خطبة الحرم المكي
- نصائح وإرشادات لإحسان المعاملات
الفرقان
جاءت خطبة المسجد الحرام بتاريخ 29 شوال 1444هـ، الموافق 19 مايو 2023م، بعنوان: نصائح وإرشادات لإحسان المعاملات، للشيخ فيصل بن جميل غزاوي، وقد اشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: اختلاف طبائع الناس وميولهم، وعلى المسلم أن يكون بصيرًا بكيفية التعامل مع الناس، وقواعد وإرشادات في حسن التعامل مع الناس.
في بداية الخطبة بين الشيخ غزاوي أن الناس -منذ خُلقوا- وهم مختلفو الطبائع والرغبات والميول، كما أنهم ليسوا سواء في أخلاقهم وصفاتهم وأحوالهم؛ فمنهم الهيِّن اللَّيِّن، اللطيف الرفيق، ومنهم الفظُّ الغليظُ الجافي الشديد، ومنهم مَنْ هو بَيـْن ذلك؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -[- قال: «النَّاسُ مَعَادِنُ، كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا»، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ. جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ»، وحيث إنَّه لا غِنَى للمرء عن مخالَطة الناس والتواصل معهم.
فمِنَ الفقهِ والحكمةِ أن يكون المسلمُ على بصيرة، كيف يتعامل مع أصناف الناس المختلفة بما يليق ويناسِب الحالَ؟ وهناك قواعد ثابتة وأصول متَّبَعة، وتجارِب نافعة في معاشَرة الناس ومخالطتهم ومعاملتهم، ينبغي أن يعيها المرء ويراعيها، وأول الأمر -كما لا يخفى عليكم عباد الله- أنَّنا نتعامل مع أناس مثلِنا ليسوا بمعصومين، يُصِيبون ويُخطِئون، ويَحصُل لهم من السهو والنسيان والضَّعْف ما لا ينفكُّ منه البشرُ.
قواعد وإرشادات
إذا عُلِمَ ما تقدَّم فإليكم جملةً من القواعد والإرشادات التي يُحتاج إليها في التواصُل مع الناس، وكيفية التعامُل الأمثل معهم؛ فمن ذلك:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}
قوله -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(الْأَعْرَافِ: 199)، قال السعدي -رحمه الله-: «هذه الآية جامعة لحُسْن الخُلُق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم؛ فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو؛ أي: ما سمحَتْ به أنفسُهم، وما سَهُلَ عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يُكلِّفُهم ما لا تَسمَح به طبائعُهم، بل يَشكُر مِنْ كلِّ أحدٍ ما قابَلَه به؛ مِنْ قولٍ وفعلٍ جميلٍ، أو ما هو دونَ ذلك، ويَتجاوزُ عن تقصيرهم ويَغُضّ طرفَه عن نقصهم، ولا يتكبَّر على الصغير لصِغَره، ولا ناقصِ العقلِ لنقصه، ولا الفقيرِ لِفَقرِه، بل يُعامِل الجميعَ باللُّطف والمقابَلة بما تقتضيه الحالُ، وتنشرح له صدورُهم. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}(الْأَعْرَافِ: 199)؛ أي: بكل قول حَسَن وفِعْل جميل، وخُلُق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منكَ، إمَّا تعليمُ عِلْم، أو حثٌّ على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدينِ، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاوَنة على بِرّ وتقوى، أو زَجْر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينيَّة أو دنيوية، ولَمَّا كان لابدَّ من أذية الجاهل، أمَر اللَّه -تعالى- أن يُقابَل الجاهلُ بالإعراض عنه، وعدم مقابَلته بجهله، فمَنْ آذاكَ بقوله أو فعله لا تُؤذِه، ومَنْ حرَمَك لا تحرمه، ومَنْ قطَعَك فَصِلْهُ، ومَنْ ظلَمَكَ فاعدِلْ فيه.
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
ومن القواعد المتبَعة في التعامُل قول الله -تعالى-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(الْإِسْرَاءِ: 53)، فأمَرَنا -تعالى- أن نقول في مخاطَباتنا ومحاوَراتنا الكلامَ الْأَحْسَنَ وَالْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ؛ فَإِنَّنا إذ لَمْ نفعل ذلك، نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَنا، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ إِلَى الْفِعَالِ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالْمُخَاصَمَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ.
والناس - تنتابهم أعراضٌ مختلفةٌ، وتمرُّ بهم أحوالٌ متباينةٌ؛ من الشُّغل والضَّعْف والنسيان، والمرض والكِبَر وغيرها ممَّا قد يُؤثِّر على سلوكهم وطباعهم؛ فأحسِنِ الظنَّ بهم، واحذَرْ من الحُكم على أقوالهم وأفعالهم دون تثبُّت ومعرفة للأسباب! ولاسيما أن الشيطان حريص على إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس؛ فربما نزَغ بينَكَ وبينَ أخيكَ حتى تظنَّ به الظنَّ السيئ على إثر أَمْر حصَل بينَكما.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
ومن القواعد الجليلة في التعامُل بين الناس قوله -تعالى-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فُصِّلَتْ: 34)، يَعْنِي ادفع بالحالة التي هي أحسنُ سَفاهَةَ الناسِ وجَهالَتَهم، ادفع بحلمكَ جهلَ مَنْ جَهِلَ عليكَ، وبعفوكَ إساءةَ مَنْ أساء إليكَ، وبصبركَ على مكروهِ مَنْ تعدَّى عليكَ؛ فَإنَّكَ إذا قابَلْتَ إساءَتَهم بِالإحْسانِ، وأفْعالَهُمُ القَبِيحَةَ بِالأفْعالِ الحَسَنَةِ، تَرَكُوا أفْعالَهُمُ القَبِيحَةَ، وانْقَلَبُوا مِنَ العَداوَةِ إلى المَحَبَّةِ.
ومن الأمور التي تُراعى في معامَلة الناس عدمُ الالتفات لِمَا يلقاه المرءُ من أذاهم؛ فالمؤمن من أهل المروءات، يتغافل عن الزلَّات، ويغضُّ الطرفَ عن الهفوات، طلبًا لمغفرة ربِّ البرياتِ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النُّورِ: 22).
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}
ومن قواعد التعامُل بين الناس كذلك قوله -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(الْبَقَرَةِ: 83)؛ أي: كلِّمُوهم طيبًا، ولِينُوا لهم جانبًا، فوطِّن نفسَكَ عبدَ اللهِ على معامَلة الناس بمكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ الصفاتِ، وجميلِ الخِلالِ، وألَّا يأتي منكَ لأخيكَ إلَّا ما تُحِبّ أن يُؤتى إليكَ، وما كرهتَ لنفسكَ فلا تأته إلى غيركَ.
وممَّا يدخل في هذا الباب أن تحرص على نفعِ الناسِ وإدخالِ السرور عليهم، والفرحِ لفرحهم والتألم لألمهم، ومواساتهم، والوقوف بجوارهم في السرَّاء والضرَّاء، وبذلِ المعروفِ لهم، وعدمِ المنِّ عليهم بالعطاء، وأن تَزهَد فيما في أيديهم ولا تحسدهم على ما آتاهم اللهُ من فضله، ولا تنتظِر منهم شكرًا ولا ثناءً على صنيعكَ ولا مكافأةً على إحسانك، وإن استثارَ أحدٌ غضبَكَ فكن حليمًا واكظم غيظَكَ، وبادِرْ بالاعتذار لمَنْ أخطأتَ في حقه، وكُنْ سليمَ الصدر في حقِّ إخوانِكَ، واقبل عذرَ مَنْ جاءكَ معتذرًا منهم، والتمِسْ لهم الأعذارَ حتى وإن أخطؤوا في حقك.
لا تُغفل ما لدى أخيك من خير
وعند المناصَحة لا تُغفل ما لدى أخيك من خير، وعاتِبْ برفقٍ ولِينٍ، وتَسامَحْ ولا تستوفِ حقَّكَ كاملًا، واحرص على ما يُشيع المحبةَ مع غيركَ، كإفشاءِ السلامِ وإلانةِ الكلامِ والابتسامةِ والمناداةِ بأحبِّ الأسماء، والإهداء، كما عليكَ أن تتواضع ولا تتفاخَر بما لديكَ، ولا تحتقِرْ صاحبَكَ، ولا تُوقعْه في الحرج، واحمل كلامه على أحسن المحامل، وتحفَّظْ من التطاول على أحد بكلمة دون أن تَشعُر، وشاوِرْ أصحابَ العقول الرشيدة ولا تستبدَّ برأيكَ، واحذر أن تُعرِّضَ نفسَكَ للتُّهَمَة؛ فتكون سببًا في إساءة ظنِّ الناسِ فيكَ، وابتعِدْ عن الكلام البذيء، والألفاظ الجارحة المسيئة، ولا تُقحِمْ نفسَكَ فيما لا ينفعكَ من شؤون الآخَرينَ، ولا تسأل عمَّا لا يَعنيكَ، ولا تَتَّبِع عوراتِ الناسِ، ولا تشمَتْ بهم ولا تَذكُر معايبَهم، ولا تَبغِ عليهم ولا تَغُشَّهم ولا تَخُنْهم، ولا تُفشِ أسرارَهم، ولا تَنَلْ من أعراضهم، ولا تهتِكْ أستارَهم، ولا تسعَ في الإفساد بينَهم، بل كُن مشعلَ خير وإصلاح، بالدعاء لهم والسؤال عن أحوالهم وقضاء حوائجهم ومعالَجة مشكلاتهم، ومَنْ وقَع في معصية فانصح له، وذَكِّرْه بالله من باب الأُخوَّة والمحبة، ولا تتركه على خطئه، ولا تدعه في غفلته.
وفي المقابل إذا نبَّهَكَ أحدٌ على خطأ ارتكبتَه فاقبل نصيحتَه شاكرًا ولا تُكابِرْ، بل أَذعِنْ للحقِّ وانقَدْ، واحذَرْ أن تعيش شكَّاكًا مرتابًا، تشتغل بتفسير المقاصد، وتحكم على النيات، بل عامِلِ الناسَ بظواهرهم، وكِلْ سرائرَهم إلى ربهم؛ فحسابُهم على الله -تعالى-، وليكن رضا الله همَّك وغايتَكَ في كل أموركَ.
إرضاءُ الناسِ غايةٌ لا تُدرَكْ
اعلم أنك مهما حرصتَ على إرضاء البشر فلن تستطيع، وليس بإمكانكَ؛ فإرضاءُ الناسِ غايةٌ لا تُدرَكْ، لكن أحسِن معاملةَ الجميع، وابذل المستطاعَ في أداء ما يجب عليكَ نحوَهم، وسدِّدْ وقارِبْ، وسَلِ اللهَ القديرَ العَفوَ عن الخطأ والتقصير.