تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1002 - عددالزوار : 122700 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 121 - عددالزوار : 77548 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 62 - عددالزوار : 48973 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 191 - عددالزوار : 61471 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 76 - عددالزوار : 42840 )           »          الدورات القرآنية... موسم صناعة النور في زمن الظلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          تجديد الحياة مع تجدد الأعوام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          المرأة بين حضارتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          رجل يداين ويسامح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > الحدث واخبار المسلمين في العالم
التسجيل التعليمـــات التقويم

الحدث واخبار المسلمين في العالم قسم يعرض آخر الاخبار المحلية والعالمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-06-2011, 12:36 PM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي


تأملات في شريط العاصفة الشعبية



القاعدة ومدنية الثورات

(1)


د. أكرم حجازي


15/6/2011








ثمة من تساءل في البداية: أين القاعدة من هذه الثورات؟ وثمة من رأى بأن القاعدة ليس لها يد فيها، وآخرون تهكموا على القاعدة بالإشارة إلى أن ما فعلته الشعوب كان الرد الصحيح على ما تفعله القاعدة. بعض هؤلاء أخطؤوا القراءة وطرحوا السؤال الخطأ دون روية، وبعضهم الآخر غاب عن المشهد لعشرات السنين ثم أحضرته ثورات لا ناقة له فيها ولا جمل. والواقع أن القاعدة أيدت الثورات، وحرضت عليها حتى قبل أن تندلع. ورغم تجنب الثورات للقاعدة وحتى التنكر لها، خشية الانقضاض عليها، إلا أن القاعدة، من جهتها، تعاملت بذكاء حاد معها، فقد كان بمقدورها انتهاز الفرصة والتدخل ضد النظم، وهي الوحيدة القادرة على ذلك!! لكنها حرصت، كما حرص الثوار، على طابعها المدني.

هكذا فوتت الفرصة على النظم من المساس بحركة الشارع، وجنبت الثورات بطشا ما فتئت النظم تحضِّر له عبر كيل الاتهامات عن علاقة مزعومة للمتظاهرين بـ « القاعدة » ( ليبيا واليمن) أو « السلفيين » ( سوريا) أو « المندسين » ( مصر).

لكن بعض الذين هالهم البطش من قبل النظم العربية في التعامل الدموي مع الثورات الشعبية، تمنوا لو أن الثوار امتشقوا السلاح، إما للدفاع عن أنفسهم وأهليهم وممتلكاتهم وإما لإسقاط النظم بالقوة المسلحة. والبعض الآخر عجب من تمسك الثورات بالتعبير الشهير « سلمية » والدفاع عنه بدمائهم بينما تصر النظم على جرّ الناس إلى الخيار المسلح بكل السبل الممكنة. والمؤكد أن التعبير عن سلمية الثورات الشعبية لم يكن اعتباطيا ولا هو بصادر عن هوى في النفس بقدر ما هو واقع في صميم التكوين النفسي للبشر. بل أن كلمة « سلمية » تجد صداها العميق في العبارة البليغة التي خطها العلامة المسلم ابن خلدون في مقدمة كتابه الشهير « العبر ... » حين قال: « إن الإنسان مدني بالطبع».

عبارة لا تحتاج إلى تأويلات كي نكتشف فيها أن مدنية الثورات تعني أنه ليس من طبيعتها حمل السلاح ولا من اختصاصها ولا من أهدافها. وفي هذا ما يفسر إلى حد كبير رفض الثورات الشعبية أية أطروحات أيديولوجية كي لا تختزل الأهداف المرجو تحقيقها في صورة مكاسب حزبية ومصالح عارضة. فالشعوب ما كان لها أن تنزل إلى الشوارع لتنتزع حقوقها وتستعيد مدنيتها إلا بعد أن فقدت ثقتها التامة في النظم السياسية والقوى الحزبية التي فشلت، طوال عقود، في حماية نفسها حتى من الانزلاق ناهيك عن حفظ الحقوق أو استعادتها وحتى المساومة عليها.

لكن عبارة « إن الإنسان مدني بالطبع» تلزمنا في التفتيش عن الأهداف المدنية التي تؤرق « مدنية » الحياة الإنسانية. ولو استطلعنا كل الساحات الشعبية، الساخنة والباردة، لما وجدنا مطلبا ملحا لدى العامة من الناس، أقرب، إلى النفس، من مطلب الحرية والكرامة .. ولا شك أنها مطالب مدنية وليست مطالب سياسية أو أيديولوجية. ولأن هناك من استعبد الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، فمن صميم الطبيعة الإنسانية أيضا ألا يقبل الناس الطغيان أو يستمر إلى الأبد، وأن يتحمل المستبدون مسؤولية أفعالهم، بحيث يدركوا المعنى الدقيق للشعار الشهير: « الشعب يريد إسقاط النظام» بوصفه المسؤول الأول عن الاستعباد.

إذن؛ بما أن الحراك الشعبي مدني بالطبع فلا يمكن له إلا أن يستعمل وسائل وأدوات تعكس مدنية الإنسان، إلا إذا ألجأته الظروف إلى الاستعانة بوسائل غير مدنية. وفي هذه اللحظة لا بد من تواري الحراك الشعبي عن واجهة الأحداث لصالح قوى منظمة ومؤهلة لخوض صراع مسلح. لكن يبقى السؤال: من هو المسؤول عن الاستبداد: النظام المحلي؟ أم النظام الدولي؟

تساؤل يمس جواهر الحركة الشعبية وأهدافها، لكنه ليس مطروحا بعد للتداول في الشوارع العربية، رغم أنه من سيحدد، عاجلا أم آجلا، ما إذا كانت الشعوب ستضطر إلى الانتقال من « مدنية » الشارع إلى « عسكرته»؟ إذ أن مقدار الحرية المنشودة ستحدد للشعوب ما إذا كانت قادرة، فعلا، على التحكم باختياراتها والسيطرة على مواردها أم أنها ما زالت رهينة الهيمنة الدولية.

الحلقة القادمة: صراع المركز والهامش


نشر بتاريخ 15-06-2011
  #2  
قديم 23-06-2011, 12:39 PM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي


صراع « المركز» و « الهامش»


(2)



د. أكرم حجازي


16/6/2011




النظام الدولي، الذي أرسى قواعده القوى المنتصرة بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ليس فوضويا ولا عبثيا. فهو منظم تنظيما محكما يخدم مصالح هذه القوى، ويدار بطريقة صارمة. لكنه، بطبيعة النشأة، نظام تحكمه القوة وقيم الهيمنة والاستعلاء والتمايز بين البشر على مستوى الجغرافيا والجنس واللون والدين والرأسمال والثقافة. فلا حق ولا باطل ولا صواب أو خطأ ولا عدل أو مساواة إلا ما تراه القوى الكبرى أو « المركز».

أما « الهامش» أو القوى الضعيفة، التي لا شأن لها في بناء هذا النظام، ولا هي دعيت إلى المشاركة في بنائه، فعليها أن تقبل به وتجتهد، في إطاره، لكي تبقى وتستمر، أو لتحظى ببعض الحقوق أو الامتيازات. أما أن تخرج عن النظام أو أحد أركانه فعليها أن تتحمل ما ينتظرها من عواقب وخيمة. معادلة تنطبق على الدول والشعوب والمؤسسات والجماعات والأفراد .. فما هي بنية هذا النظام؟ وما هي آلياته في التحكم والسيطرة؟

في أعقاب زيارات متكررة للكويت؛ تيسَّر لي، بمعية نخبة من العلماء والمفكرين زيارة د. عبد الله النفيسي، أبرز من فصّل في نظرية « المركز – الهامش»، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد رموز القوة الغربية. النظرية التي تفسر، في العمق، كيفية اشتغال النظام الدولي. وفي سياق النقاشات التي دارت بيننا وبينه، حول النوازل التي تعصف بالأمة؛ سألناه عن رؤيته للثورات العربية والموقف الدولي منها. فأخرج لوحا يحتفظ فيه برسم يفسر الموقف، طبقا للنظرية.







وكما يشير الرسم؛ فالعالم ينقسم إلى « مركز » تمثله القوى العظمى، صاحبة العلم والمعرفة والقوة والرأسمال، والهيمنة على المؤسسات الدولية ومنظوماتها القانونية والتشريعية، و« هامش » يدور في فلكه، ولا يستطيع الفكاك منه مهما كان الثمن باهظا. هذا النظام الدولي يمتلك على الأقل أربع آليات للتحكم في « الهامش» والسيطرة عليه، وهي بإيجاز شديد:

• التسلح. يحتكر « المركز» العلوم ومصادر إنتاج المعرفة والتكنولوجيا والتصنيع. وعبر قوانين التسلح والمراقبة وحق التصنيع والتطوير والتصدير ونوعية السلاح وكميته، يمكن للدول المصنعة التحكم في صناعة الحروب وآجالها، مثلما تتحكم في حالتي الردع واللاحرب واللاسلم، وتحدد المنهزم من المنتصر في أي صراع.

• النفط. فـ « المركز» هو الذي يتحكم، عبر منظمة الأوبيك، في السيطرة على مصادر الطاقة والإنتاج والسعر والثروات واتجاهاتها الدولية ... فما يتم استخراجه وتسويقه يقع تحت طائلة سياسة العرض والطلب. كما أن الثروات التي تجنيها الدول المنتجة في « الهامش » يتم إعادة تدويرها باتجاه « المركز» الذي يحتفظ بها في بنوكه. لذا لا نستغرب وجود دولا نفطية غارقة في التخلف والديون.

• الغذاء. لتحقيق نتائج سياسية تستجيب لتطلعات الغرب، يستطيع « المركز» عبر المؤسسات الدولية وأنظمة العقوبات والمراقبة والتدخل، وبدعم من القوة المسلحة أن يفرض على أية دولة أو مجموعة أو حتى فرد حصارا خانقا ومدمرا للمجتمع والدولة. ويستطيع أن يعرقل الأمن الغذائي في أية دولة تخرج عن سياساته أو تضر بمصالحه الإنتاجية والسياسية. ومن طرائف الثورات رد الرئيس المصري على مشروع يحقق للبلاد اكتفاء ذاتيا في إنتاج القمح حين قال: « كده بنزعل أمريكا» !!!

• العولمة. فـ « الهامش» واقع تحت تأثير ما تفرزه الحضارة الغربية من قيم وثقافة ومعلومات عبر وسائل الإعلام والاتصال الدولية التي يمتلكها « المركز» بإمكانياته الضخمة، وبمنتجاتها الرقمية الثقيلة. وهو ما يجعل الثقافات المحلية والرصيد الحضاري وحتى العقدي عرضة لاختراقات بالغة الخطورة، حيث يكسب « المركز» باستمرار بينما يظل « الهامش»، بوصفه المستهلك، الخاسر الأكبر على الدوام.

بطبيعة الحال فإن قدرة « المركز» على التحكم والسيطرة تتفاوت وتتباين حتى في الوسائل، لكنها في المحصلة قادرة على حماية النظام حتى لو اشتمل على دول ذات نفوذ سياسي كبير في الساحة الدولية كالصين وروسيا أو نفوذ اقتصادي كالمكسيك والبرازيل أو دول متطورة في آسيا كالهند وماليزيا وكوريا وبعض البؤر الصناعية المتقدمة في « منطقة الهامش». فما هي مكانة العرب أو العالم الإسلامي في مثل هذا النظام؟

الثابت أن « المركز» لم يتوقف عن التدخل المسلح أو عبر نظم العقوبات والاغتيالات والانقلابات في قارات العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية بما يحفظ له الأمن والتفوق الدائمين. لذا فإن كل ما يسمى بـ « دول الحدائق الخلفية» لا تستطيع مجرد التفكير في النهوض اجتماعيا أو اقتصاديا أو علميا ناهيك عن التحكم في مستقبلها قبل أن تفكر بثمن اختياراتها وتوجهاتها الاستراتيجية بحيث تتوافق مع « المركز».

في الحالة العربية يكفي معاينة المحاولة العراقية في النهوض العلمي وهي توأد، بحملة دولية عسكرية، قبل أن ترى النور، ودون الاضطرار لغطاء من المؤسسات التابعة للنظام الدولي نفسه. ولو انطلقنا من حالة الثورات العربية سنشهد كلاما صريحا حول موقف « المركز» منها. فرغم التحفظات التي يبديها الروس والصينيون بين الحين والحين، ولأسباب معلومة، فإن « المركز»، يجتمع في محافله على دعم الثورات الشعبية العربية! فهي، الثورات، من الأحداث التي يستحيل تجاهلها أو معاندتها، بشهادة الصحف الغربية ووسائل الإعلام التي أدركت، كما، صحيفة الغارديان البريطانية (23/3/2011)، أن الثورات هي: « حركات لا يمكن لأحد إيقافها».

لكن واقع الأمر أن الدعم الغربي يقع في نطاق النظام الدولي وليس خارجه .. نظام تمثل إسرائيل مركزه في العالم العربي. وهذا يعني أن أي دعم دولي لا بد وأن يتوافق مع المصالح الغربية بما يحفظ استمرار النظام وهيمنته. ولا يخفى على متابع ما قاله الرئيس الأمريكي ( 5/3/2011) بصريح العبارة بعد سقوط الرئيس المصري: « إن القوى التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك يجب أن تتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل». فكيف يمكن أن تستوي الحرية مع الهيمنة والاغتصاب!؟ فما الذي يمكن ملاحظته في هذا التناقض العجيب؟

الوحيد الذي قدم تفسيرا لهذه الرؤية الغربية للمنطقة، دون أن تجد لها صدى، كالعادة، هو نعوم تشومسكي، عالم اللغويات اليهودي، حين كتب في صحيفة الغارديان (5/2/2011) معلقا على الثورات العربية بالقول: « إن ما يقلق واشنطن ليس الإسلام المتطرف بل نزوع دوله إلى الاستقلال»، مشيرا إلى أن واشنطن وحلفاؤها: « يتقيدون بالمبدأ الراسخ القائم على تَقبُّل الديمقراطية طالما أنها تتفق مع أهدافهم الإستراتيجية والاقتصادية، فهي مقبولة لديهم في بلد العدو حتى مدى معين، ولكن ليس في ساحتنا الخلفية ما لم يتم ترويضها». تفسير ينطبق عليه القول المأثور: « وشهد شاهد من أهلها»!!! فالدول العربية، منذ انهيار الخلافة وحتى اليوم، ممنوعة من نيل استقلالها. فهل ثمة غرابة أن ينشأ الاستبداد في واقع استعماري؟ وهل من العجب أن يقول أحد الكتاب: « إن الدول العربية محتلة من الداخل»؟

الحقيقة أنه لا غرابة ولا عجب. فلما لا تجد النظم ردا لديها على مطالب الشعوب، في أول مساءلة جدية لها عن دورها وفعلها طوال عقود، إلا توجيه المدافع والدبابات والطائرات ضد صدور الناس العارية فهذا أدعى إلى القول بأن الدول العربية لا تزال، فعلا، ترزح تحت الوصاية الأجنبية. أما الحكام فلا يبدو أن أحدهم تجاوز، بعد، صفة « المندوب السامي» برتبة ما !!!

أما في الحالة الإسلامية فليس من المسموح أبدا وصول القوى الإسلامية إلى السلطة مهما كانت لبراليتها، وحتى لو استدعى ذلك مذابح دموية وتشريد واعتقالات وتعذيب بلا حسيب أو رقيب أو أية مسؤولية. ولعل تجارب الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وكذا جبهة الإنقاذ الإسلامي في الجزائر من المؤشرات البارزة على هذه السياسة. وكل ما هو متاح أمام هذه القوى هو تعريضها الدائم لاستنزاف عقدي يلتقي بالمحصلة مع قوى محلية ( علمانية أو إسلامية) موالية للغرب أو متماهية مع أطروحاته، وليس لها من مهمة إلا دعم النظم القائمة والتشويش على القوى الأخرى وإحباطها والحيلولة دون أي نهوض إسلامي.

وحدها القاعدة، ومعها جماعات التيار الجهادي العالمي، من « خرج » على « المركز»، وتجرأ عليه في عقر داره، ورفض هيمنته، ونفذ تهديداته في سلسلة من الهجمات المدمرة في 11 سبتمبر 2011، لم تكن أهدافها إلا رموزا للقوة بحيث يكون لـ « الخروج » صداه العالمي.

ولأول مرة، بعد الحرب العالمية الثانية، يشعر « المركز» أنه يواجه تحديا غير مسبوق، يستدعي منه إجراءات غير مسبوقة كي لا تنتقل المواجهة من « الهامش» إليه. وعليه، فلأول مرة، أيضا في التاريخ الإنساني، يلجأ « المركز» إلى تجييش العالم أجمع ضد جماعات مقاتلة صغيرة، عبر التدخلات العسكرية والمطاردات والاعتقالات والسجون والتعذيب والقوانين الدولية لمكافحة الإرهاب، وعبر النظم المحلية وتشكيلاتها السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والثقافية والعلمية والإعلامية والدينية، ابتداء من القوى والرموز اللبرالية والعلمانية والأحزاب، مرورا بالفرق الضالة، وانتهاء بأغلب جماعات الإسلام التقليدي والوطني وحتى الجهادي، لمحاصرة أي تحرك يستهدف « المركز»!!!

وهذا يعني أن السعي إلى تطبيق الشريعة أو إقامة دول إسلامية يمثل، بنظر الغرب، التهديد الأعظم للمركز. لذا لا يمكن أن يمر دون حروب طاحنة، قد تنتهي بتغيير معالم النظام الدولي وقيمه وقواعده. وعليه فقد تبدو جرأة لا حدود لها، أن تصمد إمارات إسلامية، في أفغانستان أو العراق أو الشيشان، لفترة تقل حتى عن بضعة سنوات، قبل أن تتعرض لغزو دولي أو حروب استئصالية محلية ووحشية. وهو الأمر ذاته الذي تتعرض له حركة الشباب المجاهدين في الصومال، والتي احتجزت الولايات المتحدة الأمريكية، عبر القوات الأفريقية، وصولها إلى السلطة رغم أنها تسيطر، فعليا، على قرابة 90% من وسط وجنوب الصومال بما فيها العاصمة مقديشو.

هكذا أعلن الغرب؛ ليس حربا على مثل هذه الإمارات والقوى التي تقف خلفها بل، حربا صليبية على الإسلام، للحيلولة دون نهوضه تحت أي مسمى، ومن أية جهة كانت. حرب انضم إليها البوذيون والصفويون والهندوس واليهود وكل خصوم الإسلام وذوي المصالح والمكاسب، بمن فيهم الدول والجماعات الإسلامية التي عمدت إلى تحشيد القوى المناهضة والعلماء لاستصدار ما يلزم من الفتاوى نزولا عند رغبة « المركز» أو طمعا في تلقي الدعم السياسي والأمني في مواجهة الداخل أو حفاظا على مكاسب موهومة!!!

حرب صليبية صدرت فيها فتاوى غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، تمجد الصليبيين وحكمهم وحقهم في قتل المسلمين وغزو ديارهم وحتى تولي أمرهم ... !!! حرب شنت فيها قوى رسمية وشعبية حملات إعلامية منظمة وفاضحة لتشويه الجهاد في الإسلام والمجاهدين والزعم بأنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت !!! وتجرأت فيها على تحريف العقيدة والأحكام الشرعية لكي تستجيب لاحتياجات « المركز».

وبما أن التيار الجهادي وجماعات تطبيق الشريعة ودعاة التوحيد وأنصارهم وصفوا الحكام المحليين بالطغاة، وأعلنوا، حيث استطاعوا، خروجهم على النظام فقد تم تصنيفهم بأخطر الأعداء، والخارجون عن ولاية الأمر. وتبعا لذلك تطابقت مصالح « المركز» مع « الهامش » في ضرب التيار وكل القوى المتماهية مع أطروحته العقدية. وغدا مشبوها ومتهما ومطاردا وخطرا كل من يتلفظ بـ « الطاغوت » أو « التوحيد » أو « تطبيق الشريعة » أو « قتال أمريكا » أو تأييد « الجهاد » و « المجاهدين» أو « الدفاع عن الإسلام» أو « مقاومة التنصير » و « الإباحية » أو مواجهة « اللبراليين» و « العلمانيين » أو ... . تحالفات ودفاعات لا يكسب من ورائها إلا « المركز» ومن يخضع لطغيانه وهيمنته، طوعا أو كرها، أما الأمة فهي، بلا شك، الخاسر الوحيد.

بعد نحو عقدين على « خروج » القاعدة المسلح وتمردها على المركز، فوجئ العالم بـ « خروج » مدني على النظم المحلية بصورة غير مسبوقة. « خروج » اكتسح العواصم والمدن والشوارع والساحات والقرى، ليس له من مطالب، مبدئيا، إلا « إسقاط النظم » و « محاكمتها » و « استعادة ثروات الأمة» و « وقف إهدار الموارد». والسؤال: هل يمكن للثورات الشعبية أن تحدث، وحدها، فارقا في مسار التخلص من هيمنة « المركز» دون أن تلتحم مع « الخروج » الأول؟



الحلقة القادمة: أشرار الثورات والأمة



**********************************

* تأملات في شريط العاصفة الشعبية: القاعدة ومدنية الثورات - 1
نشر بتاريخ 16-06-2011
المصدر المراقب للدراسات والابحاث الاجتماعيه
  #3  
قديم 23-06-2011, 12:42 PM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي


أشرار الثورات والأمة

(3)


د. أكرم حجازي

20/6/2011




في أوقات سابقة احتاجت الأمة إلى سنين طويلة، إن لم يكن عقودا كاملة، لكي تتأكد، ليس مما بدا لها حقائق ثابتة بل، من شبهات كانت أوضح من الشمس، لكنها ما كانت لتبلغ الحقيقة، رغم وفرة المؤشرات، وحتى الأدلة والبراهين. وفي زمن الثورات، حيث توزن الدقائق بقنطار من الذهب، ثمة قدرة عجيبة ومدهشة على إحداث تمايز حتى في أخطر النوازل وأدقها وأشدها حساسية .. تمايز ثمين يساهم، من حيث لا يحتسب الأشرار أو يتمنون، في ضبط إيقاع الثورات القادمة وتجاوز مواطن الخلل فيما سبق منها!!
حتى اليوم، تبدو الثورات العربية محلية الطابع. لكن مفارقاتها باتت تفضح ما يدور في « المركز »، مثلما تفضح حقيقة نظم « الهامش». ولعل في هذا ما يفسر الاعتراض الدموي لها. فما يجري في ليبيا واليمن وسوريا، ليس سوى حروب إسرائيل و « المركز » الطاحنة، لمعاقبة الشعوب الساعية إلى الخروج عنهما .. لكن بأيد محلية، بحيث تبدو أيادي الدولة اللقيطة .. الوالغة بالدماء والأشلاء، طاهرة وعفيفة .. وأرحم على الشعوب العربية من حكامهم !!! .. حروب ما توقفت في يوما ما، لكنها، مع ثورات اليوم، أصبح رموزها وأدواتها وآلياتها، عرضة للتعرية والبغض والسخرية من كل جانب.
العجيب في المفارقات أن نجد ممن لا يمكن تصنيفهم بأقل من « أشرار الثورات والأمة» يجتهد، ويجاهر، ويعاند في تحقيق أهداف « المركز » وطموحاته، بعلم أو بجهل، وقبل الثورات وخلالها وبعدها، في الوقت الذي يتطاير فيه شرر الثورات ليصيبه وأسواقه بالفزع، ويضيء بعضا من معاناته التي قد تودي بقيمه السياسية ( الحرية والديمقراطية) والاقتصادية ( الرأسمالية ) والأخلاقية (المساواة والعدالة) على السواء!!!
المفارقات، في إطار الصراع بين « المركز » و « الهامش »، غزيرة ومثيرة، ولا تخلو من طرافة أو غرابة تثير الدهشة، لو تأملنا بها قليلا. ونظرا لأهميتها، في سياق الثورات، سنتوقف عند إحداها، مع التأكيد على أننا سنتابع بعضها في حلقات قادمة.
علماء طغاة!!!
بداية؛ فإن التقييم الموضوعي للثورات ينبغي ألا يتجاوز عن اعتبارها، بالدرجة الأولى، حصيلة لتراكمات من عقود الهيمنة الغربية، والاستبداد، والطغيان، والاحتلال الداخلي، والفشل، بشتى صوره وأشكاله. أما توصيفات « القاعدة » للحكام العرب بـ « الطغاة » و « المستبدين »، والتي كانت إلى وقت قريب محرمة الذكر، فقد غدت، مع الثورات، من المفردات الشائعة، على كل لسان، وفي الإعلام العربي والغربي نفسه!!! وهذا يعني أن خطاب « القاعدة » تجاه النظم السياسية لم يكن مجحفا بحق رموزها، حتى لو تجنبته القوى الثورية أو الجماعات الخصيمة لـ « القاعدة ». بل أن الوقائع التي تكَشَّفت، حول ماهية النظم العربية، تؤكد أن الأمر أبعد من الطغيان وأعمق من الاستبداد. وما بدا من مؤشرات ثقيلة، على قلتها حتى اللحظة، ليس سوى قمة جبل الجليد .. وما ينطبق على تونس ومصر أولى أن ينطبق على بقية النظم العربية.
فلم تكد تمضي بضعة شهور؛ حتى أعلنت وزارة العدل المصرية (5/6/2011) أن النيابة الإدارية تلقت 76609 قضايا و 17 ألف شكوى فساد. وفي ذات التاريخ أعلن د. عبد الفتاح عمر، رئيس اللجنة الوطنية التونسية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة، أن اللجنة تحقق في أكثر من تسعة آلاف ادعاء بالفساد والرشوة، منها حوالي ثمانية آلاف ملف تلقتها من المواطنين.
مثل حكام تونس ومصر، لم ينازع أحد في كونهم ولاة أمور قبل الثورات، يتمتعون بالشرعية التي تمنح الحاكم حق معاقبة كل من يخرج على سلطانه أو ينتقده. لكنهم أصبحوا، بين عشية وضحاها، « طغاة » و « مستبدين »، و « أصناما » يستحقون « القتل» و « المحاكمة الجنائية» وليس «العفو»، لقاء ما ارتكبوه من جرائم ومظالم بحق الأمة والدين!
عجبا! أوَ لم يكونوا أولى بالعقاب قبل أن تباغتهم الشعوب؟ لاسيما وأنهم ارتكبوا جرائم قتل بالجملة في أوقات سابقة، كما هو حال القذافي في مجزرة سجن أبو سليم (1996) أو الأسد في مجازر حماة (1982)؟
لو كانت الإجابة بـ « نعم » لتعارضت الفتاوى، بالتأكيد، مع أهداف « المركز» واحتياجاته !!! ولأنها كانت « لا » فقد انتسي الضحايا وذهبت دماءهم دون قصاص. أما الجماعات الخارجة على النظم فقد استحقت، بامتياز، كل مفردات الإدانة والتفسيق والضلال والخروج عن الشرع!! ووجب عليها القيام بـ « مراجعات شرعية» تنتهي باعتبار « الطاغية » ممن يحق له التمتع بصفة « ولي الأمر» الذي تجب طاعته، ويحرم الخروج عليه، سلما أم حربا. لكن ما هي القيمة الشرعية لـ« المراجعات» اليوم؟ وما هو موقف الذين عملوا على إخراجها وإجازتها؟ وبأية مشروعية تمت إجازتها؟ وكم من ولي أمر شرعي سقطت شرعيته وما زال، فوق المساءلة، وقيد التبجيل والتعظيم والتقديس، وكأنه المعصوم عن الخطأ؟
عجيب كل العجب ما يجري من قتل في اليمن، وقتل وحشي في سوريا، لا مثيل له حتى عند أشد المجرمين بطشا. لكن الأعجب هو حال الثورة الليبية التي تواجه مجرما أهوجا لا يقل عما تواجهه الثورة السورية. ومع ذلك فقد حظي « الناتو » بغطاءين سياسيين: الأول: خليجي، والثاني: من الجامعة العربية، للتدخل العسكري ضد القذافي. وصدرت فتاوى شرعية تبرر هذا التدخل لحماية الناس من خطر الإبادة على يد القذافي وكتائبه الأمنية المتوحشة. لكن حين خرجت عليه الجماعة الليبية المقاتلة اتهمت بسفك دماء الأبرياء، واستدعيت من داخل السجون للتراجع عن أفكارها المتطرفة وغير الشرعية!!! وذات الأمر حصل في مصر وموريتانيا.
بالتأكيد لا يمكننا، وليس من شيمنا وقناعتنا وشريعتنا، أن ننتصر للطغيان والاستبداد. لكن يبقى السؤال مطروحا في إطار المفارقات التي أنتجتها الثورات الشعبية: كيف يكون خروج جماعة إسلامية على طاغية حراما وآثما بحق ولي الأمر، وباطلا شرعا، بينما « خروج الناتو » عليه حلالا يستحق أن يحظى بكل الشرعية اللازمة؟ فأيهما أولى بشرعية التدخل: الجماعة الإسلامية المقاتلة أم « الناتو »؟
« ثوار بغاة»!!!
أميز ما في الثورة الليبية الحضور الديني البيِّن في الناس كما في الثوار. فلا تكاد تخلو تغطية إعلامية من صيحات التكبير، أو قارئي القرآن أو المناجين ربهم بالدعاء تضرعا إليه، أن يخلصهم من طاغية، لا مبدأ له، ولا عقيدة، ولا منطق يردعه عن الظلم والقتل. غير أن للمجلس الانتقالي رأيا آخر في الجهاد ومحاربة الغزاة والطغاة .. رأي يساوي بين « إرهاب طالبان»، الحليفة لـ « القاعدة »، و « إرهاب القذافي» المعادي لهما وللمجلس!!!
فقد جاء في بيانه الصادر في بنغازي بتاريخ 30/3/2011 « بشأن مكافحة الإرهاب»، ما يلي:
• « التزامه التام بتنفيذ قرارات مجلس الأمن المتصلة بمكافحة الإرهاب بما في ذلك القرارات المتعلقة بلجنة الجزاءات المفروضة على تنظيم القاعدة وطالبان وذلك مع الالتزام الكامل بجميع التدابير والجزاءات المتعلقة بأي فرد أو كيان مرتبط بتنظيم القاعدة وحركة طالبان حسبما تحدده اللجنة»؛
• « يلتزم بتنفيذ كافة القرارات الصادرة عن الجمعية العامة المتعلقة بجميع التدابير الرامية إلى القضاء على الإرهاب الدولي بما في ذلك التدابير المحددة في إستراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب والعمل مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية على تنفيذ الإستراتيجية بطريقة متكاملة والانتهاء من الإعداد للاتفاقية الشاملة للقضاء على الإرهاب»؛
• « يتعهد المجلس بالعمل على تعزيز الدور المهم الذي تقوم به الأمم المتحدة ولجانها وفرق عملها المعنية بمكافحة الإرهاب والتعاون الكامل معها، والانضمام والالتزام بكافة الاتفاقيات والبرتوكولات الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والعمل على المستوى التشريعي والتنفيذي على تطبيق الأحكام والتدابير الواردة فيها».
في أول انطباع يتشكل لدى المراقب، عقب قراءة هذه الفقرات، لا يخلو من الدهشة وهو يرى لغة البيان كما لو أنه صادر عن حلف « الناتو» وليس عن مجلس من المفترض أنه ثوري!!! والغريب في هذا المجلس أنه لا يتمتع إلا بصفة « المؤقت»، وهذا يعني، مبدئيا، أنه طارئ، حتى لو اعترف به العالم أجمع، فليس من اختصاصاته إلا إدارة مرحلة انتقالية، وبالتالي فهو غير مخول بإصدار بيانات تتعلق بالسياسات الليبية ما بعد القذافي. وعليه فلا شأن له بحركة « طالبان» التي ساندت الثورات العربية ولم تعاديها، فضلا عن أنها تقاتل « الناتو» وحكومة الطاغية العميل حامد كرزاي كما يقاتل هو القذافي.
فلماذا؟ وبأي منطق؟ ولأية مصلحة شرعية وحتى أخلاقية؟ يجيز المجلس لنفسه الاستعانة بقوى الطغيان العالمي للتخلص من الاستبداد بينما يعلن عداوته الصارخة ضد حق الأفغان في طرد الغزاة من بلادهم أو التخلص من العملاء والمستبدين والفاسدين؟ ولما يكون المجلس قد أعلن عداءه للدول التي ناصرت القذافي؛ فبأي حق يجيز لـ « الناتو» محاربة « طالبان»، وقتل الشعب الأفغاني؟ هل هو رد الجميل لـ « الناتو» ؟ أم هو تعبير عن رأي الثوار والشعب الليبي؟ وهل يحمل البيان ذرة أخلاقية تجاه القتل اليومي الذي تمارسه طائرات « الناتو» بحق المدنيين والأطفال؟ وأخيرا: ما هو رد المجلس الانتقالي على قرار الأمم المتحدة الأخير، القاضي، بحسب النص، بالتمييز ما بين « طالبان» كحركة « تحرر وطني» و « القاعدة» كـ « تيار عالمي»؟
لا ريب أن علامات الاستفهام حول هوية المجلس وتركيبته وسياساته وتحالفاته مع الغرب لم تعد موضع تساؤل، خاصة مع حلول جيوش الاستخبارات الأجنبية على الشرق الليبي منذ الأيام الأولى للثورة. ورغم أن المجلس نفى، بلسان ناطقه الرسمي عبد الحفيظ غوقة، أن يكون قد أرسل رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تتعلق بتعهد المجلس إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وليبيا، إلا أن النفي لا يكفي لتكذيب ما صرح به الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي، اليهودي الأصل، والصهيوني الفصل، خاصة وأنه كان شريكا فاعلا في غرف العمليات والاجتماعات، منذ الأيام الأولى للثورة، وليس مناصرا، وهو ما لا يستطيع المجلس نفيه.
الطريف في الأمر، أن ما يخفيه المجلس أو ينفيه يكشفه المجلس نفسه والحلفاء. فبعد مضي قرابة الشهرين على اندلاع الثورة الليبية؛ وبعد بيان المجلس بشأن طالبان، أدلى وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني لصحيفة « لا ستامبا – 9/4/2011 » الإيطالية بتصريحات ذات دلالة بالغة عن هوية المجلس الانتقالي قال فيها: « ما أدهشني في ممثلي هذا المجلس هو العلمانية المميزة» .. لذا: « لن تكون هناك خلافة ... » فقد: « قمنا برصد دقيق جداً» في ليبيا، و« في أول حديث، أوضح لي رئيس المجلس الانتقالي في بنغازي، أنهم كانوا يستأصلون كل محاولة ارتباط مع التطرف الإسلامي».
هذا الاستئصال بدا جليا في 15/6/2011 حين اتخذت دائرة الأوقاف التابعة للمجلس الانتقالي في بنغازي قرارا يقضي بمنع الشيخ ونيس المبروك، من الخطابة في ساحة التغيير في بنغازي. أما قرار المنع فيأتي، بحسب تصريحات الشيخ لقناة الجزيرة، ردا على انتقاده في خطبة الجمعة (3/6) « رفع العلم الأمريكي في الساحة، وتذكيره باحتلال المسجد الأقصى»، مشيرا إلى أن دعم أمريكا لثوار ليبيا: « لا يعني أن ننسى ما تفعله بإخواننا .. وكلما نظرت لهذا العلم تذكرت المسلمين في غوانتانامو وأفغانستان».
هذه التصريحات ليست اتهامات للمجلس أو افتراءات عليه، بقدر ما هي أقواله وأفعاله التي عبرت عنها حتى غرف الثورة الليبية على برامج الدردشة الصوتية، والتي كان أغلب مشرفيها يتميزون غيظا وهم يطردون أو يصرخون بوجه كل من يأتي على ذكر الجهاد أو الإسلام بالقول: « هذه غرفة ضد الخلافة .. ضد الجهاد » !!! نزعة عدائية بارزة لكل ما يمت للإسلام بصلة .. بل هي نزعة « شريرة »، تسترخص كل ثمن، مهما بلغت قدسيته ومحاذيره، مقابل التخلص من طاغية مستبد.
تصريحات المجلس وأفعاله، بحق الإسلام والمسلمين، لا يمكن أن تعكس، بأي حال من الأحوال، شريعة الثوار وطموحاتهم. فمن أي شريعة هي إذن؟ هل هي من شريعة الله؟ أم من شريعة القذافي؟ أم هي شريعة « المركز» وما يهواه؟ وهل في هذا ما يطمئن الشعب الليبي وتقرّ به أعين الأمة؟


الحلقة القادمة: « إسرائيليو الثورات»
**************************
الحلقة الأولى: القاعدة ومدنية الثورات


الحلقة الثانية: صراع « المركز» و « الهامش»

نشر بتاريخ 20-06-2011
المصدر المراقب للدراسات والابحاث الاجتماعيه
  #4  
قديم 23-06-2011, 12:44 PM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي




« إسرائيليو الثورات والأمة »



(4)



د. أكرم حجازي


23/6/2011








لا ينكر أحد أن النظم استفادت من ثورتين سابقتين، وقعتا في لحظة عصف عاتية. والمؤكد أن بعضها، إن لم تكن جميعها، تلقت نصائح وتوجيهات ومعدات خاصة للسيطرة على الاحتجاجات الشعبية بصورة بالغة السرعة. لكن مهما بلغت قدرات الأنظمة وإجراءاتها الاستباقية في الاحتواء والسيطرة إلا أنها تفقد كل قيمة في مواجهة فكرة يعتقد الناس أنه آن أوانها. ومع أن النظم تدرك اللحظة التاريخية التي تواجهها إلا أنها تصر على اعتراض الثورات القائمة أو القادمة بـ « القوة المسلحة»!! أو بـ « البلطجة» أو بـ « الشبيحة» أو بـ « الطائفية» باعتبارها ذروة خلاصات النظم في لحظات الاحتضار.

هذا على مستوى « الهامش». أما على مستوى « المركز » فإن الاعتراض الدموي بات حاجة ملحة بحيث تبدو الكلفة باهظة بنظر شعوب أخرى، ومن أجل كسب المزيد من الوقت في مواجهة عاصفة قوية ومباغتة وبالغة السرعة لم تعد تتيح مجالا للتفكير إلا بانتهاج القتل كوسيلة ترهيب ناجعة.

لكن الأعجب ليس فيما تفعله النظم المهددة من اعتراضات بل في اعتراض النظم الانتقالية الجديدة للثورة، كما في تونس ومصر. فهذه لم تتوقف عن السعي الحثيث لإعادة تطبيع النظام بذات الرموز والأدوات الفاسدة والمجرمة. أما الأسوأ في « التطبيع» فهو ذاك الذي يصر على التمسك بألد أعداء الأمة والدين، وتمكينهم من المناصب الكبرى والحساسة، والثناء عليهم، والزج بهم في ميادين العمل العام .. هؤلاء هم الذين يتصدرون اليوم واجهة الثورة المضادة، ويستفزون الأمة في أقدس حرماتها، ويجاهرون، بلسان صهيوني، في تجريدها من هويتها وعقيدتها .. مجاهرة بالغة الفظاعة، لم يجرؤ على التصريح بها، من قبل، أولياء نعمتهم .. هؤلاء لم يكونوا، تاريخيا، إلا مسوخ ذات النظام الذي استهدفته الثورة أصلا!!! هؤلاء هم الذين يعول عليهم « المركز» في سرقة الثورات، ووأد طموحات الأمة وآمالها في التحرر والانعتاق من التبعية والهيمنة .. وهم من يستحقون عن جدارة لقب « إسرائيليو الثورات».


نموذج تونس


كثيرة هي التقارير التي تحدثت عن خدمات أمنية قدمها الرئيس التونسي المخلوع لإسرائيل. وبالتأكيد لن يكون آخرها « سقوط دولة الفساد » الذي أنتجه وبثه التفزيون التونسي بعد الثورة (19/4/2011). ولا يمكن قراءة بث البرنامج وما تضمنه من علاقات وخدمات أمنية قدمها بن علي للموساد الإسرائيلي إلا كإدانة وثائقية وشعبية دامغة على خيانة الرئيس للشعب والأمة والدين. ومع ذلك فقد يكون هذا مفهوما لمن هم في منزلة الطغاة، أما أن تصدر الخيانة عمن اختيروا أعضاء في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة فلا معنى لذلك إلا أن يكون « إسرائيليو الثورات»، من القوى المتسلقة على دماء الناس وتضحياتهم، خاصة من اليساريين، قد اغتصبوا أخطر المناصب، وشرعوا في تصدر الثورة المضادة كما يحصل في مصر بالضبط.

ففي 5/6/2011 تناقلت المواقع التونسية والصحف الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي معلومات بالغة الخطورة تقول، مع بعض التصرف في البيان اللغوي،:

« منذ شهر تقريبا، وخلال إحدى الجلسات التي تعقدها الهيئة لمناقشة مسودة العقد الجمهوري، اقترح أحد الأطراف المشاركة في الاجتماع أن يقع التنصيص في ديباجة العقد على بند يقول أن تونس ترفض التطبيع مع إسرائيل ما دامت فلسطين محتلة. فإذا بـ حوالي 40 عضوا من أعضاء الهيئة يرفضون مناقشة الأمر من أساسه بدعوى ابتعاد الاقتراح عن موضوع الجلسة، ثم ينضم إليهم رئيس الجلسة عياض بن عاشور ليحذف النقطة من جدول النقاش، ويطلب من العضو الذي أثار النقطة عدم تناول الموضوع في الإعلام والصحافة. وعند فحص أسماء الرافضين للنقاش تبرز أسماء:

• أعضاء التجديد الذين لم ينسوا أن حزبهم تأسس في 1920 على أيدي يهود تونسيين كانوا يرفضون حتى سنة 1944 مبدأ استقلال تونس عن فرنسا بدعوى رفض الشوفينية؛

• ممثلات النساء الديمقراطيات اللواتي أرسلن وفدا إلى زوريخ ( بشرى بن حميدة) لطلب التمويل لأنشطتهن ضد الأصولية يضاف إليهن مثقفون وسياسيون قريبون من التجمع الدستوري الحاكم؛

• بارونات المال، وأكاديميون في مقدمتهم محمد عربي شويخة الذي اختير باللجنة المركزية المستقلة للانتخابات، وهو أستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، سبق له أن زار إسرائيل وألقى محاضرة في جامعة بار إيلان بتل أبيب في شهر ديسمبر سنة 1999، وكذا عبد الحميد الأرقش، الذي رافق شويخة في زيارته للكيان الصهيوني».

تفاعلات مسألة التطبيع مع إسرائيل، لدى حركة التجديد، لم تتوقف عند هذا الخبر. وبلغت الجرأة حدا دفع الحبيب القزدغلي، أحد أعضاء الحركة، وأستاذ التاريخ المختص في المسألة اليهودية، إلى الإدلاء بتصريحات استفزازية نشرتها صحيفة الصباح التونسية ( 14 /6/2011 ) جاء فيها:

« إن اللجنة المنبثقة عن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، المكلفة بصياغة العقد الجمهوري، حسمت أمرها في هذه المسألة. وأكد أن مناهضة الصهيونية ليست من ثوابت الشعب التونسي بل هي مسألة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهم يتفاوضون من أجل حلها».

نموذج مصر

وفي مصر، بالإضافة إلى أبرز رموز نظام الرئيس المخلوع، فقد تصدرت هذه النخب قيادة الثورة المضادة. فتحالفت بشكل فج مع الكنيسة الأرثوذكسية، ولبت مطالبها الظالمة، وما زالت تجهد بافتعال الفتن، ، زيادة على التحريض السافر والفاجر بحق القوى الإسلامية، وقلب الحقائق، والزج بأنبل شباب مصر في السجون، وتصفية الحسابات معهم، كما يحصل للشيخين أبو يحيى ومدير المرصد الإسلامي خالد حربي، بل أن يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء، وقرة عين شنودة، تطاول على السلفيين واصفا إياهم بـ: « أصحاب العقول المظلمة .. وليسوا من الإسلام»، وعلى الله عز وجل مرتين، الأولى، في برنامج « مصر النهاردة – 14/3/2001» حين قال: « ربنا لو نزل الانتخابات وحصل على 70% يبقى ربنا يحمد ربنا»، والثانية، في 7/5/2011 خلال مؤتمر نظمته « شبكة اللبراليين العرب»، ورد فيه على منتقدي تصريحاته بالقول: « يقولون الله قال كذا، على الرغم من أن الله لم يقل شيئا منذ 1400 عام»!!!

بطبيعة الحال ليس يحيى الجمل وحده في ميدان الهجوم على الإسلام والسخرية منه وطحنه إنْ استطاع، فهناك جيوش وضيعة من المرتزقة كأنس الفقي، وزير الإعلام السابق، وصاحب الثناء البالغ على الغرب واليهود، والتشهير الفج بالعرب، والتشويه المتعمد والرخيص لمصر وعقيدتها وتاريخها. وفي الجوقة نفسها ثمة شيخ العلمانيين محمد البرادعي وقرينه عمرو موسى، عراب التطبيع مع إسرائيل، وكذلك عمرو حمزاوي، الذي تخصص في هدم المادة الثانية من الدستور المصري، ومهاجمة الإسلام حتى من قلب الكنيسة الأرثوذكسية في العباسية، حيث أعلن عن تأسيس حزبه.

خلف هؤلاء وأمثالهم، ثمة دعاة ولاية القبطي على المسلم، أمثال أسامة القوصي والمفتي علي جمعة، وثمة النجم الصاعد للرئاسة، زميل ساويريس في الحكمة!!! د. محمد سليم العوا، خصيم الخلافة، الذي سبق له وأنكر إسلام كاميليا شحاته، ورفض تكفير نائب شنودة الأنبا بيشوي. ففي ندوة نظمتها كلية الآداب بجامعة طنطا (1/6/2011)، بعنوان: « مصر إلى أين؟» أعلن « العوا »، المرشح الرئاسي الذي يتمتع بـ « النزاهة والاحترام» بحسب زميله « السعيد بترشحه» عبد المنعم أبو الفتوح، أن: « فكرة الخلافة الإسلامية غير مطروحة على الإطلاق في هذا الوقت، وأنه لن يقبل بعودة نظام الخلافة الذي ارتبط بفترة حكم النبى وخلفائه الراشدين»!! أما عذره في ذلك فجاء أقبح من الذنب نفسه. فقد برر رؤيته بالقول أن: « التفرد بالحكم أورثنا الذل والمهانة وصنع الفراعين واللصوص»!!!

فبماذا يختلف تطاول الجمل على الله عز وجل عن تطاول العوا على نظام الخلافة؟ وهل كانت الخلافة مسؤولة عن صناعة مبارك أو توريث العوا الذل والمهانة؟ حقا! إن مما أدرك من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فافعل ما شئت. أما أبو الفتوح فمن حقه أن يسعد بترشح من يقاسمه أفكاره. فإذا كان العوا لا تعجبه الخلافة ولا تكفير الكافر!! فهو أيضا لا يعجبه القول بأن « حد الردة » في الإسلام كفر مخرج من الملة!! وقد سبق له أن صرح بذلك، ثم كرر تصريحاته، بعد الثورة، حرفيا بأن: لا وجود لحد الرِّدة في الإسلام باعتبار « الرِّدة»، بالنسبة له، خروج على النظام الاجتماعي وليس خروجا على الإسلام!!!!؟ فأي نوع من المسلمين هؤلاء؟ وماذا نفعل بالحديث الصحيح للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: « من بدل دينه فاقتلوه»؟

أما الملياردير الفاسد المتغطرس نجيب ساويريس ومعه شنودة، عربيد الكنيسة الأرثوذكسية، فلم يكن وحده من تحالف مع النظام السابق، ودعم التوريث، وبكى بكاء مرا على سقوط مبارك، فهناك من حالفه وحالف الكنيسة من رموز القوى اللبرالية المحسوبة على المعارضة، والتي كانت داعمة سرية لمشروع التوريث الذي أشرف عليه وقاده، صاحب الوجه البلاستيكي، صفوت الشريف، الأمين العام للحزب الوطني آنذاك. ومن بين هؤلاء ما كشفته صحيفة المصريون (11/6/2011) استنادا إلى وثيقة رسمية موقعة صادرة عن وحدة الأحزاب في جهاز مباحث أمن الدولة، وتحمل توقيع رئيس الوحدة، العقيد محسن السعيد . أما الوثيقة فتضم أسماء ما يقرب من 40 عضوا من قيادات أحزاب المعارضة. ومع أن الصحيفة تحفظت على أسمائهم إلا أنها أشارت إلى انتماءات بعضهم على النحو التالي:

• ثلاث قيادات رفيعة في حزب « التجمع»؛

• أربعة من القيادات البارزة بحزب « الوفد» من أعضاء الهيئة العليا للحزب، من بينهم رئيس مجس إدارة صحيفة معروفة، وعدد من الشخصيات الوفدية الأخرى منها صحفيون؛

• أسماء ثلاثة من الشخصيات القيادية بحزب « الغد»، من أعضاء جبهة أيمن نور، بالإضافة إلى قيادتين بارزتين ومشهورتين.

• ثلاثة شخصيات بارزة وقيادية من كل من حزب « الأحرار» و « الحزب العربي الناصري».


أخيرا


مشكلة هذا النوع من النخب، المنتشرة كالفطر في كافة بلاد العالم الإسلامي، أنها فاسدة، وبلا مرجعية من أي نوع إلا بما تؤمن به أو تُساق إليه، وتبعا لذلك، لا تنبت أو تترعرع إلا في بيئات مماثلة أو معادية .. وهي على أصناف: فثمة شريحة منها تظهر حرصا على الإسلام بينما هي في قمة الزندقة، وثانية: غربية العقل والهوى. وهذه تعلم أن ما تفعله وتدعو إليه يصب في خانة أعداء الأمة بلا مواربة، وثالثة:، وهي الأشد طرافة،: متبرئة من كل ما يمت للعروبة والإسلام بصلة، حتى أنها ترى في عدم يهوديتها نقصا في نشأتها الإنسانية وتكوينها النفسي، وهو ما جاهر به أحد رموزها المليارديريين، حين قال، في يوم ما: « لا ينقصني شيء .. فكل ما أتمناه أملكه .. عيبي الوحيد، أنني لم أولد يهوديا» !!!

أما عن علاقاتها، فهي واقعة في صلب دوائر « المركز». ولولا تبنيها من قبل النظم الاستبدادية و « المركز»، وتمكينها من وسائل الإعلام والتغطية، لما تمتعت بأي حضور اجتماعي يذكر. هذه النخبة عدوة للثورات قبل اندلاعها، أو متسلقة عليها، أو معول هدم لها بعد انتصارها .. ومع أنها نخبة مكشوفة وضعيفة وهشة، فليس من الحكمة تجنبها كي لا تخلو لها الساحة ويتضاعف خطرها. لذا لا بد من ترصدها باستمرار، وتعرية خطابها ومعتقداتها ومواقفها، وإلا فهي قادرة أن تلبس على الناس، وأن تعيث في الأرض فسادا. ولو وجدت فضائية واحدة تنتصر للحقيقة، ولهذه الثورات، لكان للأمة مع هؤلاء وأمثالهم شأن آخر. فصبر جميل والله المستعان.

هكذا نختم بسؤال للتأمل: ما هو الفرق بين « أشرار الثورات والأمة» و « إسرائيليوها» إذا كان كلاهما واقع، في المحصلة، في خدمة « المركز»!!!؟


الحلقة القادمة: « ثورات مهاجرة»


**************************

الحلقة الأولى: القاعدة ومدنية الثورات

الحلقة الثانية: صراع « المركز» و « الهامش»

الحلقة الثالثة: « أشرار الثورات والأمة »





نشر بتاريخ 23-06-2011
  #5  
قديم 27-06-2011, 10:14 AM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي



ثورات مهاجرة
(5)


د. أكرم حجازي

27/6/2011





من مفارقات الثورات العربية أنها ألقت المزيد من الأضواء على الأزمات الاقتصادية والمالية التي تطحن المركز، وتهدد بانهيار النظام الرأسمالي برمته. فالأزمة المالية العالمية التي سبق وفجرتها البنوك العقارية في الولايات المتحدة سنة 2008 لم تنته بعد. إذ أن المشكلة واقعة في صلب النظام الرأسمالي نفسه الذي لا يخرج، بالمحصلة، عن كونه سلعة أيديولوجية ذات قيم جشعة ومضامين متوحشة .. أو منتج استهلكه الزمن فتآكلت قدراته ونخرت العيوب مناعته إلى أن صارت الأزمات تعصف به من كل جانب. فما الخلاص من مرض لا شفاء منه؟

ما من خلاص. وكما يقولون في المثل الشعبي: « اتسع الخرق على الراقع ». فما يدافع النظام الرأسمالي به عن نفسه ليس سوى « تلبيس طواقي»، لستر عورات وفضح أخرى بانتظار لحظة الإعلان عن الانهيار، كما قال الباحث عامر عبد المنعم في مقالته الشهيرة: « أمريكا ماتت فلا تكونوا كجن سليمان». فكيف يكون الحال وقد اتسع الخرق ليصل إلى أوروبا؟

ها هي مسألة الديون المستفحلة في الولايات المتحدة تتفاقم لتبلغ ما قيمته 14.3 تريليون دولار. ولهذا حذر الرئيس الأمريكي، في تصريحات نشرت في 14/6/2011، من حدوث أزمة مالية عالمية، إذا لم يوافق الكونغرس على زيادة سقف الدين العام للبلاد بقيمة 2 تريليون دولار، لتغطية العجز في الإنفاق الحكومي حتى حلول موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2012. واعتبر أن: « التخلف عن رفع السقف يعد تهديدا للنهوض الاقتصادي ليس في الولايات المتحدة وحسب وإنما سيتجاوزها لبقية العالم ويؤدي إلى أزمة مالية جديدة». وحتى 24/6/2011 فشلت مفاوضات الكونغرس في تحقيق أي تقدم لرفع سقف الدين .. لكن دون أن يستبعد المحللون اتفاق اللحظة الأخيرة.

يحدث هذا في الوقت الذي تستفحل فيه الديون لتضرب دول أوروبا الواحدة تلو الأخرى. وفي سيناريو عجيب، يشبه ما حدث في تونس ومصر، فقد بدأت الأزمة تتفجر في اليونان وإسبانيا إلى الحد الذي أجبرت فيه بن برناركي، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، بعد مراقبة أمريكية للوضع اليوناني لأكثر من عام، على إطلاق صيحة فزع (22/6/2011)، تجاه الوضع « الصعب» في اليونان، والتحذير مما بات حقيقة تؤكد أن أزمة الديون اليونانية تهدد النظام المالي العالمي برمَّته، « إذا لم يوجد لها حل». أما عن إجمالي المشكلات الاقتصادية في أوروبا فـ: « سيكون لها انعكاسات على أسواق المال العالمية، ممَّا سيضر أيضا بالاقتصاد الأمريكي .. لاسيما .. المؤسسات المالية الأمريكية». بل أن برناركي ذهب أبعد من ذلك حين نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عنه في مؤتمر صحفي (26/6/2011) القول أن: « فشل حل الأزمة اليونانية يمثل خطرا على النظام المالي في أوروبا، وعلى العالم، ويهدد الوحدة الأوروبية».

والواقع أن الأزمة دفعت بقطاع من المستثمرين، وفق ما أشارت إليه صحيفة « الفايننشال تايمز 25/6/2011»، إلى سحب أموالهم من الأسواق الأوروبية. فقد سحبت البنوك الأميركية 51 مليار دولار تمثل سندات غير حكومية من أوروبا، وحولتها إلى سندات خزينة أميركية. وأكثر من ذلك، فـ: « البنوك الأميركية ذاتها تحولت من السندات الحكومية الأوروبية إلى السندات الأميركية أيضا بسبب الخشية من تدهور أزمة اليونان». وبحسب الصحيفة ذاتها فإن: « المسحوب من الأسواق الأوروبية لا يزال أقل بكثير من الأموال التي سحبتها المؤسسات المالية من أسواق المال الأميركية في الأشهر التي أعقبت الأزمة المالية سنة 2008، وبلغت 400 مليار دولار». وهذا يعني، مبدئيا، أنه ثمة وقت لتدارك الأزمة.

أما أكثر التوقعات قتامة، فقد استقبلها ديفد كوتوك، رئيس قسم الاستثمار في مؤسسة كمبرلاند أدفايزرز، بتسطيح مريب حين قال أنه: « حتى في حال إفلاس اليونان فإنها لن تكون النهاية»، مستشهدا بـ: « تركيا التي تعرضت لأزمة مالية واستطاعت أن تصبح من الاقتصادات الناشئة القوية ودول نمور آسيا سنتي 1997 و 1998 وانهيار الروبل الروسي، والعملة المكسيكية سنة 1994»، مشيرا إلى أن: « الأزمات المالية هي حقائق تاريخية»!!! وهذا صحيح من حيث المبدأ لكنه، بالمقارنة، ليس دقيقا في كل الأمثلة التي اعتمدها، خاصة إذا ما تعلق الأمر بأزمة بنك ليمان برذرز العقاري وأزمات أوروربا.

فإذا ما أفلست اليونان؛ فإن التبعات ستكون كبيرة، كتلك التي خلفها انهيار بنك ليمان برذرز، بحسب ما أدلى به إيد يارديني، بمعهد يارديني للأبحاث في نيويورك، لوكالة الصحافة الفرنسية في 26/6/2011. ولعل هذا ما يفسر تدخل الصين لحماية استقرار الاقتصاد العالمي ومنع انهيار اليورو. فقد قالت، في بودابست 26/6، على لسان رئيس الوزراء وين جياباو: « لقد اشترينا الكثير من السندات المقومة باليورو خلال السنوات الماضية، وسوف نستمر في دعم أوروبا واليورو». فالصين، التي شددت ملاحقتها للمعارضين، منذ شهر فبراير/ شباط الماضي، ويتملكها الهلع كروسيا، من انتقال عدوى الثورات العربية إليها لا تنقصها المتاعب.

ورغم الاستنفار الأوروبي لإنقاذ اليونان من شبح الإفلاس، في السنة الماضية، إلا أن الحكومة أقرت من جهتها في 10/6/2011 برنامجا للتقشف يمتد لعام 2015 كي يتسنى لها الحصول على قروض بقيمة 161 مليار دولار تسمح لها في احتواء مشكلة سداد ديونها البالغة 480 مليار دولار إلى 730 مليار بحسب مصادر أخرى، أغلبها لألمانيا. أما عن سبب الديون، وتحمل العامة لها، فقد أرجعها وزير العمل اليوناني إلى التهرب الضريبي. إذ أن: « ربع اقتصاد البلاد لا يدفع ضرائب».
ولمنع الانهيار؛ فقد تجبر أوروبا الحكومة اليونانية على إشراك القطاع الخاص في تحمل عبء القروض. ومن جهته فقد يضطر الاحتياط الفيدارلي الأمريكي والمصرف المركزي الأوروبي إلى التدخل عبر ضخ السيولة في أسواق المال العالمية « من أجل محاصرة العدوى»، إذ أن مشكلة اليونان ليست الوحيدة، لاسيما وأن بلجيكا وإيطاليا باتتا على قائمة الانتظار. ففي 19/6/2011 حذر جان كلود يونكر، رئيس مجموعة اليورو، من أن أزمة الديون التي تضرب اليونان ودولا أخرى قد تمتد عدواها إلى إيطاليا وبلجيكا. وقال في تصريحات لصحيفة ألمانية: « إننا نلعب بالنار»، فـ: « المشاكل التي أدت باليونان والبرتغال وأيرلندا لطلب حزمة دعم مالي دولي لتفادي الإفلاس قد تنطبق على إيطاليا وبلجيكا بسبب المستويات العالية التي بلغتها ديونهما». أما ألمانيا الفزعة من الديون الأوروبية، فما كان من وزير خارجيتها غيدو فيسترفيله إلا توجيه انتقادات غير مباشرة لتصريحات يونكر، أملا في امتصاص حالة الفزع الأوروبي.

أما في إسبانيا؛ فمن العجيب حقا أن يتجرأ رئيس الوزراء خوزيه لويس ثاباتيرو (23/12/2010) على القول بأن: « بلاده تحتاج إلى خمس سنوات لتصحيح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الوطني وتحقيق الازدهار والرفاهية للشعب الاسباني»، بينما تعاني البلاد من بطالة وصلت إلى 20%!! فكيف يعقل لاقتصاد يعاني اختلالات بنيوية أن: (1) يتعافى أولا، ثم (2) يقطع مرحلة « الازدهار » ثانيا، و (3) يصل إلى مرحلة « الرفاهية» في خمس سنوات عجاف قد تودي بالنظام الرأسمالي برمته!!؟

تصريحات ثاباتيرو هذه جاءت في أعقاب إقرار مجلس النواب الاسباني لقانون الميزانية العامة لسنة 2011، وهي السنة الأكثر تقشفا منذ بدء الأزمة الاقتصادية، والأعلى تخفيضا في مستوى الإنفاق العام بنسبة 7.9% مقارنة بما كان عليه سنة 2010 .. تقشف تأمل الحكومة منه بتخفيض العجز العام لهذه السنة إلى 6% مقارنة بـ 9.3% لسنة 2010.

الآن، وفي السياق الذي نتحدث عنه، ما هي علاقة الثورات العربية بالأزمات الاقتصادية العالمية؟ وكيف يمكن لـ « المركز» أن يجمع بين نقيضين في موقفه من الثورات: موقف المؤيد والمناهض للاستبداد والطغيان السياسي، وموقف الاعتراضات السافرة لمسار الثورات بحيث تبقى في مواطنها بعيدا عن المركز؟ الجواب الوحيد هو مصالح المركز ولا شيء غيرها.

مبدئيا، ثمة مشهد مشرق للثورات العربية بعيون « المركز»، خاصة بعد أن « تدارك» خطأه في الثورة التونسية، وأخذ يتصدر الدفاع عن مطالب الشعوب المقهورة ويثني على شجاعتها!!! لكنه ثناء ماكر وخبيث فيما يزعمه من نصرة، ومع ذلك يجد من يصدقه ويدعوه للتدخل، بل ويعبر عن امتنانه له!!! بينما هو في الواقع كحال المومس من الطهر والعفاف حين تدعي شرفا.

فما يجري في العالم العربي من ثورات باغتت الجميع تمثل، من باب آخر، فرصة ثمينة لـ « المركز» كي يخرج من أزماته المستفحلة. فالتدخلات السياسية والأمنية والمسلحة تصب، هي ونتائجها، في خدمة مصالحه واستراتيجياته. أما الثروات العربية المنهوبة، والمسجلة بحسابات مشفرة وغير مشفرة، باسم الفاسدين من العرب، والمكدسة في بنوك « المركز»، فقد باتت صيدا سهلا وثمينا له، كي يشرع في عملية نهب واسعة النطاق .. نهب ليس ثمة من هو قادر على مراقبته أو ردعه أو إخضاعه لأية مساءلة، طالما أن النهابين هم قادة « المركز»، وطالما أن الفاسدين سقطوا، وباتوا قيد التشهير والملاحقة القانونية. هكذا يمكن أن نفهم لهفة « المركز» على التدخل في ليبيا، طمعا في ثرواتها، أو الصمت، الخبيث، على القتل الوحشي في سوريا، وكذا التدخل السافر في اليمن .. فهو، من جهة، تدخل يستدعي الاحتفاظ بالسيطرة على الهامش، ورفع التكلفة، أملا في إطالة أمد الثورات. ومن جهة أخرى الاجتهاد في توفير فائض من الوقت، يكفي لإدارة عملية النهب بصورة منظمة لتحقيق أفضل النتائج !!! هذه هي حقيقة النظام الرأسمالي في بعضٍ من أوسخ قيمه وأخلاقه.

لكن المشهد المزعج للثورات العربية فهو ذاك الذي يبعث على الفزع في « المركز»، وهو الذي يجهد في اعتراضه بكل ما أوتي من قوة. إنه مشهد هجرة الثورات. فماذا لو نجحت الثورات العربية في اعتراض النظام الرأسمالي، وهاجرت إلى ساحات وميادين أوروبا؟ فهناك يستوطن القتلة، وصناع الكذب، ورؤوس الطغيان، وعمداء الاستبداد، ورموز الشر والعدوان والهيمنة العالمية .. وهناك أيضا، مدارس لتعليم وتصدير فنون استعباد الشعوب، ونهبها، وإفقارها .. ألا يستحق « المركز» ثورة في عقر داره؟ لعله كذلك.

ففي هذا الوجه المقلق؛ يجتهد « المركز»، ليل نهار، لتشويه الثورات العربية عبر إغراقها في الفعل الدموي أو تمييعها .. لا لهدف، إلا لإطفاء بريقها، والحيلولة دون انتقالها إلى بلادهم، أو استلهام شعوبهم لها، كنماذج قادرة على التغيير، والخروج من الأزمات والمآزق، دون خسائر كبيرة !!!
هذا الوجه؛ هو الحقيقة المرعبة التي يعيشها « المركز»، ويخشى منها بدء من أوروبا .. وجه سارع الإسبان لاحتضانه، في ساحة « بويرتا ديل سول»، الواقعة في قلب مدريد، والاعتراف بفضله، وتوقيره، بصريح اللفظ: « الثورات العربية ألهمتنا»، وخاصة الثورة المصرية، التي حضرت حتى بشعاراتها في العاصمة الإسبانية!! لكن بماذا يطالب الإسبان؟ وماذا يقول اليونان؟ وكيف علق الفرنسيون على الحراك الشعبي الأوروبي؟ لنتابع:

بداية لا بد من القول أن حركة الاحتجاجات الأوروبية تتباين من حيث قوتها وأثرها وانتشارها. فهي، حتى الآن لا تتجاوز ثلاثة دول. كما لا يمكن القول أنها تشكل أنوية صلبة لحركات تغيير بالمعنى الذي تنشده الثورات العربية، ولو أنها تبدو كذلك، من بعيد، في اليونان وإسبانيا.
لكن من المفارقات العجيبة أن تستلهم الاحتجاجات الأوروبية الثورات العربية، ليس في شكلها فحسب بل في صميم جواهرها. فهي:

• احتجاجات تصر على شعبيتها، وسلميتها؛ وهو ما تجلى في صورة مظاهرات واعتصامات وخيم وجماعات تنظيم وإعلام ودعم لوجستي في ساحات المدن والأحياء الكبرى في اليونان وإسبانيا.

• وتأبى الاحتشاد تحت أية دعوى أيديولوجية أو حزبية من أية جهة كانت. ومنعا للأحزاب من تسلقها؛ فقد بادر المعتصمون في العاصمة اليونانية أثينا ( 9/6/2011) إلى التأكيد في تصريحات لهم على: (1) « عدم انتماء حركتهم إلى أي حزب سياسي أو نقابة عمالية»، بل أن أحد المنظمين للاعتصام أوضح بأن: (2) « المحتجين يشملون جميع فئات وأعمار المجتمع اليوناني، ورغم أن الكثيرين منهم ينتمون إلى أحزاب سياسية، فالجميع متفقون على أن حضورهم لا يعني تمثيلهم لأحزابهم». ولا شك أن مشاركة جميع الفئات العمرية تقطع الطريق على ما يسمى بـ « نشطاء الأحزاب» لصالح كل المجتمع!!!

• وتتماثل في مطالبها السياسية والاقتصادية مع المطالب العربية، لكن دون الحديث، حتى اللحظة عن إسقاط النظم. ولعل الاختلاف في النقظة الثالثة راجع إلى أن البنية السياسية في النظم الأوروبية مختلفة ( الدولة المدنية والديمقراطية) عن مثيلتها في النظم العربية ( الدولة البوليسية والاستبداد).
هكذا إذن كانت البداية. إذ تصدرت اليونان واجهة الأحداث حين احتشد، بحسب « رويترز»، عشرات الآلاف في وسط العاصمة أثينا (5/6/2011)، أو بما اعتبر المظاهرة الأكبر منذ أربعين سنة الماضية، بحسب رأي الصحفي بيتروس باباكوستاندينو. هؤلاء رفعوا لافتات كتب على إحداها ثلاث كلمات ذات دلالة بالغة، وهي تختصر عمق الأزمة التي تعصف بالبلاد: « لصوص - محتالون - مصرفيون» .. أزمة، في المحصلة، تعصف بعالم، يهيمن عليه لصوص « المركز». ومن يرغب في التأكد فما عليه إلا أن يراجع بعض نماذج النهب الدولي المنظم مثل وقائع الأزمة العقارية في الولايات المتحدة وبرنامج النفط مقابل الغذاء بخصوص العراق أو تعويضات الحرب التي سرقتها لجنة التعويضات الدولية برئاسة جيمس بيكر أو أسعار النفط وصفقات التسلح ... وقائمة ينتهي العمر في معاينتها ولا تنتهي.
في 9/6/2011 نقلت «الجزيرة نت»، أيضا، عن نشطاء وصحفيين آراء مثيرة عن أهداف الاحتجاجات في المدن اليونانية. ومن الطريف حقا أن نقرأ عن الناشط ذيميتريس إيكونوميذيس قوله: « إن أهداف الاحتجاجات هي: (1) رحيل الحكومة و (2) إلغاء الديون و (3) الوصاية الأجنبية على اليونان»، إضافة بالطبع إلى: « (4) إلغاء إجراءات التقشف .. وفي مرحلة لاحقة (5) تأميم المصارف و (6) تحديد موعد للانتخابات التشريعية».

من يتأمل هذه المطالب يظن أنها تخص دولا وشعوبا في العالم الثالث أو الرابع، حيث مستنقعات الكذب والفساد والطغيان!! ولو لم يكن الأمر كذلك:

• لما اندفع « شباب اليونان» أو « شباب إسبانيا» للرد على خرافات « الازدهار والرفاهية» التي أدلى بها رئيس الحكومة؛ في احتجاجات جرى تنظيمها في 60 مدينة إسبانية؛

• ولما قررت حركة شباب 15 مايو/أيار أن يكون الاعتصام يوم 19/5 /2011 في الساحات العمومية للمدن، احتجاجا على: « البطالة وفساد السياسيين وتهميش النظام الانتخابي للأحزاب الصغيرة»؛

• ولما لخص المحتجون احتجاجاتهم بشعار غريب على الفضاء الأوروبي: « الديمقراطية الحقيقية الآن» .. شعار لشباب: « سئموا من الاضطرار إلى الاختيار بين السيئ والأسوأ»، أو بحسب مسرحي تساءل: « أين الديمقراطية؟ »؛

• ولما احتشد آلاف آخرين بعد عشرة أيام (28/5) في 120 حيا مجاورا للعاصمة – مدريد.
أما في فرنسا؛ فلم تكن عدوى الاحتجاجات لتصيبها في الصميم كما هو الحال في اليونان وإسبانيا. لكنها لم تفلت في 29/5/2011 من تجمع لمئات الأشخاص في العاصمة باريس للاحتجاج على السياسة السائدة، والبطالة والفساد. إذ رفع المتظاهرون الذين تجمعوا بساحة الباستيل، وعلى بعد خطوات من دار الأوبرا، لافتة عملاقة قالت ما قالته قبلها شقيقتها في مدريد: « الديمقراطية الحقيقية الآن»!!! دون أن تنسى الاعتذار عن تأخرها بلغة ساخرة: « باريس صح النوم»!!!
مطالب الاحتجاجات الأوروبية تدفعنا للتساؤل عن جدوى ما نرفعه من شعارات ومطالب!!! فالعرب يدعون إلى إقامة نظم ديمقراطية ودول مدنية. مطالب يتنافس عليها متنافسو الرئاسات!!! دون أن يمعن أحدهم النظر في تطابق الشعارات والمطالب، أو يتساءل: أليست دول أوروبا مدنية؟ وذات نظم ديمقراطية؟ فما حاجة أوروبا إذن للثورات إذا كانت ستطالب بالنهاية بما يطالب به العرب!!!؟
المفارقة المثيرة للعجب أن شباب أوروبا، وليس شباب المسلمين، هم من يطعن بنزاهة الديمقراطية في مواطنها وعقر دارها .. وهم الذين يصفونها بالزائفة، ويتهمون القائمين عليها باللصوص والفاسدين!!! فما قيمة المطالبة بها، وقد أصبحت موضع احتجاج، وطعن، ومساءلة، في ميادين أوروبا؟ وماذا بقي من منطق للاسترشاد بالنظم الرأسمالية وقيمها، أو العمل بأدواتها وآلياتها؟ ثم ألا تستحق مثل هذه الاحتجاجات، وما ترفعه من شعارات، لحظة تأمل صادقة، وسط فرصة سانحة، لمراجعة قيم استهلكتها العقود في مواطنها؟ أم أن الدولة المدنية المنشودة، وكذا الديمقراطية، ستكونان أكثر تحضرا ونزاهة في دول الثورات العربية!!!؟
من باب التذكير فقط، نشير إلى انهيار بوصة نيويورك سنة 1929 تسبب بعجز الولايات المتحدة عن تقديم القروض لألمانيا لتسديد ديونها .. وانتهى الانهيار والعجز إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. أما السؤال الذي نطرحه: ماذا لو وصل المركز إلى النهاية المحتومة أو تسببت الديون الأوروبية باندلاع الفوضى في العالم ناهيك عن حروب كونية جديدة؟ فأي نظام حينها سنطالب به؟ وأي شريعة سنقتدي بها؟

أخيرا


الثابت الذي لم يعد قابلا لأي طعن أو تشكيك أن:

• الإسلام كلي وشامل وليس جزئي أو محدود. هذا يعني أنه لا وجود لإسلام قوي أو لدولة إسلامية موحدة .. قوية .. ناهضة .. ومهيوبة الجانب ما لم تكن كذلك كل الدول الإسلامية بلا استثناء. وبالتالي لا يحق لدولة أن تزعم، دون غيرها، أنها دولة توحيد بينما هي ليست سوى انعكاس لواقع الدول الأخرى في ارتباطها التام بـ « المركز».

• العرب قلب الإسلام والعالم الإسلامي. فإنْ فسدوا وظلموا؛ فسد العالم وظلم وتجبر واستكبر واستبد واستعبد القوي فيه الضعيف. وهذا يعني أنه لا صحة للقول بأن الدولة المدنية أو الديمقراطية يمكن أن تكون دولة عادلة أو حرة طالما أن العرب مستعبدون وحكامهم مستبدون، كما يعني أنه لا يمكن لأية دولة عربية أن تتمتع بالحرية طالما بقيت إسرائيل، اليد الباطشة لـ « المركز»، قائمة في قلب « الهامش».

• الثورات العربية حدثٌ من الضخامة بحيث لا يمكن أن يبلغ نهاياته دون أن يتم اعتراضه، من أشراره وأشرار الأمة، بشتى الوسائل والسبل، إما لإجهاضه أو لاحتوائه أو طمعا في مكاسب وقتية. لكنه مع ذلك ما زال في حالة تقدم، بامتلاكه الشارع، واستيطانه عقل العامة، كثقافة مكتسبة، وقادرة على الإنتاج، والإبداع، والمبادرة والتأثير.
لن أدفع ! هذا هو ملخص الرد الشعبي على خطط التقشف الحكومية في دول أوروبا. لكن حين تلتفت أوروبا وغيرها من الأقوام إلى العرب لتستلهم منهم سبل الخلاص؛ فهي، في المحصلة، تلتفت إلى مهد الإسلام وأهله. إذ ليس للعرب قيمة تاريخية أو حضارية خارج الإسلام. فإذا أصبح أفول النظام الرأسمالي حديث العالم، على الأقل، ابتداء من الأزمة العقارية سنة 2008؛ وإذا أصبحت قيمه (الحرية والديمقراطية ... ) موضع احتجاج ومساءلات صاخبة؛ وإذا ما تضخمت الأزمة العالمية؛ وإذا تحدث الأوروبيون عن الديمقراطية بصيغة: « أين الديمقراطية»!؛ وإذا بدأت شعوب « المركز» تشعر، كما « الهامش» عامة والمسلمين خاصة، أنها وصلت مع نظمها وقيمها واختياراتها إلى طريق مسدود؛ فما هو البديل؟ وهل يمكن آنذاك قراءة الالتفاتة الأوروبية كلحظة استغاثة أو دعوة إلى الإسلام كي يتقدم؟


وتستمر التأملات ....

**************************

الحلقة الأولى: القاعدة ومدنية الثورات

الحلقة الثانية: صراع « المركز» و « الهامش»

الحلقة الثالثة: « أشرار الثورات »

الحلقة الرابعة: « إسرائيليو الثورات »


نشر بتاريخ 27-06-2011
المصدر موقع المراقب للدراسات والابحاث الاجتماعيه
  #6  
قديم 13-07-2011, 12:57 AM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي


تأملات في شريط العاصفة الشعبية:



في سوسيولوجيا تطبيق الشريعة


(6)



د. أكرم حجازي


12/7/2011









كل متابع للشأن الإسلامي، العام والخاص، لا بد وأنه لاحظ نموا في الحركات والتيارات الإسلامية المنادية بتطبيق الشريعة في البلاد الإسلامية. ولا ريب أن الدعوات تصاعدت، أكثر من أي وقت مضى، مع انفجار الثورات الشعبية في بعض البلدان العربية. بطبيعة الحال فإن تعدد الدعوات المناصرة لتطبيق الشريعة لا يعني تماثلا في المناهج والآليات الموصلة للهدف. كما أن الدعوات المناهضة لا يصح ردها فقط إلى تباينات أيديولوجية أو تدخلات أجنبية. فما هي الحصيلة الإجمالية بعد عقود من المحاولات المضنية؟

هذا النص ينطلق من كون الخلاف حول تطبيق الشريعة لا يتعلق بالحكم الشرعي، بل في الواقع الذي يعيق تنزيله. لذا فهو يثير بعض الأفكار والتساؤلات ذات الطابع السوسيولوجي. ويعرض للمسألة في ثلاثة محاور مركزية:

• أُس الدعوة إلى تطبيق الشريعة
• عوائق تطبيق الشريعة
• تيارات تطبيق الشريعة
• وأخيرا حوصلة


أُس الدعوة إلى تطبيق الشريعة


بداية نقول بأن تطبيق الأحكام الشرعية ليس حكما لاهوتيا بالمعنى الكنيسي الذي شاع في أوروبا. فالكنيسة مارست حكما استبداديا احتكرت فيه تفسير الإنجيل الذي لم يترجم من اللغة الآرامية إلى اللغة الألمانية، ومنها إلى اللغات الأوروبية، إلا بعد انشقاق الكنيسة في مطلع القرن الثالث عشر، وبعد ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في ألمانيا (1483 – 1546). وبقطع النظر عن موقف الإسلام من « الكتاب المقدس»، فقد استغفلت الكنيسة جهل الشعوب المسيحية باللغة الآرامية وبررت استبدادها وجرائمها وحروبها باسم الإنجيل. وهيمنت على السلطة والثروة والقرار، وتسببت بتحويل الشعوب الأوروبية إلى عبيد مقابل رجال الدين والنبلاء فيما بعد. وكان من نتيجة الحكم الكنيسي اختفاء أي حق أو مفهوم للمواطنة حتى بالمعنى الإنساني. لهذا لا يجب أن نعجب من صدور ميثاق للثورة الفرنسية سنة 1789 باسم: « حقوق الإنسان والمواطن». فلا الإنسان كان إنسانا في أوروبا المسيحية، ولا المواطن كان مواطنا!!! فما هي مبررات ترحيل المفهوم من أوروبا إلى العالم الإسلامي؟

هذه هي « الدولة الدينية» التي أنشأتها الكنيسة وقادتها واتسمت بالتطرف والتعصب وشن الحروب والصراعات الدموية في أوروبا حتى سقوطها مع اندلاع الثورة الفرنسية. وهي الثورة التي انولد من رحمها ما يسمى اليوم بـ « الدولة المدينة»! التي تحكم بموجب القوانين الوضعية، والتي لا شأن للإسلام والمسلمين في أصلها وفصلها، لا من قريب ولا من بعيد، إلا من أولئك الخصوم الذين لا يتوانون عن شهادة زور لا ترى في تطبيق الشريعة إلا نموذجا مطابقا لها!! مع ذلك فـ « الدولة المدينة» في أوروبا لم تنكر الدين ولا هويتها كدول مسيحية بقدر ما أنكرت سلوك الكنيسة واحتكارها للدين وهيمنتها على الناس والحياة بلا مبرر إلا من تحريفات طبقة كهنوتية اجتمعت على تحريفات« الكتاب المقدس» لتنتهي بتجريد الإنسان من كل حق أو كرامة.

وأكثر من ذلك فإن« الدولة المدينة» لم تتخلّ عن هويتها الدينية حتى في دساتيرها وأحزابها التي حملت لفظة « المسيحية» حتى في المسمى الظاهري لأحزابها الديمقراطية والاجتماعية. وحتى بعد مضي مائتي عام على الثورة الفرنسية، التي اكتسحت أوروبا، لا يخفى على العامة من الناس فضلا عن المتخصصين دعوات الحرب الصليبية التي يشنها الغرب على الإسلام بصريح القول، وعلى ألسنة قمة الهرم السياسي في دول «المركز»، فضلا عن الممارسات التي تحول دون المسلمين وحقهم ولو في بناء مسجد أو مئذنة أو ارتداء المرأة المسلمة لحجاب أو نقاب في بلاد الغرب المسيحي. والاحتجاج بكون المظاهر الإسلامية طائفية، أو تعبر عن تطرف، أو تعيق الاندماج الاجتماعي، أو، كما ترى هولندا، تمس في عادات وتقاليد البلاد!!!

واضح أن الخصوم والأعداء حريصون على مسيحية «المركز» وكنائس « الهامش»، وحريصون أكثر من اللازم على هدم الإسلام، عقيدة وهوية، لكنهم ليسوا حريصين على دولة مدنية خالية من بطش الأمن والاستبداد. وليسوا حريصين حتى على لبراليتهم التي يزعمون تبنيهم لها أو دفاعهم عنها، وليسوا حريصين على التحدث وفق الحقائق التاريخية أو المنطق أو الواقع المعاش. هذا لأنهم شهود زور: (1) قبلوا الاصطفاف، طوعا، في خندق أعداء الأمة، وتنفيذ أجندات خارجية، تستهدف الإسلام والهوية الإسلامية، و (2) ولأنهم لا يستطيعون إلا أن يدافعوا عن بيئة فاسدة ومستبدة كي يأمنوا على أنفسهم من أن تطالهم، في يوم ما، أية مساءلة شرعية عما اقترفوه بحق الأمة من مظالم وجرائم وخيانات. و (3) لأنهم لا يمتلكون أية قوة اجتماعية أو سياسية بقدر ما يمتلكون قوة إعلامية ومالية ذات ارتباط وثيق بـ «المركز»، فإذا عدلوا من شهاداتهم انكشف حجمهم وانخرس ضجيجهم واندثر وجودهم، وظهر «المركز» مجردا من أي أداة تنتصر له.

علاوة على أن الإسلام انبعث أصلا في بيئة مدنية، بحسب التعبير المعاصر، فقد ترعرع في نفس البيئة، واشتد عوده في المدن حصرا. كانت مدينة الأمس كمدينة اليوم تحوي كل الفئات والشرائح الاجتماعية والطوائف كجزء من التكوين الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النبوي. وفيما بعد تنوعت المجتمعات الإسلامية لتشمل كافة الأعراق والأجناس. وكلها تحاكمت فيما بينها بمقتضى الشريعة الإسلامية، وليس بمقتضى أية شريعة أخرى. ولم تكن الشريعة عبء على أحد، ولم تشْكُ منها طائفة بقدر ما تحاكم إليها المسلم والفاجر والذمي والكافر والمشرك، واستعان بها لإنصافه إلى أن دخل الإسلام طمعا في عدلها. ولعلها عبارة ذات دلالة بالغة، تلك التي وردت في كثير من الأحايين على ألسنة أهل الذمة، لما يصدر القاضي المسلم حكما ينصف الذمي الذي تساءل مذهولا قبل أن يشهر إسلامه: « أهذا هو دينكم»!!!!؟

باختصار؛ فالشريعة، بما تفرزه من نمط حياة وسلوك ومعاملات وقيم وأخلاق وأعراف، مثلت القاسم المشترك بين الجميع. وبها ميز الناس بين الحق والباطل والصواب والخطأ والحلال والحرام. ولم يك أحد من المسلمين، علماء أو أمراء، ليتدخلوا في حياة الناس أو يضيقوا عليهم.

وحتى الفتوحات الإسلامية للبلدان والأمصار في شتى أصقاع الأرض، لم تكن في المبدأ والمنتهى أكثر من عملية تحرير للناس، نفذتها الجيوش الإسلامية دون أن تتدخل في المجتمع قط، أو تخضعه بالقوة، كحال القوى الاستعمارية التي مارست القتل والنهب والسلب، وارتكبت كل المحرمات بحق الشعوب المستعمرة. فالأمر في حقيقته كان موكولا للعلماء والدعاة الذين بينوا للناس الحقيقة، ووجهوهم لما يجوز أو لا يجوز، وبعدها لهم أن يوحدوا الله أو يشركوا به، فهذا شأنهم. وعليه فلم تكن الفتوحات غزوا عدوانيا وشريرا لتغير من الواقع شيئا، أو تمس المجتمع وحياة الناس وعاداتهم وأعرافهم، بقدر ما كانت رسالة تدعوهم إلى عبودية الله عز وجل بدلا من عبودية البشر .. فأي مكسب دنيوي أو ثروات نهبها الفاتحون وكل ما لديهم رسالة لا محتوى لها سوى الدعوة إلى الله فقط، وبيان ما يتفق أو يتعارض مع حكمه. لذا لم يجد الناس في الفتوحات الإسلامية ما يوغر الصدور، ولم يكن غريبا أن نجد الكثير من البلدان تدخل الإسلام قبل أن يصلها أو تسمع به أو تتعرض لفتح.

لا ينكر أحد اليوم أن نمط الحياة السائد في المجتمعات الإسلامية ظاهر للعيان. لكنه أقرب إلى الموروث الحضاري من أية حيوية تذكر. فثمة من يختزله بوفرة المساجد وإقامة الصلاة وحضور المظهر الإسلامي بالمقارنة مع أنماط الحياة الأوروبية مثلا أو الوثنية أو الملحدة .. وثمة من يراه حاضرا ومعبرا عن هوية الدولة في صورة بند دستوري لا يغني ولا يسمن من جوع في نصه على أن الشريعة هي المصدر الرئيس أو الوحيد في التشريع. ومع أنه ما من دولة إسلامية يحق لها، شرعا، الخروج عن الشريعة، إلا أن الواقع يؤكد، نصا وقولا وفعلا، أنه ما من دولة إسلامية تطبق الشريعة. وهذا بإقرار علماء شرعيين، ورجال قانون وضعي، وحتى الدول نفسها، سواء التي تزعم التوحيد أو تلك التي تجاهر بعلمانيتها وتدافع عنها ولو بسفك الدماء.

فالأحكام الشرعية نظام واسع لا حدود له، وليست مجرد مسجد أو بند دستوري مهدد بالزوال، أو حتى نظام عقوبات كما يروج الخصوم. فهي تشمل أحكاما وإخبارا عن الدين والدنيا والآخرة .. وكلها تنصهر لتشكل نمطا اجتماعيا مغايرا كليا عما هو قائم، وأشد تماسكا وأكثر عدالة. ولو تأمل الخصوم (في) أو المحذرون (من) نظام العقوبات، فقط، في حكم الزنا مثلا، لوجدوا شروطا بالغة الصرامة ينبغي التقيد بها قبل تنفيذ الحد الشرعي. ولعل الزنا، وليس المفاحشة أو الخلوة أو ... هو أصعب ما يمكن إثباته في العقوبات. فهو محصور بين الاعتراف به أو بتوفر أربعة شهود عدول شاهدوا الواقعة مجتمعين، أو بالملاعنة بين الزوج والزوجة أمام القاضي. وأكثر من ذلك. فكل الذين درسوا المجتمعات القبلية، وتلك التي تعلي من شأن القيم والعادات، أو المتأثرين بثقافة الفضيحة، يدركون أن الحكم الشرعي في المسائل الأخلاقية أرحم بما لا يقارن مع أي حكم وضعي أو عرف اجتماعي. وكثيرا ما قتلت البريئات من النساء والفتيات لمجرد الاشتباه بإتيان سلوك غير لائق اجتماعيا!! ولو كان ثمة بصيص من العدالة لكان لزاما، على الأقل، أن يتساوى في العقوبة شائن الأنثى مع شائن الذكر. لكنه التمييز الاجتماعي الظالم وليس الحكم الشرعي كما يروج خصوم تطبيق الشريعة وأعداؤها.

من يرفض تطبيق الشريعة، لأي سب كان، إنما يرفض الإسلام ذاته. ومن يطالب بها فلأنه يؤمن أنه في دولة من المفترض أنها إسلامية، وفي مجتمع إسلامي، وليس في مجتمع مسيحي أو بوذي أو هندوسي أو وثني أو يهودي، وبالتالي فمن حقه أن يختار الحكم الذي يرتضيه لنفسه. ولما تكون غالبية المجتمع مسلمة فلا يجوز تعليق الحكم الشرعي على شواذ المجتمع أو على الأقليات مثلما لا يجوز التعدي على حقوقها. وهي حقوق محفوظة ومصانة أكثر مما هي كذلك فيما يسمى بالنظام الديمقراطي الذي يجعل الحكم للأغلبية بشرط احترام حقوق الأقلية. وشتان بين مزاعم دنيوية عن الاحترام قد تنضبط حينا وتختفي دهرا، وبين الالتزام الشرعي بحفظ الحقوق رغم أنف الحاكم والعالم والعامة. فالحكم الشرعي هو إرادة إلهية من فوق سبع سموات وليس حكما كنيسيا لطبقة متسلطة أهلكت الحرث والنسل.

واقع الحال أن غياب العمل بأحكام الشريعة نجم عنه، أو تلازم مع:

• استهداف دين الله ورسله وأنبيائه وعباده وحرماته، ومع استبدال الأحكام الشرعية بالأحكام الوضعية،
• التسابق على ما يسمى بالشرعية الدولية والتقيد بأحكامها والاستعانة أو الاستدلال والاحتجاج بها،
• التهديدات الخارجية لبلاد المسلمين،
• الاختراق الثقافي الأجنبي للمجتمعات الإسلامية،
• تغول الأقليات الإثنية والقومية،
• الانحراف العقدي،
• الدعوة إلى تجاوز الدين باعتباره ماض لا يصلح لوقتنا الحاضر،
• الطعن في التاريخ الإسلامي،
• سيادة الطوائف والفرق المنحرفة التي تنسب نفسها للإسلام،
• موالاة أهل الكفر والشرك والزندقة والإلحاد أو الاستعانة بهم على أهل الإسلام،
• سيادة الاستبداد، وعبادة الفرد،
• شيوع الفساد والظلم وضياع الحقوق،
• ظهور الفاحشة والزنا،
• القعود عن الجهاد،
• الصراعات المحلية وسفك الدماء،
• ومع ... .

لهذا ثمة حاجة لتطبيق الشريعة، إذا كان للعالم الإسلامي أن يتجاوز نوازله ويعيد تجديد نفسه. لكن، رغم فداحة مثل هذه النوازل، إلا أن تطبيق الشريعة منوط بـ « الامتثال» القطعي للأمر الإلهي في الحكم بما أنزل الله. ولا جادل في هذا « الامتثال» إلا استحق ما تحمله هذه الآيات البينات من توصيف:

• { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}، [سورة النساء: 65].
• { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنۢ بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ }، [ المائدة: 49].
• { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ }، [ النساء: 105].
• { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }، [ المائدة: 48].
• { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }، [ المائدة: 50].
• { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، [ المائدة: 44].
• { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [ المائدة: 45].
• { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، [ المائدة: 47].
• { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، [ المائدة: 48].


هذه الآيات تعني أن تطبيق الشريعة ليس مشروطا أبدا بوجود النوازل من عدمها. كما أنه ليس من الدين أو العقل، في شيء، ربط تطبيق الشريعة بالحاجة إلى العدالة أو بناء الدولة الإسلامية القوية. فمن يقبل بهذه المعادلة عليه أن يتوقع رفضا للشريعة إذا ما وقعت المظالم والمفاسد أو ضعفت الدولة، في حين أن « الامتثال» لحكم الله هو عبادة وطاعة وليس تعبيرا عن مجرد احتياج دنيوي.

ولمزيد من الإيضاح في هذه النقطة بالذات يمكن التمييز بين الحكم الشرعي وتطبيقاته البشرية. إذ أن تطبيق الشريعة لا يستوجب، بالضرورة، ازدهار الأمة أو خلاصها من أزماتها أو إشاعة العدل بين الناس أو رفع المظالم عنها. فلكل أمة أزماتها ومزالقها. ولكل زمن أخياره وأشراره. وكما شهد التاريخ الإسلامي نهوضا علميا ومعرفيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا، فقد شهد أيضا خيانات، ووقوع مظالم وكوارث ونوازل عظيمة، تسبب بها أمراء وسلاطين وخلفاء، خرجوا عن حكم الله، وفسقوا وابتدعوا فضلوا وأضلوا خلقا كثيرا، وعرّضوا الأمة لمخاطر وأطماع من كل حدب وصوب. وحال الأمة اليوم لا يخفى على أحد. وبالتالي فلا حاجة أصلا للمقارنة.

زيادة على كون تطبيق الشريعة عبادة، فإن أميز ما في الحكم الشرعي، دون غيره، أنه، قادر، على المستوى الخارجي، على حفظ بيضة الإسلام ودماء المسلمين، حتى في أضعف حالاته، مثلما هو قادر على حفظ ممتلكاتهم ومقدساتهم وحرماتهم وأعراضهم من أن يدنسها أو ينتهكها أو يستبيحها أقوام الكفر. أما، على المستوى الداخلي، فإن الأحكام الشرعية، حتى في ظل أشد الأمراء استبدادا، ظلت أعدل من أي حكم وضعي باعتبارها أحكاما إلهية ثابتة، وليست دنيوية يمكن للزمن والتقلبات أن تأتي عليها.


عوائق تطبيق الشريعة


المؤكد أن «المركز» لا يمكن له أن يسمح بأي تطبيق فعلي للشريعة ولو جزئيا. ومع ذلك فقد جرت محاولات عديدة لتطبيق الشريعة، جزئيا أو كليا، في بعض بلدان العالم الإسلامي كالسودان وماليزيا وباكستان وأفغانستان والعراق والصومال وبعض مناطق نيجيريا.

لكن هذه المحاولات أثارت ( وما زالت تثير) سلسلة من الإشكاليات التي ظلت طي العرض والمناقشة، رغم أنها تقع في صلب السياسة الشرعية التي تجتهد في البحث عن كافة الوسائل الشرعية التي لا « تتعارض» مع الحكم الشرعي، وليس الاكتفاء، فقط، بالسياسة الشرعية التي « تتطابق» معه فحسب. صحيح أن الالتزام بالحكم الشرعي هو الأصل. لكن الالتزام وحده لا يكفي. فلما تكون هناك مسافة بين الحكم الشرعي والواقع؛ فمن أوجب الواجبات في السياسة الشرعية فحص مكونات المسافة الفاصلة بينهما، أو توسيع مساحة النظر في الواقع لمعاينة ما يحول بين الناس والحكم الشرعي من عوائق وعقبات وخفايا.

كان بعض الصحابة في العصر النبوي ترتعد فرائصه من آية واحدة تكفيه بقية عمره للالتزام بشرع الله. أما في عصرنا هذا فالثابت أن كل المصادر الشرعية، ، لم تعد كافية لحمل النظم السياسية (على) أو إلزامها (بـ) تطبيق الشريعة. بل أنها لم تعد قادرة على إلزام أي تشكيل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي بوجوب العمل على تحقيق هذا الهدف. وأكثر من ذلك أنها لم تعد قادرة على إلزام العامة من المسلمين بأبسط وأسهل الأوامر والنواهي. ولما يكون هذا هو الحال الظاهر، على الأقل، فمن غير المجدي أو المنطقي تعليق العجز أو الفشل على المصادر الشرعية، أو على جماعة أو فرد. فالمسألة لا تتصل بتحييد حاكم ولا بكسب جماعة ولا بتأييد شيخ بقدر ما هي متصلة بهذا وذاك وغيرهما. إذ من الواضح أنه ثمة مسافة بين الحكم الشرعي والقدرة على تطبيقه. وهذا يستدعي، من أصحاب الشأن، دراسات عميقة وشديدة الحياد لمعالجة إشكاليات متجذرة في شتى مناحي الحياة الاجتماعية، ليس لحصر العوائق التي تعترض تطبيق الشريعة بل ولاختبار صحتها.

لو تجاوزنا كل المثالب المتعلقة بالنظم السياسية؛ ولو أحسنا الظن بها؛ ولو ظهر منها من هو ذو نوازع إسلامية، أو حتى متمردا على الفلسفات الوضعية، إلا أنها تظل، مع ذلك، نظما محكومة بالتبعية المطلقة لـ «المركز» وهيمنته. وهذا يعني أنها ستكون بلا جدوى. فالتوصيف السياسي والقانوني الظاهري للدول العربية، خاصة، بموجب مصطلحات النظام الدولي القائم وشرعياته القانونية، يعطيها صفة الدول المستقلة ذات السيادة. لكنها في الواقع دول محتلة من الداخل، بقطع النظر عن هوية السلطة الحاكمة فيها. ولو افترضنا، جدلا، قدرة نظام سياسي ما على إطلاق الحريات العامة وإشاعة العدل ورفع المظالم إلا أنه يظل فاقدا لقدرته على تطبيق الشريعة.

علاوة على أن النظام لا يستطيع فعل هذا ولا ذاك، فإن تطبيق الشريعة يتعارض، كنمط حياة ورسالة، مع نمط حياة «المركز» كأطروحة هيمنة. بمعنى أنه إذا كان تطبيق الشريعة بالنسبة لـ « الهامش» يحقق مكاسب فهو قطعا بالنسبة لـ «المركز» سيعني هزيمة ومخاسر وتهديد لمصالحه. وإذا وسعنا دائرة التحليل أكثر فإن تطبيق الشريعة تمثل بالنسبة لـ «المركز» و « الهامش» ذروة الصدام بين الطرفين. وعليه فمن شبه المستحيل توقع ذهاب أي نظام إلى تطبيق الشريعة دون أن يوازيه استعداد للذهاب إلى الحرب.

بالتأكيد لن يختلف الموقف كثيرا أو قليلا لو تعلق الأمر بالتشكيلات الدينية وولاءاتها أو بالجماعات والفرق الإسلامية. فقد عملت النظم منذ وقت مبكر، ولمّا تزل، على تأهيل جيوش من الطلبة في كليات الشريعة ليكونوا سدنة شرعيين للنظام طوال الوقت، وخاصة في الأزمات. وبعض هؤلاء جرى ترقيتهم كرموز دينية واجتماعية ليس لهم من وظيفة إلا تشريع الوضع القائم. هذا ناهيك عن الشريحة التقليدية الشهيرة بلقب « علماء السلاطين» والذين انحدروا من شرائح التأهيل التاريخية أو اختاروا، طواعية، جانب النظام، ظالما أو مظلوما.

في أعقاب حرب الخليج الثانية سنة 1991، أو مع سيادة العولمة، وتوجه النظم السياسية نحو قيم اللبرالية بالمعنى التحرري وليس بمعنى الحرية، كشف النقاب عن رموز تلقت دعما ماليا وإعلاميا وشرعيا جبارا، لتنتهي إلى تيارات حملت أسماء مؤسسيها كـ « الجامية» و« المدخلية». هذه التيارات أفصحت عن جواهر عقائدها خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على وجه التحديد لتلتحم مع النظم السياسية وتوجهاتها، وتحديدا مع الحاكم نفسه. وهي تيارات يغلب على عقائدها موضوع واحد هو الدفاع المستميت عن « ولاية الأمر» ووجوب طاعة الولي ما لم يستحل الكفر علانية. بل وصل الأمر ببعض التيارات والجماعات اعتبار النصراني أو اليهودي، مؤمن « بدرجة ما»، ولا يصح تكفيره أو وصفه بالكافر، وأكثر من ذلك يجوز له أن يتولي أمر المسلمين!!!

ثمة أطروحة شائعة لدى الكثير من العاملين في الحقل الإسلامي ترى أن التيارات والجماعات الإسلامية، وحتى بعض الجهادية، تتكامل فيما بينهما لجهة سعيها في خدمة الإسلام والمسلمين والدعوة إلى الله عز وجل وصولا إلى بناء الأمة المسلمة، واستعادتها لقوتها وعزتها. والحقيقة أنها أطروحة أبعد ما تكون عن أية حقيقة تذكر. وبالتالي ليس صحيحا أنها تتفق على الهدف وتختلف على المنهج. والواقع أنها متنافرة وليست متكاملة. ومتخاصمة وليست متوافقة. وهي على خصومة، بدرجات، مع جماعات التيار الجهادي العالمي وجماعات تطبيق الشريعة وأنصارها.

فمن جهة تبدو هذه التيارات والجماعات متشظية حتى داخل ما يفترض أنه تيار متجانس. وهذا الأمر ينطبق بالدرجة الأساس على التيارين السلفي والصوفي. والأسوأ من هذا أنها تيارات قابلة للانقسام حتى على مستوى الفرد، وليس فقط على مستوى الولاء أو المنهج أو العقيدة!!! فكل فرد ( شيخ ) صار له منهجه وعقيدته وأتباعه، وكل فرد (درويش) صار له طريقته. ومن جهة أخرى لا تتفق هذه الجماعات والتيارات على مبدأ تطبيق الشريعة!!! فثمة فريق منها يرى أن الشريعة مطبقة، والدولة دولة توحيد ( سلفية السعودية)! وفريق آخر آمن بتطبيق الشريعة بدايةً وصار يتنصل منها نهاية ( الإخوان المسلمين)، وفريق يضع الخلافة على سلم أولوياته ( حزب التحرير)، وفريق آخر لا يضع تطبيق الشريعة في أي اعتبار له ( التبليغ والدعوة) وفريق موضوعه العقدي الدفاع عن القبور والأضرحة ( الصوفية)، وهكذا ... .

إذا عاينا المسألة في ضوء التركيبة الاجتماعية وخصائصها، فإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ستواجَه بقوىً مضادة في مستويات ثقافية وسياسية واقتصادية وإثنية متشعبة. وقد لا تبدو الصورة واضحة في المجتمعات قليلة السكان أو البسيطة التركيب. لكن لو أخذنا مثلا دولة بحجم مصر فقد نفاجأ بعشرة ملايين من البشر أو أكثر، يقفون سدا منيعا ضد أية محاولة لتطبيق الشريعة، من صنف العلمانيين، واللبراليين، والزنادقة، والملحدين، والأديان، والفرق، والمخالفين، والخصوم، والجهلة، والضالين، والمجرمين، والمنحرفين ... وأمثالهم. هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن مثل هذه الشرائح أقل أثرا في الدول المتوسطة أو حتى الصغيرة. بل أن قدرتها على السيطرة تكاد تتفوق على مثيلتها في الدول الكبرى، لاسيما وأن عملية السيطرة والتحكم في البلاد سهلة خاصة وأنها تقع خارج أية مراقبة من أي نوع.

شرائح واسعة من هؤلاء، جميعا، وأمثالهم، ودفاعا عن نمط حياتهم ومصالحهم وأهوائهم، ورفضا لأية قيود عقدية أو اجتماعية أو أخلاقية، باتوا، بعلم أو بجهل، مؤهلين، لمناهضة أية محاولات لفك الارتباط بين العالم الإسلامي و «المركز»، ومؤهلين لإشاعة ثقافة التحلل الاجتماعي والخلقي، ومؤهلين للتحالف مع «المركز» بكل ثقلهم، ومؤهلين لتخذيل الأمة وإحباطها، ومؤهلين حتى للتآمر والعمالة والخيانة، ومؤهلين للتفريط بالأمة ومصيرها، ومؤهلين لحماية ما يظنون أنها مصالح ومكاسب على حساب مصير الأمة، ومؤهلين لهدم أية محاولة لتطبيق الشريعة كما حصل خاصة في العراق.


تيارات تطبيق الشريعة


هذه التيارات هي الأكثر تماسكا ووضوحا في أهدافها، إلا أنها متباينة في مناهج العمل. وتتخذ من المصادر الشرعية ( القرآن والسنة بفهم السلف) سندا في سعيها لتطبيق الشريعة. لذا فهي تؤمن إيمانا جازما بوجوب الحكم بما أنزل الله. لكنها تفترق فيما بينها على المصادر الفقهية المعاصرة. بمعنى أنها تتحصن بوفرة هائلة من التأصيلات الشرعية الموثقة بكل الأسانيد اللازمة لإثبات دعوى تطبيق الشريعة. لكنها تعاني فقرا في الدراسات، الفقهية أو العلمية، المتخصصة وذات الصلة بفقه الواقع.

تيار الجهاد المدني

فثمة تيار منه يتمسك بالأطروحة الشرعية الصارمة، ويرفض العمل بما تتيحه الظروف السياسية أو ما يعتبره شروطا غير شرعية. وحجته في ذلك عدم جواز الوصول إلى غايات شرعية بوسائل غير شرعية. ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تقديم الحكم الشرعي على الواقع دون أن يجتهد في البحث عن مخارج أو بدائل. وتبعا لذلك يكتفي بتوصيف النظم السياسية والدول باعتبارها طائفة كفر لأنها تحكم بغير ما أنزل الله. كما أن وسائل العمل السياسي كالديمقراطية والانتخابات، والسلطات الثلاث، ( التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وكذا الجيوش، والأمن، والمالية، وكل ما يماثلها من أدوات القوة والدعم للنظام والدولة، تقع خارج الملة. إذ هي نظم وأدوات ووسائل كفرية لا يصح الاستعانة بها.

هذا التيار متواجد في معظم دول العالم الإسلامي. لكنه موضع لوم بسبب ما يراه جزء لا بأس به من التيار نفسه انحياز مطلقا للحكم الشرعي، بعيدا عن النظر في أية سياسة شرعية تستطلع الواقع في أعماقه قبل الحكم عليه. والطريف أنه لا هذا الجزء ولا ذاك قدم أية قراءة يمكن أن تجيب على أسئلة أي منهما.

فالدولة الحديثة شديدة التعقيد والتخصص، وهي خلاصة النظام الدولي والإنساني بقطع النظر عن مدى شرعية نظام الحكم فيها. كما أن التفاعل وحجم تبادل المصالح والمنافع والخدمات بينها وبين العامة شديد التعقيد والتداخل. ففي الدولة ثمة مؤسسات كبرى كالجيش والأمن والإدارة والمال والتجارة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة والمياه والعمل والتربية والرعاية والإسكان والتنظيم وقضايا الأحوال المدنية والقضاء الشرعي والوضعي، فضلا عن العشرات منها وما يتفرع عنها من مئات أخرى. فكيف يمكن فك الارتباط بين الدولة والناس؟ وكيف يمكن توقع استجابة الناس لدعوى فك الارتباط بحجة أن الدولة كافرة، خاصة وأن الحديث يجري عن 56 دولة إسلامية أو 1.6 مليار مسلم؟

لا توجد أية إجابات تفصيلية حول ما يُطرح من أسئلة واستفسارات ولا توجيهات أو نصائح. كل ما هو متوفر حكم شرعي مجرد من أية اجتهادات تلامس طغيان الواقع. فما هو حكم العلاقة، مثلا، بين الفرد والدولة؟ وكيف يمكن صياغة علاقة شرعية بين الناس وقطاع التعليم أو الصحة دون اللجوء إلى الدولة؟ وكيف يمكن صياغة علاقة شرعية بين الناس في قضايا الأحوال المدنية من طلاق وزواج وميراث وإثبات الشخصية؟ أو في النزاعات؟ أو في السفر؟ أو في الخدمات؟ أو في الضرائب؟ أو في .... إلخ

لا ريب أن التيار يعاني من نقطة ضعف مركزية، وشديدة الخطورة .. نقطة جعلت المسافة بينه وبين العامة كتلك المسافة القائمة بين الناس وتطبيق الشريعة. إذ أن حصر الناس في زاوية الحكم الشرعي، والصرامة في اشتراط الفقه على العامة وسط ظروف قاهرة ليس للعامة شأن مباشر في نشأتها ولا في سيادتها، تَسبَّب بردود فعل سلبية أو لامبالاة. لكن الأهم أنها مثّلت بالنسبة لـ «المركز» و « الهامش»، معا، هدية ثمينة للتنفير من التيار، ودفعه، بوسائل شتى، نحو المزيد من التحصن في الحكم الشرعي أملا في توسيع المسافة الفاصلة، وبالتالي تنفير الناس وفرض ما يشبه العزلة الاجتماعية عليه بحيث يسهل تشويهه إعلاميا ومحاصرته ونبذه على نطاق واسع.

وفي المقابل ثمة جناح حركي من التيار يقف على النقيض من سابقه. وهو متواجد بقوة في بعض البلدان الإسلامية خاصة في مصر وباكستان وحتى بعض بلدان المغرب العربي. وهو، في واقع الأمر، أقرب إلى أن يكون تيارا أكثر منه تعبيرا عن قوة سياسية منظمة. ولئن كان، القسم العربي منه، يرفض المشاركة السياسية أو الخروج على النظام، قبل الثورات العربية، بدعوى عدم جواز الخروج على ولاية الأمر أو تجنبا لتصعيد قد يؤدي إلى فتنة، إلا أن رياح التغيير المفاجئة، وهجمة القوى اللبرالية والعلمانية على الإسلام والهوية الإسلامية، وضغط الأتباع، فضلا عن تهديد النسيج الاجتماعي وإشاعة الفتن الطائفية المدمرة ألجأته إلى خيارات صعبة:

• فإما أن يتمسك باجتهاداته الشرعية السابقة، وينأى بنفسه عن الواقع وصراعاته الخطيرة، وهو ما يصب، في المحصلة المباشرة، في صالح القوى الخصيمة والمعادية للإسلام، وفي نفس الوقت بانفلات الأتباع وتشتتهم؛

• وإما أن يضطر إلى الاستعانة بوسائل غير شرعية لتحقيق غايات شرعية. ويقبل بالتعامل مع الدولة والواقع كما هما. وهو ما انحاز إليه اعتقادا منه أنه ما من فرصة للوصول إلى الحكم أو تطبيق الشريعة، أو على الأقل الحفاظ على هوية الدولة الإسلامية، أو مقاومة القوى المعادية إلا بالوسائل المتوفرة.

ورغم تمسك هذا الجناح الحركي بمصطلحاته الشرعية، إلا أنه يستعمل كافة الأدوات والمصطلحات الوضعية مثل الأحزاب والديمقراطية والاحتكام لصناديق الاقتراع كوسائل عمل وليس اعتقاد. ويرى أن الوحدة الوطنية باتت ضرورة ملحة للغاية، لمواجهة الحرب الشرسة على المجتمعات الإسلامية التي تتهددها التمزقات الاجتماعية القائمة على الولاءات الطائفية أو القبلية أو العائلية أو العرقية أو السياسية أو الثقافية أو التاريخية أو الجغرافية .. وليس على الأخوة الإسلامية أو العربية أو على الضرورات الاجتماعية والأمنية.

هذا الجناح له مؤسساته وأحزابه، ويحظى بشعبية واسعة النطاق، خاصة وأنه يخوض صراعا مباشرا في مواجهته للقوى المعادية والخصيمة للإسلام. وله قدرات حيوية في التأثير وتوجيه الرأي العام المحلي، مستفيدا من مكانته الشرعية وتواجده المكثف في مختلف المؤسسات ونقاط السيطرة الاجتماعية. بل أن أطروحاته وفرت غطاء شرعيا وملاذا لكثير من الناشطين في إطار تطبيق الشريعة لاسيما أولئك الذين وقعوا في حيرة من أمرهم بين الالتزام بأطروحة دعاة الحكم الشرعي في قراءته الصارمة ودعاة المرونة الحركية التي يفرضها ضغط الواقع.

وفي المحصلة لا يمكن غض الطرف عن كون الأطروحتين حققتا حضورا لافتا في الأمة، أكثر من أي وقت مضى، رغم الحرب الضروس التي يشنها الأعداء والخصوم، سواء لجهة وجوب العمل على تطبيق الشريعة، أو لجهة تثبيت شرعية الدعوة. لكن الافتراق المنهجي بين جناحي تيار الجهاد المدني لا يمكن تفسيره بعيدا عن الفقر في الدراسات الشرعية الشاملة ذات العمق الاجتماعي .. دراسات تكشف عن خبايا الحكم الشرعي في الواقع الاجتماعي وليس العكس. وبالتأكيد؛ فإن ظهور دراسات من هذا النوع سيؤدي إلى تقليل مساحة الافتراق لصالح مساحة الوفاق.

تيار الجهاد المسلح

تتقاطع أطروحة هذا التيار، الذي اتخذ من الجهاد المسلح منهجا له، تماما مع أطروحة تيار الجهاد المدني. والساعي إلى تحقيق أربعة أهداف على التوالي هي:

(1) تحرير البلاد الإسلامية من القوى الأجنبية ومما يعتبره أنظمة طاغوتية؛
(2) تطبيق الشريعة في حدود التمكين؛
(3) إقامة الدولة الإسلامية الممَكَّنة؛
(4) العمل على إعلان الخلافة الإسلامية.

مبدئيا؛ فالتيار لا يعارض الجهاد المدني أبدا. ولا صيغة الدولة الحديثة، أو إقامة علاقات دولية وحسن جوار، من موقع الندية والحق في اختيار نمط الحكم استنادا إلى الأحكام الشرعية، واستعادة الحقوق. لكنه يدرك استحالة قبول «المركز» أو « الهامش» بدولة تطبق الأحكام الشرعية. ولديه قراءة واضحة وصارمة حول دور «المركز» تجاه دول « الهامش» التي تدور أنظمتها، طوعا أو كرها، في فلكه. وعليه فما من وسيلة لتجاوز هذه العقبات إلا بالخروج على «المركز» ومقاتلته ولو في عقر داره.

أما أولى المحاولات فكانت في أفغانستان، لكن ليس بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي (15/2/1989)، بل بعد تولي « حركة طالبان» السلطة في البلاد، حيث أعلنت إقامة أول إمارة إسلامية كاملة الأركان بقيادة أمير المؤمنين الملا محمد عمر (1996 – 2001). وبعد هجمات 11 سبتمبر غزت الولايات المتحدة البلاد وأطاحت بحكم الإمارة.

المهم؛ أن تجربة تطبيق الشريعة في أفغانستان كانت تجربة وليدة، وفاقدة حتى للخبرة الشرعية، لاسيما في مجال العلاقات الدولية. وهذا لا يقلل من أهمية التجربة وقوتها وجرأتها بقدر ما أظهر قصورا، في مستوى الفقه والسياسة الشرعية. وللإنصاف، فإن حركة طالبان، صاحبة المبادرة، في تطبيق الشريعة وإقامة دولة إسلامية بلا أية خبرة سياسية أو شرعية سابقة، تُرِكت، هي والتجربة ذاتها، فريسة لـ «المركز» و « الهامش»، ودون مساندة من العلماء والفقهاء والمفكرين والمتخصصين في العالم الإسلامي، فضلا عن محاصرتها وتهميشها وحتى رميها بالتخلف.

هذا القصور الشرعي؛ عملت الحركة على استدراكه فيما يسمى بـ: « لائحة المجاهدين في الإمارة الإسلامية» التي صدرت عن « أهل الحل والعقد في الإمارة» بتوقيع الملا عمر، وتناولتها وسائل الإعلام بتاريخ 27/9/2009. وفعليا تبدو اللائحة كدستور مؤقت تم تنقيحه استجابة لـ (1) واقع الجهاد الأفغاني، و(2) الإجابة على تساؤلات ملحة تتعلق بالحقوق الاجتماعية والفردية، بالإضافة إلى: « ضمان تعليم الإناث في إطار ما تسمح به تعاليم الشريعة الإسلامية»، و (3) ضبط العلاقات الدولية للحركة بما فيها: « استعداد طالبان للتعاون مع الأمم المتحدة واحترام حقوق الإنسان ما لم تتعارض مع النصوص الإسلامية». ومن الطريف التنبيه إلى أن ما نشرته وسائل الإعلام العربية عن اللائحة، وخاصة « قناة الجزيرة»، اقتصر على التعريف بالجانب الميداني الذي اهتم بالتوجيه الشرعي للمجاهدين في مسائل الأسرى والرهائن. بينما ركزت صحيفة « التلغراف» البريطانية (29/9/2009) على التعديلات المتعلقة بالجوانب الشرعية.

في 15/10/2006 بثت الهيئة الإعلامية لـ « مجلس شورى المجاهدين» في العراق شريطا مرئيا أعلن فيه « حلف المطيبين» قيام « دولة العراق الإسلامية» بإمارة أبو عمر البغدادي ( حامد الزاوي). وحدد الشريط ستة محافظات عراقية من أصل ثمانية عشر محافظة وهي: بغداد والأنبار وكركوك وديالا وصلاح الدين ونينوى إضافة لأجزاء من محافظتي بابل وواسط كمناطق للدولة الوليدة، بما يعادل، تقريبا، مساحة دولة المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أشار الشريط.

لم يكن الإعلان عن الدولة « كرتونيا » كما روج البعض، بل كان حقيقة واقعة تعكس سيطرة العسكر على الأرض، مدعوم بعدد من مؤسسات الحكم، كالقضاء، والمال، وإعلام، والاقتصاد، والزراعة، والتشغيل. كما أن الإعلان لم يكن خطأ من حيث التوقيت أو القدرة على التنفيذ. فقد سيطر المجاهدون على مساحات شاسعة، وحازوا ثروات واسعة، ونسجوا علاقات عميقة مع السكان وشيوخ القبائل. ولا شك أن هذا الوضع يحتاج إلى إدارة وإلا أفلتت الأمور وسادت الفوضى. ولعل هذا، بالضبط، ما يفسر كلمة البغدادي في خطابه الصوتي: « دولة الإسلام باقية – 23/6/2008» لما قال: « إن الثمرة سقطت سقوطا حرا فالتقطناها قبل وقوعها في الوحل»!!

لكن الخطأ ربما كان في: (1) عدم تقدير أو توقع رد فعل الخصوم في الداخل والخارج، و (2) السرعة الرهيبة في الانقضاض على الدولة الوليدة وليس العجلة في إعلانها، و (3) طبيعة المجتمع العراقي الشهير بالخصومات التاريخية، والأهم (4) الانقلاب المنظم للعديد من الجماعات الجهادية على الدولة الوليدة ومحاربتها.

في المحصلة؛ فإذا كانت حركة طالبان حظيت ببضعة سنوات، فإن « دولة العراق الإسلامية» لم تحظ بأية فرصة على الإطلاق لاختبار التجربة، بحيث يمكن الوقوف بدقة على أسباب النجاح أو الفشل. لكن أيا كانت الأسباب أو النتائج، فما حصل في العراق مثّل بالنسبة لجماعات أخرى لحظة تقييم باهظة التكاليف لتدارك الأخطاء في مناطق أخرى، كما فعلت « حركة طالبان - باكستان» و« جماعات تطبيق الشريعة» في منطقتي وادي سوات ووزيرستان، وبصورة ملحوظة وقوية في الصومال على وجه الخصوص، حيث تسيطر « حركة الشباب المجاهدين» على ما نسبته 90% من وسط وجنوب البلاد، أو ما يجري في اليمن من محاولات حثيثة لتطبيق الشريعة في بعض مناطق الجنوب خاصة في محافظتي أبين والضالع.

هذه الأخطاء أو العوائق لم تسلم منها « إمارة القوقاز» بقيادة دوكو عموروف، والتي فقدت الكثير من قياداتها في الشهور القليلة الماضية. ولا شك أن الخسائر المؤلمة، خاصة لما يكون ثمنها باهظا في الأرواح والقيادات، تساهم في تراكم المزيد من الخبرات للتعامل مع الظروف المفاجئة أو المشاريع المقبلة.


حوصلة


الأكيد أن تطبيق الشريعة مسألة حيوية لا يمكن إحالتها إلى قرار سياسي أو مرسوم أميري، ولا هي مجرد أمنية أو رغبة رغم أن الحكم الشرعي ملزم، والعمل به عبادة وتقرب إلى الله. والأكيد أن الفشل أو العجز لا يصح رده إلى العامة من الناس لاسيما وأن الخلافات واقعة في صلب التيارات والقوى الناشطة وحتى بعض الدول.

فقد نقع على دعوات تستعمل « تطبيق الشريعة»، سلبا أو إيجابا، لتحقيق أهداف سياسية، مثلما فعلت السودان لما ألغت تطبيق الأحكام الشرعية طمعا في تفاهم سياسي مع الجنوب. لكن حين غدا الجنوب على محك التقسيم صرح الرئيس السوداني عمر البشير أنه سيعلن تطبيق الشريعة إذا ما صوت الجنوبيون، في الاستفتاء، لصالح الانفصال عن الدولة المركزية.

وقد نقع على دعوات تدافع عن شريعة مطبقة لكنها في الواقع أقرب لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: « إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، [ رواه البخاري]. ودعوات ترى أن الحرية تسبق تطبيق الشريعة، فلما شعر أصحابها بما يرونه حرية طالبوا بالدولة المدنية متخذين من المثال التركي نموذجا يقتدى!!! فما شأن تركيا بتطبيق الشريعة؟

ودعوات تقع في صلب « السياسة الشرعية» كتلك التي لا تنكر تطبيق الشريعة لكنها تنادي بـ « التدرج » أو « التمكين». لكن فيما بدا للبعض دعوى وجيهة إلا أن واقع الحال يطفح بتصريحات مغايرة، وممارسات خارج أية مسؤولية شرعية، فضلا عن أن دعوى التدرج لا سابقة لها في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي وضع دعاة « التدرج »، موضع شك، فهم أقرب إلى التنصل من أي التزام، ناهيك عما يراه دعاة « التمكين» من اكتمال للشريعة التي ينبغي تطبيقها دفعة واحدة لا أن يتم التعامل مع أحكامها وكأنها ما زالت تنزل.

أما الحركيين الذين يقرؤون « التمكين» في صورة أغلبية عبر صناديق الاقتراع، فيبدون أكثر حرارة ومصداقية من دعاة « التدرج » وأقرب إلى الشرعيين لكنهم يفترقون معهم على مشروعية الوسائل المستخدمة في الوصول إلى غايات شرعية. لكن بند « شرعية الوسائل» ليس واضح المعالم إذا ما طبق في قضايا العلاقة مع الدولة.

الواقع يقول أنه ثمة مسافة زمنية شاسعة بين الناس والحكم الشرعي قد تصل إلى أكثر من 300 سنة، وثمة عشرات الأجيال لم تعش يوما ما في مجتمع إسلامي، ولم تعد تدرك أي معنى للأحكام الشرعية، وبالتالي فهي لا تشعر، واقعيا، بأية قيمة للشريعة فيما توفره لها من منجاة وعدالة وأمن، وثمة قطاعات واسعة جدا في المجتمعات العربية لا تعرف من الإسلام أكثر من الانتماء إليه ولادة. فقد ورثت الإسلام حضارة وهوية شخصية ولم ترثه شريعة. لذا ثمة فرق بين أن نتساءل مثلا: « هل نحن معنيين برأي الناس في تطبيق الشريعة»؟ أو: « هل من الضروري أن نفكر كيف يمكن إعادة توطين الإسلام حضارة وتاريخا وشريعة وحياة في المجتمع »؟

ولا شك أن للعبارة: « رأي الناس في تطبيق الشريعة» مذاهب شتى، لا يجوز حملها فقط على أطر غير شرعية تنتهي بالمفاضلة بين الشريعة وغيرها من المذاهب الوضعية. كما أنه لا يصح توجيه مذاهب « العبارة » لخدمة أغراض ومصالح لا شرعية.

إذا كان للحكم الشرعي أن يجد له مكانا يمكن أن يُحدِث أثرا ملحوظا في الأمة، فلا مفر من اجتهادات معاصرة ودراسات عميقة تقع في صلب السياسة الشرعية، وتأخذ على عاتقها تَفَقُّد الواقع من جميع جوانبه للكشف عن كل خباياه. فحتى الآن لا تمتلك أية جماعة أطروحة مفصلة وواضحة وشاملة حول تطبيق الشريعة، ولا إجابات عن أية مشكلة أو عائق، ولا عن كيفية التغلب عليها. وكلها تعمل بمقتضى ما هو متوفر!! فتارة تراها على وفاق مع النظام، وإذا توفرت الانتخابات عملت بها، وإذا ساد الاستبداد خضعت له، وإذا ظُلمت أو هددت بالسجن هاجرت إلى المنافي، وإذا تصالحت مع النظام عادت إلى مواطنها .. هكذا هي .. لم تضف جديدا يقبل الاجتهاد أو التفكير بقدر ما كانت جزء من ذات المنظومة.

وفي المحصلة فإن كل ما هو متاح، في أحسن الأحوال، حكم شرعي على الواقع، يقبله البعض وينكره آخر. ومع ذلك فقد لاقى نجاحات محدودة، لكنه لم يحمل الأمة على دينها، ولم يقو على ردع الأعداء والخصوم عن المس بأعظم مقدسات الأمة وحرماتها وصولا إلى التجرؤ على الله عز وجل. يحدث هذا والأمة في قلب عاصفة شعبية طاحنة لا تجد من القوى الإسلامية من هو قادر على استثمارها في نصرة دين الله. فإلى الله المشتكى.



********************************
حلقات سابقة


(1) القاعدة ومدنية الثورات
(2) صراع « المركز» و « الهامش»
(3) أشرار الثورات والأمة
(4) « إسرائيليو الثورات والأمة »
(5) ثورات مهاجرة




نشر بتاريخ 12-07-2011
المراقب للدراسات والابحاث الاجتماعيه
  #7  
قديم 14-07-2011, 06:46 AM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي





اقتباس:
واقع الحال أن غياب العمل بأحكام الشريعة نجم عنه، أو تلازم مع:

• استهداف دين الله ورسله وأنبيائه وعباده وحرماته، ومع استبدال الأحكام الشرعية بالأحكام الوضعية،
• التسابق على ما يسمى بالشرعية الدولية والتقيد بأحكامها والاستعانة أو الاستدلال والاحتجاج بها،
• التهديدات الخارجية لبلاد المسلمين،
• الاختراق الثقافي الأجنبي للمجتمعات الإسلامية،
• تغول الأقليات الإثنية والقومية،
• الانحراف العقدي،
• الدعوة إلى تجاوز الدين باعتباره ماض لا يصلح لوقتنا الحاضر،
• الطعن في التاريخ الإسلامي،
• سيادة الطوائف والفرق المنحرفة التي تنسب نفسها للإسلام،
• موالاة أهل الكفر والشرك والزندقة والإلحاد أو الاستعانة بهم على أهل الإسلام،
• سيادة الاستبداد، وعبادة الفرد،
• شيوع الفساد والظلم وضياع الحقوق،
• ظهور الفاحشة والزنا،
• القعود عن الجهاد،
• الصراعات المحلية وسفك الدماء،
...................................
  #8  
قديم 16-07-2011, 04:36 AM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي

عجبتنى فكرةالمركز والهامش التى تناولها د/أكرم في هذه المقالات...وأتمنى من الجميع قرأته فلن نجد مثل هذا الكاتب في زماننا ...بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
  #9  
قديم 30-07-2011, 10:53 AM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي



تأملات في شريط العاصفة الشعبية


الفاضحة


(7)


د. أكرم حجازي


29/7/2011






الحقيقة الاجتماعية للثورة

(2)





كما يقولون فإن حسابات الحقل غالبا ما لا توافق حسابات البيدر. إذ كيف لسماسرة الثورة السورية، المرشحة مراهناتهم للخسارة، أن يتجاهلوا الشعب السوري باعتباره الفاعل الأعظم فيما يجري؟ وكيف لهم أن يطلقوا يد النظام الوحشية ضد العزل من الناس، طمعا في احتياجاتهم ومصالحهم، دون أن يقرؤوا ما حل بأعماق النفس السورية من ظلم ومهانة وذل وقهر لا تمحوه المصالحات، ولا مؤتمرات المعارضة، ولا إصلاحات وهمية، لا يجرؤ النظام على الوفاء بأدنى مطالبها؟ وكيف فات هؤلاء أن مشاريعهم لا بد وأن تصطدم باستحالة التعايش مع النظام؟

فالشارع يدرك، منذ اللحظة الأولى، أنه لا يخوض ثورة فحسب بقدر ما هي ملحمة ذات فصول متعددة مركزها المشروعين الصفوي والصهيوني. وهذا أدعى إلى القول أن ثورته تجاوزت إسقاط النظام السياسي برمته، فضلا عن القول أنه تجاوز الوساطات والحوار، والرغبات الإقليمية والدولية، ومؤتمرات المعارضة في الداخل والخارج. فالمعركة لم تعد مع هؤلاء بل مع إيران وإسرائيل وأدواتهما وجها لوجه، في سوريا كما في المنطقة. فهل يمكن حقا القفز على معاناة الشعب السوري؟ وهل يمكن التعايش مع النظام؟


العيش المشترك!!!


قد ينجح أصحاب الصفقات في الاتفاق على وأد الثور. لكن كيف يمكن لصفقة من هذا النوع أن تنجح دون أن يضع فاعلوها بعين الاعتبار قامات، ومكانات، ولحى، وأهل علم ومعرفة وخبرة، دُنِّست وانتُهكت كرامتها، وقُهِرَت حتى عجزت واستسلمت لبكاء مرير، بعد أن أعيتها كل حيلة مع نظام لا يملك أخلاقا ولا مبادئ ولا عقيدة؟ فهل جرّب هؤلاء قهر الرجال ونحيبهم!!؟ كيف غفل هؤلاء عن شعب يصرخ، بشبابه وشاباته وأطفاله ونسائه وشيوخه وكل فئاته وطوائفه وقومياته، بشعارات عجيبة من نوع: « الموت ولا المذلة» أو « الشعب السوري ما بينذل» أو « عالجنة رايحين شهداء بالملايين»!!! فما الذي يدفع شعب إلى تمني الموت أو الشهادة على الحياة في ظل النظام السوري؟ كيف عجز هؤلاء عن تفسير قابلية السوري لدفع حياته ثمنا لقاء لحظة هتاف تشعره بالحرية في مظاهرة مميتة؟

في 23/7/2011 قالت بثينة شعبان، مستشارة الرئيس السوري، أن ما يجري في البلاد هو استهداف لـ « نموذج العيش المشترك»!!! فعن أي نموذج تتحدث المستشارة؟ عن نموذج عيش صنعه النظام السياسي ليلائم نزعته الطائفية؟ أم عن نموذج أحرق النظام الاجتماعي بنار الطائفية التي اكتوى بها كل فرد في سوريا من شتى مكونات المجتمع العرقية والاثنية؟

فالمواطن السوري عايش نموذجا طائفيا بكل ما تعنيه الطائفية من امتيازات في التعليم والسكن والعمل والاستثمار والاقتصاد والتجارة .. وخبر التمييز على امتداد جيلين .. وهو الذي عايش الملاحقة الأمنية في دينه ومساجده من نظام يكره لا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر، ولا يعرف وزراؤه وأركانه كيف يؤدي أحدهم فريضة صلاة (3) .. وهو الذي عايش نظاما اشتهر بالابتزاز والرشوة والإهانة والتزكية الأمنية .. وهو الذي عايش نظاما لا يعرف للحرمات أو الأخلاق والمبادئ سبيلا، بقدر ما عاث في الأرض فسادا، وزنا، وفاحشة، ورذيلة .. وهو الذي عايش نظاما قاتلا لا يرحم طفلا، ولا امرأة، ولا شيخا، ولا عجوزا، ولا شابا، ولا فتاة، ولا يتوانى أن يفتك بعشرات الآلاف من البشر دون أن يرتد له طرْف .. وهو الذي عايش التعذيب بأعظم ألوانه وأشكاله، مما لا يخطر على قلب بشر .. وهو الذي عانى من فَقْد أبنائه وتشريدهم في المنافي دون أن يعرف لهم طريق، أحياءٌ هُمْ أم أموات .. وهو الذي خبر .... فأي عيش مشترك هذا؟ وأي تخريف؟


دموية وأحقاد وكفر بلا حدود


ما من أحد إلا واستفزته الابتسامات الناعمة للرئيس السوري لدى دخوله ما يسمى بمجلس الشعب، والتصفيق المستمر، والتبجيل العظيم له، وكأنه الدماء المهراقة ومصائب الناس في فلذات أكبادها ليست سوى قرابين تٌقدّم لـ « حيدر» ممن هم أقرب إلى النفاق من أي شيء آخر، أو من « الجراثيم» التي يعتاش عليها النظام. وما من أحد إلا واستفزته مواقف الغالبية الساحقة من الفنانين السوريين وهم يدافعون الجيش السوري المسؤول عن حفظ السلم وليس عن تحرير الجولان (4)، أو يرددون اسطوانة النظام في وصفه للثوار بـ « الحثالة» أو « المندسين» أو « المخربين» أو « العصابات» أو ... إلخ ومع أن هذه الشريحة من الناس تلائمها، في مجتمعاتنا، مثل هذه النظم، إلا أن المغالاة في التنكر للشعب السوري وإهانته، لا يمكن ردها إلى الغدر والنفاق دون النظر في حجم الرعب وفظاعة العاقبة من نظام يسعى لانتزاع الشرعية تحت وقع السيف. أما ابتسامات فخامة الرئيس، ومظاهر التواضع والحنان والأبوية التي يحرص على إبدائها، وتلك التي فعلها والده من قبل، فمن السهل معاينة مفاعيلها في أعظم الجرائم التي نفذتها قوى النظام داخل سوريا وخارجها.

خلال الثورة، فقط، أمكن لعشرات الملايين من البشر أن يكتشفوا، عبر شرائط « اليوتيوب»، قبل إزالة الكثير منها، ما وظفت الحكومات السورية المتعاقبة كل طاقاتها لإخفائه طوال عشرات السنين. فقد عاين الناس مشاهد وحشية لتعذيب الأطفال (5) والشبان (6) والفتيات والعجائز(7) والأئمة (8)، وقتلهم بأبشع الصور (9)، إما عبر شق رؤوسهم أو حرقهم أو سلخ جلودهم أو التمثيل بأجسادهم وقطع أرجلهم (10) وأعضائهم أو شنقهم (11)، فضلا عن حفلات ضرب جماعية (12) بالغة القسوة والوحشية لمواطن وقع تحت سطوة عشرات الهراوي والعصي الغليظة. كما عاينوا صنوف الإذلال والقهر والاغتصاب (13) والسرقة والنهب (14) وتخريب البيوت وتدمير محتوياتها وحتى قطع الأشجار وقتل الماشية. وعرضت مواقع الفيديو على الشبكة أشرطة مرئية لأعمال بلطجة قام بها الشبيحة ضد الباعة (15) وشرطة المرور (16).

ولا شك أن الكثير توقفوا عند نماذج من الأشرطة اتسمت بانحطاط أخلاقي (17) لدى شبيحة النظام ومؤيديه. لكن مثل هذه المشاهد وغيرها لا يتوقف عندها أولئك الذين وصفوا الثوار والشعب السوري بـ « الحثالة» بقدر ما يتوقفون عند كلمة « التوحيد» أو « التكبير» كما فعل أحد الأساتذة الجامعيين حين ظهر على « قناة الجزيرة»، وهو يتميز غيظا من صيحات « الله أكبر»، بحجة عدم الخلط بين المطالب السياسية والدين!!!

لكن ما رأي أمثال هؤلاء، الذين لا يرون حتى بعين واحدة، بأغرب المشاهد المرئية لأتباع النظام، وأشدها صدمة، حين اتخذوا من الكفر سبيلا للعزة والفخر، واستبدلوا ربوبية الله سبحانه وتعالي بربوبية الأسد (18)، والسجود (19) له؟ أو لمّا تطاول (20) أحد المجرمين المارقين على الله عز وجل بأبشع الألفاظ وأحطها؟ وما رأيهم فيما أوقعته أيدي قوى الأمن من تدمير للمساجد (21) وتمزيق وحرق لكتاب الله خاصة في درعا ودمشق، واعتداءات على المصلين وسب الله (22) في قلب المساجد في حلب؟ وما قولهم في قصف الأمن لمسجد باب السباع في حمص وتدمير مئذنته (23)؟ وكيف لهم أن يعاينوا ما فعله الشبيحة لدى اقتحامهم مسجد آمنة (24) في حلب؟ أو إجبارهم لأهل درعا على القول: « لا إله إلا بشار»؟ وماذا سيفعلون بأهل حمص الذين انتصروا لدينهم وأهل درعا بـ «لا إله إلا الله» (25)؟

ليس ثمة مجال لعرض المزيد من المشاهد العنصرية والاستخفاف والاستعلائية (26) لبعض رموز النظام، فضلا عن الكذب الحكومي، والإعلام الرسمي والمناصر، الذي تخرّ من هوله فجوره الجبال. لكن السؤال المحير: ما الذي يجعل نفر من الناس ينحدر إلى الدرك الأسفل من الأخلاق (27) ويفضل ربوبية بعضه على ربوبية الله؟ وفي أي تصنيف علمي أو أخلاقي أو إنساني أو حتى حيواني يمكن إدراج هذا النوع من الحقد والجنون؟ وما هو مصدره؟ وما الذي يبرر هذا القدر الرهيب من الوحشية والعنف ضد أناس كل ما يملكونه صيحة احتجاج؟ وما الذي يجعل الحياة في غابة، تتعايش فيها أألف الحيوانات وأشدها ضراوة، ممكنة وأكثر أمانا، بينما تبدو مستحيلة في ظل النظام السوري؟


النصيرية أسّ الأحقاد


التاريخ السياسي للنصيرية وتحالفاتها مع أعداء الأمة لا يختلف عن تاريخ الشيعة الجعفرية الاثنا عشرية، التي تبدو، ويا للمفارقة، على درجة من الورع والتقوى، بالمقارنة مع شدة غلو النصيرية. فلطالما حالفوا الطرفان التتار ومكنوا لهم وكذا الصليبيين في احتلالهم لسواحل بلاد الشام وصولا إلى القدس، وأخيرا للفرنسيين الذين مكنوا الطائفة من الحكم في سوريا. لكن يبقى التاريخ الاجتماعي لها هو الأشد ضررا على المجتمع والدين، كونه يفتقد لأدنى شروط العيش المشترك. الأمر الذي جعل الطائفة، المنبوذة اجتماعيا، تتخذ من الجبال موطنا لها، وتتحرق طوال الوقت شوقا للنزول إلى المدن والاستمتاع بما توفره من سهولة في المعيش. أما لماذا هي منبوذة؟ فلأن عقائدها تخلو من أية استقامة شرعية أو عقلية أو أخلاقية توفر لها قدرا من الاحترام وعلاقات التآلف الطبيعية بين البشر. فهي، بحسب مصادر شرعية وفقهية ترجع لابن تيمية وأبو حامد الغزالي وبعض علماء الجزيرة، مزيج مكون من أصول دينية وفلسفية تتداخل فيها الديانات السماوية والوثنية والوضعية والأهواء والرغبات دون أن تفقد صفة الإلحاد!!!

هنا، في صلب العقائد النصيرية، يمكن الوقوع على إجابات قوية لكل الضغائن والأحقاد والسلوك الوحشي الذي يمارسه النظام ضد المجتمع والدولة. فالنصيرية التي أسسها محمد بن نصير النميري في أواسط القرن الثالث الهجري حين ادعى النبوة:

• تؤمن بالحلول والتناسخ. فالله، سبحانه وتعالى، حلّ وتجلى، على مر الزمان، عددا من المرات في صورة مخلوقاته. فقد تجلى في صورة علي رضي الله عنه، وفي عدد من الأنبياء كـ ( شيث، سام، إسماعيل، هارون ). وأن عليا خلق محمدا، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الأيتام الخمسة، الذين بيدهم مقاليد السماوات والأرض، والموت والحياة، وهم: المقداد - أبو ذر الغفاري- ، عبد الله بن رواحة، عثمان بن مظعون، وقنبر بن كادان. وهذا هو ثالوثهم العقدي الذي يرمزون له بالأحرف الثلاثة: «ع، م، س»، وتعني عندهم: ( ع ) : الرب والإله، ويسمى المعنى، وهو الغيب المطلق، و( م ): صورة المعنى الظاهر، وترمز لمحمد صلى الله عليه وسلم، و( س) صورة المعنى الظاهر أو طريق الوصول للمعنى، وهو سلمان الفارسي. وتبعا لذلك فقد انتقلت الربوبية إلى الإمام أبي الحسن العسكري (الإمام الحادي عشر)، وهو الذي بعث النميري نبيا.

• تؤمن بإباحة نكاح المحارم، ونكاح الرجال بعضهم بعضا. وزعم النميري بأن ذلك من التواضع والتذلل، وأنه أحد الشهوات والطيبات المباحة من الله عز وجل!!!؟ كما تعتبر النصيرية شجرة العنب مقدسة، وبالتالي فالخمور من ذات الصفة.

• تؤمن بأن الجنة والنار هي الحياة الدنيا، وبالتالي لا تعتقد باليوم الآخر ولا بالحساب ولا بالجنة ولا بالنار.

هكذا، لا يحتاج المرء كثيرا من الجهد كي يجد تفسيرا لمظاهر الصور والتماثيل الضخمة، المنتشرة في أحياء المدن السورية وريفها، وفوق المؤسسات العامة والخاصة، وفي الساحات، وعلى جوانب الطرق، بصورة تدعو للدهشة، لمن لا يدرك أن هذه المظاهر تعكس، في الحقيقة، مزاعم الربوبية لدى الطائفة، التي ترى اليوم، في الرئيس بشار الأسد، ما رأته بوالده من قبل. وفي هذا أيضا تفسير لما احتوته الأشرطة المرئية، من تغني بربوبية الرئيس. أما سلوك الأمن السوري في إجبار الناس على التلفظ بتوحيد الأسد على توحيد الله سبحانه وتعالى فهو أقرب ما يكون إلى محاولة قسرية لحمل الناس على الإيمان بما يعتقدون.

إذا كانت الدنيا هي الجنة والنار، والرئيس هو الإله المعبود، فما من أحد له الحق في الاعتراض على مشيئة الرب. وما من أحد يمكنه منع النظام من ارتكاب الموبقات، وما من أحد يمكنه معاقبته!!! هذه هي الحقيقة التي يعرفها السوريون أكثر من غيرهم من أمم الأرض. لكن هل يعلم أفراد الطائفة بحقيقة معتقداتهم؟

أظن أن تجارب الحوار مع العامة من الطوائف لا تكذب. فلما كنا نناقش عامة الشيعة، مثلا، فيما يعتقدون كانوا يستعجبون مما نقول، ويشعرون بالإهانة. وفي إحدى المرات تعرفنا على شاب درزي كان يصوم الاثنين والخميس!! فغلبنا الفضول وفاتحناه بشأن عقيدته، فأبدى قدرا كبيرا من الغضب والغرابة. وهذا مؤشر على أن العامة لا تدرك ما تخفيه عقائدها. فزواج المتعة مثلا، بخلاف إيران، ظل خفيا في لبنان والعراق، أو محصورا في أطر صيقة، لكنه، كمعتقد، استحضر، بعد احتلال العراق، على نطاق واسع، في الحسينيات والمؤسسات وعلى المنابر ووسائل الإعلام والفضائيات، إلى أن غدا كارثة أخلاقية واجتماعية حتى في لبنان. المهم في القول أنه، وكأي جماعة باطنية، فإن العقائد غالبا ما تبدأ بالانكشاف كلما تعاظم الشعور بالقوة والتمكين.

هذا يعني أن العامة من النصرية، كالدروز مثلا، ليسوا مؤهلين للاطلاع على حقيقة مذهبهم إلا في حدود معينة. لذا قد نجد من بينهم من يصوم ويصلي رغم أنهم لا يصلون صلاة أهل السنة، ولا يرِدون مساجدهم، ولا يحجون البيت الحرام، ولا يلتزمون حدّا أو محرم. أما كبراء النصيرية وقادة الطائفة فهم على علم بعقائدها وأهدافها. وفي أسوأ الأحوال فإن ما يخفى من العقائد يظهر عادة في السلوك اليومي كثقافة على صورة عادات وتقاليد وأعراف وقيم. لذا تراهم في سوريا منكشفين أخلاقيا، ومنهمكين منذ عقود، في توطين عقائدهم اجتماعيا في صورة احتكار السلطة، وربوبية الرئيس، ووحشية الأمن، والتمتع بمعيار الامتياز حيث تواجدوا، والرشوة، والابتزاز، واستحلال المحرمات وإشاعتها، وانتشار الملاهي الليلة. ولعله من الطريف القول بأن تخزين الخمور وتعتيقها، أحب إلى الطائفة من الخزين الغذائي السنوي!!! ولمّا يكون هذا حالهم منذ عشرات السنين، فمن الأولى القول أن الأزمة الراهنة كشفت أغلب عقائدهم على الملأ.

في المحصلة، فإن الطائفة تشعر أنها تعيش مجدها في هذا الزمان. وعليه فإن العامة والخاصة معنيون ببقاء النظام، كونه يوفر لهم مجدا وعزة لم يحلموا بهما تاريخيا. فهي المرة الأولى التي يظفرون بها في الحكم. ولأنهم يعتقدون بأن الدنيا هي الجنة والنار، حيث لا حسيب ولا رقيب ولا رادع، فمن الطبيعي أن يلجؤوا للدفاع عما يعتبرونه مكتسبات لا يمكن التفاوض عليها. لذا لا يخلو الأمر من تأمل حين تقول المعارضة السورية أن النظام يحاور نفسه!!! أو حين يقول البعض الآخر أن النظام لا يمكن له أن يصالح، أو حين يؤكد السوريون أن المصالحة مع النظام مستحيلة!!!

أما أن الطائفة حليفة لليهود فهذا ليس بالأمر الجديد .. وبعيدا عن الموقف الشرعي من الطائفة وتاريخها، فلنترك الحديث، بلا تدخل منا، لإحدى وثائق الخارجية الفرنسية، والتي تحمل الرقم (3547)، والمؤرخة بـ 10/6/1936. وهي العريضة التي رفعها « زعماء الشعب العلوي»، كما أسماه سليمان المرشد، إلى حكومة الانتداب الفرنسية:

{ « دولة لين بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية:

إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس، هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم (السني) ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من الداخل.

إننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين !! وأن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام، ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرفاه! ولم يوقعوا الأذى بأحد، ولم يأخذوا شيئا بالقوة، ومع ذلك أعلن المسلمون ضدهم الحرب المقدسة بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا، إننا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم للدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله، ولكن سوريا لا تزال بعيدة عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين.

ونحن الشعب العلوي الذي مثَّلَه الموقِّعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله، وهو واثق أنه لابد واجد لديهم سندا قويا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة.
التوقيع:
سليمان أسد (جد رئيس الجمهورية الحالي حافظ الأسد) ، محمد سليمان الأحمد ، محمود أغا حديد ، عزيز آغا هواش ، سليمان مرشد ، محمد بك جنيد »}.


لهذا فالسوريون يدركون، أكثر من غيرهم، أنهم يواجهون مشروعي الصفوية والصهيونية معا. ولأنهم يدركون أيضا أن ما حل بأهل السنة في العراق، من غدر، ليس عنهم ببعيد .. ويعيشون مشاهد مماثلة لقتلاهم في مختلف الأعمار، وهي: مشوية أجسادهم، أو ممزقة أشلاءهم، أو متفجرة رؤوسهم، أو مسلوخة جلودهم، أو مقطعة أعضاءهم؛ فإن المنطق الوحيد السائد بينهم، صغارا وكبارا، وعلى اختلاف قومياتهم، هو منطق الاستمرار في الثورة. إذ: « ما دام فينا عرق ينبض فلن نسمح أن تثقب أجسادنا وتفقأ عيوننا وتغتصب نساؤنا كما حدث في العراق».


ثورتين لا ثورة


(3)



في الخمسة أيام الأولى للثورة السورية، لم يكن ثمة شعارات وصيحات إلا الانتقام من الطائفة النصيرية. وبعد ذلك اختفت هذه الدعوات إعلاميا، حتى أن صفحات الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي تبرأت منها. وحذر الكثير من خطر الانجرار إلى مربع النظام .. فالسوريون يعلمون أنهم ليسوا بحاجة إلى تصفية حسابات طائفية مهما حاول النظام فرضها، عبر الاستفزازات الأمنية أو السياسية أو عبر الجيوب النصيرية في المدن السورية ذات الكثافة السنية. كما يجهدون في تجنيب البلاد والمنطقة خطر الانزلاق في حرب طائفية .. ويصرون على سلمية الثورة وحتمية التعايش مع الطائفة بعد زوال النظام. لذا فهم حذرون من توتير الحياة الاجتماعية حاضرا ولاحقا.

هذه هي الواجهة الإعلامية البارزة للثورة السورية. لكن استنكاف العاصمة – دمشق ومدينة حلب، ذواتا الكثافة السكانية العالية جدا في البلاد عن الانحياز للثورة، كما بقية المدن، أوقع بعض المخاوف، في النفس، من قدرة النظام على احتواء الثورة سياسيا أو أمنيا. ولو أمعنا النظر جيدا في مسار الثورة السورية لتبين لنا قبضة الدولة ارتخت إلى حد كبير بسبب استنزاف النظام لكافة أوراقه الأمنية التي بدأت في استخدام قوى الأمن والشبيحة وانتهت بالدبابات والطائرات. فما الذي بقي للنظام ليستعمله ولم يفعل؟ وهل ثمة ما يبرر المخاوف؟

الثابت أن التوسع التدريجي للثورة جغرافيا وديمغرافيا يُحسب في صالح الثورة، التي لم تستهلك ذاتها، وليس عليها. فبالمقارنة مع الثورة اليمنية، التي تعاني جمودا رغم الكثافة البشرية الهائلة، تبدو وقائع الثورة السورية، في كل جمعة، كما لو أنها انطلقت للتو!!! فهي لم تستنفذ رصيدها الديمغرافي ولا رصيدها الجغرافي. فكيف لو انحازت ملايين دمشق وحلب إلى الثورة وخرجت على الشارع؟ فهل سيكون بمقدور النظام احتوائها.

المؤكد أنه لن يستطيع أبدا. ففي سوريا اليوم ثلاثة مناطق شبه محررة بالكامل. وهي حماه ودير الزور والبوكمال. فبعد مذبحة درعا التي خسر فيها السكان بحسب بعض الشهادات آلاف القتلى والجرحى، ممن دفنوا في مقابر جماعية، مقابل المئات من أفراد الشبيحة والجيش؛ نجحت هذه المدن بتحصين نفسها من الداخل كي لا تتكرر المأساة. فأغلقت الطرق بالمتاريس، ونشرت الحراسات واللجان الشعبية في الأزقة والشوارع، ونجحت في طرد أو تصفية العملاء والمخبرين فيها، ومنعت الأمن والجيش من اقتحامها، وهددت الرئيس السوري بمذبحة دموية إذا ما أقدم على اقتحامها. ثم زجت، وبقدر كبير من التحدي، بأكثر من مليون ونصف المليون في ساحاتها في الجمع السابقة، وسط هتافات وأهازيج في حماه (28) و دير الزور (29) ألهبت السوريين وكل من سمعها من العرب.

والحقيقة أن لهذه المناطق ميزات خاصة. إذ من غير المتصور بالنسبة لحماه أن تتكرر مذبحة عام 1982 التي ذهب ضحيتها نحو 40 ألفا من السكان. فللمدينة مع النظام جروح لا تندمل، وثارات عصية على النسيان. ولم تكن زيارة السفير الأميركي للمدينة لتضيف شيئا يذكر على واقع الحال. فلا هي استدعته ولا النظام منعه من الزيارة بقدر ما حاول استغلالها للطعن، عبثا، في نظافة الثورة السورية.

أما مناطق الدير، فالنظام يعرف قبل غيره، أنها مناطق الخط الأحمر الذي يصعب الاقتراب منه أو استفزازه. فالمنطقة محافظة جدا، وذات تركيبة قبلية على صلة وثيقة مع قبائل العراق من حيث المصاهرات، وحتى من حيث وجود السلاح التقليدي واستعماله، فضلا عن خبرة الأهالي في دروب المنطقة، وعلاقاتهم مع جماعات الجهاد في العراق لاسيما في منطقة الموصل. بل هي المنطقة الأكثر حصانة في أي صراع طائفي محتمل. ولعل في هذا ما يفسر إلى حد كبير سقوط بضعة شهداء في المنطقة طوال أشهر من الثورة، بخلاف المناطق الأخرى التي فقدت المئات من أبنائها في لحظات غدر مارستها قوى الأمن والشبيحة والفرقة الرابعة.

لكن، مقابل الثورة المدنية، ثمة ثورة خفية يديرها الجيش، وتلعب مع النظام بما يناسبه. ثورة وقائعها طاحنة دون أن يكون لأي طرف منها مصلحة في الإعلان عنها. هذه الثورة يدركها السوريون بأدق تفاصيلها، ومساهماتها في حماية الثورة واستمراريتها تبدو شبه حاسمة، في ظل الغياب الكبير لدمشق وحلب عن فعالياتها المدنية. ومع أن بعض الفضائيات، وربما بعض مواقع الثورة السورية، تلقت شرائط مصورة عن عمليات نفذتها وحدات منشقة من الجيش ضد الفرق الموالية للنظام والشبيحة، إلا أنها لم تجد طريقها للنشر، بحجة رفض شرائط تحتوي على مشاهد دموية للشبيحة، أو بسبب الخشية من المساس بسلمية الثورة على المستوى الإعلامي، طمعا في كسب المزيد من التأييد الدول!!!

ثورة الجيش بدأت في الإعلان عن نفسها عبر سلسلة من الشرائط المرئية لجنود وضباط انشقوا عن وحداتهم أو أجهزتهم الأمنية. أما أول الانشقاقات (30) الكبرى فكانت في مدينة درعا لدى دخول الجيش إليها، ورفض بعض الوحدات في الفرقة الخامسة أوامر صدرت إليهم بإطلاق النار على السكان. وبطبيعة الحال فقد وقعت اشتباكات طاحنة بين الفرقة الرابعة ومنشقي الفرقة الخامسة أسفرت عن مذبحة في الجانبين. بل أن كتيبة من الفوج 16، المرابطة بالقرب من مدينة الضمير، تعرضت قبل يومين من انشقاقها لقصف جوي (26/6/2011) أسفر عن مقتل العشرات من ضباطها وجنودها. لكن يبدو أن حركة الانشقاق كانت من القوة بما يكفي للإعلان عن تشكيل الأنوية الأولى لـ « لواء الضباط الأحرار» في منطقة إدلب، خاصة بعد انشقاق وحدات أخرى خلال صدامات جسر الشغور ومعرة النعمان شمالا.

ولا شك أن انشقاق الجيش في منطقة البوكمال (31) كان له وقع الصدمة على النظام. فقد التحمت الوحدات المنشقة مع السكان ( قرابة مائة عنصر من الاستخبارات الجوية، أعلى سلطة استخبارية في النظام)، ووجهت مدافعها نحو الوحدات المهاجمة. ولا شك أيضا أن سكان المدينة نجحوا في طرد قوى الأمن والشرطة منها واستولوا على مخازن السلاح فيها. ومن جهتها حاولت الدولة حفظ ماء الوجه فقامت بإنزال جوي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكنها في النهاية اضطرت للدخول في مفاوضات مع مشايخ وأعيان المدينة لتسليم الأسلحة وعناصر الجيش. أما السكان الذين وافقوا على تسليم الأسلحة فقد رفضوا بشدة تسليم أي جندي للنظام أو توقيع أيا من أبنائهم على تعهدات بعدم التظاهر أو معارضة النظام.

والحقيقة أن أعنف المواجهات وقعت في مدينة حمص كانت ليلة الخميس (7/7/2011)، قبل يوم من جمعة « لا للحوار». ففي حين ظهرت حماه بأشد ما يكون التحدي، كانت حمص أشبه ما يكون بالبركان الثائر تحت الرماد. إذ سربت مصادر في الجيش معلومات تفيد بأن طائرات نقل إيرانية مدنية صغيرة هبطت في مطار حماة الصغير، وأفرغت حمولتها من المعدات والأسلحة والجنود للجيش السوري، وحذرت من أن المدينة قد تتعرض لمجزرة. وفعليا تلقت فضائيات عربية الخبر، لكنها امتنعت عن نشره. وبعد يومين اتجه الجيش السوري فعلا لمحاصرة حماة، ودخلت عناصر أمنية إلى المدينة وقتلت نحو 27 مواطنا من بينهم المنشد إبراهيم القاشوش. مع ذلك لم يكن الهدف مدينة حماه بل حمص.

ففي منطقة حمص وقعت انشقاقات في الجيش لضباط مع جنودهم. وفي تلك الليلة (7/7/2011) نفذوا كمينا قاتلا في منطقة الرستن ضد حافلات تنقل المئات عناصر الشبيحة. الأمر الذي أثار غضب النظام، مما دفعه لمحاصرة حماة خشية لجوء الوحدات المنشقة إليها للاحتماء فيها، وشرع في التحضير لمواجهة طائفية مفتوحة تمكنه من التدخل بقسوة بدعوى وأد الفتنة الطائفية.

المعروف أن المدينة تعرضت على مرّ العقود إلى هجرة نصيرية باتجاهها، ضمن مسعى من النظام وكبراء الطائفة، لتحقيق تواجد سكاني كثيف، يسمح بتحويل المدينة، وقت الضرورة، إلى عاصمة للطائفة. لذا فهي تأوي أعدادا لا بأس بها من النصيرية. وهو ما يسمح للنظام، في مثل هذه الظروف، باستغلال هذا التواجد، وزجه في الصراع بحيث تصير المواجهات المدنية بين طائفة وطائفة وليس بين الجيش والمدنيين. ولا ريب أنها لحظة ضعف للنظام، تكشف عن حالة عجز في مواجهة انشقاقات الجيش أو الثورة المدنية. أما الفتنة فقد بدأت باختفاء ثلاثة أفراد من الطائفة، من سكان حمص، ثم ظهرت جثثهم يوم 16/7/2011 أمام منازل ذويهم. وبطبيعة الحال تم اتهام السنة بقتلهم، وبدأ النظام بعملية تحشيد طائفي لإنجاح الفتنة. وفي الليل دفع بفرق الشبيحة لمهاجمة المدينة (32) الذين غابا ما يمارسون ضربا وحشيا (33)، وحتى الموت (34)، حيث قاموا بعمليات تخريب واسعة، شملت نهب المحلات وتكسير السيارات وقتل الناس والاعتداء على مملكات السنة بينما الجيش والأمن يراقبان وقائع الهجوم وما سينتج عنه.

وفي خضم الهجوم تمكن الجيش وقوات الأمن من الدخول إلى كل حي في المدينة. وثمة أكثر من سبب يفسر المراهنة على الفتنة بين السكان. أولها الكثافة السكانية للنصيرية، والتي يمكن أن تعرقل الإجراءات الدفاعية للسكان أو تتسبب باحتكاكات طائفية. وثانيها، وهو الأهم، أن حجم المدينة كبير، بحيث يصعب تطهيرها كليا من العملاء والمخبرين كما حصل في مدن حماة والدير والبوكمال.

في ظل هذه الأجواء المتفجرة تناقلت وسائل الإعلام، عن شهود عيان، نبأ انفجارين وقعا فجر السبت (23/7/2011) في الكلية الحربية في المدينة بالتزامن مع سماع أصوات رصاص، ودخان تصاعد من المبنى. والطريف في الخبر أن السلطات السورية كعادتها نفت وقوع الحادث من الأصل، رغم أن طائراتها المروحية لم تفارق المنطقة!!! ورغم وجود شهود عيان نقلت عنهم وكالة « رويترز» للأنباء أنهم شاهدوا سيارات إسعاف وهي تتجه نحو المجمع في منطقة الوعر القديمة لنقل الجرحى باتجاه المستشفى العسكري فضلا عما قاله شاهد عيان: « يبدو وكأنها عملية من نوع ما» .. «عملية»، بحسب شهادات محلية متفرقة، نفذها 27 ضابطا سوريا، شارك فيها طلبة يمنيين وسودانيين، وأسفرت عن وقوع أكثر من 150 قتيلا بينهم 58 ضابطا من ضباط الكلية.

من جهتها علقت صحيفة « ديلي تلغراف – 24/7» البريطانية على الحادث، معتبرة إياه: » أول هجوم من نوعه منذ بدء حركة الاحتجاجات«، فيما ذكرت بعض المصادر أن الكلية تعرضت، بداية، إلى هجوم بقذيفتي RBJ من الخارج، بينما تحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان عن فرضية أن يكون الهجوم شنه « جنود تمردوا على الجيش بسبب الحملة الأمنية العنيفة في حمص»، مع الإشارة إلى: »معلومات عن فرار أكثر من 50 مجنداً من وحدات عسكرية بجانب الكلية الحربية في المدينة«. وألمح بيان المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان إلى: » انشقاقات في الكلية الحربية تارة وعن خلافات ومشادات بين طلابها على خلفية سياسية تارة أخرى«.

في كل الأحوال؛ فإذا كانت المعلومات المتوفرة تشير إلى تعرض الكلية لهجوم منسق، بهذا الحجم، قاده منشقون في الداخل والخارج، فالمؤكد الأول: أن الهجوم كان عسكريا وليس مدنيا، أما المؤكد الثاني: فيتعلق بسيارات الإسعاف التي لم يعرف، من مصادر طبية، إن كان ما نقلتهم إلى المستشفى العسكري كانوا من الجرحى أم من القتلى، والمؤكد الثالث: أن الهجوم كان مباغتا في إصابته، بمقتل، ما يفترض أنه موقع حصين. مما يعني أن قبضة النظام « بدت مهتزة» بفعل الهجوم، كما قالت الـ « ديلي تلغراف»، والمؤكد الرابع: أن الغضب في الجيش وصل حدا لا يطاق بسبب ممارسات النظام الوحشية. إذ من المستحيل أن يكون الهجوم من تدبير جنود، في مؤسسة نخبوية من هذا النوع، تضم مئات الضباط والطلبة أكثر مما تضم جنودا.

مع الساعات الأولى لليلة الجمعة (29/7/2011)، بدأت الأنباء تتوالى تباعا عن سلسلة من الانشقاقات المنسقة قادتها وحدات من الجيش في عدة مدن سورية ابتداء من انشقاق كتيبة المدرعات من اللواء 71 في منطقة الدير والبوكمال شمالا إلى حوران جنوبا .. انشقاقات تعرض فيها النظام لأكبر خسائره، وقتل فيها محافظ الدير مع واحد من أعتى مجرمي النظام اللواء جامع جامع رئيس الأمن العسكري في الدير. كما سيطرت القوى المنشقة على المطار لمنع هبوط الطائرات التي يمكن أن تنقل إمداداتها لقوات النظام التي بدأت بقصف الدير والهجوم على البوكمال.

في الحقيقة هذه الانشقاقات كانت متوقعة منذ أكثر من شهر. فقد بلغ التوتر في الجيش مدى من الحنق والغضب لا يمكن تحمله، حتى صار الحصول على إجازة فرصة للانشقاق. والأهم في الأمر أن المواجهة الخفية بين ثورة الجيش والنظام صارت اليوم مكشوفة، وباتت مرشحة على أسوأ الاحتمالات. والأهم أن الثورة العسكرية لا تمس من سلمية الثورة المدنية باعتبار أن ما يجري هو مواجهة داخلية بين عسكريين وليس تحولا في مسار الثورة. فكيف يمكن المواءمة بين ثورة مسلحة وأخرى مدنية؟ وما هي خيارات النظام في مثل هذه الحال؟



ختاما


ثمة فرق بين المصالح السياسية ومصالح الأمة. وثمة فرق بين النظام السياسي والنظام الطائفي. أما الأمة فلم تعد معنية بمصالح النظم السياسية واستقرارها أيا كانت هويتها. لكن إذا ما اضطرت لذلك فلن تغفر أبدا. وفي هذه اللحظة من التاريخ فالأمة في لحظة هجوم، أما غيرها ففي حالة دفاع مستميتة. ورغم الهجمات المضادة، والمنسقة، على الثورتين المصرية والتونسية، إلا أن الشوارع شديدة الحيوية. فالضحك على الأمة وأساليب الخداع لم تعد تجدي. وهذا رادع لكل من يحاول قطع الطريق على الأمة في التخلص من الاستبداد والهيمنة.

الثورة السورية قدمت نموذجا خلاقا، ودرسا ثريا، وإسنادا عجيبا، للثورات العربية لا يقدر بثمن. فهي ثورة شعب مميز ضد مشروع نظام حكم طائفي مدمر، يحظى بكل الدعم الدولي والعربي والإقليمي والوطني والقومي واليساري واللبرالي!!! ومع أن الشعب السوري يدرك أن كل من حوله أعداء، إلا أن ثورته انطلقت نظيفة، دون أن تنتظر عونا من أحد، ودون أن تسمح بأي تدخل أجنبي فيها. وقدمت تضحيات هائلة، وسط طوفان من الأكاذيب والنفاق والصمت والتجاهل لم تنل من عزمها وإصرارها، ولم يلوث نقائها غدر أو خباثة كزيارة السفير الأمريكي لمدينة حماه .. هكذا قدم الشعب السوري نفسه، فاكتشفته الأمة .. شعبا عزيزا، شامخا، شجاعا، نبيلا، صبورا، صادقا وحازما .. فيا سعد أمة الإسلام به .. ويا تعس كل من خذله.

أما النظام السوري فلا يستطيع تجاهل المأزق الذي يعيشه، سواء في مواجهة الثورة المدنية أو ثورة الجيش، القوة الأشد رعبا للنظام. ولا يستطيع أن يتجاهل خطورة التسرب والانشقاقات الواقعة في الجيش، وهي تتوالى تباعا بالتوازي مع عمليات تنفذها الوحدات المنشقة، إما لتأمين الحماية والملاذ الآمن لها وإما لحماية السكان. ولا يستطيع النظام أيضا أن يستمر في الحكم دون أن يدفع الثمن سياسيا وشرعيا وأخلاقيا وقانونيا، عن تاريخه وحاضره المشين. ولا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يَحْمل الدولة والمجتمع على شرائعه الباطلة.

لكن إذا كان الحديث عن الحوار أو الانتقال السلمي للسلطة، عند المعارضة، تبرره، في أحسن الأحوال، الخشية من الانجرار إلى حرب طائفية؛ فإن يوميات المواجهة المدنية مع النظام، رغم شدة وحشيته، وصلت إلى قمة التحدي والسخرية (35) منه. ومن يتابع أهازيج الثورة، وشعاراتها، ونكاتها البالغة السخرية، على ألسنة العامة، يدرك الشعور العميق الذي بلغه السوريون، من نشوة، تجاه ما يعتقدون أنها « لحظة حرية (36)» لا يمكن التفريط بها، ولو بدماء أطفالهم.

« لحظة الحرية» هذه، فارقت السوريين أربعين عاما لكنها لم تفارق بواطنهم، ولا حناجرهم منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة. فهم على النقيض من جماعات المقاومة والممانعة، الذين ظنوا أنهم صادفوا الحرية منذ أربعين سنة. فأي حرية ينعم بها ضيف لم يعرف لها المضيف يوما رائحة ولا لونا؟ فإن كان المقاومون نعموا، حينا ونسبيا، بحرية شرّعت للنظام بقاءه، فلأنهم لم يكونوا أزيد من أدوات عمل في ورشة الاستبداد والظلم. ومن يعتقد غير ذلك فليراجع حساباته على الساحة اللبنانية، ليقف على حجم الكوارث التي أوقعها النظام في القوى الفلسطينية والعربية واللبنانية، أيا كانت انتماءاتها. فبأي حق يكون النظام أرحم على شعبه إذا كانت أدواته لم تفلت من بطشه؟

مشكلة الأمة في جهل مثقفيها ونخبها أو في عمالتهم الصريحة أو في غرورهم وأهوائهم ومصالحهم. ومشكلة الأنظمة أنها مستبدة حتى لو أدركت أنها مجرد وديعة استعمارية. وفي الحالتين كان الصراع مع الأنظمة والنخب، على الدوام، دمويا، بدايةً ونهاية. هؤلاء الذين يدافعون عن النظام السوري، مثلا، سبق لهم وتقلبوا في المواقف منه في مناسبات عديدة .. سفك فيها دماءهم .. واعتقلهم .. وشردهم .. وغدر بهم .. وذبح شعبه، وخرّب عقائده .. ودمر مساجده .. ومع أن أعمارهم جاوزت الستين والسبعين إلا أنهم ما زالوا يتسلطون بآراهم وتحليلاتهم على الناس .. فماذا يختلفون عن النظم؟ وأي شرعية بقيت لهم، وقد ارتموا، زرافات ووحدانا، في أحضان « المركز» وما يهوى، وصاروا ركنا ركينا من « سايكس - بيكو»!!؟ نصرك الله أيتها « الفاضحة».

*****************************
روابط الفتاوى المتعلقة بالطائفة النصيرية:

(1) أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية.

(2) فتوى الشيخ حمود بن عقلاء الشعيـبي،
(3) فتوى الشيخ بن باز في النصيرية و نظام الأسد:
(4) الشيخ ممدوح بن علي الحربي: الشيعة النصيرية، محاضرة صوتية.
(5) وأيضا: موسوعة فرق الشيعة،
(6) رابط آخر لموسوعة فرق الشيعة



***********************************

رابط الحلقة الأولى: وأد الفاضحة


نشر بتاريخ 29-07-2011
المصدر المراقب للدراسات والابحاث الاجتماعيه


  #10  
قديم 01-08-2011, 08:16 PM
رياض123 رياض123 غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
مكان الإقامة: ........
الجنس :
المشاركات: 1,868
افتراضي رد: تأملات في شريط العاصفة الشعبية / د اكرم حجازي



تأملات في شريط العاصفة الشعبية


الفاضحة


(7)

(1 - 3)

د. أكرم حجازي

28/7/2011








كل الثورات العربية أسميت أو اتخذت لها بما يناسبها من التوصيف .. فهذه ثورة الكرامة، وثانية ثورة الغضب، وثالثة ثورة الأحرار، ورابعة ثورة الفساد ... إلا الثورة السورية فقد ذهبت لما هو أبعد من الكرامة، ومن كل التوصيفات الوطنية والإقليمية .. فإذا كان لسوريا الأسد أن تستأثر أو تنتشي، طوال أربعين عاما، بما لعبته من أدوار حاسمة في العلاقات والتحالفات والسياسات العربية، والأيديولوجيات، وساحات الصراع الوطني والقومي؛ فإن للثورة السورية حق الريادة في فضح: (1) كل الأدوار الوحشية التي ميزت حكم آل الأسد .. و (2) كل القوى الدولية والعربية والإقليمية، فيما ذهبت إليه من مواقف تميزت، زورا وبهتانا، إما بالعداء السافر للنظام السوري أو بمساندته المطلقة!!! مثلما (3) فضحت الوطني والقومي، واليساري، واللبرالي، والعلماني، و (4) كل مسمى زعم أو انتمى، ولمّا يزل، إلى ما سمي بـ « جبهة الصمود والتصدي»، ماضيا، أو بـ « محور الممانعة والمقاومة» حاضرا .. و (5) فضحت الصمت والتواطؤ المخزي على أوحش الجرائم بحق الشعب السوري، وأخيرا (6) فضحها لعلماء السلاطين الذين لا يتورعون عن تزكية الحاكم وإدانة الشعوب وتحميلها المسؤولية، وتبرير الكفر بأقبح منه. ففي خطبة الجمعة (24/6/2011) وصف البوطي المتظاهرين بـ «الحثالة (1) »، وفي وقت لاحق أباح السجود لصور الرئيس السوري بنية « اعتبارها بساطا (2) فتوى رقم 15449»!! وبرر إجبار الأمن لشخص على القول: « لا إله إلا بشار» بدعوى « خروج هذا الشخص مع المسيرات إلى الشارع والهتاف بإسقاط النظام وسبّ رئيسه والدعوة إلى رحيله - فتوى رقم 14658 »!!!

إنها حقا، وباختصار، « الثورة الفاضحة» .. هذا ما يليق بها أن تحمله من توصيف، بعد أن فضحت الصور الزائفة والبغيضة لنظام، استظل به الأعداء العقديين والتاريخيين للأمة، جنبا إلى جنب، مع المدافعين الديماغوجيين عنه في تآلف عزّ نظيره .. ظلال ما كان لها أن تنفضح، عارية بلا أي غطاء، لولا وقائع ثورة مميزة، لا يمكن أن تماثلها أية ثورة أخرى .. ثورة شعب يدرك أنه يحمل أوزار أمة، ولسان حاله يقول: « يا ليت قومي يعلمون» .. فمتى سيعلمون؟

من المفارقات المؤلمة أن أجيال اليوم لا تعرف أن كلمات مثل « التخريب» و « المخربين» التي تتصدر قاموس الحكومة السورية ضد الثوار، هي ذات الكلمات التي استعملتها إسرائيل طويلا ضد الثوار الفلسطينيين، قبل أن تجتمع إسرائيل والنظم العربية على تسويق كلمتي « إرهاب» و « إرهابيين»!!! والأشد إيلاما أن هؤلاء الذين يستعملون، هذا القاموس النتن، للدفاع عن نظام الممانعة، هم أنفسهم الذين تلقوها من إسرائيل لمّا كانوا محسوبين على الثورة والثوار!!! وهم أنفسهم الذين لا زالوا يعيشون مرارة وقعها في نفوسهم، لاسيما وأنهم أصحاب الحق التاريخي في فلسطين، وهم أنفسهم الذين شربوا مرارة القهر والذل على يد آل الأسد؟ فهلا تجرؤوا ونظروا إلى وجوههم في المرآة لحظة من الزمن!!!!؟


وأد الفاضحة !!!

(1)



ما من قوة دولية أو عربية أو إقليمية أو ديماغوجية سرها اهتزاز النظام السوري أو رحيله. هذا الموقف لم يتغير منذ اندلاع الثورة وإلى يومنا هذا. لكن الذي تغير هو الانتقال من الصمت على ذبح الشعب السوري، إلى المساومة على الثورة، والمجاهرة بتشريع الذبح، في محاولة يائسة لإسكات «الفاضحة»، وترميم الوضع المتفجر في العالم العربي، بحيث يضمن كل طرف مصالحه الاستراتيجية في المنطقة .. منطق جاهلي يذكر بقول الله عز وجل: { وَإِذَا الْموْءُدَةُ سُئِلَتْ }. { بِأىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }.


الموقف الغربي


فقد ظل « المركز»، وفي مقدمته الأمريكيون، صامتا على جرائم النظام دون أن يتقدم خطوة معنوية واحدة، تستر ما تبقى من قيمه الزائفة، إلا من التصريحات المنادية بـ « وقف العنف» و«الإصلاح» أو التلويح ببعض « العقوبات» التي لا تسمن ولا تغني من جوع، مع أنظمة اشتهرت عالميا بالقمع والدموية قبل أن تندلع الثورات العربية وخلالها. وحتى في خطابه عما يسمى بـ « الربيع العربي – 19/5/2011» لم يتجاوز الرئيس الأمريكي أوباما عتبة الإصلاح حين قرنه، للمرة الأولى بـ « التنحي»: « يجب عليه أن يوقف حملته ضد المحتجين وأن يقود انتقالا ديمقراطيا أو يتنحى جانبا»!!! أما في مصر فكرر تهديده للرئيس مبارك: « عليه أن يتنحى فورا»!!! فهل القتلى في مصر أكثر منهم في سوريا؟

وبعد نحو شهر ونصف، على تصريحه هذا، عزف الفرنسيون والبريطانيون (6 و 7/6) والأمريكيون (13/7/2011) على نغمة واحدة مفادها أن: « الأسد فقد شرعيته»!! ورافق التصريحات سعي مشترك، لتجاوز الفيتو الروسي في مجلس الأمن، إذا ما تقدمت الدول الثلاث بمشروع قرار يدين سوريا. ومع تصاعد الاحتجاجات في مدينة حماة تحرك السفيران، الأمريكي والفرنسي، باتجاه المدينة، فيما بدا محاولة، خبيثة، للضغط على النظام السوري، فتسببت الزيارة، التي لا شأن للثورة ولا لأهل حماة بها، بتراشق دبلوماسي بين الولايات المتحدة والنظام السوري .. تراشق أخرج وزيرة الخارجية الأمريكية عن طورها، حين أدلت بتصريح بالغ الإثارة، وهو يعبر عن صميم الرؤية الدولية لحقيقة الدور الذي يلعبه النظام في المنطقة. فقد أعلنت هيلاري كلينتون (11/7/2011)، بعد ساعات من الهجوم على السفارة الأمريكية في دمشق، أن: « الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته» وأنه: « ليس شخصا لا يمكن الاستغناء عنه، ولا نعول في شيء على بقائه في السلطة مطلقا» وأن: « الولايات المتحدة لم تستثمر فيه ليبقى رئيسا».

والصحيح أن الجميع استثمر في النظام منذ عشرات السنين. أما «القرف» الذي شعرت به كلينتون؛ فلم يكن بسبب الممارسات الدموية والوحشية التي يرتكبها النظام ضد الشعب السوري، بل لأن كلينتون ربما تكون فقدت القدرة على الاحتفاظ بهيبة الدبلوماسية الأمريكية، مع نظام لا يقل غطرسة عن دولتها، أو أنها تعمدت فعليا تأنيب الرئيس السوري، لقاء ما سببه من حرج للإدارة الأمريكية. ومع ذلك فقد سارعت مصادر البيت الأبيض، على صفحات « الواشنطن بوست 18/7»، إلى التخفيف من وطأة تصريحات الوزيرة « الارتجالية» باعتبارها تعبيرا عن « موقف شخصي»!!! ربما .. لكن الصحيفة رأت في التصريح انعكاسا لحالة انقسام داخلي تجاه الموقف من سوريا. وهو تفسير يمكن أن يكون مقبولا، لو صدر عن دولة هامشية أو منظمة سياسية، وليس عن أقوى دولة في العالم. وأيا كانت الحقيقة؛ فالمؤكد أن الإدارة الأمريكية تراجعت على الفور، عن كل سياساتها السابقة بصورة مثيرة، واعترفت أنها كانت وما زالت، تستثمر في النظام السوري دون غيره.

وهذا ما عبرت عنه الوزيرة في تصريحاتها اللاحقة، وهي تعود إلى مربع السفير الأمريكي في دمشق روبرت فورد، حين قال في 4/5/2011 أن: « مستقبل سورية بيد الشعب السوري، وهو من يقرر مصير سوريا، وليس الأمريكان أو الأتراك مشددا على أهمية المصالح التركية في سوريا». وهو ذات التصريح الذي أدلت به كلنتون في اسطنبول (17/7/2011 ) خلالَ المؤتمر الصحفي مع نظيرها التركي أحمد داود أوغلو حيث قالت فيه أن: « مستقبل سوريا متروك للشعب السوري .. لكن الجهود التي تقوم بها المعارضة للعمل معا لتنظيم وتوضيح جدول أعمال هي جزء مهم من الإصلاح السياسي .. هذا ما يفعله الشعب السوري؛ فهو يحاول تشكيل معارضة تستطيع أن تقدم مسارا فيما نأمل للتعاون السلمي مع الحكومة من أجل مستقبل أفضل»، لكن تصريحاتها الدبلوماسية، الداعمة لانفتاح تركيا على المعارضة، سبقتها بيوم (16/7/2011) تصريحات الاستثمار في النظام، والتي قالت فيها: « إن الإدارة الأميركية لا تزال تأمل أن يتوقف نظام الأسد عن العنف وأنه سيلبي مطالب المحتجين بشأن الإصلاحات السياسية الضرورية في البلاد».

وفي الإجمال رأت فيها صحيفة « لوس أنجلوس تايمز 20/7/2011» في هذه التصريحات، تلطيفا للهجة الأمريكية تجاه النظام السوري .. لهجة توقفت عن وصف النظام بـ « فاقد الشرعية» أو تخييره بين « الإصلاح أو التنحي». وهي في المحصلة لا تختلف عن تصريحات أخرى أدلى بها وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ في السعودية.


الموقف العربي


أما الموقف العربي فقد كان أكثر صراحة في الانحياز للنظام على حساب الشعب السوري ومطالبه المشروعة. فبعد الصمت شبه المطبق، إلا من الاطمئنان على صحة النظام، وفيما بدا توافقا مع نظيره البريطاني وليم هيغ، الذي يزور السعودية، أكد وزير الخارجية، سعود الفيصل في 5/7/2011: « إن المملكة حريصة على عدم التدخل في شؤون الآخرين»!!! داعيا: « الجميع إلى تغليب صوت الحكمة والعقل، وعدم إراقة مزيد من الدماء، واللجوء إلى الإصلاحات الجادة .. التي تكفل حقوق الإنسان العربي وكرامته، مع التأكيد على الحرص على الأمن والاستقرار في ربوع العالم العربي، والحفاظ على وحدة أوطانه واستقلالها ».

موقف لا يسر أحدا على وجه الأرض، لاسيما وأن السعودية أكثر دول العالم تدخلا في شؤون العالم الإسلامي، وليس العربي فحسب. لذا لم يكن غريبا أن يتكرر ذات الموقف، على لسان الأمين العام الجديد للجامعة العربية، نبيل العربي، بعد لقائه الرئيس السوري (12/7/2011)، وإدلائه بما يشبه الرد على تصريحات الرئيس الأمريكي أوباما، حول شرعية الأسد، حين قال: « تحدثنا بصراحة تامة حول المستجدات في مصر وسورية واليمن، مؤكدا أن سورية دخلت مرحلة إصلاح حقيقي، ونحن نولي أهمية كبرى لاستقرار سورية وكل دولة عربية .. الجامعة العربية ترفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، وأنه لا يحق لأحد سحب الشرعية من زعيم لأن الشعب هو الذي يقرر ذلك .. »!!! وكأن ما يجري في سوريا مهرجان انتخابي!!!


تركيا وإيران


ظلت تركيا أول وأكثر من ساند السوريين في ثورتهم. فالأتراك يمتلكون مشروع نهضة سياسية واقتصادية، ومن الأولى لهم أن يحرصوا على تثبيت أقدامهم في النظم الجديدة، بدلا من المراهنة على نظم عربية تتقاذفها الثورات. وعلى عكس تحفظاتهم تجاه الثورة الليبية، سارع الأتراك إلى حماية مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، والتي كانت سوريا ركيزتها الأساسية. فبعثوا، كما قال رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، برئيس المخابرات التركية، محملا بكتيب إرشادات عن تجربة النظام التركي، ليسترشد بها السوريين في معالجة الموقف قبل انفجاره. لكنهم لم يجدوا آذانا صاغية.

ومع حلول طلائع النازحين من ويلات التدخل العسكري في مدن الشمال، على الحدود مع تركيا، افتتح الأتراك مخيمات مؤقتة، وحصلوا على آلاف الشهادات الموثقة عن جرائم النظام السوري. وصاروا يعرفون حق المعرفة ماذا يفعل النظام بالشعب السوري، حتى أنهم اتهموه، على لسان أردوغان، بارتكاب « فظاعات» هناك .. في سوريا!!! لكنهم حظروا نشرها، وقاموا بتغطية المخيمات بأسيجة عازلة عن المحيط، ومنعوا وسائل الإعلام من الاقتراب منها، مثلما منعوا حتى الأمم المتحدة وجمعيات الإغاثة الإنسانية من الاقتراب أو لقاء اللاجئين إلا ما ندر!!! بل أنهم منعوا السكان من مغادرة المخيم، بنفس الوقت الذي منعوا فيه الأتراك من زيارته!!! تُرى!! لماذا؟

يدرك الأتراك أن المشكلة مع النظام السوري ليست في تعريته إعلاميا، وهو المكشوف بلا أية حاجة لتعريته. لكنهم وقعوا فريسة لما يفترض أنها عناصر قوة، فإذا بها تنقلب في لحظة غابرة إلى أعباء مزعجة، تتهددها المخاطر من كل حدب وصوب.

ففي تركيا ثمة قرابة أربعة ملايين نصيري، يعيشون في الجنوب الغربي من تركيا ومنطقة غرب كليكيا ولواء اسكندرون. وبعض هؤلاء عبروا عن غضب من استقبال اللاجئين السوريين. وإذا ما تطور الأمر فقد تجد تركيا نفسها في ورطة طائفية يحركها النظام السوري ذو العلاقة الوطيدة معهم. هذا الأمر هو الذي دفع الأتراك إلى إخفاء اللاجئين عن عيون الأمم المتحدة ووسائل الإعلام والجوار السكاني لهم، تلافيا لأية احتكاكات قد لا تحمد عقباها.

وفي تركيا أيضا مشكلة حزب العمال الكردستاني الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع النظام السوري تاريخيا. وهي ورقة رابحة اليوم بيد النظام السوري. ففي لحظة ما اضطرت سوريا، في تشرين أول / أكتوبر 1998، إلى إبعاد زعيم الحزب عبد الله أوجلان عن أراضيها، تحت ضغط الجندرمة التركية والدعم الدولي والإسرائيلي، ومن ثم اعتقاله في كينيا في 15/2/1999. كما أُرغمت سوريا، آنذاك، على توقيع اتفاقات أمنية مذلة، أتاحت لتركيا حق مطاردة عناصر الحزب في عمق الأراضي السورية. لكن سوريا، الغارقة في وحول الثورة لم يعد لديها ما تخسره مثلما هو حال تركيا اليوم، صاحبة مشروع النهضة. ولعل سوريا تبدو أقرب إلى الانتقام (من) أو تصفية الحساب (مع) تركيا فيما لو أوغلت في إيذائها. وتبعا لذلك فقد قامت بنشر مجموعات من حزب العمال الكردستاني، على امتداد المناطق الحدودية الساخنة مع تركيا، بعد أن زودتهم بأسلحة قادرة على إلحاق الأذى بتركيا.

والثابت أن الأتراك ربما يكونوا قادرين، فعلا، على التدخل عسكريا في سوريا، أو التهديد بإقامة منطقة عازلة على الحدود لمساعدة الثورة السورية. لكنهم غير راغبيت في المخاطرة، فضلا عن أنهم عاجزون عن مواجهة خطر القوة الإيرانية الضاربة. فما أن لاحت تباشير مثل هذه الأنباء، على متن وسائل الإعلام، وفي تحليلات الكتاب والخبراء، في ضوء اقتحام الجيش السوري لجسر الشغور شمالا، حتى « أشاعت» صحيفة الأخبار اللبنانية (24/6/2011) أنباءً، نسبتها إلى مصادر إيرانية، تذكِّر تركيا بأن: « سوريا خط أحمر»، وتحذرها: « إذا (ما) جعلت أرضها مقراً لاستنساخ السيناريو الليبي على الحالة السورية، فإن القوات المسلحة الإيرانية ستقصف القواعد الأميركية وأي وجود أطلسي على الأراضي التركية».

لكن إذا كان التهديد الإيراني الأول جاء بصفة غير مباشرة، فإن التهديد الثاني تم توجيهه مباشرة إلى الحكومة التركية، وعبر مقالة في أسبوعية « صبح صادق - 18/7/2011»، الناطقة الرسمية باسم الحرس الثوري الإيراني، صاحب الذراع العسكرية الأطول في إيران وخارج إيران. وتبعا لهذه الصفة، فهو تهديد غير مسبوق، سواء في الجهة المصدرة له، والخاضعة لولاية الفقيه، أو فيما يحتويه من مواقف صريحة تجاه ما يحدث في سوريا.

أما المقالة التي حملت عنوان: « الموقف الإيراني الجاد تجاه أحداث سوريا»، فقد انتقدت المواقف التركية من الثورة السورية، وتحدثت عن مفاضلة إيرانية صريحة ما بين سوريا وتركيا على أسس: (1) استراتيجية و (2) عقدية. فقالت: « لو استمرت تركيا في الإصرار على مواقفها على هذه الوتيرة، فسيؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمة، الأمر الذي سيرغم إيران على التفاضل بين تركيا وسوريا، وفي هذه الحالة: منطق المصالح الاستراتيجية والمعرفة العقائدية سيدفع إيران نحو اختيار سوريا». وعليه فـ: « حبذا لو يدرك المسؤولون الأتراك هذه الضرورة الإيرانية، ويتبنون موقفاً ذكياً، بنظرة مستقبلية، للحيلولة دون وصول إيران إلى هذه النقطة».

وتأكيدا لمنطق الانحياز الإيراني للنظام السوري، ختمت « صبح صادق» بالقول: « يبدو أن السلطات التركية توصلت، أو من أوصلوها، إلى استنتاج خاطئ يرى أن النظام السوري دخل في طريق ذي اتجاه واحد، وسيواجه في نهاية المطاف السقوط كمصير محتوم، فعليه تحاول تركيا الاستثمار من خلال صفقة تعتقد أنها حتمية، وأنها ستتمكن من تحقيق الكثير من آمالها وأمانيها، عبر المشاركة في تغيير المعادلة، في حين أن الوقائع البالغة الدقة والمختلفة تثبت خلاف ما يتصوره المسؤولون الأتراك».

أما التعبير الأمثل في انحياز إيران للنظام السوري، فقد ورد في صيغة الدعم المالي لحماية الاقتصاد السوري من الانهيار. وتحاول إيران بهذا الإجراء قطع الطريق على أثر سياسة العقوبات الدولية، وتجميد الأرصدة، ومنع الثورة من الاستثمار في الضغط الاقتصادي على النظام. ففي 15/7/2011 كشفت صحيفة « ليزيكو» الفرنسية الاقتصادية، عن موافقة المرشد الأعلى علي خامنئي على تقديم دعم مالي بقيمة 5.8 مليار دولار لسوريا، لتنشيط اقتصادها. ونقلت الصحيفة، عن تقرير سري لمركز الأبحاث الإستراتيجية المقرب من دوائر القرار بطهران، أن الدعم المالي يتضمن تقديم 1.2 مليار دولار بشكل عاجل على مدى ثلاثة أشهر.

كما تتضمن حزم الدعم الإيراني للنظام، منح سوريا 290 ألف برميل نفط يوميا، ومجانا، خلال الأشهر التسعة القادمة. وإرسال علي مملوك، مدير المخابرات الإيرانية، وأحد أقوى أعمدة السياسة والقرار في إيران، إلى سوريا لمساعدة النظام في مراقبة الحدود، ومنع هروب الرساميل من البلاد، باتجاه لبنان.

أما الورقة الأشد خطرا وتهديدا للمنطقة برمتها، فهي أبعد ما تكون عن إشعال جبهة الجنوب اللبناني مع إسرائيل. إنها الجبهة الطائفية في العراق ولبنان. ففي البلدين ثمة ميليشيات طائفية قاتلة كـ « جيش المهدي» و« قوات بدر» و« حزب الدعوة» (العراق) و« حزب الله» في لبنان. وهي ميليشيات مهيأة، ومؤهلة لمساندة النظام السوري، إذا ما تعرض للحظات حاسمة حتى بعد سقوطه. وهو ما يعني بالمحصلة الدخول في حرب طائفية في المنطقة بكل معنى الكلمة.


محتوى صفقة البيع


إذن، الجميع خاسر من الثورة السورية. فاليهود سيكونون أول الخاسرين من أي تغيير في سوريا، والنظم العربية ستخسر جميعها بلا استثناء، وقوى الممانعة المزيفة ستذهب أدراج الرياح، ولا ريب أن البدائل لا يحتملها أحد. أما إيران، صاحبة المشروع الصفوي، فستكون من أكبر الخاسرين على الإطلاق، داخليا وخارجيا. فالتزوير الذي وقع في الانتخابات الأخيرة بما يقارب الثلاثة ملايين صوت لم يمنع علي خامنئي، مرشد الثورة، من تثبيت المنتكس أحمدي نجاد رئيسا لولاية ثانية. وهو الأمر الذي أثار المعارضة، وفتح عيون الكثير من الإيرانيين على أكذوبة ولاية الفقيه المعصوم!!! وطرح السؤال الكبير الذي لطالما تجنبه ملالي طهران والشيعة: هل حقا ثمة فقيه معصوم؟ وإذا وجد حقا فهل يحق له أن يكذب ويزور ويأمر بالقمع والقتل؟

خلال الأسابيع القليلة الماضية، وبعد سلسلة قراءات وتراجعات شاملة في الموقف تجاه الثورة السورية، بدأت تنشط دبلوماسية الصفقات في سوق النخاسة العربي والدولي .. فالزمن زمانها .. فقد قام وزير الخارجية التركي بجولة في منطقة الخليج، ختمها بزيارة إلى السعودية، التي من حسن الحظ لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى!! حيث اجتمع فيها مع وزير الخارجية سعود الفيصل (9/7/2011). ومن هناك أعلن عن زيارة غير مقررة إلى طهران .. فالحل والربط، ليس مع المعارضة الخارجية أو الداخلية، ولا مع « المركز»، ولا حتى مع النظام السوري شبه المنهار، بل مع السعودية، ولية أمر العرب والخليج، ومع إيران، صاحبة المشروع الصفوي في المنطقة.

هناك، في طهران، اجتمع مع وزير الخارجية علي أكبر صالحي (10/7/2011). وخلال المؤتمر الصحفي حاول أوغلو، عبثا، أن يوازن بين النقائض، علّه يخفف من « وسخ» المهمة التي اضطر إليها، فقال: « لكل دولة بنية داخلية وخواص نابعة عن هذه البنية. لكن لدينا موقف مبدئي في موضوع تحول مطالب الشعب إلى مسيرة إصلاحات سلمية». فما الذي يجمع بين بنية ثائرة ونظام طائفي؟ لا شيء، إلا التسليم بحق النظام الدموي في سوريا بسحق الثورة على أمل أن تتوقف طهران عن تهديد الخليج العربي وخاصة البحرين. هذا هو المعنى الأقرب لمن تحدثوا طويلا عن الحاجة إلى الاستقرار والأمن في المنطقة. وهو المعنى الذي عبر عنه أوغلو حين شبه دول المنطقة بالبيوت الخشبية المصفوفة، جنبا إلى جنب، قائلا: « يجب أن لا يظن أحد أن الحريق المندلع في أحد هذه البيوت سيقتصر عليه فقط، لذا يجب أن نتضامن و نعد منطقتنا الغنية بالموارد الطبيعية و ذات التاريخ العريق ، من أجل المستقبل».

لم يمض وقت طويل حتى أثمرت الصفقة، حيث طالعنا وزير الخارجية الإيراني بتصريحات لطيفة، تتحدث عن (1) « سوء تفاهم» مع الرياض وتؤكد على (2) « سيادة البحرين» بعد أن شبعت تهديدا بالتدخل والاحتلال من الساسة والعسكر الإيرانيين!!!

فقد نقلت وكالة الأنباء الإيرانية « إرنا – 22/7/2011» عن الوزير تصريحات، نقلتها وكالة « فرانس برس»، أعلن فيها أن إيران: « تحترم السيادة الوطنية واستقلال البحرين»، مؤكدا على: « ضرورة العمل لحل الأزمة في البحرين من قبل البحرينيين أنفسهم وعدم خلط الأوراق من خلال الادعاء بوجود بحريني إيراني أو شيعي أو عربي أو أعجمي»، ومعتبراً « خطوة العاهل البحريني لإجراء حوار مع شعبه خطوة إيجابية، ومعرباً عن أمله أن تتكلل بالنجاح»!!!

أما عن علاقات إيران بالسعودية فقال: « ليس لدينا مشاكل خاصة مع السعودية، ونعترف بالسعودية بلداً مهماً في المنطقة ومؤثراً على الصعيد الدولي». وأضاف: « نقيم منذ فترة طويلة علاقات ودية مع السعودية. وبعد الأحداث في المنطقة حصل تباين في التفسير والتحليل. وأعتقد أنه بالإمكان تبديد سوء التفاهم» .. ويا ليت د. عبد الله النفيسي يسمعنا إياها ثانية: « يَبَّااااايْ»!!!!

هكذا تلاقت المواقف العربية والإقليمية، ومن ورائها المواقف الدولية، وبضمنها إسرائيل، على محاصرة «الفاضحة» تمهيدا لوأدها. ولعل الناس شعرت بحالة التغول والهستيريا المفاجئة للنظام في معظم المدن السورية، من دير الزور والبوكمال شمالا مرورا بمدينة إدلب، ونسبيا حلب، وبانياس حتى حماة وحمص وريف دمشق والسويداء جنوبا.



نشر بتاريخ 28-07-2011
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 208.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 202.80 كيلو بايت... تم توفير 5.62 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]