|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التكامل في الاختلاف وأدبه بين الصحابة (عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد أنموذج) . د. محمد بن عبدالله السلومي الاختلاف[1] بين البشر في خَلْقِهم وطِباعهم وخصائصهم النفسية، بل قوة إيمانهم وضعفه من السُّنن الإلهية والحِكَم الربانية للخالق جل وعلا، ولهذا جاء ما يسمى بالفروقات الفردية وتوظيفها بالتكامل بين البشرية، وهذا من عظمة الخالق سبحانه وتعالى لعمارة هذا الكون، والمهم في هذه الحقيقة عن تنوع صفات البشرية وقوَّتهم وضعفهم: أن يكون التعاطي الأمثل مع هذا الجانب المهم حول هذا التنوع الإنساني. ومن هذا التعاطي الصحيح - مثلاً - ما يتعلق بتولية خالد بن الوليـد رضي الله عنه بعض الولايات وقيادة الجيوش الجهادية زمن أبي بكر الصـديق وعمر بن الخطـاب رضي الله عنهمـا، ثم قرار عمـر عزل خالد رضي الله عنهما، وسواء أكان هذا العزل الأول عام 13هـ أم العزل الثاني عن قنسرين عام 17هـ، وسواء أكان هذا عزلاً عن ولاية أم كان عزلاً عن إمرة جيش وجهاد؛ فقد كان قبول خالد ورضاه تجاه هذا الأمر، وهذا العزل ربما يُعدُّ من الأحداث المهمة تاريخياً عند بعض المؤرخين خاصة المغرضين منهم، ولهذا لا بد من وِقفة تحقيق ودراسة لجلاء ما ورد حول هذا العزل، ولا سيما أنه قد سالت أقلام وخيالات أعداء هذا الدين وخصـومه قديماً وحديثاً بروايات وتفسيرات لا تنهض على قوة في السند، ولا على منهج صحيح في تفسير الحدث أو توضيح أسبابه؛ بينما هذا العزل فيه من المناقب الكثيرة ما يُلغي ما يُثار من شبهات ومثالب! ولهذا تعمدتُ في هذه الورقة ألا يكون عنوانها عن عزل خالد؛ لارتباط عنوان العزل في الغالب بالمثالب دون المناقب عند أهل الأهواء من المؤرخين، وكذلك لأن هذه الورقة معنيَّة بما هو أكثر وأهم من هذا العزل، حيث الاختلاف وأدبه فيمـا بين الصـحابة، وكيف كان استثماره في التكامل في تسلُّم المهام والمسؤوليات. فأقول مستعيناً بالله كـ (أنموذج) للتكامل والاختلاف وأدبه بين الصحابة: تمَّ عزل خالد بن الوليد، وقد ورد هذا بروايات تاريخيـة متعددة الأسانيد يقوي بعضها بعضاً في كشف أسباب العزل الحقيقية. وفي الإسلام ما يؤكد على عدم الخوض بسوء فيما حدث بين الصحابة رضي الله عنهم؛ كما قال تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، ويدخل فيه عدم الخوض في موضوع عزل خالد بن الوليد، لا سيما بالروايات الضعيفة أو الموضوعة وما يترتب على ذلك من إساءة بحق الصحابة، وهذا مما يُعدُّ من الأسس المهمة في قبول الروايات وتفسير الأحداث أو رفضها. وهو ما يجهله أو يتجاهله أعداء هـذا الدين وخصومه قديماً وحديثاً تجاه بعض الروايات التاريخية وتفسيرها. وبجمع الروايات حول عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه ودراستها دراسة علمية تتضح بعض المعاني الكبيرة والحِكَم البالغة لسياسات الحكم الرشيد لأبي بكر ثم عمر رضي الله عنهم جميعاً، وسواء أكان العزل الأول لخالد أم الثاني كما قسَّم بعض المؤرخين، كما أن أسباب العزل ذاتها تكشف بصورة أكبر عن مفاهيم ومعاني ذات قيمة إدارية وأخلاقية. وأسباب العزل تكاد تكون أربعة أسباب رئيسة، وقد تكون مرتبطة ببعضها، كما قد تكون منفردة عن بعضها، وهي أسباب ظاهرة واستنتاجية تجلَّت بصورة واضحة من خلال ألفاظ الروايات أو مفاهيمها وشروحاتها، وهذه أبرز الأسباب: السبب الأول: حِرْصُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حماية جانب العقيدة لدى خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فقد يَحدُث اغترار خالد بشجاعته، وهو ما يؤدي إلى افتتانه بنفسه بسبب انتصاراته المتتابعة، وهو سبب استنتاجي من بعض ألفاظ الروايات: «حتى يعلما» «وليس إياهما». فهذا التصرف من عمر رضي الله عنه قمة المحبة لخالد بن الوليد رضي الله عنه، وربما الشفقة والرحمة، وقد أدَّى خالد واجبه ولم يتخلَّ من نفسه، وهو اجتهاد من عمر أراد به أن تتركز وتتأصل لدى عامة الناس وخاصتهم مفاهيم هذا الانتصار وأنه بالمنهج أولاً وبالرجال ثانياً وليس العكس، وأن الانتصار ليس مرهوناً برجل واحد مهما كان هذا الرجل. وقد عزله عمر رضـي الله عنه من القيادة فقط ولم يعزله عزلاً تامّاً كما سيأتي في الاختلاف على مسألة قَسْم الغنائم. فقد روى ابن سعد: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى، مثنى بن شيبان حتى يعلما أنَّ الله إنما كان ينصر عباده، وليس إياهما كان ينصر»[2]. ورواية أخرى تؤكد هذا المعنى أوردها ابن عساكر بإسناده، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أما والله! لأن صيَّر الله هذا لأمر إليَّ لأعزلن المثنى بن حارثة عن العراق وخالد بن الوليد عن الشام، حتى يعلما أنما نصر الله دينه ليس إياهما نصر»[3]. كما أورد ابن عساكر رواية أخرى بسنده تؤكد هذا المعنى، بعد ولاية عمر رضي الله عنه، وفيها قال: «لأنزعن خالداً حتى يعلم أن الله إنما ينصر دينه» يعني بغير خالد[4]. واستحضار هذه النصوص لا سيما مع واقع خالد بأنه لم يُهزم له جيش قط سواء في الجاهلية أم الإسلام، مع ما أعطاه الله من سلامة الرأي ومكيدة الحرب والتخطيط والقوة والشجاعة وكلها في شخص واحد، إضافةً إلى أنه كان من أبرز قادة الفتوحات الإسلامية الكبرى. كل هذا مما يؤيد هذا السبب للعزل، وأنه كان لمصلحة أكبر. والسبب الثاني: أن مصلحة الأمة المسلمة تتطلب الحفاظ على صفاء عقيدتها ونقائها، وهو أمر بالغ الأهمية في الإسلام وعند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصفة خاصة؛ فنقاء العقيدة أغلى من نتائج قرار متعلق بفرد، وقد أصدر عمر قراره ولم يترتب على تنفيذه أي أثر ضار على خالد رضي الله عنه شخصياً ولا على أمة الإسلام، حيث تسمو المصلحة العامة وتُقدَّمُ على غيرها. كما أنه لا يغيب عن بال أي مسلم بعض القواعد الشرعية المشهورة، ومنها (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح) و (ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما سائغ شرعاً). وربما كان بقاء خالد بن الوليد في الولاية أو القيادة فيه شيء من المفسدة، لكن خوف عمر من نشوء الفتنة في عقيدة الأمة وتوحيدها دعاه إلى هذا الإجراء. فقد ورد في عدة مصادر أن عمر رضي الله عنه كتب في الأمصار: «إني لم أعزل خالداً عن سخطة أو خيانة، ولكن الناس فُتنوا به فخشيت أن يُوكَلوا إليه ويُبتلوا، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعُرْضِ [بطريق] فتنة»[5]. بل إن في رواية ابن كثير ما يؤكد ثقة عمر بن الخطاب بأمانة خالد وشجاعته وعدم الاستغناء عنه: «فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالداً وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالداً؛ فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد»[6]. والسبب الثالث: ما تواتر عن شدة خالد، ومن هذا ما ورد أن عمر بن الخطـاب قال لأبي بكـر الصدِّيق رضي الله عنهما زمن خلافة الصدِّيق: «اعْزِله فإن في سيفه رَهَقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم [أي لا أُغمِد] سيفاً سلَّه الله على الكفار»[7]. ومما روي عن شدته ما ورد عن قتله - اجتهاداً - أسرى بني جذيمة، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ»[8]، ولم يقل أبرأ إليك من خالد، كما لم يُعاقبه على اجتهاده، والبراءة من الفعل تعني تخطئة اجتهاد خالد في فعله، كما تعني التحذير لغيره من هذا الفعل. ومما ورد عن شدته كذلك قتله لمالك بن نويرة اجتهـاداً خاطئاً زمن حروب الردة[9]. وفي المقابل فإن بعض الروايات الأخرى ومفاهيمها ربما تمنح خالداً العذر حول أهمية الحاجة إلى الشدة، وذلك لإرهاب العدو من المشركين والمرتدين لا سيما في بعض الأحوال، ومن العذر له كذلك أنه بَشَر غير معصوم، وأن بعض اجتهاداته كانت خاطئة وكان فيها مأجوراً، وكفى شهادةً له بشدته المحمودة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم عنه: «خالدُ بنُ الوَليدِ سَيفٌ مِن سُيوفِ اللهِ، سَلَّه اللهُ على الكُفَّارِ والمنافقين»[10]، وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تُؤذوا خالداً، فإنَّه سيفٌ مِن سيوفِ اللهِ، صبَّه اللهُ على الكفَّارِ»[11]. والسبب الرابع: الذي أدى إلى عزل خالد رضي الله عنــه عـن الولاية ما ذُكـر في هـذه الرواية، وفيها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله: «فلم عزلته؟ قال: عزلته لبذله الأموال لأهل الشرف وذوي اللسان...»[12]، وفي الرواية الأخرى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «فوالله ما نقمت على خالدٍ في شيء إلا في إعطائه المال»[13]. وقد أورد ابن حجـر كذلك رواية تدل على أنَّ هذا الأمر كان من أسباب عزل خالد رضي الله عنه المرة الثانية. قال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن مسلم، عن مالك بن أنس، قال: «قال عمر لأبي بكر رضي الله عنه: اكتب إلى خالد ألا يعطي شيئاً إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك. فأجابه خالد رضي الله عنه: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك، فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن يجزي عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا، قال: فأنت، فتجهـز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن عمر يخرج وأنت محتاج إليه، ومالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟ قالوا: تعزم على عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله، ففعل، فلما تولى عمر كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر لم أنفذه، فعزله، ثمَّ كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء فيأبى عمر»[14]. وفي هذا الأثر ما يؤكد كذلك على حق الرعية والولاة في الاعتراض والتشاور وإبداء الرأي الآخر. وذكر الطبري في خبر عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه سنة سبع عشرة رواية أخص مما سبق تدل على اجتهاد خالد في بذل المال، وفيها حيث موضع الشاهد: «وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض فسارا فأصابا أموالاً عظيمة... فانتجع خالداً رجال من أهل الآفاق فكان الأشعث بن قيس ممن انتجع خالداً بقنسرين فأجازه بعشرة آلاف...»[15]. وقد أورد النسائي بإسناده ما يُقوِّي هذا السبب، وذلك في منـاقب خالد رضي الله عنه، أن ناشرة بن سُمَي اليَزَني، قال: سمعت عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال: «إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة بن الجراح... إلخ الحديث»[16]. فهذه - تقريباً - أبرز الروايات التاريخيـة عن عزله بسبب بذله المال. وبهذه الروايات مجتمعة حول عطاء خالد للأموال يتضح هذا السبب من أسباب عزل خالد رضي الله عنه وهو الاختلاف بين رأيين في أمر يسع الاختلاف حوله والاجتهاد فيه، ولكلٍّ حجته ودليله حول الأحقية فيما يُسمى بالصلاحيات بلغة العصر. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى من موقعه - وهو خليفة للمسلمين - الإشراف المباشر والدقيق على أمر الأموال، وأن التصرف في الشاة والبعير من حقه وليس من حق الولاة أو القواد أن يتصرفوا من عند أنفسهم، خلافاً لسياسة أبي بكر رضي الله عنه الذي أعطى لخالد وغيره هذا الحق أو هذه الصلاحيات، لأن الأمر اجتهادي، وكان خالد رضي الله عنه قد اجتهد في هذه المسألة ورأى أن إعطاء هؤلاء من التأليف لقلوبهم وانتفاع الإسلام بهذا العطاء، كما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرف من المؤلفة قلوبهم في حنين وغيرها في سبيل تأليف القلوب ودفع بعض الشرور الممكنة. ومن الأدلة على اجتهاده ما ذكره ابن سعد: «كنت في حرب ومكايدة، وكنت شاهداً وكان غائباً [يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه] فكنت أعطي ذلك، فخالفهُ ذلك من أمري»[17]، فكان خالد رضي الله عنه هو الشاهد ويرى ما لا يراه الغائب حسب قوله. وعن هذه الأسباب جميعها فإن هذا الاختلاف كان في مسألة أو ربما مسائل لم يرد فيها نص قطعي الدلالة، وليست هذه الأسباب من مسائل الأصول، ويمكن أن يؤدي استمرار الاختلاف أو عدم السمع والطاعة - إن حَدَث - إلى خلاف أخطر قد يؤدي إلى افتراق في جسم الأمة الإسلامية كما حدث بعد ذلك في بعض فترات التاريخ، ولكن بعزل خالد رضي الله عنه والتزامه السمع والطاعة لأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يترتب على هذا الاختلاف بينهما افتراق وخلاف، فلكلٍّ دليله واجتهاده، وكلٌّ قد تعبَّد الله بما يراه صواباً. وسيأتي الحديث عن العلاقة وأدب الاختلاف بينهمـا بعد ذلك؛ وأن هذا الاختـلاف لم يُفسِد بينهما المحبة والمودة وبقاء الأخوَّة، بل كان عامل تكامل وقوه. وهكذا تتجلى الأسباب الحقيقية الشرعية الثابتة بالأدلة النقلية والمنطقية المتفقة مع عموم الأدلة الواردة ومع الدلالات العقلية (الاستنتاجية)، وقد تكون كلها مجتمعة أو بعضٌ منها أدَّت إلى عزل خالد رضي الله عنه. التكامل في الاختلاف الفطري والاجتهادي: من الأسباب الاستنتاجية من الأدلة الواردة حول عزل خالد كـ (أنموذج): أن فيها صورة من صور العمل على توازن وتكامل الخلفاء مع ولاتهم، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه التكامل الإداري بين القيادات، أو ما يُسمى تبادل الأدوار بين الشدة واللين مثلاً، كما أشار إلى هذا ابن تيمية رحمه الله حيث كان له فقه خاص في هذه المسألة وذلك في تولية الأصلح واختيار الأمثل فالأمثل في كل ولاية بحسبها. وكأني به يقول: إن أبا بكر رضي الله عنه مصيب في إبقاء خالد وكان رأيه سديداً، وعمـر رضي الله عنه مصيب كذلك في عزله وكان هذا العزل صحيحاً زمن خلافة عمر. فحينما يكون المُتولِّي ونائبه كلاهما متصفان بالشدة أو كلاهما باللين فإن الأمر لا يعتدل إلا باتصاف أحدهما بالشدة والآخر باللين. وابن تيمية كان حديثه في هذه المسألة من هذا الباب حيث قال رحمه الله: «وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيهـا تأويل، وقـد ذُكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه، لأن المتولي الكبير، إذا كان خُلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خُلق نائبه يميل إلى الشدة، وإذا كان خُلُقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين، ليعتدل الأمر. ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُؤْثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لأن خالداً كان شديداً كعمـر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليِّناً كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولِّي من ولاَّه، ليكون أمره معتدلاً، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا التوازن المطلوب: (أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة). وقال: (أنا الضحوك القتَّال)، وأمته وسط»[18]. وإضافة إلى هذا (حول التكامل في الصفات الشخصية للصحابة والتوازن بين الرجال) فقد قال الذهبي رحمه الله في هذه المسألة معبِّراً عن جوانب الشدة واللين والمزج بينهما بين الولاة ونوابهم: «وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثاً بأعدل الأمـور وأكملها، فهو الضحوك القتَّال، وهو نبيُّ الرحمة ونبيُّ الملحمة، بل أمته موصوفة بذلك في مثـل قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين شدة هذا ولين هذا؛ فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهمـا على كمـال الاستقامة. فلما قبض الله نبيه وصار كلُّ منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين، فإن مجرد اللين يفسد ومجرد الشدة تفسد، ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يستعين باستشارة عمر، وباستنابة خالد ونحو ذلك. وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برَّز بها على عمر وغيره، حتى روي أن عمر قال له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! تألَّف الناس. فقال علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى أم على شِعر مفتعل؟ وقال أنس: خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّا لكالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود. وأما عمر رضي الله عنه فكان شديداً في نفسه: فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي والنعمان بن مقرِّن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهداً وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله»[19]. بل إن مما يميـز هذا الدين تشريعاته في التعـادل والتكامل بين الكفاءات والقدرات في تولية الأعمال والولايات، ومن ذلك ما خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر حينما قال له: «يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراكَ ضَعِيفاً، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ علَى اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتِيمٍ»[20]، حيث نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية؛ لأنه رآه ضعيفاً مع أنه قد قال عنه صلى الله عليه وسلم : «ما أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ أَصْدَقَ من أبي ذَرٍّ»[21]، وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل (استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم) على من هم أفضل منه، وأمَّر أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه، وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان[22]. ومن الأسباب الاستنتاجية حول التولية والعزل كذلك ما ذكره الصادق عرجون رحمه الله عن أهمية توليد الطاقات وإنتاج الكفاءات... وهذا في الوقت نفسه نوع من التكامل بين الصحابة في القدرات، حيث قال: «وإذا كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قوة باهرة من الكفاية والغَنَاء في باب البطولة والقيادة العسكرية، فليس من الخير لأمة ناشئة ناهضة أن تُوكَل إلى كفاية رجل وغَنَائِه مهما بلغ من العبقرية، بل الخير كل الخير أن يُفتَح الباب لغيره من أهل الكفايات والغَنَاء حتى يكون للأمة رصيد من البطولة تُنفق منه عند الحاجة»[23]، ولعل فيما ورد ما يوضح شيئاً من التكامل وأدب الاختلاف بين الصحابة، ومن ثَمَّ الدروس والعبر والنتائج حول مغزى هذا العزل لخالد، وهي التي لا تقل أهمية عن أسباب قرار عمر وامتثال خالد، رضي الله عن الجميع. وهو ما سوف يتناوله الجزء الآخر من المقال العدد القادم بإذن الله. نتائج ودروس: لقد ظهرت نتائج هذه السياسة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ برزت كفاءات جديدة بتوازن أقوى بين الخليفـة وقادته. واستمرت الفتوح والانتصارات بعد عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه لأن السِّر في الانتصار سببه الإخلاص والصدق وحسن المتابعة، وهذا ليس وقفاً على أحد (على الرغم من أهمية مهارة القيادة) بل قد يكون أحياناً غياب رجل بعزلٍ أو وفاةٍ أو غير ذلك لظروف معينة من الزمان أو المكان، أو اختلاف في اجتهاد أو رأي... قد يكون ذلك خيراً للأمة المسلمة، بل يجب أن تتربى أمة الإسلام على الارتباط بالله وَفْق المنهج الصحيح وعدم التعلق بأشخاص هم أدوات وأسباب لانتصار المنهج وسلامته، وعلى الأمة الإسلامية أفراداً وجماعات أن ترهن حياتها وعملها ومصيرها بالله مخلصة له مستعينة به عاملة له وحده لا شريك له. وقد أدى خالد بن الوليد رضي الله عنه دوره في مرحلة ربما يصعب أن يقوم بها غيره، كما أنه قد يصعب أن يستمر هو بالمرحلة التالية بعد كثرة الفتوحات واتساع البلاد الإسلامية وبعد تولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقاليد الخلافة الذي ينتهج سياسة أخرى مع الولاة والقادة، كما مرََّ عن الاختلاف وطبيعة عمر رضي الله عنه. فهذه قمة الإخلاص والتجرد أن يتحول قائد إلى جندي تحت قيـادة أبي عبيـدة، ثم عياض رضي الله عنهم جميعاً. بل إن هذا من الدروس أن يعمل خالد قرابة أربع سنوات تحت إمرة القائد ثم القائد من عام 13 حتى عام 17هـ. وكل هذا لأن العمل لله، ولا حظ للنفس فيه؛ فاستوى عنده الأمران وتساوت عنده الحالتان، والمهم في هذا أن عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره حق من حقوق الخليفة الذي يسعى لمصلحة الأمة المسلمة، وهو أمر معتاد بين الخلفـاء والولاة في تحقيق المصالح ودفع المفاسد دون النظر إلى ذات الأشخاص فحسب. فالعزل والتولية حق للخليفة متى شاء مع من شاء، وقد عزل المثنى بن حارثة، وشرحبيل بن حسنة، والمغيـرة بن شــعبة، كما عزل سعد بن أبي وقاص عن الكـوفة بالرغم من أنه قال عنه إنه لم يعزله عن عجز أو خيانة، بل وضعه من أهل الشورى عندما حضرته الوفاة[24]، وولَّى أمراء وقُوَّاداً آخرين ولم يكونوا بأقل كفاءة ممن سبقهم. وقد أجاد من كَتَبَ عن العدالة الاجتماعية كدروس وعبر من حياة الصحابة، ومما قاله حول عزل خالد رضي الله عنه: «إنها قصة عزل خالد عن إمارة الجيش في الشام وتوليتها أبا عبيدة رضي الله عنه، وخالد هو القائد الذي لم يُهزَم إلى ذلك اليوم في موقعة قط، وهو الجندي الذي تجري الجندية في كيانه في الجاهلية والإسلام، خالد هذا يُعزَل من الإمارة فلا يضطغن، ولا تأخذه العزة فينسحب من الميدان - ولا نقول يحاول الثورة - بل يظل في المعركة بالعزيمة ذاتها وبالرغبة في نصرة دين الله والاستشهاد في سبيل الله، لا يُلقي بالاً إلى هذه الاعتبارات كلها في الموقف، لأن اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد والحساسية المرهفة التي يُثيرها في ضميره فوق كل الاعتبارات، وفوق كل الملابسات»[25] والدروس في هذه الروايات وهذه الأحداث التاريخية كثيرة سواء ما يتعلق بأبي بكر الصـديق أم بعمر بن الخطاب أم بخـالد بن الوليـد أم بغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما حول التوازن والتكامل بين الصـحابة زمن أبي بكر، ثم عمر، والقراءة والكتابة عن فقه الصحابة عامة في التعاطي مع الفروقات الفردية في المهارات، وعن سياسات عمر الإدارية، كل هذا مما يستحق الكثير من الأبحاث العلمية والدراسات التحليلية غير التقليدية. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |