|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حديث صلح الحديبية د. عبدالباري العفاقي الفلاح لعل المقام لا يتسع لذكر كل الأحاديث الواردة في صلح الحديبية استقصاءً وتتبعاً، لذا فإني أكتفي بذكر الحديث الخاص بالتواصل والحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش؛ لما له من علاقة بهذا الموضوع. وأريد أن أشير هنا إلى الخلاف الحاصل في تسمية حادثة الحديبية، وأن تسميتها بالصلح، إن هو إلا ترجيح لبعض العلماء الذين اهتموا بالتدوين في مادة السيرة النبوية، وكذلك أيضاً المحدثون الذين تصدوا لجمع السنة في الجوامع والمصنفات، فضلاً عن أنَّ أحداً لا يماري في أنها كانت مقدمة الفتح المبين، فوجب العدول عن غيرها من التسميات؛ إذ سماها البعض بأمر الحديبية[1]، وبعضهم بقصة الحديبية[2]، وبعضهم بعمرة الحديبية[3]، وثمة من سماها بغزوة الحديبية[4]. ولعل كل فريق من هؤلاء كانت تسميته لها باعتبارٍ مَا، وَوَفْقَ مُرجح توصل إليه، وأحسبُ أنَّ جميع التَّسميات لا تتعارض مع ما قررناه، وإن كان قد يشكل على من سمَّاها بالغزوة؛ إذ الغزو فيها لم يقع حقيقة، وأنَّ الفتح الذي يتحقق بالغزو، غير الفتح الذي يتم بالصلح، وأنَّ العبرة في التسمية لفعل الشارع وإلى ما قضى به لا إلى ما اعتاده الغير من الأفعال والتصرفات والتسميات. وعليه فقبل أن ننظر في موافقة التسمية لاصطلاح أهل السير والحديث، وأنه تم إطباق الصحابة صلى الله عليه وسلم على ذينك الاسم والاصطلاح[5]، كان لا بد أن ننظر ابتداءً وانتهاءً إلى مآلات أفعال الشارع وتصرفاته، وأنه كما نتقيد بأمر الشارع ونهيه في عموم التكاليف الشرعية، فإنه يجب أيضا التقيد بأوامره ونواهيه في شؤون الحرب والسلم أيضاً وإن كان مجتهدا؛ لأن الله تعالى لا يُقره على خطأ؛ لذا قال تعالى في سورة النجم: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4][6]. ومهما يكن من أمر هذا الخلاف، فإنه لا يعدو أن يكون خلافاً في اللفظ والتسمية ليس إلاَّ. هذا وقد اخترت من الأحاديث الصحاح ما كان بلفظ صحيح البخاري، لأنه هو الأقوى، فضلاً عن شروحه التي هي الأكثر تداولاً واستيعاباً ومتابعة لحوادث ووقائع قصة صلح الحديبية. لقد ساق الإمام البخاري نص الحديث على طوله بعدِّه حواراً دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والطرف الذي طلب منه الوساطة بينه وبين قريش، وما تم في الأخير من صلح ومصالحة، وإن كان المصنف قد اختصر صدر هذا الحديث في غير هذا الموضع، فإني أنقل هذا الحديث بطوله وتمامه؛ لما أفاده من نقل دقيق، ورصد لجميع فصول قصة صلح الحديبية، وأوضح بعض ما جاء من شرح لجمله وفقراته التي غالباً ما أرمز لها بالخط الأسود العريض من شرح ابن بطال، وشرح الخطابي، وفتح الباري، وهما مضامين المعاني التي سأعرضه في هذا البحث المتواضع، وقد وجدت نفسي مضطراً إلى أن أقوم بسوق الحديث في أطراف ومقاطع، اتباعا للمنهج العلمي في التعامل مع البحث، وذلك في كل طرف منه يُتبع بشيء من الشرح والبيان انطلاقا من الشروح المذكورة آنفا. الطرف الأول من متن الحديث: قال الإمام البخاري: " حدثني عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدٍ حدثنا عبد الرَّزَّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ قال أخبرني الزُّهْرِيُّ قال أخبرني عُرْوَةُ بن الزُّبَيْرِ عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قالا: "خَرَجَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ[7] في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً[8]، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ.)[9]. طليعة المشركين قدمت بمائتي فارس إلى كراع الغميم وعليهم خالد بن الوليد، ودخل بشر بن سفيان الخزاعي مكة، فسمع كلامهم وعرف رأيهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فأقام بإزائه، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، وصرف أصحابه، وأخذ بهم إلى طريق غير طريق خالد، وما جاوزوها إلا بمشقة كبيرة، حتى يتحاشى القتال، فأفضى بهم إلى ثنية أنزلتهم على الحديبية[10]. الطرف الثاني من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... فَوَاللَّهِ ما شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حتى إذا هُمْ بِقَتَرَةِ[11] الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بِالثَّنِيَّةِ التي يُهْبِطُ عليهم منها بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فقال الناس: حَلٍ حَلْ[12]. فَأَلَحَّتْ. فَقَالُوا: خَلَأَتْ[13] الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وما ذَاكَ لها بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) ثُمَّ قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.)[14]. "قال الخطابي: "وقوله: وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، يريد والله أعلم المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدماء فيه، وهو معنى تعظيم حرمات الله."[15]. الطرف الثالث من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قال: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حتى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ على ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ الناس تَبَرُّضًا، فلم يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حتى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا من كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فيه، فَوَاللَّهِ ما زَالَ يَجِيشُ لهم بِالرِّيِّ حتى صَدَرُوا عنه،..."[16]. قال ابن حجر: "قوله: ثم زجرها، أي الناقة، فوثبت، أي قامت، قوله: فعدل عنهم في رواية ابن سعد فولى راجعا، وفي رواية ابن إسحاق فقال للناس: انزلوا، قالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ننزل عليه، قوله: على ثمد، بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل، وقوله قليل الماء تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول أن الثمد، الماء الكثير، وقيل: الثمد، ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف"[17]. قال الخطابي: "وقوله: يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، أي: يأخذونَهُ قليلاً قليلاً. والبَرَّضُ: اليَسِيرُ منَ العَطَاءِ."[18] قال ابن حجر: " قوله: فلم يلبثه بضم أوله وسكون اللام من الالباث، وقال ابن التين: بفتح اللام وكسر الموحدة الثقيلة، أي لم يتركوه يلبث أي يقيم، قوله: وَشُكِيَ بضم أوله على البناء للمجهول، قوله: فانتزع سهما من كنانته أي أخرج سهما من جعبته،...قوله: يجيش بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة أي يفور وقوله بالري بكسر الراء ويجوز فتحها، وقوله: صدروا عنه أي رجعوا رواء بعد وردهم "[19]. الطرف الرابع من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "... فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جاء بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ من قَوْمِهِ من خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ[20] رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أَهْلِ تِهَامَةَ فقال: إني تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ[21] الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ[22]، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عن الْبَيْتِ. فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لم نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قد نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ[23] وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الناس، فَإِنْ أَظْهَرْ، فَإِنْ شاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيه الناس فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا[24]، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بيده لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أَمْرِي هذا حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى[25] وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ). فقال بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ ما تَقُولُ. قال: فَانْطَلَقَ حتى أتى قُرَيْشًا، قال: إِنَّا قد جِئْنَاكُمْ من هذا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يقول قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا. فقال سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لنا أَنْ تُخْبِرَنَا عنه بِشَيْءٍ. وقال ذَوُو الرَّأْيِ منهم: هَاتِ ما سَمِعْتَهُ، يقول: قال سَمِعْتُهُ يقول كَذَا وَكَذَا. فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم. فَقَامَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ، فقال: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: أوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: فَهَلْ تَتَّهِمونني؟، قالوا: لاَ. قال: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ[26] أَهْلَ عُكَاظَ، فلما بَلَّحُوا[27] عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟، قالوا: بَلَى. قال: فإن هذا قد عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ[28] اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قالوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نَحْوًا من قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ."[29]. قال الخطابي: "قوله: وكانوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدُ: أنه كان موضع سِرِّهِ، وثِقَتِهِ، الذي يأتمنُهُ على أمره، وذلك أن الرجلَ إنما يودعُ عيبته حرَّ المتاعِ، ومصون الثيابِ، فَضُرِبَ المثَلُ في ذلك بالعيبةِ."[30]. قال ابن حجر: "وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام"[31]. الطرف الخامس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: " فقال عُرْوَةُ عِنْدَ ذلك: أَيْ محمد، أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هل سَمِعْتَ بِأَحَدٍ من الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَإِنِّي واللهِ لا أَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْواباً[32] مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ. فقال له أبو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عنه وَنَدَعُهُ؟ فقال: من ذَا؟، قالوا: أبو بَكْرٍ. قال: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَوْلاَ يَدٌ كانت لك عِنْدِي لم أَجْزِكَ بها لَأَجَبْتُكَ، قال وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ كَلِمَةً أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ على رَأْسِ النبي صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ[33] وقال له: أَخِّرْ يَدَكَ عن لِحْيَةِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فقال: مَنْ هذا؟ قالوا: الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ. فقال: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ وكان الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جاء فَأَسْلَمَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ منه في شَيْءٍ). ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النبي صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ. قال فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له. فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ فقال: أَيْ قَوْمِ، والله لقد وَفَدْتُ على الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأْيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ ما يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، والله إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له. وَإِنَّهُ قد عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فقال رَجُلٌ من بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: آئْتِهِ. فَلَّمَا أَشْرَفَ على النبي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هذا فُلَانٌ، وهو من قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ)، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قال: سُبْحَانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ. فلمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ قال: رأيت الْبُدْنَ قد قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فما أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ. فَقَامَ رَجُلٌ منهم يُقَالُ له مِكْرَزُ بن حَفْصٍ فقال: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ فلمَّا أَشْرَفَ عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مِكْرَزٌ، وهو رَجُلٌ فَاجِرٌ). فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم. فَبَيْنَمَا هو يُكَلِّمُهُ إِذْ جاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو. قال مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جاء سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سَهُلَ لَكُمْ من أَمْرِكُمْ)[34]. قال ابن بطال:" وقول عروة للنبي:" أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَك" دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم. وخوف عروة إن دارت الدائرة في الحرب عليه، أنْ يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض، حتى إذا كانت أخلاطاً فرَّ كل واحد ولم ير على نفسه عاراً، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذي عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبوبكر: " امصص بظر اللات" وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار،... وقوله: فكلما أخذ بلحيته، يعني: على ما جرت به عادة العرب عند مخطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم،...، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله." [35]. قال ابن حجر: " قوله: أخر، فعل أمر من التأخير، زاد ابن إسحاق في روايته قبل أن لا تصل إليك، وزاد عروة بن الزبير، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه...، قوله: فقال: من هذا؟، قال المغيرة وفي رواية أبي الأسود عن عروة فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب وقال ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة، وفي رواية ابن إسحاق فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة من هذا يا محمد؟، قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، وكذا أخرجه بن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه بن حبان"[36]. قال الخطابي:" قوله: أي غُدَرُ، يريد، المبالغة في وصفه بالغدر."[37]. جاء في شرح ابن بطال: " وقوله: "ألست أسعى في غدرتك" يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذي قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده في دار الكفر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أما المال فلست منه في شيء " يعني: في حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا تحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحباً لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور."[38]. قال الحافظ ابن حجر: " قوله: فجعل يرمُق (بضم الميم) أي يلحظ، قوله: فدلك بها وجهه وجلده، زاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وقوله: وما يُحِدُّونَ (بضم أوله وكسر المهملة) أي يديمون...، قوله: "ووفدت على قيصر" هو من الخاص بعد العام، وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان...، قوله: فابعثوها له، أي أثيروها دفعة واحدة، وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في مغازي عروة عند الحاكم: فصاح الحليس، فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عُمَّارًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم بذلك، فيحتمل أن يكون خاطبه على بُعْد، قوله: فما أرى أن يصدوا عن البيت، زاد ابن إسحاق: وغضب، وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟، فقالوا: كف عنا، يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى، "[39]. الطرف السادس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "...قال مَعْمَرٌ قال الزُّهْرِيُّ في حَدِيثِهِ. فَجَاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو فقال: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا. فَدَعَا النبي صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ)، قال سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ ما أَدْرِي ما هو، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهم، كما كُنْتَ تَكْتُبُ. فقال الْمُسْلِمُونَ: والله لانَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، ثُمَّ قال: (هذا ما قَاضَى عليه مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّهِ)، فقال سُهَيْلٌ: والله لو كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رسولُ اللَّهِ ما صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ ولا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ محمد ابنُ عبد اللَّهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، أُكْتُبْ محمد بن عبد اللَّهِ) قال الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ (لاَ يسألونَني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ)، فقال سُهَيْلٌ: والله لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً[40]، وَلَكِنْ ذلك من الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ. فقال سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كان على دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |