مستكينون متضرعون.. والرجاء باب من أبواب التوحيد عظيم، وهو برهان الثقة بالله تعالى، والتصديق بوعده، واليقين بثوابه.

فإذا غربت شمس ذلك اليوم العظيم نفروا إلى مزدلفة ملبين ومكبرين.. قد استروحت قلوبهم من مناجاتهم لربهم، وكثرة سؤاله، والبكاء له..فلا ساعة في الدنيا ألذ من تلك الساعة..


وفي مزدلفة يبيتون، ولا يحيون الليل، ممتثلين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وامتثال السنة توحيد، فإذا بزغ فجر يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر صلوا الفجر في أول وقتها للتفرغ للذكر والدعاء إلى الإسفار جدا قبيل طلوع الشمس، وهو وقت طويل يُظن حضور القلب فيه؛ لأنه بعد نوم وراحة فتكون قلوبهم حاضرة لتعظيم الله تعالى وذكره ودعائه، وهو ذكر منصوص عليه في القرآن الكريم ï´؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ï´¾ [البقرة:198].

فما أروعها من لحظات! وما ألذها من طاعات! وما أرجاها من دعوات! ذكر ودعاء ورجاء في مشعري مزدلفة وعرفات.. ثم يفيضون من مزدلفة إلى منى لرمي الجمار ï´؟ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [البقرة:199]. وهل هذا إلا ترسيخ للتوحيد، وعمل بموجبه، ودعوة إليه؟!

فنسأل الله تعالى أن يقبل منا ومن الحجاج، وأن يجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكورا، وذنبهم مغفورا، وأن يردهم إلى أهليهم سالمين غانمين، إنه سميع مجيب..

وأقول هذا القول وأستغفر الله...


الخطبة الثانية


الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه وكبروه واشكروه وعظموه ï´؟ وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ ï´¾ [الحج:36-37].

أيها الناس:
إنكم في أيام عظيمة تستقبلون فيها يوم عرفة ويشرع صيامه لمن لم يكن بعرفة محرما بالحج، وصومه يكفر سنتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعْدَهُ))؛ رواه مسلم.

وبعده يوم النحر، وقد شرع الله تعالى فيه إراقة دماء بهيمة الأنعام تقربا لله تعالى بهذه العبادة العظيمة ï´؟ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ï´¾[الكوثر:2] ذكر جمع من السلف أنها صلاة العيد يوم النحر ثم التقرب لله تعالى بالضحايا.

وفي حديث مِخْنَفِ بن سُلَيْمٍ رضي الله عنه قال: وَنَحْنُ وُقُوفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ قال: ((يا أَيُّهَا الناس، إِنَّ على كل أَهْلِ بَيْتٍ في كل عَامٍ أُضْحِيَّةً))؛ رواه أهل السنن، وقال الترمذي: حسن غريب.

وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: "ضَحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده"؛ رواه الشيخان.

والسنة أن يذبح أضحيته بيده ليباشر هذه العبادة العظيمة بنفسه، والعلماء يستحبون ذلك، قال أبو إسحاق السَبِيعِيُ: "كان أصحاب محمد يذبحون ضحاياهم بأيديهم. وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وذلك من التواضع لله تعالى وأن رسول الله كان يفعله... وقد كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يأمر بناته أن يذبحن نسكهن بأيديهن".

وكلوا من ضحاياكم وتصدقوا وأهدوا، وأخلصوا في أعمالكم لله تعالى، تقبل الله تعالى منا ومن المسلمين أجمعين ï´؟ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ï´¾ [الأنعام:163] ..
وصلوا وسلموا على نبيكم...




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-02-2020, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج(6)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



التوحيد في أذكار المناسك
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وإليه الرجعى، نحمده فهو أهل أن يحمد، ونشكره كما ينبغي له أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ فضله العباد كلهم فخلقهم ورزقهم وهداهم إلى ما ينفعهم، ودفع عنهم ما يضرهم، ووسعت رحمته كل شيء فرحم بها خلقه، وحاز المؤمنون حظا أوفى منها ï´؟ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الأعراف: 156] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أتقى هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم عملا، وأكثرهم علما، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واستعدوا لما أمامكم؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل ï´؟ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ï´¾.

أيها الناس: اختار الله تعالى لأداء مناسكه أشرف زمان، وأطهر مكان، وأقدس بقعة، واختص المناسك بشعائر ليست لغيرها، وحرم زمانها ومكانها، وألزم بالإحرام من قصدها، وجعل مراعاة حرمتها، وتعظيم شعائرها دليلا على التقوى ï´؟ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ï´¾.

والحج في شعائره وأعماله وزمانه ومكانه مما يرسخ التوحيد في القلوب، وهو دليل على إيمان من أداه على الوجه المطلوب.

ومن تأمل أذكار الحج وجد فيها من توحيد الله تعالى وتعظيمه وإجلاله ما يعلق القلوب به سبحانه وحده لا شريك له، ففي كل منسك ذكر ودعاء من بداية التلبس بالإحرام إلى وداع المسجد الحرام.. فذكر في الإحرام، وذكر في الطواف، وذكر في السعي، وذكر في رمي الجمار وعند نحر الهدي.. ذكر في المواقيت، وذكر في المسجد الحرام، وذكر في المشاعر المقدسة.. حتى إن مكة وبطاحها، ومنى وأوديتها لتضج بالتلبية والذكر، وحتى إن عرفة ومزدلفة لتشهد دعاء الداعين، وذكر الذاكرين.

يحرم الحاج من الميقات فيهل بالتوحيد؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في إهلاله: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ "رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وجاء في المسند عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ "

والتلبية هي الإجابة، وهي دليل على الاستسلام لله تعالى والانقياد له ومحبته ورجائه والخوف منه، وفي جملتها القصيرة نفي الشريك عنه سبحانه وتعالى في موضعين، والاعتراف له بالحمد، والإقرار بنعمته، والاعتراف بملكه؛ ولذا كان إله الحق، وما سواه من الآلهة فآلهة باطلة.

والتوحيد في ألفاظ التلبية فيه مراغمة للمشركين، وإبطال لتلبيتهم إذ كانوا يقولون في حجهم "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ".

ويشتغل الحاج بالتلبية طيلة إحرامه فهي شعار الإحرام وذكره المخصوص، وإذا طاف بالبيت كبر عند ركنه المعظم؛ كما روى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ)) رواه البخاري.

والتكبير توحيد، وإقرار بأن الله تعالى أكبر من كل شيء، وهو شعار الصلاة ونداؤها وإحرامها. وسائر الطواف محل ذكر ودعاء وقرآن.

والسعي بعد الطواف من الشعائر العظيمة المنصوص عليها في القرآن؛ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: ï´؟ إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ ï´¾ [البقرة: 158] وقال ((أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ)) فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))رواه مسلم.

وكم في هذا الذكر من التوحيد، فوحد الله تعالى وكبره، ثم هلله سبحانه، والتهليل هو أخص ذكر للتوحيد، وأقر له بالملك والحمد والقدرة على كل شيء، وذكر ما من به سبحانه عليه من النصر وهزيمة الشرك وأهله، وجعل هذا الذكر المبارك متخللا الدعاء على الصفا والمروة، والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، وهو دليل على تعلق قلب الداعي بمن دعاه.

ولا يقتصر تقرير التوحيد بالأقوال في الحج على البيت الحرام بل يتواصل ذلك في المشاعر كلها؛ فالتلبية والتكبير مستمران طيلة الموسم، يعج بهما الحجاج في تنقلاتهم بين المشاعر لإعلان التوحيد، فيا له من مشهد مهيب، يهيض القلوب على الخشوع، ويحرك المشاعر فتَسيل المدامع، ويعتري الجسد قشعريرة لا أحسب أن أي لذة في الدنيا مهما كانت تعدل لذة تلك اللحظات المفعمة بالإيمان واليقين، والقرب من رب العالمين.

قال ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: ((غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ)) رواه مسلم.

وفي عرفة، وما أدراك ما عرفة؟! ذلك الموقف الذي خصص لأخص دلائل التوحيد وهو الدعاء، حتى شرع جمع صلاتي الظهر والعصر ليتفرغ الحاج لسؤال ربه والإلحاح عليه، يمد يديه إلى الله تعالى وقلبه مفتقر إليه، ويوقن بأن حاجاته عنده سبحانه لا يقضيها سواه عز وجل. وأخص دعاء في عرفة هو كلمة التوحيد؛ كما روى الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

هذا الذكر المبارك يقال في عرفة أشهر مواقف الحج وأعظمها وألذها، وأشدها قربا من الله تعالى حين يتجلى للواقفين بعرفة يباهي بهم ملائكته وهم يعلنون التوحيد، ويكررون هذا الذكر، من زوال الشمس إلى غروبها؛ كما قال جابر رضي الله عنه يحكي وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بها قال: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ.رواه مسلم.

ومن عرفة إلى مزدلفة، يسير الحاج إليها وهو يعج بالتلبية، وفيها ذكر ودعاء وتوحيد، وذكرها مأمور به في آيات المناسك ï´؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ï´¾.

وشعيرة الدعاء والذكر في مزدلفة أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا. رواه مسلم.

وفي العودة إلى منى بعد مزدلفة استمرار في التلبية إلى بلوغ جمرة العقبة كما في أخبر الفضل بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الجَمْرَةَ)) الشيخان.

وبرمي الجمرة انتقال من ذكر إلى آخر؛ لتستوعب مناسك الحج أنواع الذكر التي ترسخ التوحيد، وتملأ القلوب هيبة لله تعالى وعظمة وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء؛ فمن التلبية إلى التكبير، ومن الإحرام إلى الإحلال، وفي حديث جابر يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرات قال: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا رواه مسلم.

وفي رمي الجمرات أيام التشريق تكبير وموقف للدعاء طويل، فيكون في كل مشعر من مشاعر الحج ذكر ودعاء وتوحيد؛ لأن غاية الحج ترسيخ التوحيد في القلوب، جاء عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ ((هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ)) رواه البخاري.

ولا ينصرف الحجاج من مكة حتى يئوبوا إلى البيت مرة أخرى طائفين ذاكرين مودعين؛ لتختم مناسك الحج بالذكر والتوحيد كما افتتحت بالتلبية وهي أدل شيء على التوحيد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ï´؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ï´¾.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقدروا هذه الأيام قدرها، واعمروها بأنواع الطاعات؛ فإنها أفضل أيام العام، والعمل الصالح فيها أفضل من مثله في غيرها؛ كما في حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ، قال الراوي: وكان سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه)) رواه الدارمي.

ومما شرع الله تعالى لكم في هذا العيد الكبير الذي ننتظره بعد أيام إنهار دم الضحايا؛ قربة لله تعالى وتعظيما له؛ فهي منه وإليه، وتذبح باسمه سبحانه، وفي الزمن الذي اختاره عز وجل لذبحها، وقد روى أَنَس رضي الله عنه قال: ((ضَحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده)) رواه الشيخان.

ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره إلى أن تُذبح أضحيته؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً)) وفي رواية: ((فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا)) رواه مسلم.

ومن طرأت عليه الأضحية أثناء العشر، أو وجد ثمنها بعد مضيِّ أيام منها فيشرع له أن يضحي، ولو كان قبل نيته قد أخذ من شعره وأظفاره، ومن الحرمان العظيم أن يترك المسلم سنة الأضحية المؤكدة مع القدرة عليها لأجل الإمساك عن الشعر والأظافر عشر ليال، فيفر من ذلك بأن لا يضحي فتفوت عليه شعيرة كبيرة في أيام فاضلة، وأكثر من يقع في مثل ذلك من يحلقون لحاهم من إخواننا؛ لأن كثيراً منهم لا يطيقون صبراً عليها عشر ليال، هدانا الله تعالى وإياهم لما يرضيه.

وعظموا الله تعالى في أيام العيد ولياليه كما تعظمونه في العشر وفي رمضان؛ فإن عيد النحر أفضل الأيام عند الله تعالى، وهو يوم الحج الأكبر، وفيه تراق الدماء تعظيماً لله تعالى وتوحيداً وعبادة وتقرباً، فلا يليق أن تقابل نعم الله تعالى العظيمة من هداية وأمن ورخاء ودلالة على العيد والمناسك والأضاحي والانتفاع بها بالمنكرات.. نعم والله لا يليق أن تقابل نعم الله تعالى بالمنكرات، ولا أن يبارز سبحانه وتعالى بالمعاصي في العيد الكبير ï´؟ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ï´¾.

وصلوا وسلموا على نبيكم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 09-02-2020, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر التوحيد في الحج

مظاهر التوحيد في الحج (التوحيد في أذكار المناسك)
إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وإليه الرجعى، نحمده فهو أهل أن يحمد، ونشكره كما ينبغي له أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ فضله العباد كلهم فخلقهم ورزقهم وهداهم إلى ما ينفعهم، ودفع عنهم ما يضرهم، ووسعت رحمته كل شيء فرحم بها خلقه، وحاز المؤمنون حظا أوفى منها (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أتقى هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم عملا، وأكثرهم علما، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واستعدوا لما أمامكم؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ).
أيها الناس: اختار الله تعالى لأداء مناسكه أشرف زمان، وأطهر مكان، وأقدس بقعة، واختص المناسك بشعائر ليست لغيرها، وحرم زمانها ومكانها، وألزم بالإحرام من قصدها، وجعل مراعاة حرمتها، وتعظيم شعائرها دليلا على التقوى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
والحج في شعائره وأعماله وزمانه ومكانه مما يرسخ التوحيد في القلوب، وهو دليل على إيمان من أداه على الوجه المطلوب.
ومن تأمل أذكار الحج وجد فيها من توحيد الله تعالى وتعظيمه وإجلاله ما يعلق القلوب به سبحانه وحده لا شريك له، ففي كل منسك ذكر ودعاء من بداية التلبس بالإحرام إلى وداع المسجد الحرام.. فذكر في الإحرام، وذكر في الطواف، وذكر في السعي، وذكر في رمي الجمار وعند نحر الهدي.. ذكر في المواقيت، وذكر في المسجد الحرام، وذكر في المشاعر المقدسة.. حتى إن مكة وبطاحها، ومنى وأوديتها لتضج بالتلبية والذكر، وحتى إن عرفة ومزدلفة لتشهد دعاء الداعين، وذكر الذاكرين.
يحرم الحاج من الميقات فيهل بالتوحيد؛ تأسيا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال في إهلاله: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ)) رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وجاء في المسند عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ)).
والتلبية هي الإجابة، وهي دليل على الاستسلام لله تعالى والانقياد له ومحبته ورجائه والخوف منه، وفي جملتها القصيرة نفي الشريك عنه -سبحانه وتعالى- في موضعين، والاعتراف له بالحمد، والإقرار بنعمته، والاعتراف بملكه؛ ولذا كان إله الحق، وما سواه من الآلهة فآلهة باطلة.
والتوحيد في ألفاظ التلبية فيه مراغمة للمشركين، وإبطال لتلبيتهم إذ كانوا يقولون في حجهم "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ"
ويشتغل الحاج بالتلبية طيلة إحرامه فهي شعار الإحرام وذكره المخصوص، وإذا طاف بالبيت كبر عند ركنه المعظم؛ كما روى ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ» رواه البخاري.
والتكبير توحيد، وإقرار بأن الله تعالى أكبر من كل شيء، وهو شعار الصلاة ونداؤها وإحرامها. وسائر الطواف محل ذكر ودعاء وقرآن.
والسعي بعد الطواف من الشعائر العظيمة المنصوص عليها في القرآن؛ ولذا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دنا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) [البقرة: 158] وقال «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» رواه مسلم.
وكم في هذا الذكر من التوحيد، فوحد الله تعالى وكبره، ثم هلله سبحانه، والتهليل هو أخص ذكر للتوحيد، وأقر له بالملك والحمد والقدرة على كل شيء، وذكر ما من به سبحانه عليه من النصر وهزيمة الشرك وأهله، وجعل هذا الذكر المبارك متخللا الدعاء على الصفا والمروة، والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، وهو دليل على تعلق قلب الداعي بمن دعاه.
ولا يقتصر تقرير التوحيد بالأقوال في الحج على البيت الحرام بل يتواصل ذلك في المشاعر كلها؛ فالتلبية والتكبير مستمران طيلة الموسم، يعج بهما الحجاج في تنقلاتهم بين المشاعر لإعلان التوحيد، فيا له من مشهد مهيب، يهيض القلوب على الخشوع، ويحرك المشاعر فتَسيل المدامع، ويعتري الجسد قشعريرة لا أحسب أن أي لذة في الدنيا مهما كانت تعدل لذة تلك اللحظات المفعمة بالإيمان واليقين، والقرب من رب العالمين.
قال ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: «غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ» رواه مسلم.
وفي عرفة، وما أدراك ما عرفة؟! ذلك الموقف الذي خصص لأخص دلائل التوحيد وهو الدعاء، حتى شرع جمع صلاتي الظهر والعصر ليتفرغ الحاج لسؤال ربه والإلحاح عليه، يمد يديه إلى الله تعالى وقلبه مفتقر إليه، ويوقن بأن حاجاته عنده سبحانه لا يقضيها سواه -عز وجل-، وأخص دعاء في عرفة هو كلمة التوحيد؛ كما روى الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
هذا الذكر المبارك يقال في عرفة أشهر مواقف الحج وأعظمها وألذها، وأشدها قربا من الله تعالى حين يتجلى للواقفين بعرفة يباهي بهم ملائكته وهم يعلنون التوحيد، ويكررون هذا الذكر، من زوال الشمس إلى غروبها؛ كما قال جابر -رضي الله عنه- يحكي وقوف النبي -صلى الله عليه وسلم- بها قال: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ. رواه مسلم.
ومن عرفة إلى مزدلفة، يسير الحاج إليها وهو يعج بالتلبية، وفيها ذكر ودعاء وتوحيد، وذكرها مأمور به في آيات المناسك (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
وشعيرة الدعاء والذكر في مزدلفة أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: ((حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا)) رواه مسلم.
وفي العودة إلى منى بعد مزدلفة استمرار في التلبية إلى بلوغ جمرة العقبة كما في أخبر الفضل بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الجَمْرَةَ» الشيخان.
وبرمي الجمرة انتقال من ذكر إلى آخر؛ لتستوعب مناسك الحج أنواع الذكر التي ترسخ التوحيد، وتملأ القلوب هيبة لله تعالى وعظمة وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاء؛ فمن التلبية إلى التكبير، ومن الإحرام إلى الإحلال، وفي حديث جابر يحكي فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجمرات قال: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا رواه مسلم.

وفي رمي الجمرات أيام التشريق تكبير وموقف للدعاء طويل، فيكون في كل مشعر من مشاعر الحج ذكر ودعاء وتوحيد؛ لأن غاية الحج ترسيخ التوحيد في القلوب، جاء عن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ «هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ» رواه البخاري.
ولا ينصرف الحجاج من مكة حتى يؤوبوا إلى البيت مرة أخرى طائفين ذاكرين مودعين؛ لتختم مناسك الحج بالذكر والتوحيد كما افتتحت بالتلبية وهي أدل شيء على التوحيد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقدروا هذه الأيام قدرها، واعمروها بأنواع الطاعات؛ فإنها أفضل أيام العام، والعمل الصالح فيها أفضل من مثله في غيرها؛ كما في حديث ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله -عز وجل- ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله -عز وجل- إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ، قال الراوي: وكان سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه)) رواه الدارمي.
ومما شرع الله تعالى لكم في هذا العيد الكبير الذي ننتظره بعد أيام إنهار دم الضحايا؛ قربة لله - تعالى -وتعظيما له؛ فهي منه وإليه، وتذبح باسمه سبحانه وفي الزمن الذي اختاره -عز وجل- لذبحها، وقد روى أَنَس -رضي الله عنه- قال: «ضَحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده. رواه الشيخان.
ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره إلى أن تُذبح أضحيته؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً» وفي رواية: «فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا)) رواه مسلم.
ومن طرأت عليه الأضحية أثناء العشر، أو وجد ثمنها بعد مضيِّ أيام منها فيشرع له أن يضحي، ولو كان قبل نيته قد أخذ من شعره وأظفاره، ومن الحرمان العظيم أن يترك المسلم سنة الأضحية المؤكدة مع القدرة عليها لأجل الإمساك عن الشعر والأظافر عشر ليال، فيفر من ذلك بأن لا يضحي فتفوت عليه شعيرة كبيرة في أيام فاضلة، وأكثر من يقع في مثل ذلك من يحلقون لحاهم من إخواننا؛ لأن كثيراً منهم لا يطيقون صبراً عليها عشر ليال، هدانا الله - تعالى -وإياهم لما يرضيه.
وعظموا الله تعالى في أيام العيد ولياليه كما تعظمونه في العشر وفي رمضان؛ فإن عيد النحر أفضل الأيام عند الله تعالى، وهو يوم الحج الأكبر، وفيه تراق الدماء تعظيماً لله تعالى وتوحيداً وعبادة وتقرباً، فلا يليق أن تقابل نعم الله تعالى العظيمة من هداية وأمن ورخاء ودلالة على العيد والمناسك والأضاحي والانتفاع بها بالمنكرات.. نعم والله لا يليق أن تقابل نعم الله تعالى بالمنكرات، ولا أن يبارز -سبحانه وتعالى- بالمعاصي في العيد الكبير (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
وصلوا وسلموا على نبيكم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 174.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 170.21 كيلو بايت... تم توفير 4.44 كيلو بايت...بمعدل (2.54%)]