|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الشاكر – الشكور جل جلاله، وتقدست أسماؤه الشيخ وحيد عبدالسلام بالي الدِّلالاتُ اللُّغَويَّةُ لاسمِ (الشَّاكِر): الشَّاكِرُ اسمُ فاعلٍ للموصوفِ بالشكرِ، فِعْلُه شَكَر يشكُر شُكْرًا، والشُّكْرُ هو الثناءُ الجميلُ على الفعلِ الجليلِ، ومجازاةُ الإحسانِ بالإحسانِ. روى أحمد، وصحَّحه الألبانيُّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه؛ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه دخلَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيتُ فلانًا يشكُرُ، يذكرُ أَنَّك أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْن، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لكِنَّ فلانًا قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى المِائَةِ فما شَكَرَ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي المَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هي لهَمْ إِلَّا نَارٌ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: «إِنَّهُم يَأَبَوْن إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللهُ لِيَ البُخْلَ»[1]. والشَّكورُ أبلغُ مِن الشاكِر وهو المبالِغُ في الشُّكْرِ بالقلبِ واللسَانِ والجوارحِ. قال عبدُ الرؤوفِ المُنَاوِي: «الشَّكورُ الباذِلُ وُسْعَهُ في أَداءِ الشُّكرِ بقلبهِ ولسَانِهِ وجوارحِهِ اعتقادًا واعترافًا، وقيل: الشَّاكِرُ مَنْ يشكُرُ على الرَّخَاءِ والشَّكورُ على البلاءِ، والشاكِرُ منْ يشكُرُ على العطاءِ، والشَّكورُ مَنْ يشكُر على المنعِ»[2]. واللهُ سُبْحَانَهُ شَاكِرٌ يجازي العبادَ على أعمالِهم، ويَزيدُ مِن فضلهِ أجورَهُمْ، فيقابلُ شُكْرَهُم بزيادةِ النِّعم في الدُّنيا وواسعِ الأجرِ في الآخِرة. قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]. وقال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]. وروى البخاريُّ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ؛ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً»[3]. واللهُ سُبْحَانَهُ شاكِرٌ يَرضَى بأعمالِ العبادِ وإِنْ قلَّتْ؛ تكريمًا لهم ودعوةً للمزيدِ، معَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قد بَيَّن لهم ما لهم مِن وعدٍ أو وعيدٍ، لكنَّه شاكِرٌ يتفضَّلُ بمضاعفةِ الأجرِ، ويَقبل التوبةَ، ويَمحو ما يشاء مِن الوِزْرِ، والله غنيٌّ عنَّا وعن شُكرِنا، لا يفتقِرُ إلى طاعتنا أو شيءٍ من أعمالِنا، لكنه يَمدَحُ مَنْ أطاعَهُ، ويُثني عليه ويُثيبُه، قال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]. قال البيضاويُّ في تفسيرِ الآيةِ: «ما يفعلُ اللهُ بعذابِكم إِنْ شكرتُم وآمنتُمْ، أيتشفَّى به غيظًا، أو يدفعُ به ضررًا، أو يَستَجلبُ به نفعًا وهو الغني المتعالي عن النفعِ والضُّرِّ وإنما يُعاقبُ المُصِرَّ بكُفرِه... وكان الله شاكرًا مُثيبًا يقبل اليسيرَ ويُعطي الجزيلَ، عليمًا بحقِّ شكرِكم وإيمانِكم»[4]. الدِّلالاتُ اللُّغَويَّةُ لاسمِ (الشَّكُورِ): الشَّكُورُ في اللغةِ فَعولٌ مِن صِيَغِ المبالغةِ، فِعلُه شَكَر يشكُر شُكرًا وشُكورًا وشُكْرانًا، فالشَّكورُ فَعولٌ من الشُّكْرِ. وأصلُ الشُّكْرِ الزيادةُ والنَّماءُ والظهورُ، وحقيقةُ الشُّكْرِ الثناءُ على المحسِنِ بذكرِ إحسانِه[5]. وشُكْرُ العبدِ على الحقيقةِ إنما هو إقرارُ القلبِ بإنعامِ الربِّ، ونُطقُ اللسانِ عن اعتقادِ الجَنانِ، وعملُ الجوارحِ والأركانِ. قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]. وفي صحيحِ البخاريِّ من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ...» الحديث[6]. والشَّكورُ سُبْحَانَهُ هو الذي يَزكُو عندَهُ القَلِيلُ من أعمالِ العِبادِ، ويُضاعِفُ لهم الجزاءَ، فيُثيبُ الشَّاكِرَ على شُكرِه، ويَرفعُ درجَتَهُ، ويَضعُ مِنْ ذنبِهِ، فشكرُ العبدِ للهِ تعالى ثناؤهُ عليه بذكرِ إحسَانِه إليه، وشكرُ الحقِّ للعبدِ ثناؤُهُ عليه بذكرِ طاعتِهِ له. ويَذكُر ابنُ القيِّمِ أنَّ الشكورَ سُبْحَانَهُ هو أولى بصفةِ الشُّكْرِ من كلِّ شَكورٍ، بل هو الشَّكُورُ على الحقيقةِ... فإنَّه يُعطي العبدَ ويوفِّقُهُ لِمَا يشكرُه عليه، ويشكرُ القليلَ مِن العملِ والعطاءِ فلا يَسْتَقِلُّه أَنْ يَشكرَهُ، ويَشكرُ الحسنَةَ بعشرِ أمثالِها إلى أضعافٍ مضاعفةٍ، ويَشكرُ عبْدَهُ بأنْ يُثنيَ عليه بين ملائكتِه وفي مَلَئِهِ الأعلى، ويُلقي له الشُّكرَ بين عبادِهِ، ويشكرُهُ بفعلِه فإذا ترك له شيئًا أعطاه أفضلَ منه، وإذا بذلَ له شيئًا ردَّهُ عليه أضعافًا مُضاعفَةً، وهو الذي وفَّقَهُ للتَّرْكِ والبَذْلِ، وشُكْره على هذا وذاك. ولما بَذَلَ الشُّهداءُ أبدانَهُمْ له حتَّى مزَّقَهَا أعداؤُهُ شَكَرَ لهم ذلك بأن أعاضَهم منها طيرًا خُضرًا أقرَّ أرواحَهُمْ فيها، تَرِدُ أنهارَ الجَنَّةِ وتأكلُ مِن ثمارِها إلى يومِ البعثِ، فيردُّها عليهم أكملَ ما تكونُ وأجملَه وأبهاهُ. ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ أَنَّه يُجازِي عدوَّه بما يَفعلُه مِن الخيرِ والمعروفِ في الدُّنيا ويُخفِّفُ به عنه يومَ القيامةِ، فلا يُضيعُ عليه ما يَعملُه مِن الإحسانِ وهو مِن أبغضِ خَلْقِه إليه، ومِنْ شُكرِه أنه غفرَ للمرأةِ البغيِّ بسَقْيِها كلبًا كان قد جَهَدَه العطشُ حتى أكلَ الثَّرى[7]. قال ابنُ القيِّمِ: «الشَّكُورُ يُوصل الشَّاكِرَ إلى مَشْكُورِه، بل يُعيدُ الشاكِرَ مشكورًا وهو غايةُ الرَّبِّ مِن عبدِه، وأهلُهُ هم القليلُ مِن عبادِهِ، قال الله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]. وسمَّى نفسَه شاكرًا وشَكُورًا، وسمَّى الشَّاكرين بهذين الاسمينِ فأعطاهُمْ مِنْ وَصْفِه وسمَّاهُم باسمِه، وحسبُك بهذا مَحبَّةً للشَّاكرين وفضلًا. وإعادتَه للشاكرِ مشكورًا كقولِه: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 22]. ورَضِيَ الربُّ عن عبدِه به كقولِه: ﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7]. وقِلَّةُ أهلِه في العالمينَ تدلُّ على أنَّهم هم خواصُّهُ كقوله: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]»[8]. الفَرْقُ بين الشُّكْرِ والحمدِ[9]: الشكرُ مثلُ الحمدِ إلا أَنَّ الحمدَ أعَمُّ منه، فإِنَّك تحمدُ الإِنسانَ على صفاتِهِ الجميلةِ وعلى معروفهِ، ولا تشكرُه إلا على معروفِهِ دون صِفاتِه[10]. قال ثعلبٌ: «الشُّكرُ لا يكونُ إلا عن يدٍ، والحمدُ يكونُ عن يدٍ، وعن غيرِ يدٍ، فهذا الفرقُ بينهما»[11]. وقال القرطبيُّ: «وتكلَّمَ النَّاسُ في الحمدِ والشُّكرِ هل هما بمعنًى واحدٍ أو بمعنيين؟ فذهب الطبريُّ والمبَرِّدُ إلى أنهما بمعنى واحدٍ سَواءٌ، وهذا غيرُ مَرْضيٍّ. والصحيحُ: أَنَّ الحمدَ ثناءٌ على الممدوحِ بصفاتِهِ مِن غيرِ سبقِ إحسانٍ، والشكرَ ثناءٌ على المشكورِ بما أَوْلى مِن الإِحسانِ، وهذا قولُ علماءِ اللُّغةِ؛ الزَّجاجِ، والقَتْبيِّ، وغيرِهما» اهـ[12]. وقال ابنُ القيِّمِ: «والفرْقُ بينهما: أَنَّ الشكرَ أعَمُّ مِن جهةِ أنواعِهِ وأسبابِهِ، وأخصُّ مِن جهةِ متعلِّقاتِهِ، والحَمْدَ أعمُّ مِن جهةِ المتعلقاتِ، وأخصُّ مِن جهةِ الأسبابِ. ومعنى هذا: أَنَّ الشُّكْرَ يكونُ بالقلبِ خُضوعًا واستكانةً، وباللسانِ ثناءً واعترافًا، وبالجوارحِ طاعةً وانقيادًا، ومتعلَّقُه: النِّعمُ دونَ الأوصافِ الذاتيَّةِ، فلا يُقال: شَكَرْنَا الَله على حياتِهِ وسَمْعِهِ وبَصرِهِ وعِلْمِهِ، وهو المحمودُ عليها كما هو محمودٌ على إحسانِهِ وعدلِهِ، والشكرُ يكونُ على الإِحسانِ والنِّعمِ. فكلُّ ما يتعلقُ به الشُّكرُ يتعلَّقُ به الحمدُ مِنْ غيرِ عكسٍ، وكلُّ ما يقعُ به الحمدُ يقعُ به الشُّكْرُ مِنْ غيرِ عكسٍ، فإِنَّ الشكرَ يقعُ بالجوارحِ والحمدَ يقعُ بالقلبِ واللسانِ» اهـ[13]. وُرودُ الاسمينِ في القرآنِ الكريمِ: وَرَدَ (الشَّكُورُ) في القرآنِ أربَع مراتٍ وهي: قولُهُ تعالى: ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 30]. وقولُهُ: ﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 34]. وقولُهُ: ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [الشورى: 23]. وقولُهُ: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]. وأما (الشَّاكِرُ) فقد وَرَدَ مرَّتين: في قولِهِ تعالى: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]. وقولِهِ: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]. معنى الاسمينِ في حَقِّ اللهِ تعالى: قال قتادةُ: «﴿ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 30]؛ إِنَّهُ غفورٌ لذنوبِهم، شكورٌ لحسناتِهم»[14]. وقال: «إِنَّ اللهَ غفورٌ للذُّنوبِ، شَكُورٌ للحسناتِ يضاعِفُها»[15]. قال الخطابيُّ: «(الشَّكورُ): هو الذي يَشكُر اليسيرَ مِن الطاعةِ فَيُثيبُ عليه الكثيرَ مِن الثوابِ. ويُعطي الجَزيلَ مِن النِّعمةِ، فيَرضَى باليسيرِ مِن الشُّكْرِ، كقولِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 34]. ومعنى الشُّكْرِ المضافِ إليه: الرضا بيسيرِ الطاعةِ مِن العبدِ والقَبولُ له، وإعظامُ الثوابِ عليه، واللهُ أعلمُ. وقد يُحتَملُ أَنْ يكونَ معنى الثناءِ على اللهِ عز وجل بالشَّكورِ ترغيبَ الخلْقِ في الطاعةِ، قَلَّتْ أو كثُرتْ، لئلَّا يَستَقلُّوا القليلَ مِن العملِ فلا يتركوا اليسيرَ مِن جملتِهِ إذا أعوزَهُمُ الكثيرُ منه» اهـ[16]. قال الزَّجاجيُّ: «فإِنْ قال قائلٌ: فإذا كان الشُّكْرُ منه عز وجل إنما هو مجازاةُ العاملينَ ومقابلةُ الأفعالِ بالثوابِ والجَزاءِ، فقولوا: إِنَّه يشكُرُ أيضًا أفعالَ الكُفَّارِ لأنه يجازيهِم عليها. قِيلَ له: ذلك غيرُ جائزٍ، لأنا قد قُلنا: إِنَّ الشكرَ في اللُّغةِ إنما هو: مقابلةُ المُنعِمِ على فعلِه بالثناءِ والاعترافُ بفعلِهِ. ولمَّا كان المسيءُ مِن العبادِ لا يُقالُ له مُنعِمٌ، ولم يَستحقَّ بذلك شُكرًا، بل استحقَّ الذمَّ والسَّبَّ، لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الكفَّارُ محسنينَ في أفعالِهم فيُستَحَقَّ الجزاءُ عليها والمقابلة بالجميلِ، بل كانوا مُسيئين، والمسيءُ مستحقٌّ للعُقوبَةِ والسَّبِّ، فلم يَجُزْ أَنْ يُسَمَّى الفعلُ المقابلُ لفِعالهم شُكرًا» اهـ[17]. وقال البيهقيُّ: «هو الذي يَشكُرُ اليَسيرَ مِن الطاعةِ، ويُعطي عليه الكثيرَ مِن المَثُوبةِ. وشُكْرُه: قد يكُونُ بمعنى ثنائِهِ على عبدِه، فيرجعُ معناه إلى صِفَةِ الكلامِ، التي هي صفةٌ قائمةٌ بذاتِهِ» اهـ[18]. فالربُّ سبحانه وتعالى إذا أثنى على عبدِه فقد شَكَرَهُ. وفي المَقْصِد: «الرَّبُّ تعالى إذا أثنى على أعمالِ عبادِه فقَدْ أثنى على فعلِ نفسِه؛ لأَنَّ أعمالَهُم مِنْ خَلقِهِ، فإِنْ كان الذي أُعطِيَ فأثنى (شكورًا)، فالذي أعطى، وأثنى على المُعْطِي فهو أحقُّ بأَنْ يكونَ شكورًا. فثناءُ اللهِ تعالى على عبادِهِ كقولهِ: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]، وكقوله: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]، [ص: 44]، وما يجري مَجْرَاهُ، وكلُّ ذلك عطيةٌ منه» اهـ[19]. وقال ابنُ القيِّمِ في النونيّة: وهو الشكورُ فلَنْ يُضيِّعَ سعيَهم ![]() لكن يضاعِفُه بلا حُسبانِ ![]() ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبٌ ![]() هو أوجبَ الأجرَ العظيمَ الشانِ ![]() كلا ولا عملٌ لديه ضائعٌ ![]() إن كان بالإخلاصِ والإحسانِ ![]() إن عُذِّبوا فبِعَدْلِه أو نُعِّموا ![]() فَبفَضْلهِ والحمدُ للمنَّانِ[20] ![]() قال السعديُّ: «(الشَّاكِرُ، الشَّكُورُ): الذي يشكرُ القليلَ مِن العملِ، ويغفرُ الكثيرَ مِن الزَّللِ، ويضاعِفُ للمخلصين أعمالَهم بغيرِ حسابٍ، ويشكرُ الشاكرينَ، ويذكرُ مَنْ ذكَرَهُ، ومَنْ تقرَّبَ إليه بشيءٍ مِن الأعمالِ الصالحةِ تقرَّبَ اللهُ منه أكثرَ»[21]. ثمراتُ الإِيمانِ بهذين الاسمينِ: 1- إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هو الشكورُ والشاكِرُ على الإطلاقِ، الذي يَقبلُ القليلَ مِن العملِ ويُعطي الكثيرَ مِن الثوابِ مقابلَ هذا العملِ القليلِ. ولذلك نُهينا أن نَستَصغِرَ شيئًا مِن أعمالِ البِرِّ، ولو كان شيئًا يسيرًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذَرٍّ رضي الله عنه: «لَا تَحْقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أَنْ تَلقَى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ»[22]. وحثَّ على عملِ الصالحاتِ، صغيرِها وكبيرِها فإِنَّ اللهَ لا يُضيعُ شيئًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ، فإنْ لم يجدْ فبكلمةٍ طيِّبةٍ»[23]. وحثَّ الناسَ على الصدقةِ - عند قُدومِ قومٍ مِن مُضَرَ أصابتْهم الفاقةُ والفقرُ - فقال: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دينارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ» حتى قال: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»[24]. وبيَّن تعالى أنه يُضاعِفُ الأعمالَ الصالحةَ أضعافًا كثيرةً بقدْر ما يشاءُ، وذلك فضلُه يؤتيه مَنْ يشاءُ، قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]. وقال سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]. وقال: ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [الشورى: 23]. وقال: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 11]، وغيرُها من الآياتِ الكثيرةِ. وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تمرةٍ مِن كسْبٍ طيِّبٍ - ولا يَقْبل اللهُ إلا الطَّيِّبَ - فإنَّ الله يَتَقبَّلُهَا بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحِبِها كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّهُ، حتى تكُونَ مِثلَ الجَبلِ»[25]؛ أي: يُربِّيها له كما يُربِّي أحدُكُم مُهرَهُ. وعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ، قال: جاء رَجُلٌ بناقةٍ مخطومةٍ فقال: هذه في سبيلِ اللهِ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لكَ بها يومَ القيامة سَبْعُمائةِ ناقةٍ كلُّها مخطومةٌ»[26]. ومِن عظيمِ شُكْرِه سُبْحَانَهُ لعبادِه، وفضْلِه وكرَمِه عليهم، أَنَّهُ يُضاعِفُ لهم الحسناتِ فقط، أما السيِّئاتُ فإنها تُكتبُ كما هي ولا تتضاعفُ. قال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160]. وقال: ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40]. 2- وممَّا يجبُ معرفتُه أَنَّ ما يُقدِّمُهُ المسلمُ في تقرُّبِهِ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، مِن صلاةٍ وصيامٍ وحَجٍّ وصدقةٍ وجهادٍ، وغيرِها مِن أعمالِ البِرِّ المحدودةِ بالأعمارِ القصيرةِ - والتي يتخلَّلها التقصيرُ والسَّهوُ والنِّسيانُ - لا يُمكنُ بحالٍ أَنْ تكونَ ثمنًا للجَنَّةِ السَّرْمَدِيَّةِ، بما فيها مِن مباهجَ وزخارفَ ولذَّاتٍ، أو أَنْ تُنقذَهُ مِن جحيمِ النَّارِ ولهيبِها؛ فعَنْ عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ»، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ...»[27]. وفي رواية: «لا يُدْخِلُ أحدًا منكم عملُهُ الجَنَّةَ، ولا يُجيرُهُ مِن النَّارِ، ولا أنا إلا برحمةٍ مِن اللهِ»[28]. فدُخولُ العبدِ الجَنَّةَ، وفوزُه بها، ونجاتُه مِن النَّارِ إنما هو بفضْلِ اللهِ ورحمتِه. 3- إِنَّ الله سُبْحَانَهُ شُكْرُه واجبٌ على كلِّ مُكَلَّفٍ، كما قال الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]. قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]. وقال: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114]. وقال: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ [سبأ: 15]. قال القرطبيُّ: «إِنَّ للشُّكْرِ ثلاثةَ أركانٍ: 1- الإقرارُ بالنّعْمةِ للمُنعِمِ. 2- والاستعانةُ بها على طاعتِهِ. 3- وشُكْرُ مَنْ أجرى النِّعْمةَ على يدِه تسخيرًا منه إليه. وهذا الرُّكنُ الثالثُ، لم أرَهُ لأحدٍ ممَّنْ تكلَّمَ على الشُّكرِ - فيما أعلمُ، واللهُ أعلمُ - فله الحمدُ على ما أَلْهَمَ وفهَّم وعلَّم» اهـ[29]. وزاد عليها المحقِّقُ ابنُ القيِّمِ فقال: «والشُّكْرُ مبنيٌّ على خمسِ قواعدَ: • خضوعُ الشاكرِ للمشكورِ. • وحبُّه له. • واعترافُه بنعمتِهِ. • وثناؤه عليه بها. • وأَنْ لا يَستَعملها فيما يكره. فهذه الخَمْسُ هي أساسُ الشُّكْرِ، وبناؤه عليها، فمتى عُدِمَ منها واحدةٌ اختلَّ مِن قواعدِ الشُّكْرِ قاعدةٌ. وكلُّ مَنْ تَكَلَّمَ في الشُّكْرِ وحَدِّه، فكلامُه إليها يرجعُ، وعليها يدُورُ»[30]. قُلتُ: أمَّا الإقرارُ بها ومَعْرفتُها وذكْرُها على الدَّوامِ والتَّحدُّثُ بها، فقد أَمَرَ اللهُ تعالى به عبادَهُ في غيرِ ما آيةٍ: فقال سُبْحَانَهُ: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231]. وقال: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47]، [البقرة: 122]. وقال: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ [فاطر: 3]. وقال: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]. وفي المدارج: «قال صاحبُ المنازلِ: الشُّكْرُ اسمٌ لمعرفةِ النِّعمةِ؛ لأنها السبيلُ إلى معرفةِ المُنْعِمِ، ولهذا سَمَّى اللهُ تعالى الإِسلامَ والإِيمانَ في القرآنِ: شُكرًا». قال ابنُ القيِّمِ: «فمعرفةُ النِّعمةِ ركْنٌ مِن أركانِ الشُّكْرِ، لا أَنَّها جملةُ الشُّكر، كما تقدَّم، لكن لمَّا كان مَعرفتُها رُكْنَ الشُّكرِ الأعظمَ، الذي يستحيلُ وجودُ الشُّكرِ بدونِه، فجُعِلَ أحدُهما اسمًا للآخر»[31]. وقد جاء في الحديثِ ما يُبيِّنُ عظَمةَ تذكُّرِ النِّعمةِ والاعترافِ بها؛ وهو قولُه صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ الاستغفارِ أَنْ يقولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»، قال: «وَمَنْ قَالَها مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَها مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»[32]. قال الطيِّبِي: «اعتَرَفَ أولًا بأنَّه أَنعَمَ عليه، ولم يُقيِّدْهُ لأَنَّهُ يشملُ أنواعَ الإِنعامِ، ثم اعتَرَفَ بالتقصيرِ وأَنَّهُ لم يقُمْ بأداءِ شُكرِها، ثُمَّ بالغَ فعدَّه ذنبًا في التَّقصيرِ وهضْمِ النَّفسِ» اهـ[33]. ويكرر صلى الله عليه وسلم الاعترافَ بالنعمةِ في أدبارِ الصَّلواتِ في قولهِ: «... لَهُ النِّعْمَةُ وَالفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ...»[34]. وقد حثّ صلى الله عليه وسلم على التحدُّثِ بنعمِ اللهِ تعالى فقال: «مَنْ أَبْلَى بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَه، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ»[35]. قال ابنُ القيِّمِ: «الثناءُ على المنعِمِ المتعلِّقُ بالنِّعمةِ نوعان: عامٌّ وخاصٌّ، فالعامُّ: وصفُهُ بالجُودِ والكرَمِ، والبِرِّ والإِحسانِ وسَعَةِ العَطاءِ ونحوِ ذلك. والخاصُّ: التحدُّثُ بنعمتِهِ والإخبارُ بوُصولِها إليه مِن جهتِهِ، كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]. وفي هذا التحديثِ المأمورِ به قولان: أحدُهما: أَنَّه ذِكْر النِّعمةِ والإِخبارُ بها، وقولَهُ: أنعمَ اللهُ عليَّ بكذا وكذا. والتحدُّثُ بنعمةِ اللهِ شُكْرٌ، كما في حديث جابرٍ مرفوعًا: «مَن صُنِعَ إليه معروفٌ فلْيَجْزِ به، فإنْ لم يجِدْ ما يجزِي به فَليُثْنِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَهُ، وإنْ كَتَمه فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَي زُورٍ»[36]. فذكرَ أقسامَ الخلْقِ الثلاثةَ: أ- شاكرُ النِّعمةِ المُثني بها. ب- والجاحدُ لها والكاتِمُ لها. ج- والمُظهِرُ أَنَّه مِن أهلِها، وليس مِنْ أهلِها، فهو مُتَحَلٍّ بما لم يُعْطَهُ. وفي أثرٍ آخرَ مرفوعٍ: «مَنْ لَم يَشكرِ القليلَ لم يَشكرِ الكثيرَ، ومَن لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لم يَشكرِ اللهَ، والتَّحدثُ بنعمةِ اللهِ شُكرٌ، وتَركه كُفرٌ، والجماعةُ رَحمةٌ والفُرقةُ عَذَابٌ»[37]. والقولُ الثاني: أَنَّ التحدُّثَ بالنعمةِ المأمورَ به في هذه الآية هو الدَّعوةُ إلى الله، وتبليغُ رسالتِهِ، وتعليمُ الأُمَّةِ. قال مجاهد: «هي النُّبوَّةُ». قال الزَّجاجُ: «أي بلِّغ ما أُرسِلْتَ به وحدِّث بالنبوَّةِ التي آتاك اللهُ» اهـ[38]. فإظهارُ النعمةِ والتحدُّثُ بها مِن صفاتِ المؤمنينَ الشاكرينَ، وأما أَنْ يَكتُمَ المرءُ النعمةَ، ويُظهِرَ أَنَّه فاقدٌ لها إما بلسانِ الحالِ أو المقالِ، فهو كفرٌ لها، وهو مِن صفاتِ الكافرينَ الجاحدينَ. وإنما سُمِّيَ الكافرُ كافرًا، لأنه يُغطِّي نعمةَ اللهِ التي أسبَغَها عليه ويَجْحَدُها ولا يُقِرُّ بها[39]. وقد وصَفَهُم اللهُ بذلك في كتابِهِ فقال: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 83]. وقال: ﴿ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [النحل: 71]. وقال: ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72]. بل رُبَّما نَسَبُوا نِعَمَ اللهِ تعالى التي أعطاهُم[40] إلى أنفسِهم وعِلْمِهم وخبرَتِهم، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الزمر: 49 - 51]. ومعنى ﴿ عَلَى عِلْمٍ ﴾؛ أيْ: بِوجوهِ المكاسِبِ والتِّجاراتِ، ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي: هذه النِّعَمُ التي أُوتيتَها فتنةٌ تُخْتَبَرُ بها ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾؛ لا يعلمون أَنَّ إعطاءهم المالَ اختبارٌ، ﴿ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾؛ يعني الكُفَّارَ قبْلَهم: كقارونَ وغيرِه حَيْثُ قال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، ﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾؛ أي: لم تُغْنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن عذابِ اللهِ شيئًا. ثُمَّ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الزمر: 52]. أي: ألم يعلموا أَنَّ مصدرَ نعمتِهم التي هم فيها هو اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]. وأَنَّهُ تعالى يبسُطُها على مَنْ يشاءُ ويحبِسُها عمَّنْ يشاءُ، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الزمر: 52]؛ أي: لا ينتفعُ بهذا ويتدبَّرُه إلا أهلُ الإِيمانِ والعِلمِ. ب- وأما الاستعانَةُ بها - أي: النِّعمِ - على طاعةِ اللهِ، فهو ما يَقْتَضِيه الشَّرْعُ والعقلُ، فإِنَّ مَنْ أحسنَ إليك بشيءٍ لا يجوزُ أَنْ تُقابِلَهُ بالإساءةِ إليه، ومَنْ فعلَ ذلك فهو في نظرِ النَّاسِ وَقحٌ نَذْلٌ ناكرٌ للجميلِ، وجَاحِدٌ له، فكيف إذا استعانَ بإحسَانِه على الإساءةِ إليه، فهو أشدُّ وقاحةً وجحودًا للجميلِ. والنِّعَمُ التي في الدُّنيا إنما خُلِقَتْ أصلًا ليستعينَ بها أهلُ الإِيمانِ على طاعةِ الرَّحمنِ، وأما أَهْلُ الكُفْرِ والفجُورِ فإنها مُحرَّمةٌ عليهم لأَنَّهم يَستعينون بها على معصيةِ اللهِ، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |