|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مصطلحات لها معنًى آخرُ (الوعي واليقظة الذهنية) مريم رضا ضيف أثار انتباهي مؤخرًا منشور يتحدث عن "الصيام"، لكن ليس بوصفه عبادةً نتقرب بها إلى الله عز وجل فقط، بل كوسيلة أيضًا لـ "برمجة الوعي وحضور الذهن". بدا المنشور بريئًا في ظاهره، لكنه أثار الرِّيبة في نفسي؛ فهناك معنًى يُسلَب وآخر يُدسُّ. كم هو مربك أن تجرَّد المفاهيم من معانيها، وتُستخدم في غير سياقها المعروف، فيلبَّس على قارئها، ولو فكرت في التعبير بها، فستتردد ألف مرة خشيةَ أن تُفهم كما يُروج، لا كما تُقصد؛ ومن تلك المفاهيم التي تم العبث بها: (الوعي). ومعناه في اللغة: إدراك الشيء وفهم حقيقته، والتمييز بين الجيد والسيئ. كما يُعرف أيضًا بالحفظ؛ كما ورد في الحديث: ((يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثَّل لي الملَك رجلًا، فيُكلمني، فأعي ما يقول))؛ أي: وقد فهِم وحفِظ عن الملك ما قال. ويُطلق الوعي كذلك على الانتباه والتركيز، حين تعي الأمر وتفهمه بوضوحٍ. لكن... في الفكر الفلسفي والغربي يأخذ "الوعي" بُعْدًا آخر؛ وهو ما يسمُّونه بـ "اليقظة الذهنية" أو التأمل الواعي؛ وهي – باختصار - جلساتُ تأملٍ يستحضر فيها الإنسان وعيَه وتركيزَه؛ ليدرك مشاعره وأفكاره دون حكم عليها أو تأويل، ليصل إلى ما يسمونه "السلام الداخلي"، حتى يتوحَّد ويتواصل مع الكون من حوله. وهذا لا شكَّ ليس إدراكًا عقليًّا، بل هو تأمل باطني، يزعم أن لدى الإنسان قدراتٍ داخليةً كامنة ستنمو مع الممارسة، وحين يصل إلى مستوى عالٍ من الوعي، يمكنه أن يتحكم في واقعه، ويُغيِّره بتفكيره المجرد. وهنا مكمن الخطر؛ لأن هذا جوهر مفهوم "الإلهية الذاتية" - والعياذ بالله - حيث يعتمد الإنسان على ذاته، ويؤمن بقدرته على صنع واقعه، فيتجرد تدريجيًّا من حاجته إلى الله سبحانه وتعالى. يقول الدكتور خالد الجابر حفظه الله في نقد مفهوم اليقظة العقلية: "إن بها طقوسيةً تضيِّع هُوية المسلم، وتزاحم الحلول الإسلامية، وتحول قوة الإنسان لنفسه، ويستقل بها عن الله، وأضاف أن بها بعدًا فلسفيًّا تكوينيًّا لا يمكن عزله، وأنت لا تحتاج إلى هذه الممارسات، لأن الدخول فيها يفتح عليك بابًا واسعًا". وعرض في هذا اللقاء دراساتٍ غربية تنقض هذه الفنيَّة، ولا تؤمن بتأثيرها. فيا للعجب، ما بالنا نحن نستقبل ما عندهم بانبهار وتسليم، وكأنها حلول لكل المشاكل، وأنها هي أسلوب الحياة السليم؟! تُرى كيف وصلت إلينا تلك المفاهيم، ولم نهتم بما يرِد منها؟ إنها – للأسف - أصبحت واقعًا دخيلًا علينا، تسربت مفاهيمه إلينا عَنوةً في عباءة التنمية البشرية، وتستَّرت بحجاب الدين، ودعا إليها دعاة تطوير الذات حتى تغلَّل خبثها بين الناس، دون إدراك للمصيبة التي تحملها في طياتها من عقائدَ باطنيةٍ فاسدة، التي تزعزع عقيدة المسلم إذا لم يفطَن. وأما من يقول: الغرب عندهم علم، وأن هذه الممارسات لها منفعة، فلِمَ نرفضها؟ فنقول: إنها مهما كانت آراء بشرية تحمل الصواب أو الخطأ، فلا تسلم لها، ولا تأخذ منهم إلا بعد أن تستوفي ما في كتاب الله وسنة رسوله، وبقدر ما يناسب ديننا، وذلك بعين ناقدة وبصيرة شرعية، تميز الضار من النافع، والفاسد من الصالح. دعونا الآن نقترب ونرَ بأعيننا أمثلةً لشعارات برَّاقة تحمل هذا الفكر، ويروج لها بأنها محفزة؛ وهي: "ارفع وعيك الذاتي حتى تصنع مستقبلك وتتحكم بحياتك". "استمع لصوتك الداخلي، فهو يرشدك". "آمن بنفسك بقوة، وستحقق ما تريد". " ركز على ما ترغب، وسيأتيك حتمًا"، وغيرها الكثير. أرأيت كم تبدو جذَّابةً، وتلامس مشاعرك؟ إنها في الحقيقة وهمٌ هشٌّ، وتبطن معانيَ خفية خطيرة، إنها تعظِّم الذات، وتُقصي الخالق. فحين نتتبع أصل هذه الأفكار، ستجد أنها مستمدة من المذهب الوجودي، وهو مذهب إلحاديٌّ يجعل الإنسان محورَ الوجود، يركز على استقلاليته التامة، وقدرته على تقرير مصيره، وتولي أمر نفسه دون الحاجة لخالقه. ومكمن خطورة تبنِّي هذه المفاهيم وممارستها؛ أنك لا تدرك أنك تستدرج أنها تمسَّ دينك وتُضعف إيمانك، ويا لعظم الأمر، إنها تقترب من عقيدتك؛ أعظمِ ما تملك! وقد تعظم المفسدة حين تُتَّخَذ منهجًا ويروَّج له، ويُظَن أنها "وعي" حقيقي وتطوُّر، وهي زيف وبهتان. كم هو محزن أن تصبح مرجعيتنا ظلماتِ أفكارٍ تعج بالشركيات والبِدع الفكرية، ونغفُل عن الحق الذي أنزله من خلقنا وسوَّانا، وأعلم بنا منا، وفيه هدايتنا وسلامتنا! المؤمن يتلقى العلم الحقيقي من مصدره؛ يقول الله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]. ﴿ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ ﴾؛ أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر، وهي الحُجج البيِّنة الظاهرة. فمن أراد الحقَّ فإن القرآن هو مورِده، ومصدره، ومَعينه الذي لا ينضب، ومن طلب الهدى في غيره، أضله الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا عليَّ الحوض))؛ [رواه الحاكم في مستدركه]. فمتى ما عدنا إلى شريعتنا، فسنجد فيها كفايتنا، وسنعلم بطلان ما يدعون إليه؛ عندما نتذكر قول الله عز وجل: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، سنتوقف عن تلك الممارسات؛ لأن طبيعة خلقة الإنسان أنه ضعيف، يحتاج إلى من يعبده ويتكئ عليه، فهو لا يملك من أمره شيئًا دون مولاه الذي سوَّاه، فهو يدبر أمره ويُيسره، ويسخِّر له رزقه ويبسطه، ويمنحه المعونة والتوفيق حتى تستقيم حياته. ثم إن التأمل شُرع ليكون سبيلًا للتقرب إلى الله عز وجل وتوحيده، وتنزيهه عن الخلائق، فقد دعانا المولى إلى التفكر والتأمل في ملكوته وفي النفس التي أحسن خلْقَها، وفي عظيم ودقيق مخلوقاته، وفي الحياة من حولنا؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الروم: 8]، وقوله: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، فلو تأمل المسلم وجال بنظره في الكون الفسيح، فسيدرك يقينًا عظمة خالقه، سيعرف قدر نفسه ومكانته، سيتجه بقلبه إلى مولاه تعظيمًا وإخباتًا، سيتبرأ من حَوله وقوته، ولن يلتفت إلى أحدٍ من خلقه، لكن أنى لهؤلاء أن يدركوا عظمة ديننا؛ فهم ينكرون وجود الله، فكيف سيهتدون إلى الحق؟ أما العبادات المشروعة التي حث عليها الدين، وتعين على سلامة النفس واستقامتها هي: (الخلوة بالنفس)؛ أن يكون العبد بصيرًا فينظر في حال نفسه وسيره إلى الله، أين هو منه؟ وكيف يسير إليه؟ هل ما زال على طريقه أم انحرف عنه؟ كيف هي أخلاقه وسلوكه؟ هل أخلاقه قرآنية، وسلوكه محمدي، أم تحتاج إلى تهذيب؟ يظل يراجع نفسه ويحاسبها ويقوِّمها حتى تتزكى وتتطهر وترتقي؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]. إن تلك الخلوة ليس فيها تأمل ذاتي، أو تخيل وانفصال عن الواقع، ولا اعتماد عليها، ورفعها فوق مكانتها. تلك هي الجلسات المشروعة التي يرتضيها الله، تقوَّم فيها النفس وتتهذب، يخرج منها المسلم بصيرًا بنفسه، ملتمسًا رضا ربه. ومن المهم أن يُذكر في هذا المقام أن الله تعالى سمَّى الأشياء بأسمائها؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، فوجب الحذر في هذا الزمان من المسميات، فلا بد أن نسميها بأسمائها اللغوية والشرعية كما سمَّاها الله، إذ ممَّا عمَّت به البلوى اللعِب بالمصطلحات، وتغيير مسمياتها الأصلية، ظنًّا أن يرفعوا حرمتها، وحتى يلبِّسوا على الناس أمر دينهم. لكن المؤمن العارف بدينه ينتبه للسياق الذي يُذكر فيه المفهوم، فحين تحرَّف المعاني، وتُستخدم المصطلحات في غير سياقها المعروف، يتوقف ويتبصر ويرُد الأمر إلى ما قال الله ورسوله. فهذا هو الوعي الحق، البصيرة التي تصِلك بربك وتصون عقيدتك، وتردُّك إلى كتاب الله ومعرفته، لا إلى نفسك الضعيفة، ولا إلى أوهام البشر.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |