قيود وأوهام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5028 - عددالزوار : 2175128 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4609 - عددالزوار : 1456161 )           »          يقظة الضمير المؤمن وموت قلب الفاجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 43 - عددالزوار : 10559 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 42 - عددالزوار : 9751 )           »          استقلال مالي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أخلاق عالية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الانتقام للنفس منقصة، ولله كمال وإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          البشريات العشر الثالثة للتائبين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          العالم المؤرخ المحقق جوزف فون هَمَر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 15-02-2022, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,853
الدولة : Egypt
افتراضي قيود وأوهام

قيود وأوهام
سعيد بن محمد آل ثابت







التحديات والعوائق لا تزول ولا تفنى، ومنها الحقيقي الذي لا بد من إزالته والتعامل معه بمنهجية شرعية كالذنوب ونقص العلم وضعف العبادة، ومنها الذاتي: وهو ما كان من النفس ودواخلها، ومنها الخارجي: الأسباب التي تخرج عن الإرادة الذاتية، ومنها ما يتعلق بظروف الواقع، ومنها ما يتعلق بأزلية الباطل، ومنها الوهمي، وسوف نجمعها هنا على سبيل الإجمال لا الحصر والتفنيد، وقد تعرضنا ربما لبعضها في (حاجتنا للفاعلية)، وسوف نضعها تحت مشرحة الكتاب والسنة ومآثر أجيال الفاعلية، فنبددها بإذن الله، ونزيل عوالقها، ومن هذه العوائق:

ضعف الصلة بالله، ومقارفة الذنوب والمعاصي، وهجر المحراب، وزيادة الجفوة مع منابع الإيمان، ولذا فمعين الداعية يبدأ من محرابه وعبادته ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 2]، وإذا ما نظرت للجيل الأول لم تفتك مشاهد الإيمان والعبودية المحضة؛ لأنها الزاد الحقيقي و﴿ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، والمعين الفريد مهما طال البلاء واستطالت اللأواء ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]. قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديَهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه.[1] وقال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعًا في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.[2] قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا بشر بن المنذر قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.[3] وكان يحيي الليل صلاة وقرآنًا وبكاء، وكانت أمه تدخل منزلَهُ، وتتفقدُ موضعَ مصلاه، فتجده رطبًا من دموعه في الليل[4]. قال ابن المنكدر: إني لأدخل في الليل فيهولُني، فأصبحُ حين أصبحُ وما قضيت منه أربي[5]. وعن ابن جريج: صحبت عطاء ثمانيَ عشرةَ سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك[6]. عن نسير بن ذعلوق قال: كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيتَهُ من دموعه فيقول: أدركنا قومًا كنا في جنوبهم لصوصًا[7]. وقد أثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أطوع الناس لله أشدهم بغضًا لمعصيته، وانظر ما زوّقه سهل التستري عن الصديقين، فقال: أعمال البر يعملها البَر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا صدِّيق. وعند النظر لمقولة أبي بكر عن أطوع الناس وهو الصدِّيق، ومقولة سهل التستري عن من هو الصدِّيق تجد الاتفاق بينهما في أنه من اجتنب المعاصي وأبغضها، ويا ليت شعري لو يعلم العاصي أي بعد من الله أبعدت المعصية صاحبها، ويا ليت شعري في الداعية لتعبيد الناس لله، كيف يدعو ويخالف، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الناس قد أحسنوا القول، فمن قوله فعله، فذلك الذي أصاب حظه، ومن لا يوافق قوله فعله فذاك الذي يوبخ نفسه. وقد قال أحدهم: أسكتتني كلمة عبد الله بن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ نفسه.




ضعف التأصيل وتأصيل الضعف، والمقصود بضعف التأصيل: الانطلاق في أمور الدعوة دون تأصيل علمي ورجوع لأصول الشريعة، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، والاكتفاء بالآراء والتقليد والقياس بلا تمحيص وعرض على أصول الشريعة ومقاصدها و دون أي مستند شرعي. وأما المقصود بتأصيل الضعف: فحين يقع الإنسان في خطأ ما أو مزلق شرعي فتراه يتكلف الاستدلال ويأتي بما لا يصلح، وقصده أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع.




الانشغال بالأهل والضيعات، قال الحق: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، وقال: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ﴾ [التغابن: 14]، وهذه التحذيرات لا يلزم منها فسقهم أو كفرهم وعنادهم، ولكن قد يصدون عن الطريق إما لمتعة وإما لاستمالة القلب بالحاجة للفرد وهكذا، وقد سبق الحديث عن ضرورة الزوجة الصالحة مع الداعية لأنها بلا شك ستكون خير معين، وستنهج نهج أم الدحداح - رضي الله عنها -، وأما ما كانت ذات أهداف تحتية، وربما حتى أبناؤها تقولبوا على ذلك فلا شك أنها سينشغل بهم عن الخيرية المهداة لنا. (فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى أسيرًا لها تحكم في وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لاسيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها فإنها تحكم فيه حينئذ، حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه..)[8]. عن جعفر قال: وسمعت مالكًا يقول: ينطلق أحدهم فيتزوج ديباجةَ الحرم، قال: وكان يقال في زمان مالك ديباجةُ الحرم أجملُ الناس، وخاتونَ امرأةَ ملك الروم، أو ينطلق إلى جارية فقد سمتها أبواها وترفوها حتى كأنها زبدةُ فيتزوجها، فتأخذ بقلبه فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: خمارًا حسني، وأي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا، قال مالك: فتمرط والله دينَ ذلك القارئ ويدع أن يتزوج يتيمةً ضعيفةً فيكسوها فيؤجر[9]. ومثل ذلك الانشغال بالدنيا، وجمع المال، والوظيفة، والولد، وفي الحديث عند أحمد "إن الولد مجبنة مبخلة"، ولفظ ابن ماجه: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه وقال: "إن الولد مبخلة مجبنة"، ونفس اللفظ عند البيهقي والحاكم في المستدرك بزيادة "محزنة" وفي الطبراني زيادة "مجهلة"، والحديث صححه الإمام الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وقال الإمام الحافظ العراقي: إسناده صحيح، ومعنى قوله "مجبنة" أي أن الولد سبب لجبن الأب فإنه يتقاعد من الغزوات بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم. ومعنى قوله "مبخلة" أي أن الولد سبب للبخل بالمال، ومعنى قوله "مجهلة" لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجد في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له. ومعنى "محزنة" لأنه يحمل أبويه على كثرة الحزن لكونه إن مرض حزنا، وإن طلب شيئًا لا قدرة لهما عليه حزنا، ذكر ذلك الإمام المناوي في فيض القدير. قال عبد الله: حدثني أبي حدثنا سيار حدثنا جعفر قال: سمعت مالكًا يقول: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك[10]. وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36- 37]. قال سفيان بن عيينة: من أصلح ما بينه وبين الله: أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه[11].




الأنثوية، ويتعللون بقول الحق: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]، وعند النظر فلم تُمنع مريم من العمل بل اتخذت ما يلائمها، ولم تمتنع البتة، (ولقد فهمت المرأة المسلمة وظيفتها في العبودية لله تعالى، ومهمتها في الكون والحياة، ومن ثم استجابت لنداء القرآن الكريم، ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالرجل سواء بسواء، فضحّت وبذلت وخرجت مراغمة لقومها لعقائدهم، ومهاجرة بدينها، متغربة في البلاد في سبيل الله، محتملة الأخطار متجشمة الأسفار صابرة على المتاعب الجسام، ولن تغيب عن البال هجرتين إلى الحبشة حيث كانت رقية رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج عثمان رضي الله عنه أول من هاجر من المسلمين مع زوجها، وتبعتها أخواتها المسلمات مهاجرات مثل أم سلمة المخزومية وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأسماء بنت عميس، وليلى بنت أبي جثمة، وغيرهن هاجرن مع أزواجهن، فرارًا بدينهن، وتضحية في سبيله)[12].




كبر السن وكثرة الصوارف قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] قال الحسن البصري: لم يجعلالله للعبد أجلا في العمل الصالح دون الموت. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ورقة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن يُدْرِكْنيِ يومُك أنصرْكَ نصرًا مؤزرًا مع كبر سنه وذهاب بصره، وقد تمنى أن يكون فيها جذعًا قويًا فيكون نفعُهُ أكبرَ وأثرُهُ أكثرَ. وعن أنس: أن أبا طلحة الأنصاري قرأ سورةَ براءة، فلما أتى على هذه الآية: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾ قال: أرى ربَّنا عز وجل سيستنفرنا شيوخًا وشبابًا، جهزوني أي بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه، فنحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعةِ أيام فلم يتغير فدفنوه فيها[13]. والنماذج المعاصرة شاهدة ومنها عمر المختار (أسد الصحراء) شيخ الستين عامًا وهو يقارع الطليان (1858-1931)، وكذلك أحمد ياسين معاق يخترق قلوب الصهاينة (1936-2004). والكثير من النماذج التي لم يصرفها شيخوخة وإعاقة وولد وزوجة وغيرها.




الانشغال بالنقد والتجريح، وهذا يبتلى به القاعد ولاشك، ووالله لو كان له عمل لشغله عن إخوانه، ولو له دين ومروءة لكفت لسانه عنهم، ولو كان له علم ينشغل به لرفعه من الأرض، وحدّه من محارم الله. قال الحسن البصري في وصف أناسٍ مثل هؤلاء لما وجدهم قدِ اجتمعوا في المسجد يتحدثون: إن هؤلاء ملوا العبادة ووجدوا الكلامَ أسهلَ عليهم وقلَّ ورعُهم فتحدثوا، وقال الوليد بن مزيد: سمعت الأوزاعي يقول: إن المؤمنَ يقولُ قليلًا، ويعملُ كثيرًا، وإن المنافقَ يتكلمُ كثيرًا، ويعملُ قليلًا[14]. قال النسابةُ البكريُّ لرؤبةَ بنِ العجاج: ما أعداء المروءة؟ قال: تخبرني، قال: بنو عمِّ السوء: إن رأوا حسنًا ستروه، وان رأوا سيئًا أذاعوه[15]. قال السري السقطي البغدادي: ما رأيت شيئًا أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس[16]. وحين (يبادر الفرد للخير، وقد يخفق فيه ويؤدي هذا لمؤاخذة شديدة، لو لم يكن للمبادر فضل سوى الانتصاب بين الأموات لكفى)[17].




التشتت في تحديد المكان المناسب، والتردد بين عمل وعمل، وكل ذلك يكون تحت ذريعة الحاجة، ولو أنه ذهب لما يتقنه وما هو متخصص فيه لزاد أثره، وزان عمله، وهذا ظاهر في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وظف الطاقات بشكل سليم، فينبغي على من تشتت أن يدرك نفسه لأنه ذريعة القعود والخذلان، وليبحث عن ذاته. قال ابن القيم: وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطنُ له: وهو أنه قد يكون العملَ المعيَّنُ أفضلَ منه في حق غيره، فالغني الذيبلغ له مالٌ كثيرٌ ونفسُه لا تسمحُ ببذل شيء منه فصدقتُه وإيثارُه أفضلُ له من قيام الليل وصيام النهار نافلة، والشجاع الشديد الذي يهاب العدوُّ سطوتَهُ: وقوفُهُ في الصف ساعة، وجهادُهُ أعداءَ الله أفضلُ من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالمُ الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرقَ الخير والشر: مخالطتُهُ للناس وتعليمُهم ونصحهم في دينهم أفضلُ من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح ووليُّ الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده: جلوسُهُ ساعةً للنظر في المظالم وإنصافِ المظلومِ من الظالم وإقامةِ الحدود ونصرِ المحقِّ وقمعِ المبطل أفضلُ من عبادة سنين من غيره، ومن غلبت عليه شهوةُ النساء فصومه له أنفعُ وأفضلُ منذكر غيره وصدقته[18]. وهذا مثالٌ من السلف الصالح يوضح تفاوتَ الطاقاتِ والقدراتِ: عن بكر بن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أعلم رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلمَ منه، ومن سره أن ينظرَ إلى أورع رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدعُ بعضَ الحلال تأثمًا، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركنا أعبد منه إنه ليظل اليوم المعمعاني[19]. الطويل ما بين طرفيه صائمًا يروح ما بين جبهته وقدمه، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه وأجدرِ أن يؤدي الحديثَ كما سمع فلينظر إلى قتادة[20].




انتظار اجتماع الأمة، وتوحد جماعاتها، واتفاق كلمتها. و(إن من الكياسة والفطنة ألا نضيع العمر في طلب الإجماع على مسائل لا تقبل بطبعها وحدة الرؤية والطريقة والوسيلة)[21]. ولكن علينا نبذ الخلافات، ودرء الصراعات، وتأخير المساءلات؛ لأنها عادة ما تؤول لأتون الفتنة، وعصا التفرق، و(الخلاف الشخصي إذا طال أمده تحول إلى خلاف فكري)[22]. وباتت الدعوات للأنفس والأحزاب على حساب الدين والأمة.




الخوف من المجتمع أو من آثار العمل، وربما كان التوجس الأمني أحدها وغير ذلك، ولو سكن العظماء لهذه المخاوف لما أدركنا عامنا هذا وثمة مسجد تقام فيه الجماعة قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ قال ابن القيم: ومتى شهد العبدُ أن ناصيتَه ونواصي العباد كلِّها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرفُ فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرُهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقرُهُ وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناسَ كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أملَهُ ورجاءَهُ بهم، فاستقام توحيدُهُ وتوكلُهُ وعبوديتُهُ، ولهذا قال هود لقومه: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[23]. إن من غفلتِكَ عن نفسك، وإعراضِك عن الله، أن ترى ما يسخطُ اللهَ فتتجاوزه، ولاتأمرَ فيه ولا تنهى عنه، خوفاً ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً[24]. روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلا لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لايُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْيُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ[25]. لذا فالخوف ذريعة وحيلة وهمية في نفس الوقت تقود للسكون والقعود، وكأن من لوازم الفاعلية أن تكن خالية من المخاطر، شحيحة من تقديم التضحيات، وهذا لعمري هو الباطل بحقه، بل لم تقم الدعوات الصادقة على جماجم الرجال، ترويها دماء الشهداء، ويسقون من تصبب عرق العلماء، ويقتبسون نورهم من ظلمة حجر الأغلال. ولذا (علينا أن نفرق بين خسائر نتجت من جراء عقبات الطريق وتكاليفه الطبيعية، وبين خسائر حدثت نتيجة مغامرات غير محسوبة)[26].






قالوا السعادةُ في السكون

وفي الخمول وفي الجمود



في العيش بين الأهل لا

عيشُ المهاجر والطريد



في المشي خلف الركب في

دعة وفي خطو وئيد



في أن تقول كما يقال

فلا اعتراض ولا ردود



قلت: الحياةُ هي التحركُ

لا السكونُ ولا الهمود



وهي التلذذ بالمتا

عب لا التلذذُ بالرقود



هي أن تذود عن الحياض

وأي حر لا يذود؟



هي أن تحسَّ بأن كأسَ

الذل من ماء صديد






انتظار من يوقظه، فهو يحتج بأنه لم يُمكّن، ولم يُفتح له! ويأتي هذا من بعض من استظل بمظلة معينة يتفيأ تحتها ويسير خلفها، لا يبتدئ عملاً، ولا يتبنى مشروعاً، وربما نسي أقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 95]، وبأنه سيدفن وحدَه ويبعثُ يوم القيامة وحده وسيقفُ بين يدي الله وحده، فيومئذ: ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ نسي هذا أنه في مضمار مسابقة. وقد لام الله تعالى القاعدين فقال سبحانه: ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 87]. (وأصناف الناس في شأن الهمة أربعة أصناف:

أحدهم: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته.

ثانيهم: رجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، ويضع همه في سفاسف الأمور.

ثالثهم: رجل لا يكفي لعظائم الأمور، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده.

رابعهم: رجل لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها) [27].

قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد: ولقد صحبته عشرين سنةً صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس[28]. قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاعُ اللهُ فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعةُ صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجَنَازة، أو قاعداً في المسجد، وكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله[29]. ذكر جرير بن عبد الحميد: أن سليمان التيمي لم تمر ساعةٌ قطُّ عليه إلا تصدقَ بشيء، فإن لم يكن شيءٌ، صلى ركعتين[30]. ونحن هنا لا نضعف جانب العمل الجماعي، وضرورة الالتحام والتعاون، لكن المصيبة أن يقعد الفرد ويتكلس على نفسه بحجة أنه لم يجد عملاً جميعاً، وهو يحمل علماً وفقهاً، ولو سألته عن محيطه كمسجد وأقربائه بل أهل بيته، لن تجد له أي برنامج معهم، ولو على سبيل المواعظ أو توظيف المناسبات، والله المستعان. (إن كرم العضو واندماجه دون وعي في الجماعة قد يحوله إلى إمّعة أو سلعة للتجارة، وقد يجعله أداة لتكريس الانحراف، ما لم يجمع إلى ذلك اليقظة التامة نحو وظيفته الكاملة داخل جماعته وخارجها. إن من مصلحة أي جماعة أن تربي العضو الذي يجمع إلى الطاعة التبصر والوعي والإلمام بالمخاطر والمشكلات التي تعاني منها جماعته؛ فذاك هو الضمان الوحيدة لاستمراره وحيويته وبقائه ضمن إطارها)[31].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 151.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 149.46 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.14%)]