الأدلة الشرعية على ضرورة الاعتناء بفقه البدائل الشرعية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 599 - عددالزوار : 70619 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 16840 )           »          بين الوحي والعلم التجريبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          غزة في ذاكرة التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 9134 )           »          حين تتحول الحماسة إلى عبء بين الجاهل والعالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          نعمة الأمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 32358 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 2929 )           »          منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي الله داود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          واجبات الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 21-08-2024, 12:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,183
الدولة : Egypt
افتراضي الأدلة الشرعية على ضرورة الاعتناء بفقه البدائل الشرعية

الأدلة الشرعية على ضرورة الاعتناء بفقه البدائل الشرعية

د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري

تعاضدت أدلةٌ متكاثرةٌ في تقرير فقه البدائل الشرعية، وبيان أهميته، وتنوعت مصادر الاستدلال لهذا المسلك الفقهي ما بين آيةٍ محكمة، وسنةٍ مستفيضة، وأثرٍ موروث، وقاعدةٍ شرعية؛ لذا انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة من الكتاب:
أعظم المسالك في الاستدلال والتوجيه مسالك كلام الرب سبحانه، وقد جاءت في العديد من الآيات الحاظرة دلالةُ الممنوعين إلى البديل المشروع، والإشارة للفارق بين ما شرعه الله تعالى وما حرّمه، ومن ذلك:
1- قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3][1].

فوجّه الله تعالى عباده عند خوف الوقوع في المحظور إلى اختيار أقرب بديلٍ، يحملهم على العدل وترك الظلم، يقول ابن القيم مقررًا هذا المعنى: "سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون من الظلم والجور فيه إلى غيره، فإنه قال في أولها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾، فدلهّم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ، وأباح لهم منهنّ أربعًا، ثم دلّهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن، فقال: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3] ، ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور"،[2] وقال ابن كثير[3] في بيان وجه الحكمة من دلالة الله تعالى عباده إلى هذا البديل: " أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه"[4].

2- قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[5].

قال السيوطي[6]: "فلما حرّم الله تعالى على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم؛ مما قُطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يُوافون بها، فأنزل الله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، فأحلَّ في الآية الأخرى التي تتبعها الجزية، ولم تكن تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضًا مما منعهم من موافاة المشركين بتجاراتهم، فقال: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ إلى قوله: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾، فلما أحقَّ الله ذلك للمسلمين، عرفوا أنه قد عاضهم[7] أفضل مما كانوا وجدوا عليه؛ مما كان المشركون يوافون به من التجارة"،[8] وقال ابن كثـير: "أيّ إنّ هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية".[9]


3- ومما جاء في خصوص المعاملات المالية مرشدًا إلى سلوك البديل الشرعي عن المعاملات المحرمة قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾، الآية.[10]


ووجه الدلالة من هذه الآية يظهر من تأمل تناسب ذكر هذه الآيـة مع ما قبلها، يقول الرازي[11] في تفسيره: " فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السَلم في جميع هذه الآية، مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً، وسبيلاً مشروعاً".[12]


4- وقول الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾. [13]


فما منع الله تعالى عباده من سوءات الربا حتى عوّضهم ما هو أزكى لهم خُلقًا، وأنفع لهم كسبًا، وأقوم لحياتهم واقتصادهم، قال ابن عاشور[14] متلمسًا بعض معاني الفرق بين المعاملة المحظورة، والبديل المرغّب فيه في هذه الآية: "في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة، والصناعة، والعمارة".[15]


المطلب الثاني: الأدلة من السنة:
وكما احتفى القرآن الكريم بذكر البدائل الشرعية، جاءت السنة النبوية لتؤكد هذا المعنى، وتجلي هذا المسلك، وتدل الناظرين في الأحكام الشرعية، والمشتغلين بالفتيا في شؤون الأفراد والمجتمعات إلى سلوكه والتبشير به، ومن ذلك:
1- ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟"، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر". [16]


فلما منع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم من الفرح بهذين اليومين الجاهليين، ذكر لهم بديلاً شرعيًا، يُشرع الفرح واللعب فيه من جنس ما نهاهم عنه، قال ابن القيم: "وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر". [17]


2- وما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البُرْنُس،[18] ولا ثوباً مسّه زعفران ولا وَرْس،[19] ولا الخفين إلا لمن لم يجد النعلين، فإن لم يجدهما فليقطعهما أسفل من الكعبين". [20]


فالمحرِم في هذه الحال مالكٌ للخف الذي يحرم عليه لبسه، فاقدٌ للنعل الذي يشرع له لبسه، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى طريقةٍ يتخلص بها من الوقوع في المحذور، ودلّه على وسيلةٍ تُغيّر صورة المنهيّ عنه إلى حقيقةٍ أخرى مباحة.

ولو تأملنا في هذا الحديث لوجدنا أن السائل لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حال فقد النعلين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم زاده حكم هذه المسألة شفقةً، وحرصًا على دلالته لما قد يحتاج إليه، قال ابن بطال[21]: "فهذه زيادة، وإنما زاده؛ لعلمه بمشقة السفر، وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولما يلحق الناس من الحفي بالمشي، رحمة لهم وتنبيهًا على منافعهم، وكذلك يجب للعالم أن ينبه الناس في المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شيء من حدود الله".[22]


وهل هذا المثال من باب ذكر البدل؛ إذ عُلق بالعذر، أم من باب ذكر البديل؟.
الأقرب هو الثاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في لبس الخفين للعذر، بل طالب المحرِم بتغيير صورتهما حتى يتحولا إلى حقيقة أخرى، وإنما العذر جاء رخصةً لإتلاف المال،[23] لا للبس الخفين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن لبس المحرم للسراويل: "ومن لم يجد إزارًا، فليلبس سراويل"،[24] وقال في شأن لبس الخفين: "ولا الخفين إلا لمن لم يجد النعلين، فإن لم يجدهما فليقطعهما أسفل من الكعبين"،[25] فهذه صورة البديل، والتي قبلها صورة البدل، والله أعلم.

قال ابن بطال: "قال ابن القصار[26]: الفرق بينهما أن الخف أُمِرَ بقطعه حتى يصير[27] في معنى النعلين التي لا فدية في لبسهما، والسراويل لم يؤمر بفتقه؛ لئلا تنكشف عورته، فبقي في حكم القميص المخيط، ولو أمر بفتقه لصار في معنى الخف إذا قطع". [28]


3- وفي باب الألفاظ الممنوعة، جاءت أحاديث كثيرة ترشد إلى بدائل اللفظ المنهي عنه؛ فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا: الكَرْم، ولكن قولوا: الحَبْلَة"؛ يعني العنب،[29] و"لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات، والطيبات..."،[30] وحديث: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان"،[31] و"لا يتمنين أحدكم الموت من ضرٍ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"،[32] وقوله عليه الصلاة والسلام: "وإن أصابك شيءٌ، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". [33]


4- وما أخرجه ابن حبان وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام". [34]


وفيه دلالةٌ على أن الله تعالى ما حرّم شيئاً من الدواء إلا وجعل الشفاء في غيره، مما أحلّه سبحانه لعباده، يبين ذلك المُنَاوي[35] من خلال شرحه لهذا الحديث، مظهرًا حكمة الشريعة، ومحاسنها في هذا التشريع، فيقول: "لأنه سبحانه وتعالى لم يحرّمه إلا لخبثه؛ ضناً بعباده، وحميّةً لهم، وصيانةً عن التلطخ بدنسه، وما حرّم عليهم شيئاً إلا عوّضهم خيرًا منه، فعدولهم عما عوّضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه، ومن تأمل ذلك هان عليه ترك المحرم المؤذي، واعتاض عنه النافع المجدي، والمحرم وإن أثّر في إزالة المرض، لكنه يعقب بخبثه سقمًا قلبيًا أعظم منه، فالمتداوي به ساعٍ في إزالة سقم البدن بسقم القلب". [36]


5- وفي خصوص باب المعاملات المالية، جاء حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه خير شاهد على هذا المسلك الشرعي، قال: جاء بلالٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برْني،[37] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا؟"، قال بلال: كان عندنا تمرٌ ردي، فبعتُ منه صاعين بصاع؛ لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أوِّه أوِّه،[38] عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردتَ أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره". [39]


وأنت تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عُرضت عليه هذه الحادثة بيّن حرمة المعاملة، بل نصّ على أنها حقيقة الربا، ثم دلّ الصحابي إلى المخرج الشرعي من الوقوع في الحرام، مع حصول غرضه بطريق مشروع، قال ابن حجر[40]: "وفيه النص على تحريم ربا الفضل، واهتمام الإمام بأمر الدين وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التوصل إلى المباحات، وغيرها". [41]


ويقرر ابن عثيمين هذا المسلك منهجيةً متبعةً استدلالاً بهذا الحديث، فيقول: "هناك - أيضاً - شيء آخر يغزون المسلمين به وهو الاكتساب، بحيث يُغرون الناس على الميسر والربا وغير ذلك بطرقٍ كثيرة، فيدخل في حماية الدين الإسلامي أن نبين هذا القسم الثاني، الذي هو حرب الفكر والعقيدة والأخلاق والمعاملات، وذلك بأن نبين فساد هذه الأشياء؛ لأن بيان فسادها كسر لهذه الأسلحة، ثم نأتي بما هو أحسن منها، فيما جاء به الإسلام؛ لأن كوننا نهاجم هذه الأسلحة بدون ذكر البديل خطأ؛ لأن الناس يقولون: أين البديل؟ ولهذا جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يرشد إلى هذه الطريق، وهي أنك إذا أبطلت منكراً، فاذكر ما يحل محله من المعروف، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ﴾، هذا منكر، والبديل: ﴿ وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾،[42] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاءه بالتمر الجيد الذي كان يأخذ الصاع منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، قال: "لا تفعل"، وفي رواية: "عينُ الربا، ردّه"، ثم أرشده، قال: "بع التمر الجَمْع - أي الرديء - بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيباً"؛ يعني تمراً طيباً، فهكذا ينبغي للداعية إذا سدّ على الناس باب الشر أن يفتح بدله من أبواب الخير، حتى لا يقع الناس في حيرة". [43]


6- وفي هذا الباب أيضًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان، وفيه: "ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق". [44]


قال ابن بطال: "فإن قيل: فما معنى أمر الرسولِ الداعيَ إلى المقامرة بالصدقة من بين سائر أعمال البر ؟ قيل له: معنى ذلك - والله أعلم - أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جعلاً في المقامرة، ويستحقونه بينهم، فنسخ الله أفعال الجاهلية، وحرّم القمار، وعوّضهم بالصدقة عوضًا مما أرادوا استباحته من الميسر المحرم، وكانت الكفارات من جنس الذنب؛ لأن المقامر لا يخلو أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، فإن كان غالبًا؛ فالصدقة كفارة لما كان يدخل في يده من الميسر، وإن كان مغلوبًا؛ فإخراجه الصدقة لوجه الله أولى من إخراجه عن يده شيئًا لا يحل له إخراجه ".[45]


وما سبق من أدلة الكتاب والسنة تدل دلالةً واضحةً على أهمية الاعتناء بفقه البدائل الشرعية، وتُبرِز الحكمة التي أناطها الشارع الحكيم بهذا المسلك، "فإن فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشقِّ الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء؛ ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سُئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حُرمت بالكلية، ومن تأمل أسرار الشريعة، وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها ونواهيها، بادياً لمن نظره نافذ؛ فإذا حرّم عليهم شيئًا عوّضهم عنه بما هو خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه؛ ليسهل عليهم تركه، كما حرّم عليهم بيع الرطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا،[46] وحرّم عليهم النظر إلى الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب، وحرّم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة؛ كالنرد والشطرنج وغيرهما، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة؛ كالمسابقة والنضال، وحرّم عليهم لباس الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه، وحرّم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم، وحرّم عليهم في الصيام وطء نسائهم، وعوّضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلاً؛ فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرّم عليهم الزنا، وعوّضهم بأخذ ثانيةٍ وثالثةٍ ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا؛ فسهل عليهم تركه غاية التسهيل، وحرّم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوّضهم عنه بالاستخارة، ودعائها، ويا بعد ما بينهما، وحرّم عليهم نكاح أقاربهم، وأباح لهم منه بنات العمّ والعمّة والخال والخالة، وحرّم عليهم وطء الحائض، وسمح لهم في مباشرتها، وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء، فسهل عليهم تركه غاية السهولة، وحرّم عليهم الكذب، وأباح لهم المعاريض[47] التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها ألبتة، وأشار إلى هذا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن في المعاريض مندوحة[48] عن الكذب"،[49] وحرّم عليهم الخيلاء بالقول والفعل، وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد، وحرّم عليهم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وعوّضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش، والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها، وبالجملة فما حرّم عليهم خبيثاً، ولا ضارًا إلا أباح لهم طيبًا بإزائه، أنفع لهم منه، ولا أمرهم بأمرٍ إلا وأعانهم عليه، فوسعتهم رحمته، ووسعهم تكليفه ".[50]

المطلب الثالث: الأدلة من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وتطبيقات الفقهاء:
لما تقرر هذا المنهج في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تكررت الأمثلة والتطبيقات العملية له في منهج الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أهل العلم في توجيه الناس وإفتائهم، فأخذوا يبينون للناس المخارج الشرعية، والبدائل المرضية، التي شرعها لهم هذا الدين الحنيف غنيةً عن المحرمات، ولذلك شواهد كثيرة، أذكر منها:
1- ما أخرجه البخاري في صحيحه عن سعيد بن أبي الحسن [51] قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، إذ أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عباس، إني إنسانٌ إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: "من صوّر صورةً، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ فيها أبدًا"، فربا الرجل ربوةً شديدة، واصفرّ وجهه، فقال: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيءٍ ليس فيه روح.[52]


فبيّن ابن عباس رضي الله عنهما للسائل طريقًا مباحًا لكسبه، من جنس الطريق التي مُنع منها؛ خصوصًا لما ظهرت له حاجة السائل إلى الطريق البديل، وحرصه على ترك الطريق المحرم، قال ابن القيم: "من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيءٍ، فمنعه منه، وكانت حاجته تدعو إليه، أن يدلّه على ما هو عوضٌ له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتّى إلا من عالمٍ ناصحٍ مشفق، قد تاجر الله، وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضرّه، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان". [53]


2- وفي خصوص المعاملات المالية: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن حنظلة بن قيس الأنصاري،[54] قال: سألت رافع بن خديج رضي الله عنه عن كِراء الأرض بالذهب والورِق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذِيانات، وأقبال الجداول،[55] وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلومٌ مضمون، فلا بأس به. [56]


فبيّن رافع رضي الله عنه الصورة الجائزة؛ كبديلٍ شرعي لما نُهي عنه من صور المساقاة.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 130.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 129.19 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]