|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() نظرية البدائل بين فقه الأولويات وفقه الضرورة د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري عالج الشرع الحنيف متطلبات الناس، ومشكلات معاشهم؛ عـلاجًا آنيًا، وعلاجًا مرحليًا؛ ليكفل جميع الاحتياجات، ويغطي مجمل أسبابها، فجاء بالحلول القائمة على سَنَن التدرج، بحسب سلم ورتب الأولويات؛ ليحقق للأمّة مصالحها العامة، كما جاءت حلوله وبدائله مواكبةً للأزمات الملحّة، التي تفرضها الظروف الطارئة؛ ليدفع عن الأفراد ضروراتهم الخاصة، ونقف مع هذين المعلَمين في المطلبين التاليين: المطلب الأول: العلاقة بين البدائل وفقه الأولويات: يُعنى بفقه الأولويات: معرفة ما له حق التقديم على غيره بما يقتضيه النظر الشرعي،[1] وقد دلت على اعتباره أدلةٌ كثيرة، منها قوله الله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾،[2] ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجـه أحمد أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا"، قال رجلٌ: عندي دينار، قال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: "تصدق به على زوجك"، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: "تصدق به على ولدك"، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: "أنت أبصر".[3] وتحدد الأولوية باعتبارين؛ باعتبار النظر إلى الشـرع، وباعتبار النظر إلى الواقع، قال ابن تيمية - رحمه الله -: "من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح".[4] فأما النظر الأول (النظر للشرع) فمن أهمّ معاييره: (1) اعتبار رتب الأمر والنهي: فيقدم الواجب على المندوب، وفرض العين على فرض الكفاية، ويقدم دفع المحرم على دفع المكروه، ودفع مفسدة الكبائر على دفع مفسدة الصغائر.[5] (2) إعطاء الأولوية للمشاريع بحسب رتبتها في الشريعة؛ فيقدم منها ما يخدم الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينات، وتقديم ما كان من مقاصد الحفظ على ما كان من وسائله،[6] إذ "فضل الوسائل مترتب على فضل المقاصد".[7] (3) وتقدم الصيغ التي يتفق على جوازها على غيرها مما يختلف فيه.[8] (4) ويعتبر كذلك النظر في الأدلة الشرعية والأحكام الفرعية فما قُدم على غيره فحقه التقديم، وما أخرّ كان حقه التأخير، وكلما تضلع الفقيه في ممارسة الشريعة كلما استنارت له مراتب الأعمال، وفقه الموازنات بينها، قال شيخ الإسلام: "اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها؛ وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام".[9] وأما النظر إلى الواقع فيضبطه أمور: (1) تحديد رتبة البديل من جهة بعده عن الغرر، ودرجة تحقيقه للمصالح الاقتصادية في المجتمع، فالمشاركات تأتي في الرتبة الأولى من الجهتين؛ حيث لا يُغرر بطرفٍ دون آخر، بل هما بين أن يربحا جميعًا، أو يخسرا جميعًا، وهي كذلك تشجع الإنتاج، والتبادل بشكلٍ أكبر من المعاوضات، والمعاوضات أحسن حالًا من المداينات. [10] قال ابن تيمية: "ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة مخاطرة، والمستأجر قد ينتفع، وقد لا ينتفع؛ بخلاف المساقاة والمزارعة، فإنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة ".[11] (2) ومنه النظر في قوة أداء الصيغة المالية للمقصد منها،[12]فقد لا يهتمّ العاقد بجانب المخاطرة؛ لكونه من هذا الجانب في موضع الأمان، بل ينصب اهتمامه على تقليل نسبة الربح أو العائد لمن يتعاقد معه، وهنا تأتي الإجارة في مرتبة متقدمة على المضاربة، والمضاربة في مرتبة متقدمة على الشركة، قال الكاساني في بدائع الصنائع: "الشركة فوق المضاربة؛ لأنها توجب الشركة في الأصل والفرع؛ والمضاربة توجب الشركة في الفرع لا في الأصل، والشيء يستتبع ما هو دونه، ولا يستتبع ما هو فوقه أو مثله... لأن تصرف الشريك أقوى من تصرف المضارب وأعمّ منه".[13] (3) ومن جهات التقديم: النظر إلى درجة تحقق الآثار، فما كان مقطوعًا بأثره، أو متفقًا عليه قُدم على ما كان مظنونًا، أو مختلفًا فيه، وما كان مظنونًا قُدم على ما كان متوهمًا.[14] (4) الموازنة بين الحاجة إلى السيولة وبين الحاجة إلى المشاريع ذات النفع الأكبر؛ لضبط نسبة الاستثمارات قصيرة الأجل إلى الاستثمارات طويلة الأجل، ذات النفع الأكبر. (5) تقديم الأدوات التي تخدم المشاريع الإنتاجية؛ سواء الزراعية، أو الصناعية على الخادمة لمشاريع الاستهلاك. (6) الاعتناء بالأدوات والبدائل المالية التي تُنظم وتُرَشّد الإنتاج كمًّا وكيفًا، وتربطه بالحاجات الحقيقية؛ لتحقيق تمام الكفاية للفرد وللمجتمع. [15] (7) ومن المحددات كذلك لاختيار الأداة المالية: القدرة على التطبيق، ومدى تهيؤ الأوضاع لنجاحها. (8) وتقديم الصيغ التي تحقق التكامل بين المؤسسات المالية المختلفة، وصولًا إلى التكافل الإسلامي، وتنحيةً لاقتصاد الأمّة الإسلامية عن التبعية للغير. (9) ثم تقديم الصيغ والبدائل المالية التي تسهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية الكبرى على غيرها، مما لا يثمر إلا رفع الحرج عن الناس. [16] (10) كما لا يعني الاعتناء بما سبق الغفلة عن مصلحة إبقاء المصارف الإسلامية قوية، منافسة لما حولها من المصارف التقليدية، فيراعى أيضًا في المفاضلة قدر العائد الذي ستعود به كل أداة أو بديل، ثم مستوى السيولة، والأمان النسبي الذي تحتفظ به. ويبرز هنا تساؤل، نحن أحوج ما نكون في هذا الموضع لاستعراض جوابه، ولم أجد من الباحثين المعاصرين من تناوله بالتفتيش أو التمحيص؛ هل يجوز لنا أن ننظم بديلًا، هو كالاستثناء الخارج عن الأصل، ونحثّ عليه، ونطوّره، حتى يكون كالأصل، أو يغلب عليه؟. ما وجدته من كلام الفقهاء - رحمهم الله -، يشير بعضه إلى طرف المنع، وبعضه الآخر إلى طرف الجواز: أ- فمما وقفتُ عليه من كلامهم المرشد إلى المنع: (1) تفريق المالكية بين أهل العينة الذين يتعاملون بالربا، وينظمون الحيل، وبين غيرهم من أهل السوق، فمنعوا بعض المعاملات المالية مع هؤلاء، وأجازوها مع غيرهم، واتهموهم فيما لا يتهمون فيه أهل الصحة،[17] تفريقًا منهم بين العمل إذا جاء تلقائيًا، أو جاء منظمًا. [18] بل كان المالكية يسلكون مسلك إجازة المسألة إن وقعت مرة، فإن تكررت منعوها؛ لظهور معنى التهمة المقتضية لمنعها، قال ابن قدامة في مسألة من باع تمرًا رديئًا، ثم رجع على المشتري ليشتري منه تمرًا طيبًا، لم يجده عند غيره: "وقال مالك: إن فعل ذلك مرةً جاز، وإن فعله أكثر من مرة لم يجز؛ لأنه يضارع الربا". [19] (2) منع الحنابلة الذين أجازوا خيار الشرط لمدّة طويلة، أن ينظّم هذا الخيار - الذي هو كالاستثناء من أصل لزوم العقد - بما يؤدي لتقصد جرّ النفع في مدّة الخيار، لغير القاصد لعقد البيع حقيقةً. [20] (3) منع الفقهاء - وخصوصًا الشافعية - من التوسع في استخدام صيغ السلم،[21] أو الشفعة،[22] أو المضاربة،[23] أو الحوالة،[24] أو السبق،[25] أو بيع العرايا،[26] باعتبارها خارجة عن الأصل، فلا يقيسون عليها، ولا يتوسعون في التفريع على أحكامها. (4) تعليل الحنفية للمنع من بعض المعاملات المالية بالتخوف من أن يألفها الناس، ويستعملوها فيما لا يجوز. [27] (5) تنبيه الشاطبي في الموافقات[28] على أن حكم الكلّ والتكرار قد يخالف حكم الجزء والمرّة، فقد يكون الشيء في أفراده جائزًا، وفي تنظيمه وتعاطيه من الكلّ محرمًا؛ كاللعب بالشطرنج، وسماع الغناء المكروه. (6) أن الفعل قد يباح لرفع الحرج، مع عدم تحقيقه للمقاصد الاقتصادية الكبرى للأمّة، فإذا نُظّم وتوسّع فيه صار إلى حكم المنع أقرب؛ لما فيه من صرف مجموع الأمّة عن طريق نهضتها، وعزتها. (7) أن في تنظيم الاستثناء والرخص، وما خرج عن أصله تكثيرًا لمخالفة الأصول؛ فيمنع. [29] (8) ويستأنس كذلك على المنع بما أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتَ إذا كانت عليك أمراء، يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ أو يميتون الصلاة عن وقتها؟"، قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صلِ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصلِ، فإنها لك نافلة".[30] ووجه الدلالة: أن جمعًا من الشّراح تابعوا النووي في حمل الحديث على تأخيرها عن وقتـها المستحب،[31] فلأيّ شيءٍ يذمون، مع أن ذلك جـائز؟، والجواب - والله أعلم -: لأنهم اتخذوا ذلك عادة،[32] فعاد خلاف الأصل أصلًا. ب- ومما وقفتُ عليه من كلام الفقهاء المرشد للجواز: (1) أن إباحة عقد السلم جاء في مبتدئه للمحتاجين والمفاليس، ثم توسع فيه بعد ذلك ليشمل الأغنياء أيضًا،[33] قال ابن تيمية: "فهذا يفعله مع الحاجة، ولا يفعله بدون الحاجة، إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال، ويرى أنه يحصّل به من الربح أكثر مما يفوت بالسَّلَم". [34] (2) وكذا بيع العرايا في الأصحّ عند الشافعية،[35] بل قال في المهذب: "كل بيعٍ جاز للفقراء جاز للأغنياء؛ كسائر البيوع". [36] ويمكن أن يناقش هذا والذي قبله من وجهين: الأول:أن لمخالفة الأصل أثرًا في منع توسيع الدائرة، يشير إلى ذلك قول الغزالي[37] في بيع العرايا: "أنه ورد في المحاويج؛ فمن يرى الخرص أصلًا يلحق الأغنياء به، ومن لا يراه أصلًا تردد، ولأن الرخص لا تقصر بعد مهدها على أربابها"،[38] وهذا التردد عند من جعل بيع العرايا مخالفًا للأصل يدل على اعتبار منع التوسع فيما خالف الأصل. والثاني: أن الفقهاء - كما سبق قريبًا - ضيّقوا من أحكام السلم، والعرايا، وشدّدوا في شروطهما؛ لكونهما على خلاف الأصل، وكونهم - أو بعضهم - توسعوا في إدخال الأغنياء لا يعني أنهم توسعوا من كل جهة. (3) أن الخرص أباحته الشريعة في مواضع احتيج فيها إليه؛ كخرص الثمار في الزكاة،[39] وخرصها في العرايا،[40] ثم نقله بعض العلماء إلى مواضع أخرى، فأجازوه في بيع المغيّبات في الأرض،[41] وبيع المسك في فأرته. [42] ويمكن أن يناقش: أن هذا من باب القياس على الرخص، واختلفوا فيه،[43] وأيًا كان، فهي بخلاف ما نعرض له من تنظيم ذات الرخصة والاستثناء؛ حتى يغلب أو يكثر. القول المختـار: أن التوسع في الرخص، وتنظيم ما كان على خلاف الأصل يحتاج إلى نظرٍ مستقلٍ عن نظر المسألة، تمامًا كحال تركيب المعاملة من عدّة عقود، كلها جائزة؛ فإن ظهر أن هذا التنظيم أدّى للوقوع في سببٍ من أسباب منع المعاملات؛ كالربا أو الغرر الفاحش، أو كان أصل أفراده على الكراهة والذّم، أو أدّى إلى تعطيل ما هو أوجب على مجموع الأمّة، دخله المنع من هذه الجهات، أو من بعضها. والاهتمام بما جاء على وفق الأصل أحقّ بالاعتناء به، وحمل الناس عليه، ما دام ذلك ممكنًا،[44] على عكس ما كان على خلاف الأصل فالاحتياط فيه، والتحقق من أسبابه أشدّ.[45] المطلب الثاني: العلاقة بين البدائل وفقه الضرورة: أجمع العلماء على أن الضرورة تبيح الوقوع في المحظور،[46] والضرورة "هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعًا"،[47] وقد تطلق الضرورة أيضًا على الحالة "التي يعجز صاحبها عن تأدية ما وجب عليه"،[48] وهي في هذا تشمل أيّ ضررٍ يقع على ضرورةٍ من الضرورات الخمس[49]- الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال -، وقد ضبط أهل العلم الضرورة بالضوابط التالية: أ- أن تكون الضرورة قائمةً متيقنةً، أو متوقعةً مظنونًا وقوعها بظنٍ غالب، وليست متوهمة.[50] ب- أن يتعين فعل المحظور لدفعها؛ فلا سبيل آخر مباح يمكن دفعها به.[51] ج- أن تندفع الضرورة بفعل المحظور، فلا يقع المكلف في المفسدة المقطوع بها؛ لأجل مصلحة مظنونة.[52] د- أن لا يكون المحظور أشدّ حرمةً من الضرورة، أو مثلها، فلا يقتل غيره لدفع القتل عن نفسه؛ ذلك لأن "الضروريات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها عنها".[53] وإذا انطبق الحدّ المذكور جاز ارتكاب المحظور، مع مراعاة الأحكام التالية: أ- أن لا يبطل الاضطرار حقوق الآخرين، بل تُضمن لهم حقوقهم التي تلفت عند ارتكاب المحظور.[54] ب- أن يقتصر المضطر على القدر اللازم لدفع الضرر؛ أيّ الحدّ الأدنى لذلك؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.[55] ج- أن يقيد زمن الترخيص بارتكاب الضرورة بزمن بقاء العذر؛ جريًا على قاعدة: إذا زال المانع عاد الممنوع.[56] د- أن يسعى المكلف ما استطاع إلى التخلص من داعي الضرورة، التي ألجأته لارتكاب الحرام، ولا يستسلم لها، بل يبقى مشدودًا لأصل الحلال، باحثًا عنه، غير مستمرئ للحرام.[57] وهذا الأخير يعني أن المحرمات إذا اُرتكبت للضرورة، كان ارتكابها مشروطًا بالتدرج منها - قدر الاستطاعة - إلى المباح الخالص من الحرام. وأكثر ما يدخل الخلل على البدائل المصرفية المبنية على الضرورة من ثلاث جهات: الأولى: توهم ضرورة غير حقيقية، لم تنطبق عليها شروط الضرورة السالفة.[58] وقد ذمّت نصوص الكتاب والسنة كثيرًا من الضرورات الوهمية؛ فمن ذلك: أ- قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾، [59] فهؤلاء وقعوا في محظورٍ كان لهم عنه مخلص. ب- وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾،[60] وهؤلاء وقعوا في محظورٍ أعظم من الذي أرادوا دفعه. ج- وفي الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، مرتين، أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: لا"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهرٍ وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول[61]"،[62] فلم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الحالة قد بلغت حدّ الضرورة الملجئة لارتكاب المحظور. والثانية: عدم مراعاة أحكام الضرورة؛ فيُتوسع فيها قدرًا وزمانًا، بل ويركن إليها، ويستسلم لها، وقد قال تعالى في حكم إباحة الميتة للمضطر: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾،[63] وقال سبحانه: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾،[64] فلا بدّ من مراعاة عدم تجاوز القدر المباح، وعدم الميل؛ لتقصد الحرام، أو استساغته.[65] والثالثة: إلحاق الحرج العام بالضرورة في إباحة المحرم دون توفر ضوابط ذلك: وقد شهدت أدلةٌ كثيرةٌ في الشرع على إلحاق الحرج العام بالضرورة في حكمها، ومن ذلك: ما أخرجه الخمسة من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: " إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين والطوافات عليكم"،[66] قال التفتازاني[67]: "لما كانت الهرة من الطوّافين لم يمكن الاحتراز عن سُؤْرها إلا بحرجٍ عظيم، فسقط اعتبار النجاسة؛ دفعًا للحرج".[68] وفي خصوص المعاملات المالية، يقول ابن تيمية: "ما احتيج إلى بيعه، فإنه يوسع فيه ما لا يوسع في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة، مع قيام السبب الخاص؛ كما أرخص في بيع العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة". [69] وقد فرّق أهل العلم بين الضرورة والحرج بأمورٍ: 1- أن الضرورة ما لا بدّ منه لقيام مصالح الدنيا والدين، فإذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ، وتهارجٍ، وفوت حياة،[70]أو يقال: بلوغ الإنسان حدًا إذا لم يتناول من الممنوع هلك، أو قارب الهلاك، ومثّلوا لذلك بمن لم يجد طعامًا يقيم حياته إلا أكل الميتة، فإنها تحل له؛ لأنها ضرورة، أما الحرج فبلوغ الإنسان حدًا إذا لم يتناول من الممنوع لم يهلك، لكنه يصير في حالةٍ من المشقة الزائدة المقتضية للتيسير،[71] ومثّلوا لذلك: بالجائع الذي لو لم يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهدٍ ومشقة، كمشقة المسافر الذي يباح له الفطر في رمضان،[72]فالضرورة هي الضرر الشديد الواقع على إحدى الضرورات الخمس، أما الحاجة فهي الوقوع في حرجٍ غير معتاد، بالنسبة لأواسط الناس، يقتضي التيسير. 2- أن الضرورة التي تبيح المحظور لا غنى للمضطر عن ارتكابها؛ كما سبق في شروطها، أما الحاجة فيجد عنها غنى، لكن مع وقوعه في المشقة؛ ومثّلوا لذلك: بما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم انكسر إناؤه، فاتخذ مكان الشَّعْب سلسلة من فضة[73]،[74]فهذه حاجة؛ إذ كان يمكن أن يجمع الإناء بعضه إلى بعض؛ بحديد، أو بنحاس، أو بغيرهما مما يحصل به الالتحام.[75] 3- أن الحاجة التي تبيح ما يبيحه المحظور هي الحاجة العامة؛ لذا قالوا: الحاجة العامة تُنـزّل منـزلة الضرورة في حق آحاد الناس؛[76]فيشترط فيها ما يشترط في الضرورة، لكن لما قلّت جهة الضرر في الحاجة اُشترط فيها شرط العموم، "ولو منع الجنس مما تدعو الحاجة إليه، لنال آحاد الجنس ضرورة، تزيد على ضرورة الشخص الواحد، فهي بالرعاية أولى".[77] 4- أن ما تبيحه الحاجة العامة يثبت كحكمٍ ثابتٍ مستمر، موجود بوجود الناس غالبًا؛ كإباحة الإجارة والسلم للحاجة - على القول بأنهما على خلاف القياس -،[78] أما الحكم الثابت بالضرورة فهو حكمٌ مؤقتٌ طارئ، يزول بزوالها.[79] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾،[80] وقوله: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾،[81] فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية - هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغٍ ولا عاد... وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ".[82] 5- أن المحظور الذي تبيحه الحاجة الخاصة[83] أقل رتبة في التحريم، من المحظور التي تبيحه الضرورة والحاجة العامة، وقد مثّلوا للحاجة الخاصة؛ بتضبيبالإناء بالفضة؛ لحاجة الإصلاح، ولبس الحرير للرجال؛ لحاجة الحكّة، وبيع العرايا؛ لحاجة التفكه،[84]بينما مثّلوا للمحظور الذي تبيحه الضـرورة بأكل الميتة، وقول الكفر، وفي هذا المعنى قال العـز بن عبد السلام:"ويشترط في النظر إلى السوآت؛ لقبحها من شدة الحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سائر العورات، وكذلك يشترط في النظر إلى سوأة النساء من الضرورة، والحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سوأة الرجال؛ لما في النظر إلى سوآتهن من خوف الافتتان".[85] وكما سبق التأكيد على الحذر من الضرورات الوهمية؛ فإنه ينبغي التنبه كذلك عند تقدير الحاجة إلى أمرين: أولهما:ترك التوسع والتساهل في تقدير الحاجات، فأكثر ما يدخل الخلل من ذلك، يقول الشاطبي: "أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرةً ومتوهمةً، لا محققة، فربما عدّها شديدةً، وهي خفيفة في نفسها، فأدّى ذلك إلى عدم صحة التعبد، وصار عمله ضائعًا، وغير مبني على أصلٍ، وكثيرًا ما يشاهد الإنسان ذلك، فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة، وليست كذلك إلا بمحض التوهم... ولو تتبع الإنسان الوهم لرمى به في مهاوٍ بعيدة، ولأبطل عليه أعمالًا كثيرة، وهذا مطردٌ في العادات، والعبادات، وسائر التصرفات".[86] وثانيهما:أنه ينبغي تعليق وجود الحاجة بدليلٍ منضبطٍ يدل عليها؛ كي تطرد الأحكام وفق قانونٍ متّسق؛ كالسفر لرخصة القصر، والمرض لرخصة الفطر، وهكذا؛ لأن الحكم إنما يتعلق "بدليل الحاجة، لا بحقيقتها؛ لكونها أمرًا باطنًا، لا يوقف عليه إلا بدليل".[87] وقد أوجد جمعٌ من الفقهاء - رحمهم الله تعالى - عددًا من البدائل المالية على خلاف بعض القواعد الشرعية؛ لما دعت إليها الحاجة، واغتنم عرض مثالٍ منها؛ لنطبق عليه ما سبق من ضوابط الضرورة والحاجة: قال في البحر الرائق: "وقد يلزم الوعد لحاجة الناس؛ فرارًا من الربا، فبلخٌ[88] اعتادوا الدَّين والإجارة، وهي لا تصح في الكُرُوم،[89] وبُخارى[90] الإجارة الطويلة، ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاءً، وما ضاق على الناس أمرٌ إلا اتسع حكمه".[91] مسألة: ما حكم بيع الوفاء: صورة بيع الوفاء: (أ) تصوير البيع: عرف مجمع الفقه الإسلامي بجدة بيع الوفاء بأنه: "بيع المال بشرط أن البائع متى ردّ الثمن يرد المشتري إليه المبيع"،[92] وذكر الفقهاء له مثالين: الأول: أن يقول البائع للمشتري: بعتُ منك هذه العين بالدين الذي لك عليَّ، على أني متى قضيتُ الدين فهي لي. والثاني: أن يقول البائع للمشتري: بعتُ منك هذه العين بكذا، على أني متى ما دفعتُ لك ثمنك دفعتها إليّ.[93] وسمي بيع الوفاء؛ لأن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري، بأن يرد المبيع إلى البائع متى ردّ الثمن،[94] وله أسماء كثيرة؛ فيطلق عليه: بيع الثنيا عند المالكية،[95] وبيع العهدة عند الشافعية،[96] وبيع الأمانة عند الحنابلة،[97] وعُرف في مصر ببيع المعاد،[98] وفي الشام ببيع الإطاعة،[99] وبيع المعاملة. [100] وكان أول ظهوره في بلخ،[101] وقيل: في بخارى، أواخر القرن الخامس الهجري.[102] (ب) تصوير وجه الحاجة: • في النقل السابق عن البحر الرائق بيّن أن سبب الحاجة إلى هذا العقد الاحتياج إلى الدَّين والإجارة في الكروم، والإجارة الطويلة في الأشجار. •وذكر في درر الحكام أن من الحاجة إلى تجويزه كذلك: دفع مماطلة المدين، وتسهيل استيفاء الدين للدائن.[103] •ومن أسبابه أيضًا: امتناع أرباب الأموال من الإقراض، وتحرجهم من الربا، وحاجة الناس إلى القرض، وحرصهم على عدم تفريطهم في عقاراتهم، لا سيما مع أمل الوفاء بعد حين.[104] يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |