|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مفهوم الشرك في القرآن الكريم: قراءة تفسيرية موضوعية سائد بن جمال دياربكرلي الحمد لله الذي لم يتَّخذ ولدًا، ولم يكن له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذلِّ وكبِّره تكبيرًا. والصلاة والسلام على من أرسله للعالمين بشيرًا ونذيرًا، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد، فقد بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والمرسلين بعقيدة التوحيد رغم تعدُّد شرائعهم، فما من نبيٍّ ولا رسولٍ إلا وقد بُعث مقرِّرًا لمبدأ الوحدانية لله سبحانه وإفراده بالعبودية، ونبذِ جميع ظواهر الشرك وبواطنه، ليحرِّر الناس من شِراك التبعيَّة لغير الله، والخضوع لما سواه، فيؤمنوا بوحدانيَّته خالقًا ومدبِّرًا للكون كافَّةً. وباعتباره نقيض التوحيد وناقضه، فقد كان لمفهوم الشرك الحظ الأوفر من التفصيل والبيان في صفحات الذكر الحكيم، بخطابٍ قرآنيٍّ بليغٍ يتجاوز صورته النمطية المقتصرة على عبادة الأصنام، ليشمل كل صور التعلُّق بغير الله وإشراك ما سواه، والتحذير من مغبَّةِ ذلك وسوء عقباه. وقد سار سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، على نهج معلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير مواضع الذكر الحكيم المشتملة على مفهوم الشرك، فتركوا لنا إرثًا عقائديًّا ثمينًا، ونهجًا توحيديًّا راسخًا، يصف هويَّة المسلم الموحِّد لربِّه، الحنيف عن ما سواه. أقوم في هذه القراءة التفسيرية بالوقوف على تعريف الشرك لغةً واصطلاحًا، ومن ثم استعراض أساليب الذكر الحكيم في تناول مفهوم الشرك، وسرد بعضٍ من مرويات السلف الصالح في تفسير مواضعه، سائلًا المولى التوفيق والسداد. تعريف الشرك: أصله من "الشِّرْكة"، وهو أن يكون الشيءُ بين اثنين لا ينفردُ به أحدهما. ويقال: "شاركتُ فلانًا في الشيء"، إذا صِرْتَ شريكه. و"أشركْتُ فلانًا"، إذا جعلتَه شريكًا لك. قال اللّه جلَّ ثناؤُه في قِصَّة موسى: ﴿ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾. ويقال فى الدُّعاء: "اللهم أشرِكْنا في دعاء المؤمنين"، أي اجعلنا لهم شركاءَ في ذلك. و"شَرِكتُ الرَّجُلَ فى الأمرِ" أشْرَكُه[1]. والشِّرْكَةُ والْمُشَارَكَةُ: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدًا، عينًا كان ذلك الشيء أو معنى، كمُشاركة الإنسان والفرس في الحيوانيَّة، ومُشاركة فرس وفرس في الكُمتة والدُهمة[2]، يقال: شَرَكْتُهُ، وشَارَكْتُهُ، وتَشَارَكُوا، واشْتَرَكُوا، وأَشْرَكْتُهُ في كذا. وشِرْكُ الإنسان في الدِّين ضربان: أحدهما: الشِّرْكُ العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى. يقال: أَشْرَكَ فلانٌ بالله، وذلك أعظم كفر. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا ﴾ [النساء: 48]. والثاني: الشِّرْكُ الصَّغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرِّياء والنِّفاق المشار إليه بقوله تعالى: ﴿ وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلّا وَهُم مُشرِكونَ ﴾ [يوسف: 106]. ولفظ الشِّرْكِ من الألفاظ المشتركة، وقوله تعالى: ﴿ قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم يوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، محمول على الشِّركين[3]. وهو يجتمع مع لفظ الكُفر في المعنى، إلا أن الكفر أعم، لدلاته إجمالًا على جحد الحق وستره، فكل مشركٍ كافرٌ بالضرورة، لأنه جاحدٌ لحق التوحيد بعبادته غير الله معه، وليس كل كافرٍ مشركٌ، إذا كان لا يعبد مع الله غيره. قال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: "كل شركٍ يسمى كفرًا، وكل كفرٍ أكبرٍ يسمى شركًا". وقد تناول الذكر الحكيم مفهوم الشرك بخمسة أساليب، مفصَّلة على النحو التالي: بيان سوء عاقبته: فبيَّن أنه الكفر الذي لا يغفره الله لمن مات عليه، وهو الإثم العظيم، والضلال البعيد، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا ﴾ [النساء: 48]، وفي موضع آخر من نفس السورة: ﴿ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد ضَلَّ ضَلالًا بَعيدًا ﴾ [النساء: 116]، والخطاب في مُجمل الموضعين شمل أصناف المتلقِّين كافَّةً ممن قامت عليهم حجة التوحيد، فهو في الموضع الأول موجَّه لأهل الكتاب ممن وجدوا مصداق نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته في كتبهم[4]، فكان شركهم افتراءً لإثمٍ عظيم، وهو في الموضع الآخر موجَّه لمشركي العرب – ومن بعدهم – ممن بُعث فيهم هذا الرسول الكريم يدعوهم لتوحيد الله، فآثروا أصنامهم وما وجدوا عليه آباءهم، فضلوا بذلك ضلالًا بعيدًا. كما بيَّن أن المشركين هم شرار الخلق وأن شركهم هو سبب خلودهم في النار، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتابِ وَالمُشرِكينَ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها أُولئِكَ هُم شَرُّ البَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6]. وبيَّن أن الشرك هو سبب الذمِّ والخذلان، قال جل جلاله: ﴿ لا تَجعَل مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقعُدَ مَذمومًا مَخذولًا ﴾ [الإسراء: 22]، وأن المشركين هم أشد الناس ظلمًا، وأنهم أهل الخذلان عند قبض الروح، قال عز ذكره: ﴿ فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَو كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُم نَصيبُهُم مِنَ الكِتابِ حَتّى إِذا جاءَتهُم رُسُلُنا يَتَوَفَّونَهُم قالوا أَينَ ما كُنتُم تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ قالوا ضَلّوا عَنّا وَشَهِدوا عَلى أَنفُسِهِم أَنَّهُم كانوا كافِرينَ ﴾ [الأعراف: 37]، ووصف خذلانهم وفتنتهم عند الحشر، قال تعالى شأنه: ﴿ وَيَومَ نَحشُرُهُم جَميعًا ثُمَّ نَقولُ لِلَّذينَ أَشرَكوا أَينَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذينَ كُنتُم تَزعُمونَ * ثُمَّ لَم تَكُن فِتنَتُهُم إِلّا أَن قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشرِكينَ * انظُر كَيفَ كَذَبوا عَلى أَنفُسِهِم وَضَلَّ عَنهُم ما كانوا يَفتَرونَ ﴾ [الأنعام: 22-24]. وقد تعددت تفسيرات السلف في تأويل فتنة المشركين في المحشر، فقال ابن عباس وقتادة: "معذرتهم، والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة." وقال الزجَّاج: "في قوله: ﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ معنى لطيف، وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة، فيتبرأ من محبوبه، فيقال: لم تكن فتنت إلا هذا، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها"[5]. ومنه أيضًا قوله جل جلاله: ﴿ وَيَومَ نَحشُرُهُم جَميعًا ثُمَّ نَقولُ لِلَّذينَ أَشرَكوا مَكانَكُم أَنتُم وَشُرَكاؤُكُم فَزَيَّلنا بَينَهُم وَقالَ شُرَكاؤُهُم ما كُنتُم إِيّانا تَعبُدونَ ﴾ [يونس: 28]، فبيَّن فرقتهم قلبًا وبدنًا، وتقطُّع ما كان بينهم من المحبة والصلة، فتبرَّأ شركاؤهم منهم، حتى نزَّهوا الله سبحانه – يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم – أن يكون له شريك. بل بيَّن أن الشيطان يتبرأ من شركهم، بعد أن فتنهم في الدنيا وأضلَّ بعضهم ببعض، قال تعالى شأنه: ﴿ وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إِلّا أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ ﴾ [إبراهيم: 22]، وتبرؤ الشيطان منهم هو أشد صور الخذلان وأفظعها، فهو يخبرهم بأن وعده إنما هو وعد إخلاف، وهو ليس بذي سلطان[6]، وفتنته ما هي إلا "دعوة"، دعاهم بها فاستجابوا! وإن كان هذا حالهم في الآخرة، فحال من قرأ هذه الآيات في الدنيا ولم يتعظ فيُكذِّب وعد الشيطان أشدُّ خذلانًا. وقد بيَّن الذكر الحكيم في مواضع أخرى التسلسل المنطقي الذي يغوي به الشياطين أولياءهم من البشر ليصلوا بهم إلى هاوية الشرك، قال تعالى شأنه: ﴿ وَلا تَأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيوحونَ إِلى أَولِيائِهِم لِيُجادِلوكُم وَإِن أَطَعتُموهُم إِنَّكُم لَمُشرِكونَ ﴾ [الأنعام: 121]، فبعد أن نهى سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه – من ميتة أو ما أهل به لغير الله – حذَّر من إغواء الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم من المشركين لجدال المؤمنين، ومن ذلك ما رُوي في سبب نزول هذه الآية من قول المشركين: "يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟" فقال: "الله قتلها"، قالوا: "أفتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟" فكانت طاعتهم في قولهم هذا سببًا للشرك. قال الزجَّاج في تعميم هذه القاعدة القرآنية: "وفيه دليل على أن من أحل شيئًا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك"[7]. وهذا يدل على أن الحُجَّة وإن كانت منطقية، إلا أن مخالفتها لأمر الله كفيلٌ بجعل اتِّباعها شركًا مخرجًا من الملة، وأن صاحبها إنما هو وليٌّ للشيطان ناطقٌ بمنطقه. ومن ذلك أيضًا قوله سبحانه تعالى مخبرًا عن وعد الشيطان ومحذِّرًا من تسلسله في إغواء أوليائه: ﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 119]، فالبداية من الإضلال وهو تزيين الغواية. ثم ما يجعل في نفوس أوليائه من الأماني، قيل: "أمنينهم ركوب الأهواء"، وقيل: "أمنينهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث"، وقيل: "أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي"، ثم ما يأمرهم به من عقائد[8] تخالف شرع الله، ثم ما يأمرهم به من تغيير خلق الله، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك: "يعني دين الله"[9]. ودلَّل النص القرآني في مواضع عدة على أن الشرك هو سبب حبوط العمل، هذا إن فُرض وقُدِّر في حق الأنبياء – وحاشاهم أن يكون منهم رضوان الله عليهم – وهو في حق من دونهم آكد. قال تعالى في سياق ذكره عددًا من أنبيائه ورسله: ﴿ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهدي بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَلَو أَشرَكوا لَحَبِطَ عَنهُم ما كانوا يَعمَلونَ ﴾ [الأنعام: 88]، ومثله قوله تعالى خطابًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَقَد أوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ ﴾ [الزمر: 65]، فبيَّن أنه متقرر في نبوَّة كل نبيٍّ، ورسالة كل رسولٍ، أن الشرك محبط لجميع العمل. أما عن سوء عاقبته الدنيوية فقد ساقت صفحات الذكر الحكيم كثيرًا من الشواهد الدالَّة عليها، فبيَّنت أن المشركين هم أهل الرعب في الدنيا عند مواجهة أهل الحق، قال تعالى شأنه: ﴿ سَنُلقي في قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ بِما أَشرَكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَمَأواهُمُ النّارُ وَبِئسَ مَثوَى الظّالِمينَ ﴾ [آل عمران: 151][10]. وبيَّنت أن الشرك هو سبب الجوع والخوف بعد الأمن والاطمئنان، قال جل جلاله واصفًا حال مكة حين جحد أهلها نعمة ربهم وأشركوا به: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ ﴾ [النحل: 112]. كما دلَّلَت على سفاهة المشركين وطاعتهم العمياء لشركائهم في كل ما يزينوه لهم، مهما بلغت فظاعته وغرابته، قال جل جلاله: ﴿ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثيرٍ مِنَ المُشرِكينَ قَتلَ أَولادِهِم شُرَكاؤُهُم لِيُردوهُم وَلِيَلبِسوا عَلَيهِم دينَهُم وَلَو شاءَ اللَّهُ ما فَعَلوهُ فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ ﴾ [الأنعام: 137]، قال مجاهد: "شركاؤهم، أي: شياطينهم، زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة، فسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله، وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها". وقال الكلبي: "شركاؤهم: سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد، فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله"[11]. ولعلَّ من أحكم الصور القرآنية وأبلغها وصفًا للشرك وما يلحق صاحبه من سوء العاقبة في الدارين، قوله سبحانه وتعالى في سياق نهيه عن الشرك: ﴿ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيرَ مُشرِكينَ بِهِ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخطَفُهُ الطَّيرُ أَو تَهوي بِهِ الرّيحُ في مَكانٍ سَحيقٍ ﴾ [الحج: 31]، فشبَّه بُعد من أشرك عن الحق كبُعد من سقط من السماء فذهبت به الطير، أو هَوَت به الريح، فلا يصل إليه بحال. وقيل: "شبَّه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه، وإما بسقوطه إلى المكان السحيق"، وقال الحسن: "شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها"[12]، وقال قتادة: "هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بُعده من الهدى وهلاكه"[13]. تحريمه والدعوة إلى البراءة منه: حيث أورد الذكر الحكيم في مواضع عديدة تحريم الشرك، قال جل جلاله: ﴿ وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذوا إِلهَينِ اثنَينِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيّايَ فَارهَبونِ ﴾ [النحل: 51]، فنسب الأمر فيه لذاته سبحانه وتعالى، ناهيًا عن اتخاذ شريكٍ له، وآمرًا بتوحيده ورهبته وحده لا شريك له، فهذا عماد دينه منذ خلق السموات والأرض. وأورد ذلك أمرًا وحكايةً على لسان نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه تعالى: ﴿ قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالَوا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَينَنا وَبَينَكُم أَلّا نَعبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنا بَعضًا أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقولُوا اشهَدوا بِأَنّا مُسلِمونَ ﴾ [آل عمران: 64]، فدلَّ على أن تحريمه يعُمُّ كل المبلَّغين من أهل الكتاب والمشركين، وأن إظهار البراءة منه واجبٌ على كل مسلم. بل دلَّل على تمام البراءة منه على لسان نبيِّه فجعلها براءتان، الأولى براءة من الشهادة على أن مع الله آلهة أخرى، والثانية براءة مما أشرك المشركون، قال عز شأنه: ﴿ قُل أَيُّ شَيءٍ أَكبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهيدٌ بَيني وَبَينَكُم وَأوحِيَ إِلَيَّ هذَا القُرآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُم لَتَشهَدونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخرى قُل لا أَشهَدُ قُل إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّني بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ ﴾ [الأنعام: 19]، كما دلَّل على تمام البراءة من معبوداتهم ومن دينهم كما في سورة [الكافرون]. ونهى نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الاستغفار لهم، قال جل جلاله: ﴿ ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولي قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحابُ الجَحيمِ ﴾ [التوبة: 113][14]. كما أورد البراءة منهم على لسان خليله إبراهيم عليه السلام من قبل، لما تبيَّن له الحق وعرفه، شهد شهادة الحق، وأظهر خلاف قومه أهل الباطل وأهل الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، وأخبر أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحب من التوحيد[15]، قال جل جلاله: ﴿ إِنّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرضَ حَنيفًا وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ ﴾ [الأنعام: 79]. ثم أخذ عليه العهد بعدم الشرك – وهو الحنيف المبعوث بالحنيفية – حين أمره بعمارة بيته الحرام: ﴿ وَإِذ بَوَّأنا لِإِبراهيمَ مَكانَ البَيتِ أَن لا تُشرِك بي شَيئًا وَطَهِّر بَيتِيَ لِلطّائِفينَ وَالقائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجودِ ﴾ [الحج: 26]. كما أوردها على لسان كلمته عيسى ابن مريم – عليهما السلام – ردًّا على دعوى النصارى، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذ قالَ اللَّهُ يا عيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتَّخِذوني وَأُمِّيَ إِلهَينِ مِن دونِ اللَّهِ قالَ سُبحانَكَ ما يَكونُ لي أَن أَقولَ ما لَيسَ لي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ ما في نَفسي وَلا أَعلَمُ ما في نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلّامُ الغُيوبِ ﴾ [المائدة: 116]، فبيَّن تنزيهه لربه وبراءته من هذه الدعوى بأتم عبارة وأكمل أدب في خطابه مع الله. وأوردها كذلك على لسان نبيِّه هود عليه السلام، حيث قال عز وجل مخبرًا عن حواره مع قومه: ﴿ إِن نَقولُ إِلَّا اعتَراكَ بَعضُ آلِهَتِنا بِسوءٍ قالَ إِنّي أُشهِدُ اللَّهَ وَاشهَدوا أَنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ ﴾ [هود: 54]، فأشهد الله ثم أشهدهم على براءته من شركهم. وعلى لسان نبيِّه يوسف عليه السلام في حواره مع صاحبي السجن، قال جل شأنه: ﴿ قالَ لا يَأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِهِ إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأويلِهِ قَبلَ أَن يَأتِيَكُما ذلِكُما مِمّا عَلَّمَني رَبّي إِنّي تَرَكتُ مِلَّةَ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُم كافِرونَ * وَاتَّبَعتُ مِلَّةَ آبائي إِبراهيمَ وَإِسحاقَ وَيَعقوبَ ما كانَ لَنا أَن نُشرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيءٍ ذلِكَ مِن فَضلِ اللَّهِ عَلَينا وَعَلَى النّاسِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَشكُرونَ ﴾ [يوسف: 37-38]، فأوضح أن الهداية لاتباع الملَّة الحنيفية ونبذ الشرك، إنما هي فضل من الله على أنبيائه وعباده، قلَّ من اهتدى لشكر الله عليه. كما أوردها في سورة الكهف في سياق حوار الرجل المؤمن الموحد لربه الشاكر لأنعمه، حين قال: ﴿ لكِنّا هُوَ اللَّهُ رَبّي وَلا أُشرِكُ بِرَبّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 38]، ردًّا على صاحب الجنتين المتمرِّد، المختال بما عنده الكافر بنعمة ربه ولقائه، فبيَّن سوء عاقبته وشدَّة ندمه على ما أشرك بالله، قال جل جلاله: ﴿ وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها وَيَقولُ يا لَيتَني لَم أُشرِك بِرَبّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]، قال قتادة: "أي يصفق متلهفًا على ما فاته، فيتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدًا، يعني بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله، ودَّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئًا"[16]. مع أن سياق الآيات يوضح اعترافه بربوبية ربه، وعدم اتخاذه شريكًا له من صنم أو وثن، ولكنه أشرك به نفسه، واغتر بما عنده على من هو دونه، وظن أن ما عنده لن يزول أبدًا، فكانت عاقبته الحسرة والخسران. وأوردها أيضًا حكاية عن الجن، الذين ما فتئوا أن سمعوا قرآن ربهم حتى آمنوا به وأعلنوا براءتهم من الشرك، قال عز شأنه: ﴿ قُل أوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقالوا إِنّا سَمِعنا قُرآنًا عَجَبًا * يَهدي إِلَى الرُّشدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَن نُشرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1-2][17]. وحكى تحريم الشرك والنهي عنه على لسان لقمان الحكيم في سياق وعظه لابنه، قال جل ذكره: ﴿ وَإِذ قالَ لُقمانُ لِابنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشرِك بِاللَّهِ إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظيمٌ ﴾ [لقمان: 13][18]. كما أورد الذكر الحكيم تحريم الشرك في سياق ذكره عددًا من المحرمات، كما في قوله تعالى: ﴿ قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ ﴾ [الأعراف: 33]، وقوله جل شأنه: ﴿ قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ ﴾ [الأنعام: 151]. نفيه عن أهل التوحيد: حيث أورد الذكر الحكيم نفي الشرك عن أهل التوحيد كافَّةً، من الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم الحنيف إلى يوم الدين، قال عز شأنه ردًّا على أهل الكتاب ممن ادَّعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعبدوه: ﴿ ما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقولَ لِلنّاسِ كونوا عِبادًا لي مِن دونِ اللَّهِ وَلكِن كونوا رَبّانِيّينَ بِما كُنتُم تُعَلِّمونَ الكِتابَ وَبِما كُنتُم تَدرُسونَ ﴾ [آل عمران: 79]، فنفى بذلك شبهة الشرك عن أنبيائه ورسوله رضوان الله عليهم جميعًا. وكان أمره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة [الإخلاص] جامعًا لمعانِ التوحيد لله سبحانه وتعالى، نافيًا لأسباب الشرك به. وقال جل جلاله مخاطبًا نبيَّه: ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ * لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ ﴾ [الأنعام: 162-163]. وقال نافيًا شبهة الشرك عن نبيِّه ومُعلِّمًا إياه منطق الحوار مع المشركين: ﴿ قُل إِنّي أُمِرتُ أَن أَعبُدَ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدّينَ * وَأُمِرتُ لِأَن أَكونَ أَوَّلَ المُسلِمينَ * قُل إِنّي أَخافُ إِن عَصَيتُ رَبّي عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَهُ ديني * فَاعبُدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ قُل إِنَّ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم وَأَهليهِم يَومَ القِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ ﴾ [الزمر: 11-15]. وقال عز وجل في سياق الرد على دعوى اليهود والنصارى واصفًا خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَقالوا كونوا هودًا أَو نَصارى تَهتَدوا قُل بَل مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾ [البقرة: 135]، وقال تعالى شأنه: ﴿ ما كانَ إِبراهيمُ يَهودِيًّا وَلا نَصرانِيًّا وَلكِن كانَ حَنيفًا مُسلِمًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾ [آل عمران: 67]، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر من نفس السورة آمرًا نبيَّه: ﴿ قُل صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعوا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾ [آل عمران: 95]. فبرَّأ خليله من اليهود والنصارى الذين ادَّعوا أنه على دينهم، مع كونه مبعوثًا قبلهم، ومن المشركين الذي اتخذوا مع الله آلهةً، فجعله "حنيفًا" متَّبعًا أمر الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها، و"مسلمًا" خاشعًا لله بقلبه، متذللًا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه[19]. كما دلَّل الذكر الحكيم على نفي الشرك عن المؤمنين عامَّةً، قال عز وجل: ﴿ وَالَّذينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكونَ ﴾ [المؤمنون: 59]، فكان ذلك سمةً مميزةً وملازمةً لهم حال إيمانهم، وكانوا بذلك أهلًا للأمن والهداية في الدنيا والآخرة ما لم يخالط إيمانهم شرك، قال عز شأنه: ﴿ الَّذينَ آمَنوا وَلَم يَلبِسوا إيمانَهُم بِظُلمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدونَ ﴾ [الأنعام: 82]، والظلم في هذه الآية هو الشرك، كما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لما نزلت هذه الآية: ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾"[20]. وقال سبحانه وتعالى في سياق تعداده لصفات عباده المؤمنين الموحِّدين: ﴿ وَالَّذينَ لا يَدعونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقتُلونَ النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ وَلا يَزنونَ وَمَن يَفعَل ذلِكَ يَلقَ أَثامًا ﴾ [الفرقان: 68]، فهم يعبدونه وحده لا شريك له، مقبلين عليه حنفاء عن ما سواه، ملتزمين ما أمرهم به، منتهين عن ما نهاهم عنه. كما وعد أهل الإيمان بالاستخلاف والتمكين، والأمن بعد الخوف، ووصفهم بأنهم عابدون له وحده لا يشركون به شيئًا، قال جل جلاله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ ﴾ [النور: 55]. البرهان على بطلانه: حيث برهنت صفحات الذكر الحكيم على بُطلان الشرك وخواء دعواه، بأسلوبٍ حواريٍّ بليغ، ينقض منطق المشركين من أساسه، فبيَّنت فساد احتجاجهم بالقضاء والقدر على ما هم فيه من الشرك وتحريم ما أحل الله، قال تعالى شأنه: ﴿ سَيَقولُ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمنا مِن شَيءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم حَتّى ذاقوا بَأسَنا قُل هَل عِندَكُم مِن عِلمٍ فَتُخرِجوهُ لَنا إِن تَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن أَنتُم إِلّا تَخرُصونَ ﴾ [الأنعام: 148]، ودعواهم هذه باطلة لا زالت تتواصى بها قرون المكذوبين إلى يوم الدين، ولو كانت صحيحة لما كانوا أهلًا للعذاب، إنَّما هي دعوى الظن والخرص[21]. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّماواتِ وَمَن فِي الأَرضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذينَ يَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ ﴾ [يونس: 66]. وحَكَت في مواضع عديدة دَيْدَن المشركين عند البلاء، من رجوعهم إلى توحيد ربهم ودعائه وحده لا شريك له، وأنه ما إن ينكشف البلاء حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والضلال، قال عز وجل: ﴿ فَإِذا رَكِبوا فِي الفُلكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُم إِلَى البَرِّ إِذا هُم يُشرِكونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، فالمشرك ليس منكرًا لربوبية ربه بالكلية، بل هو عارفٌ لها مقرٌّ بها في قرارة نفسه. قال عكرمة: "كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب."[22] ، وقال قتادة: "فالخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك"[23] [24]. كما بيَّنت أن ذلك حادثٌ عند النعمة أيضًا، قال جل ذكره: ﴿ هُوَ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِلَيها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَت حَملًا خَفيفًا فَمَرَّت بِهِ فَلَمّا أَثقَلَت دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِن آتَيتَنا صالِحًا لَنَكونَنَّ مِنَ الشّاكِرينَ * فَلَمّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمّا يُشرِكونَ ﴾ [الأعراف: 189-190]. وقد حاور النص القرآني المشركين ببيان فساد منطق تعدد الآلهة، قال عز وجل: ﴿ لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَمّا يَصِفونَ ﴾ [الأنبياء: 22]، وقال جل شأنه: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِن إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعضُهُم عَلى بَعضٍ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفونَ ﴾ [المؤمنون: 91]، فبيَّن أن انتظام السماوات والأرض وما بينهما لا يتم بوجود أربابٍ متفرقين يخلق كل منهم ما يشاء، ويعلو بعضهم على بعض. فدلَّ ذلك على انفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، وتفرُّده بالخلق والأمر. كما حاورهم في مواضع عديدة ببيان ذلَّة شركائهم وانعدام نفعهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَهُم أَرجُلٌ يَمشونَ بِها أَم لَهُم أَيدٍ يَبطِشونَ بِها أَم لَهُم أَعيُنٌ يُبصِرونَ بِها أَم لَهُم آذانٌ يَسمَعونَ بِها قُلِ ادعوا شُرَكاءَكُم ثُمَّ كيدونِ فَلا تُنظِرونِ ﴾ [الأعراف: 195]، وقال عز ذكره: ﴿ قُل هَل مِن شُرَكائِكُم مَن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ فَأَنّى تُؤفَكونَ * قُل هَل مِن شُرَكائِكُم مَن يَهدي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهدي لِلحَقِّ أَفَمَن يَهدي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدّي إِلّا أَن يُهدى فَما لَكُم كَيفَ تَحكُمونَ ﴾ [يونس: 34-35]، فبيَّن أن هذه الآلهة لا تحمل من الأوصاف الموجبة لعبادتها شيئًا، بل هي متصفة بكل ما يوجب تسفيهها وتحقيرها، كما أنها عاجزة عن نصر شركائها تمامًا كعجزها عن نصر نفسها! قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذينَ تَدعونَ مِن دونِهِ لا يَستَطيعونَ نَصرَكُم وَلا أَنفُسَهُم يَنصُرونَ ﴾ [الأعراف: 197]. ودلَّل على استحالة نفعها واستجابتها لهم بتشبيه عربيٍّ بليغ، قال جل ذكره: ﴿ لَهُ دَعوَةُ الحَقِّ وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِهِ لا يَستَجيبونَ لَهُم بِشَيءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيهِ إِلَى الماءِ لِيَبلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ ﴾ [الرعد: 14]، والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلًا بالقابض على الماء[25]، وقال بعضهم: فإنِّي وإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إلَيْكُمُ ![]() كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسِقْهُ أَنَامِلُه[26] ![]()
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |