معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4899 - عددالزوار : 1923437 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4469 - عددالزوار : 1241197 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13893 - عددالزوار : 743619 )           »          ليدبروا آياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          من خلق المسلم: الرفق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 89 )           »          أبو منصور الجواليقي‎ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          خطبة الجمعة والفرص الضائعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الخطابة في الأندلس المنذر بن سعيد البلوطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          قراءة في حديث (البر والإثم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          من وحي سورة القصص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-05-2025, 05:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,134
الدولة : Egypt
افتراضي معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير

معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير (1 - 2)


. فايز بن سعيد الزهراني










عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أشراط الساعة أن ‌يُرْفَع ‌العِلْم، ويَثبت الجهل»[1]. هذا حديث صحيح صريح في خفوت العلم بين يدي الساعة وتفشّي الجهل. والمقصود هو عِلْم الدين الأصيل، المأخوذ من الكتاب والسنة وعمل الصحابة -رضي الله عنهم-.
ثم إن لهذا الحديث تكملةً وألفاظًا تدلّ على امتدادات واقترانات؛ ففي هذا الحديث عن أنس -رضي الله عنه-: «إن من أشراط الساعة أن ‌يُرْفَع ‌العِلْم، ويَثبت الجهل، ويُشْرَب الخمر ويظهر الزنا». وفي بعض النُّسخ لصحيح مسلم: «ويُبَثّ الجهل»[2]. وفي لفظ: «إن من أشراط الساعة أن ‌يُرفع ‌العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القَيّم الواحد»[3].
وفي رواية عن أبي وائل قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى -رضي الله عنهما- فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن بين يدي الساعة أيامًا يُرفَع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج؛ والهرج القتل»[4].
وفي رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتقارب الزمان، ويُقبَض العِلْم، وتظهر الفتن، ويُلقَى الشُّح، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل»[5]. وفي لفظ: «وينقص العلم».
العلم الشرعي قوام المجتمعات
لقد أدرك السلف قوة العلم الشرعي في نهضة المجتمعات ورقيّها الإنساني، فعن عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا: «الاعتصام بالسُّنن نجاة، والعلم يُقْبَض قبضًا سريعًا؛ فَنَعْشُ العِلْم ثباتُ الدين والدنيا، وذهاب ذلك كله في ذهاب العلم»[6]. وقد قال بعض أهل التفسير من السلف، مثل ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: ٤١]: إن نقص الأرض من أطرافها «موت العلماء والفقهاء»[7]. قال ابن عطية: «وكل ما ذُكِرَ يدخل في لفظ الآية»[8]، بوصفه جزءًا من خراب الأرض.
هذا، وإن روايات «رفع العلم» تفيد أمرين:
1- نقص العلم وازدياد الجهل قبل قيام الساعة.
2- هذه العلامة لها ما يتبعها من اضطراب ديني واختلال اجتماعي.
قال ابن هبيرة: «في هذا الحديث من الفقه أنّ قدَر الله -تعالى- قد سبق أن يكون خراب الأرض عقيب كثرة الفساد فيها، وأنه إذا رُفع العلم ووُضِع الجهل»[9].
إن هذه الروايات تدل على خطر عظيم قادم، أو ربما بدأت بوادره في الظهور من زمن، كما حكى العلماء شيئًا من ذلك، قال ابن بطال: «وجميع ما تضمَّنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانًا؛ فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشُّح في القلوب، وعمَّت الفتن وكثُر القتل». وتعقَّبه ابن حجر فقال: «الذي يظهر أن الذي شاهَده كان منه الكثير مع وجود مقابله، ‌والمراد ‌من ‌الحديث ‌استحكام ‌ذلك ‌حتى ‌لا ‌يبقى ‌مما ‌يقابله ‌إلا ‌النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقَبْض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصِّرف. ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: «يُدْرَسُ الإسلامُ، كما يُدْرَسُ وشْيُ الثوبِ، حتى لا يُدْرَى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صدَقَةٌ، ويُسْرَى على كتابِ اللهِ في ليلةٍ، فلا يبقى في الأرضِ منه آيَةٌ، وتبقى طوائفٌ من الناسِ؛ الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ يقولونَ: أدركْنا آباءَنا على هذِهِ الكلِمَةِ، يقولونَ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فنحنُ نقولُها»[10]. ثم قال ابن حجر: «والواقع أن الصفات المذكورة وُجِدَت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض. والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاثمائة وخمسين سنة؛ والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها»[11].
وتأمل ما يقترن بتفشّي الجهل وخفوت العِلْم من الفتن والبلايا والرزايا، تُدرك أن خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ليس لمجرد الإخبار وإظهار معجزات النبوة، فإن هناك تكليفًا يكمن وراء هذه الإخبارات، على صاحبها الصادق المصدوق أفضل الصلاة والسلام. قال ابن حجر: «وكأن هذه الأمور خُصَّت بالذِّكر لكونها مُشعِرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي: الدِّين؛ لأن رَفْع العلم يُخِلّ به، والعقل لأن شرب الخمر يُخِلّ به، والنسب لأن الزنا يُخِلّ به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تُخِل بهما»[12].
الطريق إلى مجتمعات جاهلة
ألفاظ الأحاديث راوحت بين الرفع والقبض والنقص، فاعتُبِرَ البدء بالنقص والانتهاء بالرفع. ولنَقْص العلم الشرعي في المجتمعات أسباب وصُور يُعرَف بها تحقُّق الحديث؛ فمن ذلك:
- فقد العلماء:
وهو من أبرز صور التراجع العلمي، وقد جاء في ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رُؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا»[13]. ولما سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبا هريرة يقول: «يُرفَع ‌العِلْم» قال عمر: «أمَا إنه ليس يُنزَع من صدور العلماء، ولكن يذهب العلماء»[14].
فموت العالم يُحْدِث ثغرة في الجدار العلمي للمجتمع، فيحصل اضطراب ما، فيبحث الناس عمَّن يُفتيهم في نوازلهم وأقضيتهم فيتجرأ الجهلاء على التصدّي لهذا الشأن العلمي الكبير. وكم رأينا ممن يتطاول على العلم الشرعي بعد وفاة الأكابر من أهل العلم، ولم يجد مَن يردعه، فإلى الله المشتكى.
ويُشبه موت العلماء: عَزْلهم عن المجتمع، وعزل المجتمع عنهم، فإن العالم إذا لم يكن متداخلاً مع قضايا مجتمعه وأُمّته، فكأنه مات، ولم يُنتفع به، وتخبَّط الناس في دينهم ودنياهم، وتسبَّب ذلك في وقوع الأخطاء الكبرى.
ومن صور عزلهم: ما تقوم به كثير من الجامعات والكليات من إغراق المنتسبين للهيئات التعليمية بها في الأعمال الإدارية والأبحاث العقيمة التي لا تتصل بالمجتمع، ولا تنهض بالأمة، ولا تصنع الحلول لأزماتها، ولا تبدع في إنتاج أفكار جديدة مُؤصَّلة شرعًا، حتى إنك لربما رأيت في المدينة الواحدة عشرات من العلماء وعشرات من طلبة العلم، لكنّ المجتمعات تَفتقدهم ولا تعرفهم.
- ترؤس الجهال وتصدُّر المبتدئين:
وهو تابعٌ لما قبله، قال أبو العباس القرطبي: «وهو نصّ في أن رفع العلم لا يكون بمَحْوه من الصدور، بل بموت العلماء وبقاء الجهال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يفتون بالجهل ويعلمونه، فينتشر الجهل ويظهر، وقد ظهر ذلك ووُجِدَ على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك دليلاً من أدلة نُبُوّته، وخصوصًا في هذه الأزمان؛ إذ قد ولي المدارس والفتيا كثير من الجهال والصبيان، وحُرمها أهل ذلك الشأن»[15].
وهو ينعي زمانه (وقد تُوفِّي سنة 656هـ)؛ فكيف لو رأى زماننا، وكيف أصبحت المسائل الشرعية، بل المحكمات والإجماعات أُلعوبة بيد بعض الجهال من أهل الإعلام وصُنّاع المحتوى والمستضافين في البرامج الحوارية؟! إنه لمؤسف حقًّا.
وبعض الناس يقصد الخير، ويريد نشره، لكنّه لم يتمكن من العلم الذي يجعله أهلًا للتصدر، وقد كان بإمكانه أن يساعد في نشر الخير دون أن يتصدر للناس فيُضِلّهم دون أن يشعر أو يقصد.
إن مظاهر ترؤس الجهلة وتصدُّر المبتدئين فاشية اليوم، وصار -وفقًا لعرف حرية التعبير- متاحًا لكل من هبَّ ودبَّ أن يُفتي في دين الله، وأن يقول رأيه في القضايا والنوازل تحت لافتة «صانع محتوى».
ومن أعجب ما يَطرق الأسماع: أن طائفة من الشباب الذين لم يتجاوزوا الثلاثين من أعمارهم، وربما أصغر من ذلك بكثير، يقول أحدهم: ما رأيت في حياتي أكثر كذا وكذا من كذا! أو يقول: لا أعلم شيئًا أفعَل كذا وكذا من كذا! والسؤال لكل واحد من هؤلاء: هل نستطيع أن نقول عنك أنك صاحب تجربة وعلم؟
وأما ثالثة الأثافي فهي تصدير الفنانين والفنانات للحديث عن أمور شرعية أو اجتماعية ذات امتداد شرعي، فهذا قد كثر في الآونة الأخيرة، بلا خجل ولا اعتبار، ويتلقَّاه المعجبون بالقبول، وإنها لفادحة الدهر.
فحديث قبض العلم يتضمَّن في طياته تحذيرًا من هذه المسالك التي نعاينها اليوم؛ قال ابن حجر: «وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل؛ لما يترتب عليه من المفسدة»[16].
- الانحراف في منهجية العلم:
إن لطلب العلم آدابًا وطريقةً ومنهجًا، وكذلك لنشر العلم آدابًا وطريقةً ومنهجًا، وهذه المنهجيات تُمثّل البوصلة في طريق العلم الصحيح. وقد ورثتها الأمة عن سلفها جيلًا بعد جيل، فلا يجوز التغافل عنها، ولا ينبغي الحيدة عنها.
ومن أهمها: الأخذ من الشيوخ الربانيين، ومعرفة حال مَن نأخذ منه العلم، قال ابن سيرين: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ؛ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»[17]. وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: «لا يُؤخَذ العِلْم إلَّا مِمَّن شُهِدَ له بالطَّلَب»[18]. ويبيّن الشاطبي أن التحقُّق في العلم لا يكون بغير أخذه عن أهل العلم المتحققين به، قال: «مِن أنفع طرق العِلْم المُوصِّلة إلى غاية التحقق به: أخْذُه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام»[19].
واليوم يتصدَّى البعض للتعليم ونشر العلم، وهم ما بين مجهول الحال لا يُعرَف حاله ولا اعتقاده ولا طريقته ولا شيوخه، ولم يُزَكِّه العلماء والشيوخ، وما بين مجهول العين الذي لا يُعرَف اسمه أصلاً، فضلاً عن حاله، فهو يتكلم باسم مستعار ولقب غير معروف؛ فيتصدى لنشر العلم والإفادة فيُفْسِد أكثر مما يُصْلِح، ويتابع مجهولي الحال والعين خلقٌ كثير -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، مع أنهم ممن لا تنطبق عليهم طريقة العلم والتعلم الشرعي المؤصّل. فهذا من نقص العلم وظهور الجهل.
-جعل العلم سبيلاً إلى الأغراض الدنيوية:
يتخذ بعضهم العِلْم وسيلة للوصول إلى المنافع الدنيوية والمصالح الشخصية، سواء كانت مالية كالرشاوى والنقود والمتاع، أو معنوية كالترقي في الرُّتَب والمناصب الوظيفية، والفوز برضا المسؤول، والسلامة من غضب السلطان، ونحو ذلك. وهذا مُخالف لهَدْي السلف الصالح، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ، وَتُتَخَّذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قِيلَ: قَدْ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ؟» قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: «إِذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ»[20].
وهذا سبيل فريق من علماء أهل الكتاب الذين ذمَّهم القرآن في مواضع متعددة من كتابه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾[آل عمران: 187]. لقد امتهنوا العلم، حتى صاروا يساومون به، ولكثرة وقوعهم فيه ضاعت حقيقة العلم، وأصبح لهذا المفتي رأيان: حقّ وباطل، وأصبح لذلك العالم قولان: صدق وافتراء، وكلاهما يُبذَل بحسب الدفع والرغبة! لا ريب أن هذا مدخل من مداخل الفتن على المسلمين، وصدق ابن مسعود -رضي الله عنه-.
وانظر إلى الكليات والمعاهد الشرعية اليوم؛ فقليلًا ما تجد في طلابها مَن يحمل سيماء العلم والدين! وقليلاً ما تجد مَن يلتحق بها ومِن مقاصده تعلُّم العلم الشرعي وضبطه ونشره؟!
- تضييع العالم نفسه:
وهذه الصورة جديرة بالتأمل؛ لأنها تتكرر كثيرًا، ولأهميتها ذكرها الإمام البخاري حين بوَّب في صحيحه لرفع العلم وظهور الجهل، فقال: «وقال ربيعة: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ». وربيعة هو ربيعة الرأي الفقيه المدني المعروف المتوفى سنة136هـ. ويحتمل تضييع نفسه هنا ثلاثة معاني، ذكرها ابن حجر[21]، وهي:
-أن من كان فيه فَهْم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يُهْمِل نفسه فيترك الاشتغال به؛ لئلا يؤدي ذلك إلى رَفْع العلم.
-الحثّ على نَشْر العلم في أهله وطلبته؛ لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم.
-أن يُشهِر العالم نفسه، ويتصدَّى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.
وهذه الصورة -أعني تضييع نفسه- لا تنبع غالبًا من سوء قصد أو انحراف ديني، لكنّ الشيطان يحاول أن يُثني طلاب العلم عن نشره، بما يُوهمهم أن انكفاءهم على أنفسهم هو الصواب، ويُوحي إليهم أنهم لما يزالوا متعلمين، أو أنهم غير مُؤهَّلين لنشر العلم، أو أنه ينبغي عليهم أن يُصلحوا أنفسهم أولاً، ونحو ذلك من الحِيَل التي لا يَكُفّ الشيطان عن بَثّها في صدور طلبة العلم؛ يريد بذلك الإسهام في نقص العلم وتجهيل الناس.
ولَكَمْ فَتَكَت هذه الحِيلة في كثير من طلبة العلم وأهل العلم والمعرفة في زماننا! فانكفأوا على أنفسهم وداخل مكتباتهم، لا يلوون على شيء، يعكفون على كتبهم قراءةً وتلخيصًا، وعلى المسائل والأبواب دراسةً وتحقيقًا، ولا يَودّ أحدهم أن يتقحم أبواب التعليم وإفادة الناس.
ثم بعد مدة تجد جزءًا من هؤلاء قد ترك الاشتغال بالعلم، تعلُّمًا وتعليمًا، واكتفى بما حصل عليه من شهادات أو وظائف، وبعضهم باع مكتبته أو أوقفها في أحسن الأحوال!
ومن تضييع العلم ما فطن له ابن القاسم -رحمه الله-، فأوصى عيسى بن دينار الغافقي وهو قافل إلى الأندلس، فقال له: ‌«عليك ‌بأعظم ‌مدائن ‌الأندلس فانْزِلْها، ولا تَنْزل منزلًا يضيع فيه ما حملت من العلم»[22]؛ لأن بعض البلدان والمجتمعات يضيع فيها طالب العلم، ولا يستطيع أن يفيد فيها، فينبغي له التحوُّل منها إلى مواقع أخرى تُعينه على نشر العلم، وقد روى رواد بن الجراح أن ‌سفيان ‌الثوري قدم ‌عسقلان فمكث ثلاثًا لا يسأله أحد في شيء، فقال: «اكْتَرِ لي أخرج من هذا البلد؛ هذا بلد يموت فيه العلم»[23]؛ أي: استأجر لي مركبًا لأخرج من هذا البلد.
وهذا الوصف من ربيعة الرأي، وهو الفقيه الحاذق، يدل على عمق المعنى: «تضييع النفس»؛ وذلك لأن لظهور الجهل وخفوت العلم أسبابًا وصورًا أخرى غير ما ذكرنا، كضعف الجدية عند طلاب العلم، والتقصير في نشر العلم، وإهمال الأخذ عن العلماء الربانيين، وظهور أدوات معرفية بديلة عن أدوات التعلم الأصيلة كالصحافة والقنوات، وإشاعة الجهل بين الناس وإعلاء مكانته من خلال إعلاء أهله، وغير ذلك من الأسباب والصور التي يمكنك أن ترى فيها نقص العلم ورفعه وبثّ الجهل وتثبيته.
وكثير مِن فتن هذا الزمان ناشئة عن ذلك، فأهل الدعوة إلى الخير يشتكون من تفشّي المنكرات في المجتمعات المسلمة، ومن اقتحام بعض الناس للكبائر والموبقات، وسقوط فئام من الشباب في المخدرات وإدمان المسكرات، ثم ما يترتب على ذلك من العدوان وسفك الدماء بين المسلمين...
إنها فتن تتراكم، ويقوم بعضها على بعض، ويعصم منها -بإذن الله- العلم النافع ونشره وبثّه وإعلاء أهله وتمكينهم من توجيه المجتمعات.


[1] أخرجه البخاري (81) ومسلم (2671).
[2] المنهاج 16/438.
[3] أخرجه البخاري (5222) ومسلم (2671).
[4] صحيح مسلم (2762).
[5] صحيح مسلم (157).
[6] جامع بيان العلم وفضله (1018).
[7] جامع البيان 16/497، موسوعة التفسير المأثور 12/161.
[8] المحرر الوجيز 3/319.
[9] الإفصاح 5/164.
[10] أخرجه ابن ماجه (٤٠٤٩)، والحاكم (٨٤٦٠)، والبيهقي (٢٠٢٨)، والحديث في صحيح الجامع (٨٠٧٧).
[11] فتح الباري 13/16.
[12] فتح الباري 1/179.
[13] صحيح مسلم (2673).
[14] المسند (10231).
[15] المفهم 6/705.
[16] فتح الباري 13/287.
[17] صحيح مسلم: 1/11.
[18] الكفاية في علم الرواية، ص87.
[19] الموافقات: 1/139.
[20] جامع بيان العلم وفضله (1135).
[21] فتح الباري 1/178.
[22] ترتيب المدارك 4/107.
[23] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/420.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-06-2025, 11:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,134
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير

معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير (2 - 2)


. فايز بن سعيد الزهراني









دعاة على أبواب جهنم
ثمة نصوص تدل على وجود نقطة ينكسر فيها المؤشر العلمي، ويتجه نحو الأسفل؛ هذه النقطة هي «الأئمة المُضِلّون»؛ فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وإنما أخاف على أُمّتي ‌الأئمة ‌المُضلِّين، وإذا وُضِع السيف في أُمتي لم يُرفَع عنها إلى يوم القيامة»[1].
وفي معنى «الأئمة المُضلِّين» يقول المظهري: «الأئمة جَمْع الإمام، وهو رأس القوم، ومَن يدعوهم إلى فعل أو قول أو اعتقاد»[2]. ويقول أبو الحسن الملا القاري: «هو مُقتَدى القوم ورئيسهم، ومن يدعوهم إلى قول أو فعل أو اعتقاد»[3]. ويقول الأمير الصنعاني: «والإمام مَن يَقتدي به القوم ويتبعونه في أقواله وأفعاله؛ ضالًّا كان أو مهتديًا، وإنما كان أخوف شيء على الأُمَّة لأنه يَقتدي به كلُّ تابع، فيضلّ بضلاله الجماهير، قيل: ويُحتمل أنه أريد به مَن يُؤْتَم به فيشمل العلماء؛ لأن ضلال العالم سبب لضلال الجاهل، والحديث تحذير عن فتنة من ضلَّ، وأنه يحترز عنه من عرفه»[4].
فالأئمة المُضلّون هم رؤساء الناس وزعماؤهم الذين يحملون الناس على رأيٍ ما أو اعتقاد ما أو سلوك ما، ويستخدمون في ذلك سلطانهم على الناس الحسي والمعنوي، وقد يدخل فيهم العلماء لأنهم أهل تأثير في الناس، لكنَّ بعض الروايات تُمايز بين العالم وهذا الإمام، كما جاء عن زياد بن حدير، قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: لا، قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم ‌الأئمة ‌المضلين»[5]. فالأئمة المُضلون هنا أهل سلطان وقوة. قال السهارنفوري: «كما وقعت فتنة القرآن في زمن الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-، وقُتِلَ فيها من علماء الحق بقدر لا يُحصى عددهم»[6].
فالمقصود أن نقطة الأئمة المضلين مرتبطة بزلة العالم، واللتين ستؤديان معًا إلى ضياع العلم ونشر الجهل، وأنت واجِد في مجتمعات المسلمين وغير المسلمين أن وسائل التأثير والتعليم والتثقيف تقع تحت سلطان أهل السلطان، وجُلّ مظاهر التراجع العلمي تمرّ من هنا.
وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- ما يشهد لخطورة الأئمة المضلين، فعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافةَ أن يُدركني؛ فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهليةٍ وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير مِن شرّ؟ قال: «نعم». فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن». قلت: وما دَخَنُه؟ قال: «قوم يستنّون بغير سُنتي، ويهدون بغير هديي، تَعرف منهم وتُنكر». فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، ‌دعاة ‌على ‌أبواب ‌جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها». فقلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا. قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تَلزم جماعة المسلمين وإمامهم». فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»[7].
فالحديث ذكر في آخر الترتيب «الدعاة على أبواب جهنم»، وعرفنا بأنهم منا ويتكلمون بألسنتنا، قال العلماء: «هؤلاء مَن كان مِن الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة»[8].
ولكنّ نقطة الانكسار هذه -أعني الأئمة المضلين- ما كان لها أن تكون بهذه القوة في التراجع العلمي وتمكين الجهل إلا بعد حصول الاختلال العلمي؛ قال الطيبي في شرحه لأثر زياد بن حدير: «وإنما قُدِّمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخريين»[9]. فهذا التخادم بين عالِم انحرفت بوصلته وحاكِم أغواه الشيطان من أكبر أسباب التراجع العلمي في المجتمعات وتجهيل الناس؛ إذ تُستخدم فيه وسائل التأثير وأدواته كوسائل الإعلام والأنظمة المفروضة ومؤسسات التعليم.
وبهذا التخادم بين أقوى المؤثرين في المجتمعات؛ تحصل الفتن المقترنة برفع العلم وتجهيل الناس، مثل: الانحدار الأخلاقي، وانتشار الرذيلة، وظهور النزعة العدوانية بين المجتمعات والأفراد، وشرب الخمور، حتى إنها لا تكون على مستوى الأفراد، أو أنها حالات نادرة، بل تُصبح مظاهر متمكنة في المجتمعات، فيصبح الخمر فيها أمرًا مشروعًا، وكذلك الزنا والعلاقات المحرمة، بل ربما تكون لها مؤسسات، مؤسسة للخمر، ومؤسسة للزنا، ومؤسسة للقتل، تحت مسميات يستسيغها الناس، وضمن إطار قانوني وهياكل إدارية. كما هو حاصل اليوم في جزء كبير منه.
نقص العلم وزيادة القلم!
مما يلفت النظر فيما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق- أنه أخبر ضمن ما أخبر به من نقص العلم ورفعه وتجهيل الناس وإعلاء منزلة الجهال، أنه مع ذلك أخبر بانتشار الكتابة والقراءة، ففي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين يدي الساعة: تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تُعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وفشوّ القلم، وظهور الشهادة بالزور، وكتمان شهادة الحق»[10]. والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفشوِّ القلم بين يدي الساعة، وأخبر في الأحاديث الأخرى بنقص العلم، فكيف يكون ذلك؟
الحق أننا اليوم في أوضح صور الجمع بين نقص العلم وفشو القلم، فأمر القراءة والكتابة أصبح مُشاعًا بين أكثر الناس، ووجود المدارس للطلبة في أغلب بلدان المسلمين شاهِد على ذلك، يتعلمون فيها القراءة والكتابة وعلومًا شتَّى، منها الدينية ومنها الدنيوية، لكن الذين يستفيدون من العلم الشرعي تحديدًا قلة قليلة لا تُمثِّل نسبة مع القراء الجهلة، وأنت واجد اليوم كثيرين يكتبون في صفحات التواصل الاجتماعي ويشاركون، لكنَّ أثَر العلم الشرعي عليهم وعلى أطروحاتهم قليل جدًّا، وكثير منهم يتحدثون اليوم عبر المدونات الصوتية وبرامج الحوارات، ولكنَّ أثر العلم الشرعي فيهم وفي أطروحاتهم قليل جدًّا، والمكتبة العربية اليوم تزخر بإنتاج كثير ومستمر، ولكنّ أثر العلم الشرعي فيها قليل جدًّا. ويمكنك قياس ذلك على العديد من المؤسسات والظواهر.
وعلى هذا يمكن تقسيم التعلم في زماننا المتأخر إلى قسمين: التعلم الواعي والعميق والمنهجي والمؤصل؛ وهذا قليل جدًّا، والتعلم السطحي الهلامي السائل الذي ليس له بوصلة؛ وهذا هو الأغلب. ويقتضي ذلك أن القراء على ضربين: ضرب لديه قراءاته المؤصلة والواعية والعميقة، وضرب له قراءاته المنبتة العاطفية التي لا تبني عقلاً علميًّا. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يُخبر عن زماننا الذي كثرت فيه الكتابة والقراءة، وكثر فيها الجهل وأُعلي من منزلته.
إن فشوّ القلم لا يلزم منه تعلُّم المجتمعات وتحضُّرها ورقيها، فإنما هو أداة ووسيلة، وليس هدفًا وغاية. إنما الهدف والغاية فيما ينبغي أن تنتجه العلوم من التديُّن والرقي والتحضر والإفادة والنماء، لذلك حين ينقص العلم الشرعي النافع ويفشو القلم بين جمهور الناس؛ تكثر الفتن والقلاقل والحروب والرذيلة. والله المستعان.
إيقاف المدّ التجهيلي
ونحن في آخر الزمان، وأمام عَلَم مِن أعلام النبوة وشَرْط من أشراط الساعة، وقد علمنا من خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن مِن أسباب حلول الفتن وتفشّي الموبقات والاقتتال بين المسلمين: نقصَ العلم وخفاءه؛ فإنه يجب علينا أن ننظر في خطة الإصلاح التي تجعل «العلم» ركيزة فيه، فيُضَمِّن أهل الدعوة والإصلاح اليوم البرامج العلمية في خططهم الإصلاحية ولا بد، وقد روى جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز، وقال في كتابه: «ومُرْ أهل الفقه من جندك، فلْينشروا ما علَّمهم الله في مساجدهم ومجالسهم»[11]. فكان نَشْر العلم جزءًا من خطة الإمام المجدد عمر بن عبد العزيز -يرحمه الله-.
بل هذا سبيل الأنبياء، فإنهم يُبْعَثُون على حين فترةٍ من الرسل، وعلى حين خفاء من العلم، فيُبْعَثُون إلى المجتمعات وقد غرقت في وَحل الشهوات وتلطَّخت بألوان الشرك والموبقات، وأحلت ما حرَّم الله وحرَّمت ما أحل الله، وقد جاء في حديث عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «أَلا إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممّا عَلَّمَنِي يَومِي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطانًا. وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقايا مِن أَهْلِ الكِتابِ، وَقالَ: إنَّما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقْرَؤُهُ نائِمًا وَيَقْظانَ... الحديث»[12].
هذه الوظيفة الرسالية العظيمة تتجلى في تعليم الناس وتربيتهم على الدين، فلا بد من العلم الشرعي والاعتناء به تعلمًا وتعليمًا؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]. ولذلك فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، يرثون الشرف ويرثون التكليف، فصار تعليم الدين لونًا من ألوان الجهاد في سبيل الله، وفرضًا من فروض الكفاية؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن ‌تعلُّم ‌العلم ‌وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد، ومن أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات»[13]. ويريد من قوله: «الجهاد» إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ودفع العدو الكافر، سواء فكريًّا أو عسكريًّا. ولو يفطن المعلمون وطلبة العلم إلى فضيلة الثغر الذي يعملون فيه لَلَزِمُوه وأحسنوا تطويره.
وللسلف عبارات في تعظيم نشر العلم، منها قول الإمام عبد الله بن المبارك -المتوفى سنة 181هـ-: «لا أعلم بعد النبوة أفضل من بثّ العلم»[14]. وقال الإمام البخاري -المتوفى سنة 256هـ-: «أفضل المسلمين رجل أحيا سُنّة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِيتَت، ‌فاصبروا ‌يا ‌أصحاب ‌السنن -رحمكم الله-؛ فإنكم أقل الناس»[15].
لا بد، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أننا في هذه الأزمنة المتأخرة سنرى خفوت العلم وظهور الجهل وكثرة الفتن وتفشي المنكرات والعداوات؛ لا بد أن ندافع ذلك الأمر، فننشط في تعليم الناس العلم الشرعي، وأن ندعو كل طالب علم ومتعلّم إلى بذل ما يستطيعه في سبيل ذلك، لا سيما ونحن في عصر انتشار المعرفة وكثرة وسائلها -ولله الحمد-، ويمكن أن يُوصَى ببعض الأمور المهمة في هذا الإطار:
1- إدارة المعرفة؛ فإن مما يُميِّز زمننا هذا ظهور وسائل الإعلام وقنوات التعليم والمعرفة، فهذه الأدوات مع وجود العلم في صدور أهله وطلبته، يمكن أن يُصنَع منها تأثير قويّ إذا أُحسنت إدارتهما.
2- الاستفادة من شبكة الإنترنت والقنوات الفضائية؛ لأنها وسائل تحتشد عندها جماهير الناس، بمختلف أعمارهم وثقافاتهم وأجناسهم.
3- الاعتناء بالأوقاف التعليمية؛ والتوعية بأهميتها؛ وذلك لأنها تطيل -بإذن الله- زمن التأثير العلمي في المجتمعات، وهي أقدر على مواجهة التحديات الحضارية التي تُهدِّد التقدم العلمي، وأطول عمرًا. والأوقاف التعليمية باب واسع ومؤثر في نفس الوقت.
4- الاعتناء العام والخاص بطلبة العلم والمعلمين، وتفريغهم لهذا الشأن، وتمويلهم، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، وهذا الإمام عبد الله بن المبارك كان يُولِي طلاب العلم عنايةً خاصةً ويُموّلهم؛ ليتفرغوا للعلم. وسيرته في ذلك جديرة بأن تُفرَد بكتابة خاصة، قال حبّان بن موسى: عُوتِب ابن المبارك فيما يُفرِّق المال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده؟ قال: «إني أعرف مكان قوم لهم فَضْل وصِدْق، طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب للحديث، يحتاج الناس إليهم. احتاجوا، فإن تركتهم ضاع عِلْمهم، وإن أعنَّاهم بَثُّوا العلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بثّ العلم»[16].





[1] أخرجه أبو داود (4252) المسند (22395).
[2] المفاتيح 5/357.
[3] مرقاة المفاتيح 8/3389.
[4] التنوير 4/174.
[5] مسند الدارمي (220).
[6] بذل المجهود 12/286.
[7] أخرجه البخاري (7085) ومسلم (1847).
[8] المنهاج 12/237. وانظر: فتح الباري 13/36.
[9] الكاشف 2/714.
[10] الأدب المفرد (1049).
[11] الآداب الشرعية 2/104.
[12] صحيح مسلم (2865).
[13] المستدرك على مجموع الفتاوى 3/103.
[14] تاريخ الإسلام 4/891.
[15] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/112.
[16] تاريخ الإسلام 4/891.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 82.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 80.46 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]