|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() محمد بن إسماعيل البخاري وإجماع الأمة على تلقِّي "الجامع الصحيح" بالقبول د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر الحمد لله، له الحمدُ الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله جل جلاله عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ أما بعدُ: فإن من أجلِّ نِعم الله تعالى على هذه الأمة المباركة، أن قيَّض لها علماء مخلصين، حملوا راية العلم، ونذروا حياتهم لخدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتوثيقها؛ ومن هؤلاء الأعلام الأفذاذ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، الذي أجمعت الأمة على تلقي كتابه «الجامع الصحيح» بالقبول، وأثنى عليه أهل العلم قديمًا وحديثًا، حتى صار كتابه أصحَّ كتاب بعد كتاب الله تعالى، ومحلَّ إجماع وتقدير، مما يستوجب الوقوف عند سيرته وعناية الأمة بكتابه، والتعرُّف على منهجه الذي أثمر هذه المكانة العلمية العالية. إجماع الأمة على «الصحيحين»: فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، فلا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد العناية[1]. وقد أجمع المحدثون – وهم أهل هذا الشأن – «أن أحاديث الصحيحين، أو أحدهما، كلها من المعلوم صدقه، المتلقَّى بالقبول، المُجمع على ثبوته، وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة، ويزول كل تشكيك، وقد دفع أكابر الأئمة مَن تعرَّض للكلام على شيء مما فيهما، وردُّوه أبلغ ردٍّ، وبيَّنوا صحته أكمل بيان»[2]. محمد بن إسماعيل البخاري في عيون شيوخه: كان محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 ه) آيةً من آيات الله في بصره ونفاذه في العلم[3]، أشرق نجمه منذ نعومة أظفاره، حتى لكأن الله جل جلاله هيَّأه لأمر جَلل منذ مطلع حياته، حتى إن مشايخه تنبَّهوا لعظيم شأنه، فنادَوا به وأذاعوه. كان البخاري قد فقَدَ بصره وهو طفل، وعجز الأطباء عن علاجه، فتوسلت أمه وكانت امرأة عابدة، صاحبة كرامات، إلى الله تعالى بالدعاء، حتى رأت الخليل إبراهيم في المنام، فقال لها: يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره؛ لكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره[4]. وهذا شيخه سليمان بن حرب (ت: 224 هـ)، ونظر إليه يومًا فقال: هذا يكون له صيت، وكذا قال أحمد بن حفص (ت: 217 هـ) نحوه[5]. قال البخاري: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع - جامع سفيان - من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرفٍ ولم يكن عندي ما ذكر، فراجعته، فقال الثانية: كذلك، فراجعته الثانية، فقال: كذلك، فراجعته الثالثة، فسكت سويعة، ثم قال: من هذا؟ فقالوا: هذا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه، فقال أبو حفص: هو كما قال، واحفظوا، فإن هذا يصير يومًا رجلًا[6]، وقد كان. وقال البخاري أيضًا: كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب، يقول: بيِّن لنا غلط شعبة[7]. قال له شيخه عبدالله بن يوسف التنيسي (ت: 218 هـ): يا أبا عبدالله، انظر في كتبي وأخبرني بما فيها من السقط، فقال: نعم[8]. والأمر في ذلك يطول، وقد أُفرِدت مصنفات مستقلة في ترجمة هذا الإمام العلَم، وفي مناقبه، وفي بيان ثناء العلماء والمشايخ عليه[9]. محمد بن إسماعيل البخاري في عيون أقرانه وتلاميذه: قال أبو بكر الأعين: كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي، وما في وجهه شعرة. وقال محمد بن أبي حاتم ورَّاق البخاري: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع، وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له، فقال: إنكما قد أكثرتما عليَّ، فاعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر قلب، حتى جعلنا نحكِّم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترَون أني أختلِف هدرًا، وأضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. قالا: فكان أهل المعرفة يعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شاب، حتى يغلبوه على نفسه، ويُجلِسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه، وكان شابًّا لم يخرج وجهه[10]. محمد بن إسماعيل البخاري في عيون أئمة أهل الحديث: وقال محمد بن أبي حاتم: سمعته – أي البخاري - يقول: دخلت بغداد ثماني مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل، فقال لي آخر ما ودعته: يا أبا عبدالله، تترك العلم والناس، وتصير إلى خراسان؟ فأنا الآن أذكر قول أحمد. قال الترمذي (ت: 279 ه): ولم أرَ أحدًا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحدٍ، أعلمَ من محمد بن إسماعيل[11]. قال الحاكم (ت: 405 ه): سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي[12]. قال أبو حامد أحمد بن حمدون القصار: سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقبَّل بين عينيه، وقال: دَعني حتى أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله[13]. قال إبراهيم الخوَّاص: رأيت أبا زرعة كالصبي جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل، يسأله عن علل الحديث[14]. محمد بن إسماعيل البخاري وشدة عنايته بـمصنفاته: عُرف عن الإمام البخاري رحمه الله شدة عنايته بمصنفاته، وقد نُقل عنه قوله: «صنفت جميع كتبي ثلاث مرات»[15]، في دلالة واضحة على استمراره في المراجعة والتنقيح، وحرصه البالغ على إخراج مؤلفاته في أبهى صورة من الدقة والإتقان، وقد أكرمه الله جل جلاله فأتم عليه تصانيفه، وفسح له في أجَله، وبارك له في علمه وعمره، ومصنفاته، ومنها وهو أجلها: «الجامع الصحيح»، وأيضًا «الأدب المفرد»، و«خلق أفعال العباد»، و«رفع اليدين في الصلاة»، وغيرها. محمد بن إسماعيل البخاري والباعث على تصنيف «الجامع الصحيح»: قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب[16]. وقال محمد بن سليمان بن فارس: سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه، وبيدي مِروحة، أذُبُّ بها عنه، فسألت بعض المعبِّرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح[17]. فصنف «صحيح البخاري»، فدقَّقه وحرَّره على ما أراد، ورواه فأكثر الرواية، فسمعه منه ما لا يحصيهم إلا الله جل جلاله، وقد رُوي عنه أنه لم يدرج حديثًا في «الصحيح» إلا بعد أن اغتسل وصلى ركعتين، وتثبَّت من صحة الحديث سندًا ومتنًا، وقد صرح بأنه انتقى مادة هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث، واستغرق في جمعه وتهذيبه ست عشرة سنة، حتى جعله حجةً بينه وبين الله تعالى، مما يدل على ما كان عليه من الورع، ودقة التثبت، وشدة التحري. قال محمد بن يوسف البخاري: كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلة، فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياءَ يعلِّقها في ليلة ثماني عشرة مرة، وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: كان أبو عبدالله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد، إلا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيُوري نارًا، ويُسرج، ثم يُخرج أحاديثَ، فيعلم عليها[18]. شهادة أهل الحديث في «الجامع الصحيح»: وقد عرض «الجامع الصحيح» على جماعة من كبار أئمة الحديث والنقد؛ أمثال: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فاستحسنوه وأثنَوا عليه، وأقروا ما فيه، سوى أربعة أحاديث وقع فيها الخلاف؛ ومع ذلك فقد قال العقيلي في شأنها: «والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة»[19]. قال النووي: "قال العلماء: هو – أي «صحيح البخاري» - أول مصنف صنف في الصحيح المجرد، واتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة «صحيحا البخاري ومسلم»، واتفق الجمهور على أن «صحيح البخاري» أصحهما صحيحًا، وأكثرهما فوائد"[20]. قال أبو زيد المروزي: كنت نائمًا بين الركن والمقام، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: «جامع محمد بن إسماعيل»[21]. علو شرط البخاري في «الصحيح»: شرط البخاري أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، وإن كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن إلا راوٍ واحد وصح الطريق إليه، كفى[22]. قال الحافظ أبو بكر الحازمي: "شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلًا، وأن يكون راويه مسلمًا صادقًا غيرَ مدلِّس ولا مختلط، متصفًا بصفات العدالة، ضابطًا متحفظًا، سليمَ الذهن، قليلَ الوهم، سليمَ الاعتقاد، ومذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه العدول، فبعضهم حديثه صحيح ثابت، وبعضهم حديثه مدخول، وهذا باب فيه غموض وطريق إيضاحه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم، فلنوضح ذلك بمثال وهو: أن تعلم أن أصحاب الزهري - مثلًا - على خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها، فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو مقصد البخاري، والطبقة الثانية شاركت الأولى في التثبت إلا أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة، فلم تمارس حديثه، فكانوا في الإتقان دون الأولى، وهم شرط مسلم... فأما الطبقة الأولى فهم شرط البخاري، وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب"[23]. تلقِّي أهل زمان البخاري «الجامع الصحيح» بالقبول والإقبال عليه: وإن هذا كله لَيؤكد ما امتاز به من رسوخ في العلم، ودقة في الضبط، وصرامة في التوثيق والتحري، فلم يكن عجبًا أن تخرج بلاد بأسرها تتلقاه على مشارفها، وعلى بعد أميال منها عند دخوله إليها، واجتمعت الآلاف للسماع منه والكتابة عنه، فربما اجتمع له في المجلس الواحد عشرون ألفًا، على اختلاف مشاربهم وألوانهم، ما بين راوٍ ومفسِّر، ولغوي وأديب، ومحدِّث وفقيه، يُمعنون في السماع والتدبر، وقد أحصى تلميذه الفربري منهم تسعين ألفًا قد سمعوا «الصحيح» معه، فما بالك بمن غاب عن الفربري، فضلًا عن أولئك الذين سمعوا من البخاري بقية كتبه وعلومه؟ وتلك أعداد كبيرة جدًّا إذا ما قُورنت بأعداد البشر في ذلك الزمان. الخاتمة: وفي الختام، يتبين لنا جليًّا أن إجماع الأمة على تلقي «الجامع الصحيح» للإمام البخاري بالقبول، لم يكن وليدَ صدفة، بل جاء ثمرةَ جهدٍ دؤوب، وعناية فائقة، وتحرٍّ دقيق، وأخلاق رفيعة، عُرفت عن الإمام البخاري طيلة حياته، وتظل شهادات كبار أئمة الحديث، وتقدير العلماء له ولمنهجه، شاهدًا حيًّا على عظمة مكانته العلمية، مما يدفعنا جميعًا إلى مزيد من الاعتناء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، اقتداءً بهؤلاء الأعلام الأبرار. نسأل الله تعالى أن يجزي الإمام البخاريَّ وجميع علماء الحديث خير الجزاء، وأن يرزقنا جميعًا حسن الاتباع، وصدق الانتفاع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] انظر: «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة اختصار البعلي» لابن القيم (537). [2] «قطر الولي على حديث الولي» للشوكاني (230). [3] «هدى الساري مقدمة فتح الباري» لابن حجر (485)، نقله عن أبي الطيب حاتم بن منصور. [4] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 393). [5] «هدى الساري مقدمة فتح الباري» لابن حجر (482). [6] «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر (52/ 87). [7] «هدى الساري مقدمة فتح الباري» لابن حجر (482). [8] «هدى الساري مقدمة فتح الباري» لابن حجر (483). [9] انظر على سبيل المثال: «هداية الساري لسيرة البخاري» لابن حجر. [10] انظر: «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (2/ 217). [11] «العلل الصغير» للترمذي (153). [12] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 432). [13] «معرفة علوم الحديث» للحاكم (222). [14] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 407). [15] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 403). [16] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 401). [17] «هدى الساري» لابن حجر (7). [18] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 404). [19] «هدى الساري» مقدمة فتح الباري لابن حجر (ص489). [20] «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 73). [21] «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 438). [22] «هدى الساري» لابن حجر (9). [23] «هدى الساري» لابن حجر (9)، بتصريف يسير.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |