|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مع الخوف والخائفين (1) د. أمير بن محمد المدري إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. أما بعد عباد الله:سنعيش وإياكم مع منزلة من منازل السير إلى الله، مع عبادةٍ من أَجل العبادات، ومن أعظم القربات، مع عبادةٍ لو حلّت في قلب العبد حالت بينه وبين محارم الله عز وجل ومعاصيه، إنها منزلة الخوف من الله تعالى. الخوف من الله ـ أصل كل فضيلة، وباعث كل قربة. ما الذي أقض مضاجع الصالحين فكانوا: ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18] إلا الخوف من الله ومن عقابه. ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16]. وما الذي أجرى من خشية الله عز وجل الدموع وأسكن في القلب الهيبة لله عز وجل والخشوع...إلا الخوف من الله ومن عقابه. فكم أطلق الخوف من سجين في لذته كانت قد استحكمت عليه سكرته، وكم فك من أسير للهوى ضاعت فيه همته، وكم أيقظ من غافل التحف بلحاف شهوته، وكم عاقٍ لوالديه رده الخوف عن معصيته، وكم من فاجرٍ في لهوه قد أيقظه الخوف من رقدته، وكم من عابدٍ لله قد بكى من خشيته، وكم من منيبٍ إلى الله قطع الخوف مهجته، وكم من مسافرٍ إلى الله رافقه الخوف في رحلته، فلله ما أعظم الخوف لمن عرف عظيم منزلته. ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]. ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الزمر: 13]. هنيئًا لمن خاف مقام ربه، وترك الذنوب والعصيان، هنيئًا له بجنة الرضوان، ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46] مخافة الله إنها الخصلة التي ما تمكنت من قلب عبد إلا قادته إلى الله وعلقته بالله جل في علاه. إنها الخصلة التي عمّر الله بها قلوب الأخيار فهذبت أخلاقهم وقومت أفعالهم وسلوكهم، فوالله ما هذّب المؤمن شيء أجل وأكرم من الخوف من الله، فلن تجد إنسانا يخاف الله إلا وجدته أعف الناس لسانا وأصدقهم كلاما وبيانا وأحفظهم لحدود الله عز وجل في قوله وفعله، ولن تجد إنسانا جريئا على محارم الله وحدود الله إلا وجدته ناقص الخوف من الله. أيها الأحباب:إن الخوف من الله تعالى هو من أخص صفات عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]. قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عذابه". الخوف من الله:عبادةٌ قلبية عظيمة لا تصدر إلا من مؤمن صادق الإيمان. لأن الخوف من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. وقال تعالى: ﴿ مْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150]، وقال تعالى: ﴿ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [النحل: 51]،ومدح أهله في كتابه وأثنى عليهم، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57]، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]،وكلما كان العبد بالله أعرف كان له أخوف، وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية، وقد وصف الله الملائكة بقوله: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 50]. [النحل:50]، ووصف الأنبياء وحملة الدين والدعوة بقوله: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39] الخوف من الله وخشيته ومراقبته طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين، وكل قلب ليس فيه خوف من الله فهو قلبٌ خرب. أخي المؤمن: إذا سكن الخوف من الله في القلب أحرق مواضع الشهوات فيه وطرد حب الدنيا والتعلق بها. الخوف من الله هو سوط الله يقوّم به الشاردين عن بابه، ويرد به الآبقين إلى رحابه. الخوف سراج في القلب، به يُبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف من ربه هارب إليه. نعيش مع الخوف والخائفين لماذا؟ لأنَّ المعاصي زادت والذنوب كثرت، ومحارم الله اُنتهكت وامتلأت العقول بالشبهات والنفوس بالشهوات إلا من رحم الله. نتكلم عن الخوف يوم أجدبت قلوبنا منه واسودت وأظلمت وقست وتحجرت فهي كالحجارة أو أشد قسوة لم تعد تهزها الموعظة أو تنفعها الذكرى إلا من رحم ربك، فالخوف من الله هو الوسيلة الأكيدة لاتعاظ الراقدين وتنبيه الغافلين. الخوف من الله هو الذي منع ابن ادم أن يقتل أخاه، قال تعالى: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28]. الخوف من الله هو الذي منع البنت الصالحة أن تطيع أمها وتخلط اللبن بالماء، فقالت: يا أماه أن عمر. الخوف من الله: هو الذي، منع الراعي ان يبيع غنمة لابن عمر وقال له قل لصاحب الغنم أكلها الذئب قال فاين الله. الخوف من الله: هو الذي منع المؤمن من اكل الحرام وان تيسرت أسبابه. الخوف من الله: هو الذي يجعل المؤمن يتوقف عن الخوض في أعراض المسلمين وحرماتهم. الخوف من الله: هو جعل الشاب الصالح يتوقف عن الانغماس في الحرام والشهوات والفتن ويقول كما قال يوسف العزيز لامرأة العزيز: معاذ الله. تأملوا عباد الله كيف منع الخوف من الله تعالى ذلك الشاب من الانحراف ذكر ابن الجوزي في "المواعظ": أن شابًا فقيرًا، كان بائعًا يتجول في الطرقات، فمرّ ذات يوم ببيت، فأطلت امرأة وسألته عن بضاعته فأخبرها، فطلبت منه أن يدخل لترى البضاعة، فلما دخل أغلقت الباب، ثم دعته إلى الفاحشة، فصاح بها، فقالت: والله إن لم تفعل ما أريده منك صرخت، فيحضر الناس فأقول هذا الشاب، اقتحم عليَّ داري، فما ينتظرك بعدها إلا القتل أو السجن. فخوّفها بالله فلم تنزجر، فلما رأى ذلك، قال لها: أريد الخلاء فلما دخل الخلاء: أقبل على الصندوق الذي يُجمع فيه الغائط، وجعل يأخذ منه ويلقي على ثيابه، ويديه وجسده، ثم خرج إليها، فلما رأته صاحت، وألقت عليه بضاعته، وطردته من البيت، فمضى يمشي في الطريق والصبيان يصيحون وراءه: مجنون، مجنون، حتى وصل بيته، فأزال عنه النجاسة، واغتسل. فعوضه الله رائحة المسك أينما نزل، وفي أي مكان حل، حتى عُرف بالمسكي. ولم يزل يُشمُّ منه رائحة المسك، حتى مات، رحمه الله. أخي الحبيب: عندما تتيسر لك المعصية والحرام في الخلوة أو الجلوة، وبإمكانك فعلها والتلطخ بها، فتتركها مخافة الله، وتعظيما لله، وخوفا من عقابه!!! تعرف ما الجزاء؟ اسمع إلى قول الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]. صبرت عن الحرام لحظات خوفا من مقام رب الأرض والسماوات فعوضك الله جنة عرضها الأرض والسماوات. الخوف من عذاب الله والخوف من سوء الخاتمة مزّق قلوب الصالحين، وأطار نوم العارفين، يقول حاتم الأصم: "لا تغتر بمكانٍ صالح، فلا مكان أصلح من الجنة، ولقي فيها آدم ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة، فإن إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم، فإن بلعام بن باعورا لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم، ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم، فلا شخص أصلح من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون". الخلاصة: إنما العلم الخشية، واتق المحارم تكن أعبد الناس. إن المؤمن دائما يحمل قلبا وجلا خائفا...روى الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو يخاف الله عزوجل؟ قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل الله منه». قال الحسن: "عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا". فأين القلوب الممتلئة بخوف الله وخشيته.. أين القلوب التي ذلّت لعزت الجبروت وخشعت لصاحب الملكوت.. ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 13]. اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة يا رب العالمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله تعظيمًا لشانه، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه. وبعد عباد الله: إن الله - سبحانه وتعالى - يريد لعباده أن يعرفوه ويخشوه ويخافوه ولذلك نجد القران الكريم مليء بالآيات التي تصف لنا شدة عذاب الله، وقوة بطشه وسرعة أخذه وأليم عقابه وما أعد من العذاب والنكال للكفار، وذكر لنا النار وأحوالها وما فيها من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال وهذه المواعظ لا يتعظ بها إلا الخائفين من ربهم والمشفقين من عقابه. قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 51]. وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16]. ولا يتعظ بالقران، ولا ينزجر بآياته إلا من يخاف الوعيد والوقوف بين يدي العزيز الحميد قال الله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]. وبين سبحانه أن ما يرسله من الآيات والأحداث والعبر إنما يرسله من أجل التخويف: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]. عباد الله: الخوف شجرةٌ طيبة إذا نبت أصلها في القلب امتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أكلها بإذن ربها وأثمرت عملًا صالحًا وقولًا حسنًا وسلوكًا قويمًا وفعلًا كريمًا، فتخشع الجوارح وينكسر الفؤاد ويرق القلب وتزكو النفس وتجود العين. عباد الله: ما هي الأسباب التي تورث الخوف من الله؟ ما هي الأسباب التي تغرس في قلوبنا الخوف من الله؟ هذا ما سنعرفه في الجمعة القادمة ان شاء الله. هذا وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() مع الخوف والخائفين (2) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله رب العالمين اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق... اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيءٍ قائم به وكل شيءٍ خاضع له، غنى كل فقير، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف. من تكلم سمع نطَقه، ومن سكت علم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه،ومن مات فإليه منقلبه. نسأله تعالى الذي جمعنا بكم على طاعته أن يجمعنا بكم في دار كرامته ومستقر رحمته. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا... وبعد.. عباد الله: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه. ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]. أيها المؤمنون: إننا نعيش عصرًا طغت فيه الماديات والشهوات، وكثر فيه القتل وانتهاك الحرمات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، إننا نعيش في عصر قست فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب، ولهذا وقفنا وإياكم مع الخوف والخائفين لعل القلوب تخشع وتخضع وتعظم رب الأرباب ومسبب الأسباب. لأنه من خاف الله دله الخوف على كل خير، أخي الكريم اسمع إلى وصية محب وهو الحسن البصري يقول: "والله إنك إن تخالط أقوامًا يخوفونك في الدنيا حتى يدركَك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك في الدنيا حتى يدركَك الخوف في الآخرة". والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعًا إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك المعاصي والحرمات خوفا من علام الغيوب. عباد الله: ما هي الأسباب التي تورث الخوف من الله: ما هي الأسباب التي لو فعلناها يغرس الله في قلوبنا الخوف منه أولا: تذكر عظمة الله وكبريائه وجبروته ومعرفة حقارة النفس.، فمن عرف الله حق معرفته خاف منه حق خوفه، ولذلك كان السلف يقولون: من كان بالله أعرف فهو لله أخوف. قال ابن قدامة[1]: "قوة المراقبة والمحاسبة والخشية بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال". فمن تأمل أسماء الله وصفاته ونظر فيها بعين الإيمان، ونظر لنفسه بالعجز، علم وأيقن أن الله لا يعجزُه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غيرُ ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم. جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد عندنا أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك. فضحك رسول الله تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزُّمَر:67]. هذه الآية قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجف به المنبر حتى قال الصحابة ليخرنّ به، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول:" يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده ثم يقول أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون". يا الله زدنا لك تعظيما وخشية وخوفا. وعند مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال:" إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يَخفِضُ القسط ويرفعُه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". فلا اله إلا الله ما أعظمه ما قدرناه حق قدره. فعلى قدر العلم بالله و بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ومعرفة العبد بنفسه؛ يكون الخوف والخشية، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:"أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".. بل إن الله عز وجل حصر خشيته في صنف واحد من الناس ألا وهم العلماء فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر:28]. اذًا أول امر يغرس الخوف والخشية من الله التفكر في عظمة الله وجبروته وقدرته ورحمته. ثانيًا: تدبر القرآن: قال ابن القيم-رحمه الله-: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته". قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص:29] يقول ابن الجوزي: "والله لو أن مؤمنًا عاقلًا قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله". ها هو رسول الله حبيب الله يقول لابن مسعود: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: «نَعَمْ» قال فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" وسُئلت لعائشة رضي الله عنهما أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال:" يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي"، قالت فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله: تبكي وقد غُفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: " أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190-191] [رواه ابن حبان في صحيحه وغيره]. وها هو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -يقرأ سورة الطور حتى إذا بلغ قول الله عز وجل: (﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الطور: 7] بكى واشتد بكاؤه، حتى مرض وعاده الناس. فقراءة القرآن بتدبر، وتأمل وتفكر تغرس في القلب مخافة الله جل وعلا. ثالثا: مما يزرع في القلوب الخوف من علام الغيوب التفكر في سوء الخاتمة نعم إن: السعيُ لحسن الخاتمة غايةُ الصالحين، وهمةُ العباد المتقين، ورجاء الأبرار الخائفين، قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132] وقال تعالى في وصف أولي الألباب: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193] وقال تعالى عن التائبين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 126] سُئلت أُم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه:" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالت قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:" يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" فتلا معاذ ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] حديث حسن صححه الألباني]، فمن وفَّقه الله لحُسن الخاتمة فقد سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ولا كربَ عليه بعد ذلك التوفيق، ومن خُتِمَ له بسوء الخاتمة فقد خسِر في دنياه وأُخراه. وكان سفيان الثوري يشتدُّ قلقه من الخواتيم فكان يبكي ويقول: أخافُ أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمان عند الموت". وقام ليلة يبكي حتى أصبح فلما سألوه: أكل هذا خوفا من الذنوب؟ فقال وقد أمسك تبنة من الأرض: والله لذنوبي أحقر عندي من هذه، ولكن أخشى سوء الخاتمة!!وقد قيل: "إن قلوب الأبرار مُعلَّقةٌ بالخواتيم يقولون: ماذا يُختَم لنا؟! فلماذا لا نخاف وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّار"َ اللهم احسن ختامنا يا أكرم الأكرمين. أيها المؤمنون: لا زال الحديث مستمرا مع الخوف والخائفين في الجمعة القادمة بإذن الله هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين. [1] ابن قُدَامَة (597 - 682 هـ = 1200 - 1283م) عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي، أبو الفرج، شمس الدين: فقيه، من أعيان الحنابلة. ولد وتوفي في دمشق. وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بها، استمر فيه نحو 12 عاما ولم يتناول عليه (معلوما) ثم عزل نفسه. له تصانيف، منها (الشافي - ط) وهو الشرح الكبير للمقنع، في فقه الحنابلة.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() مع الخوف والخائفين (3) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله ولي من اتقاه، ونصير من والاه، من توكل عليه كفاه، ومن دعاه أجابه، ومن سأله أعطاه، ومن خافه قلة خطاياه. أحمده سبحانه وأشكره، ومن مساوئ عملي استغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍ سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله نبيه ومصطفاه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن نصره وآواه واقتفى أثره واتبع هداه. أخي المسلم: عاشر بمعروفٍ فإنك راحلُ ![]() واترك قلوب الناس نحوك صافية ![]() واذكر من الإحسان كل صغيرةٍ ![]() فاللهُ لا تخفى عليه الخافية ![]() لا منصبٌ يبقى ولا رُتبٍ هنا ![]() أحسِن فذكرك بالمحاسنِ كافيةْ ![]() واكتب بخطك إن أردت عبارةً ![]() لا شيء في الدنيا يساوي العافيةْ ![]() اللهم عافنا واعف عنا واختم لنا بالباقيات الصالحات أعمارنا يارب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]. اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار، واجمعني وإخواني هؤلاء في جناتٍ تجري من تحتها الأنهار. ما زلنا وإياكم مع الخوف والخائفين وهذا هو اللقاء، الثالث، وما زلنا نجيب على سؤال ما هي الأسباب التي تورث الخوف من الله: وقفنا مع ثلاثة منها: أولها تذكر عظمة الجبار سبحانه وقوته وجبروته ومعرفة ضعف النفس، فأخوف الناس من الله أعرفهم به، ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح:13]، ثانيها تدبر القرآن::فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته. ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]. ثالثها: مما يزرع في القلوب الخوف من علام الغيوب التفكر في سوء الخاتمة، فالأعمال بالخواتيم، ولا يدري الإنسان بماذا يختم له.فاللهم احسن ختامنا يارب العالمين. رابعاً: مما يقرب العبد من ربه ويغرس الخوف منه تذكر سكرات الموت وقبض الروح: يقول الإمام أبو حامد الغزالي-رحمه الله-: « اعلمْ: أنَّه لو لمْ يكنْ بينَ يديِ العبدِ المسكينِ كربٌ ولا هولٌ و لا عذابٌ سوىٰ سكراتِ الموتِ فقط.. لكانَ جديرًا بأن يتنغصَ عليهِ عيشُهُ، ويتكدَّرَ عليهِ سرورُهُ، ويفارقَهُ سهوُهُ وغفلتُهُ،. فلا تسل عن بدن يُجذب من كل عرق من العروق، وعصبٍ من الأعصابِ،، ومفصلٍ مِنَ المفاصلِ، ومِنْ أصلِ كلِّ شعرةٍ وبشرةٍ مِنَ الفَرْقِ إلى القدمِ، فلا تسألْ عَنْ كربِهِ وألمِهِ، حتىٰ قالوا: إنَّ الموتَ لأشدُّ مِنْ ضربٍ بالسيوف ونشرٍ بالمناشيرِ وقرضٍ بالمقاريضِ ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكُربة بعد كُربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، ويُغلق دونه باب التوبة، وتُحيط به الحسرة والندامة«. [إحياء علوم الدين 5/ 61، 62 ]. ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 83-85]. ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ [القيامة: 26، 27]. وقال عمر -رضي الله عنه- لكعب الأحبار: يا كعب، حدثنا عن الموت، فقال: « إن الموت كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل وأخذت كل شوكة بعرق، ثم جذبه رجل شديد الجذب، فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى». وكان أحد الصالخين كثيرا ما يسأل المحتضرين: كيف تجدون الموت؟ فلما مرض قيل له: فأنت كيف تجده؟ فقال: كأن السموات مطبقة على الأرض، وأنا بينهما وكأن أتنفس من ثقب إبرة". فيا الله يا الله هون علينا سكرات وما بعد الموت. خامسا: مما يغرس الخوف من الله في القلوب تذكر القبر ومشاهد الآخرة: يقول تعالى: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 1]. فالجميع سيُحشر بداية من أبى البشر حتى آخر إنسان تقوم عليه الساعة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103]. حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حسٌ يُسمع، ولا شخصٌ يُرى، وقد بقي الجبار الأعلى يقول: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾. فيجيب نفسه ﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق قوموا للعرض على الله عزوجل. ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزُّمَر:68]. فبينا أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج القبر والأرض عن رأسك وقمت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك قائماً على قدميك شاخصاً ببصرك نحو النداء وثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون من غبار الأرض، ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 51-52]. فتوهم نفسك بعريك، ومذلتك، وانفرادك. تخيل نفسك بخوفك، وأحزانك، وغمومك، في زحمة الخلائق، عُراة حفاة، صموت أجمعون فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساع بالخشوع والذلة، ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]. حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس للعرض على الله. عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما يُسأَلُ عن الخَائِفِينَ فَقَالَ: قُلُوبُهُم بالخَوْفِ قَرِحَةٌ، وَأَعْيُنُهُم بَاكِيَةٌ، يَقُولُونَ: كَيفَ نَفرَحُ والمَوْتُ من وَرَائِنَا، وَالقَبْرُ أَمَامَنَا، وَالقِيَامَةُ مَوْعِدُنَا، وَعَلَى جَهَنَّمَ طَرِيقُنَا، وَبَينَ يَدَيِ اللهِ رَبِّنَا مَوْقِفُنَا. وقال معاذ بن جبل: (إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه). وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلةً فبكى أهل الدار لبكائه، ولا يعلمون ما به، فقالت له زوجه: (ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟) قال: (ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير). أيُّها الإخوة الكرام: من خَافَ اللهَ تعالى شَمَّرَ عن سَاعِدِ الجِدِّ، وسَعَى في مَرْضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لأنَّهُ يَعلَمُ بأَنَّ أَجَلَهُ مَحْدُودٌ، والوقوف بين يدي اللهِ تعالى كَائِنٌ لا مَحَالَةَ، لهذا تَرَاهُ مُسْرِعَاً في مَرْضَاةِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ـ سَارَ أَوَّلَ اللَّيلِ ـ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ» [رواه الترمذي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ]. فيا من تخاف الله عز وجل: تذكر قبل أن تعصي الله: يوم يقول المجرمون: ﴿ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]. تذكر قبل أن تعصي: القبر وعذابه وظُلمته فهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. تذكر قبل أن تعصي الله: يوم تدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل ويعرق الناس على قدر أعمالهم. تذكر قبل أن تعصي الله: أنك سوف تعبر الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر عملك فإما أن تنجوا وإما أن تخطفك كلاليب جهنم والعياذ بالله. قال تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]. تذكر قبل أن تعصي الله: عندما يقول العاصي يوم القيامة: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56]. اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم اجعلنا من عبادك الخائفين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين والعاقبةُ للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام: خامسا: مما يزيد الخوف من الله في القلوب - النظر في سير الصالحين من أسلافنا: فمع صلاحهم وتقواهم لله عز وجل وبعدهم كل البعد عن محارم الله إلا أنهم كانوا على خوف ووجل شديد من الله تعالى. إذَا مَا الَّليلُ أظلَمَ كَابَدُوه ![]() فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ ![]() أطَارَ الخَوفُ نومَهُم فَقَامُوا ![]() وَأهلُ الأمنِ فِي الدُنَيا هُجُوعُ ![]() لَهُم تَحتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ ![]() أنِينٌ مِنهُ تَنفَرجُ الضُّلُوعُ ![]() وَخُرسٌ بالنَّهارِ لِطُولِ صمتٍ ![]() عليهِم منْ سكينتهمْ خشوعُ ![]() وعلى رأس هؤلاء: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصَعُدات تجأرون إلى الله تعالى". وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. وهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وكان يبكي كثيراً خوفاً من الله. وكان إذا صلى لم يفهم الناس ما يقرأ من شدة أسفه وبكائه. وكان يقول: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن". وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-كان في وجهه -رضي الله عنه- خطان أسودان من البكاء، وكان يسأل حذيفة بن اليمان، أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله، يعني من المنافقين. فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا. وها هو ينقش على خاتمه: "كفى بالموت واعظاً يا عمر". ويقول: "يا ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً " " يا ليت أمي لم تلدني " ويقول:" لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة". ويقول: " لو نادى منادٍ من السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحداً لخفت أن أكون أنا هو"..!! وقال لابنه وهو يموت: ويحك ضع خدي على الأرض لعل الله يرحمني". وهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير". ويقول: " وددت لو أنني لو مت لم أبعث" وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً وتخرق مصحفه من كثرة ما قرأ به، ومات ودمه على المصحف شهيداً.. وهذا الشافعي: لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني: كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي: "أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ![]() جعلت الرجا مني لعفوك سلما ![]() تعاظمني ذنبي فلما قرنته ![]() بعفوك ربي كان عفوك أعظما ![]() وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟! فأين هذه القلوب؟ وأين هذه الأرواح التي تربت على القرآن؟ وما لنا حل ولا صلاح ولا فلاح ولا سعادة إلا أن نراجع حسابنا مع الله عز وجل, وأن نعود بسير هؤلاء وبأمثالهم نستقرؤها, ونكررها في المجالس والمنتديات والمحافل ونعيدها دائماً وأبداً؛ لأن الله يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ﴾ [يوسف: 111] وقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]. سادسا: مما يزيد نسبة الخوف من الله في القلوب سماع المواعظ المؤثرة والمحاضرات المرققة للقلب: فالنفس إذا أطلقت في ملذات الدنيا وشهواتها جعلت القلب قاسيا؛ وفي هذه الحال يحتاج إلى مواعظ مؤثرة مرققة له؛ وهذا ما سلكه الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع صحابته الكرام؛ فعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- ـ قال: "وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب" [أبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه]. فكثرة المواعظ والدروس والخطب والمحاضرات الدينية تملأ القلب خشية وأخباتا إلى الله تعالى. عباد الله: هذه هي الوسائل والطرق الموصلة إلى خشية الله والخوف منه فلنلزمها ولنعمل بها قبل أن يفوتنا القطار وقبل أن نندم ولا ينفع الندم!! أيها المسلمون: ما هي ثمار الخوف من الله؟ ماذا سنجني لو خفنا من الله وعظّمنا حرماته؟ هذا ما سنعرفه في الجمعة القادمة ان شاء الله. هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() مع الخوف والخائفين (4) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله الذي خلق الخلق فأبدعه، وسن الدين وشرعه، ونوَر النور وشعشعه، وقدّر الرزق ووزعه، وأجرى الماء وأنبعه، وجعل السماء سقفاً مرفوعاً رفعه، والأرض بساطاً وضعه، من الذي سأله شيئا فمنعه، ومن الذي طرق بابه فأرجعه، ناداه يونس وهو في ظلمات البحر فسمعه، واستجاب لأيوب حينما دعاه يشكو إليه وجعه سبحانه ما أعلى مكانه وأرفعه وأعز سلطانه وأمنعه، يؤتي ملكه من يشاء وممن يشاء نزعه، فلا راد لقضاءه، ولا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلماته ولا مبعثر لما جمعه. أشهد أن لا اله إلا هو وحده لا شريك له ولا ند له ولا إله معه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وأمينه على ما استودعه. صلى الله عليه وعلى آله وجميع أصحابه، خصوصاً الخلفاء الأربعة، ومن سار على هديه، وامتثل سنته وعلى جميع من اتبعه. أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته القائل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28]. اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار، واجمعني وإخواني هؤلاء في جنات تجري من تحتها الأنهار برحمتك يا الله يا الله يا عزيز الغفار. هذا هو اللقاء الأخير مع الخوف والخائفين جعلنا الله وإياكم ممن يخافه ويخشاه في السر، والعلانية واليوم سنعيش مع ثمرات الخوف من الله، مع الثمار اليانعة وللفوائد العظيمة لمن يخاف الله ويخشى عذابه. هناك فوائد وثمار في الدنيا وفي الآخرة. أما في الدنيا فسبع فوائد عظيمة: أولها: الخوف من الله من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة، قال عز وجل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13، 14]، فنصر الله للخائفين من مقامه وتمكين الله في الأرض للذين يخشون وعيده. ثانيا: الخوف من الله يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه، وعدم طلب المقابل في الدنيا حتى لا ينقص الأجر في الآخرة: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10]، ما الذي يحرك الإنسان حين يسمع حيا على الصلاة حيا على الفلاح الصلاة إلا الخوف من الله ومن لقاءه ما الذي يجعل العبد ينتفض من فراشه الوثير حين يسمع الصلاة خير من النوم إلا الخوف من الله ومن عذابه، قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36 - 37]. ثالثًا: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء: قال يحيي بن معاذ الرازي: على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق وعلى قدر شغلك بالله يشتغل في أمرك الخلق. لذلك كان العدو يسمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم- من مسيرة شهر فيهابه وما ذلك إلا لصدق خوفه - صلى الله عليه وسلم- من ربه عز وجل. وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-يهابَه الأكاسرة والقياصرة وهم على عروشهم وترتعد فرائصهم منه. بل إن إبليس عليه لعنة الله كان يهابَ عمر حتى أنه كان لا يجرؤ أن يسلك الطريق الذي يسلكها عمر وما ذلك إلا لشدة خوفه -رضي الله عنه-. وهكذا كانت الأمة جميعها في زمن العزة يهابَها عدوَها ويحسب لها ألف حساب لكن لما تخلت الأمة عن مصدر عزتها وكرامتها وتجرأ أبناؤها على حدود الله وانعدم الخوف في القلوب -إلا من رحم الله- ضاعت هيبة الأمة وتجرأ عليها أجبن وأخس أمم الأرض من أبناء القردة والخنازير بل أصبح البعض يهرول للتطبيع مع اليهود مع من حارب الله ورسوله والمؤمنين تطبيع مع من نهانا الله عن موالاتهم فكيف بالتطبيع معهم قال الله وإذا قال الله بطل كل قول وقائل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120] اسمع للصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم:عَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ ما الوهن يا رسول الله، قال: حب الدنيا وكراهية الموت". رابعا: الخوف حماية للفرد والمجتمع من الفواحش، والآثام والحرام، فالذي يخاف من الله تعالى يضع نصب عينيه معية الله تعالى له، فإذا دعته نفسه الأمارة بالسوء إلى فعل ما يوجب سخط الله ذكّرته نفسه اللوامة نظر الله إليه. قال ابن القيم: "من ثمرات الخوف أنه يقمع الشهوات ويكدّر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة مكدرة". الخوف من الله يصنع الضمير الحي الذي يصحب الإنسان في كل مكان، وأقوى من القوانين والعقوبات البشرية، هل أتاكم خبر من وجد تفاحة تحت شجرة فأكل نصفها، فذكر أنها ليست له، فبحث عن صاحب البستان حتى وجده فسأله وطلب منه أن يسامحه قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه دينا رولا درهم. هل أتاكم خبر ذاك الرجل الذي استلم من أمين الصندوق راتبه، أو حواله من موظف الصرافة، فلما وصل إلى بيته وجد أن المبلغ زائدا على ما هو له، فأعاده إلى صاحبه، ما الذي أعاده إلا الخوف من الله، الخوف من أكل الحرام؛ لأن الحرام يهلك وأهله. هل أتاكم خبر من اشترى أرضا فلما بدأ يحفر أرضه،وجد جرّة فيها ذهب، فذهب إلى البائع وقال له: وجدت ذهبا في أرضك التي اشتريته فالمال مالك، فقال البائع: لقد بعتك الأرض بما فيها فالمال مالك. الله اكبر عندما تمتلا القلوب مخافة لله يعيش المجتمع بأمنٍ وسعادة ورخاء.، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82] خامسا: الخوف من الله يبعث في النفس الشجاعة، فلا يجد الإنسان مقابل الخوف من الله تعالى خوفًا آخر من غيره،، حيث يستند المؤمن إلى قوة عظيمة وركن متين، وحينها يكفيه الله تعالى أذى الشياطين وأوليائهم، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّله الله إلى الناس"[ ﺃﺧﺮﺟﻪ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ ﻭاﻟﺤﺎﻛﻢ وصححه الألباني]. أيها المؤمنون: تاريخنا المجيد مليء بالعلماء والصالحين الأفذاذ الذين وقفوا أمام الظلمة الجبابرة وقالوا كلمة حق، وثبتوا ثبات الجبال الرواسي؛ فرفع الله مكانهم وأعلى شأنهم. سادسا: الخوف من الله إنه يبعث في النفس الاعتبار والتذكر في آيات الله، وفيما يجري من أقدار الله، فتلين القلوب وتخشع لذكر الله: ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 9-10]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ﴾ [هود: 103]. سابعا: الخوف من الله سبب للنجاة من كل سوء، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ثلاث منجيات وذكر منها: خشية الله تعالى في السر والعلانية" [صحيح الجامع [3039]] فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء. اللهم أجعلنا من عبادك الخائفين، وارزقنا خشيتك في السر والعلانية يارب العالمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد.. عباد الله: أما ثمرات الخوف في الآخرة: أولها: الخوف من الله - يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة، الناس في الحر، والعرق والأهوال يصيحون، يبكون، وأهل الخوف من الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم:«ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" [صحيح البخاري [660]] «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"، الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة، فعينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله. ثانيا: الخوف من الله من أسباب المغفرة، قال الله تعالى﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب وفي بعض روايات الحديث أنه كان نباشا (يعني يسرق أكفان الموتى) فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: أي أب كنت لكم؟ قالوا خير أب. فقال: فإذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك ). ثالثا: الخوف من الله يؤدي إلى الجنة: لقوله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46] وقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40-41]. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [سنن الترمذي [2450]] أي الذي يخاف من إغارة العدو وقت السحر يسير من أول الليل (أدلج) فبلغ المنزل والمأمن والمطلب، وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة فإن الشيطان على طريقه والنفس الأمارة بالسوء والأماني الكاذبة وأعوان إبليس، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده ومن قطع الطريق عليه، هذه سلعة الله التي من دخلها كان من الآمنين. رابعا: يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة: وفي الحديث القدسي: قال الله تعالى: "وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة" [ (صحيح بن حبان [640])]. خامسا: الثمرة الأخيرة للخوف من الله الرضا من الله:قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]. هذا وصلوا - عباد الله:- على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |