|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() عقوق الوالدين.. قصيدتان من تراثنا الأدبي د. شاذلي عبد الغني إسماعيل كان العرب قديمًا يرون أن عقوق الوالدين بمثابة إعلان وفاةٍ للعاقِّ، ومن أمثالهم: (العقوقُ ثُكْلُ مَن لم يَثْكَلْ)؛ أي: إذا عقَّه ولده، فقد ثكِلهم وإن كانوا أحياء"[1]. وقد كان برُّ الوالدين والتعفُّف عن عقوقِهما محلَّ فخر لبعض الشعراء في عصر الجاهلية، يقول عَبيد بن الأبرص: لعَمْرُك إنِّني لأعفُّ نفسي ![]() وأسترُ بالتكرم مِن خصاصِ ![]() وأُكرِمُ والدِي وأصونُ عِرضي ![]() وأكرهُ أن أُعدَّ مِن الحِراصِ[2] ![]() وعندما جاء الإسلام أمر ببر الوالدين ونهى عن عقوقهما، وقد قضى الله سبحانه وتعالى ببرهما بعد أن قضى بعبادته وحدَه دون سواه، فقد جمع بين حقه سبحانه وحقهما، فقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]. وأمر بشكرهما بعد شكره: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، وقد حذَّرنا النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين، ونبَّهنا في الكثير من الأحاديث إلى وجوب برهما، خاصة الأم. ولا شك أن الكلام عن عقوقِ الوالدين، وعرض نماذج لهذا العقوق - من الأمور التي تُثير في النفس النقية مشاعرَ الحزن والألم، ولا شك أن هذه الصور تكون أكثر تأثيرًا إذا كان مَن يحكيها هو أحد الأبوين، ويعمق من تأثيرها أكثرَ إذا كان أحد الوالدين شاعرًا يجعلُنا نشاركه مأساته من خلال كلمات وتعابير وصور وموسيقا تُكثِّف من الإحساس بمشاعره، وتجذب السامعَ لكل ما يقول. وفي تراثنا الأدبي نصوصٌ شعرية تولَّدت عن معاناة مَريرة أنتجها عقوق الأبناء، اتَّسمت هذه النصوص - إضافةً إلى الصدق الوجداني - باستخدام وسائل أسلوبية متنوعة، أغنت هذه النصوصَ، وجسَّدت الرغبة في التنفيس وزحزحة الأحزان المكبوتة في النفس، وهنا سنعرض لنصَّينِ من هذه النصوص: أم ثواب الهزانية: من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نِزار، تعني ابنَها: رَبَّيْتُهُ وَهْوَ مِثْلُ الفَرْخِ أَعظمُهُ ![]() أُمُّ الطَّعامِ تَرى في ريشِهِ زَغَبَا ![]() حَتَّى إذا آضَ كالفُحَّالِ شَذَّبَهُ ![]() أَبَّارُهُ ونفى عَن مَتنِهِ الكَرَبَا ![]() أَنْشَا يُخَرِّقُ أَثْوابي ويَضْرِبُني ![]() أبَعْدَ سِتِّينَ عِنْدِي يَبْتغي الأدبَا ![]() إنِّي لأُبْصِرُ في تَرْجِيلِ لِمَّتِهِ ![]() وخَطِّ لِحْيَتِهِ في وَجْهِهِ عَجَبَا ![]() قالَتْ لهُ عِرْسُهُ يَوْمًا لِتُسْمِعَني ![]() رِفْقًا فإنَّ لنا في أُمِّنا أرَبَا ![]() ولَوْ رَأتْنيَ في نارٍ مُسَعَّرَةٍ ![]() مِنَ الجحِيم لزَادَتْ فَوْقَهَا حَطَبَا[3] ![]() معاني الكلمات: أم الطعام: المعدة. الزَّغب: صغار الريش ولينه. آض: صار. الفُحَّال: فحل النخل. الأبَّار: المصلح والملقح للنخل. شذَّبه: نقاه من الشوك والسعف. المتن: الظهر. الكرب: أصول السعف؛ (ورق النخل اليابس). الترجيل: تسوية الشعر وتزيينه. اللِّمَّة: شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن. الأرب: الحاجة. الشرح والأساليب: يقول البرقوقي في الذخائر والعبقريات: "هذه أبيات من شعر الفطرة، تصف في دقةٍ حالَ الابن العاق يكون ضلعُه وهَواه مع زَوْجه على أمِّه، وكذلك تصفُ ذلك العداء القديمَ بين الكَنَّةِ وحَماتِها"[4]. إن مرارة الإحساس بالجحود تفيضُ من كلمات النص، والدقةُ في اختيار الألفاظ والتعابير، والقدرة على تصوير الحالة - سمةٌ بارزة في الأبيات، التي حملت - رغم قلتها - زخمًا شعوريًّا يطول صداه في نفس المتلقي، فنحن أمام شاعرةٍ قادرة على اختيار مفرداتها، وتصوير مشاعرها. وفي إطلالة على أساليبها نلاحظ في أول كلمة أنها تستخدم ضمير الغائب "ربَّيته"؛ فهي لا تريد أن تضيفه لنفسها لتقول: "ربَّيت ولدي أو ابني"، ولا تريد أن تذكر اسمه على لسانها، وهي تلجأ إلى التشبيه وتفصل في بيان الصورة؛ حتى تأتيَنا كاملةً دقيقة، وذلك حين تريد أن تُرينا الفرق بين حالة ولدها الذي اعتنت به صغيرًا، وكان مثل فرخ الطائر "في ضعفه وصغره، وتساقط قوَّته، وتخلخل بِنيته، ورخاوة مفاصله"[5]؛ على حد تعبير المرزوقي في شرح الحماسة. وهي لا تكتفي بتصويره بالفرخ، بل تصرُّ على أن ترينا الغاية في الضعف والعجز ولين البِنية، فتصفه بأن أعظم ما فيه كان معدته"أم الطعام"، فقد بلغ الغاية في رخاوة العظام، ترى فيه الريش اللين الصغير، لا حول له ولا قوة، ثم يصبح ولدها بعد الاعتناء به وتربيته مثلَ ذكَر النخل في قوَّته وطوله وصلاح أحواله، وهي أيضًا لا تكتفي بتشبيهه بفحل النخل، بل تتبع المشبه به بأوصاف متعددة، تُقرِّبه من الكمال والجمال، وتُبعِد عنه ما يشينه، فقد نقَّاه "أبَّاره" (مُصلِحه)، وأبعَدَ عنه الشوك والسعف ليطول ويجمل، وكأنها تقول لنا: قد اعتنيتُ بولدي وأبعدتُ عنه كل ما يمكن أن يقلِّل من شأنه أو يعيبه؛ مثل ذلك الأبَّار الذي اعتنى بفحل النخل غاية العناية، وبعد هذا التعب الذي واجهتُه، وإلى أن وصل إلى تلك الدرجة من القوة، جاء رد الجميل ليكون صادمًا ومؤلمًا؛ حيث العقوق في أقبح صوره، (أنشا يُخَرِّقُ أثوابي ويَضرِبُني). ثم يأتي الاستفهام الممزوج بالتعجب والإنكار والإحساس بالحيرة المُرة: (أبعد ستِّين عندي يبتغي الأدبا؟!)، وفي رواية: (أَبَعْدَ شَيْبي يبغي عنديَ الأدبا؟!)، إنها عبر الاستفهام تجعلُ السامعَ يشاركها حالة التعجب والشعور بالحيرة، ثم تبين أن تلك اللحظات التي كان فيها صغيرًا عاجزًا - مثل الفرخ ذي الريش القليل الصغير - لا تفارق ذاكرتَها، وتستحضرها كلما رأته وهو يمشط شعره الذي وصل إلى منكبه، وقد كان كزغب الفرخ، ويرجِّل لحيته وقد كان بلا لحية، فقد صار رجلًا قادرًا على الاعتناء بنفسه، وهي تؤكِّد كلامها (بإن وباللام)؛ لأن هذا الأمر في الحقيقة لا يثير العجب، إنه طفل صار شابًّا يعتني بنفسه، فما العجب في ذلك؟! إننا بالتأمل نشعر أن الأم الشاعرة تعيش حالةً من الارتداد إلى الماضي، تولدت عن صدمة العقوق التي لم تكن تتوقعها، فهي تهرب إلى الأوقات التي كانت تمنحها سعادةً نفسية وهي تقرُّ عينها بالنظر إلى طفلها والاعتناء به، وتحلم باليوم الذي يشب فيه؛ لذلك تشعر بالعجب حين تراه رجلًا يافعًا قادرًا على الاعتناء بنفسه، إن معايشة الماضي الجميل بتفاصيله ومشاعره تجعلُها تتعجَّب من الحاضر الذي تمثله الصورةُ التي تستدعي نقيضها، فترجيل شعره وتهذيب لحيته يُعيدها إلى تلك اللحظات التي كان فيها كالفرخ؛ حيث لا شَعر سوى ما يشبه الريش الصغير القليل، وها هو الآن يجازيها على إحسانها وإكرامها إساءةً وإهانة وذلًّا. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |