|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#2
|
||||
|
||||
![]() وقال الآخر: وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ![]() إذا اشتعلت نيرانه في عذارِهِ ![]() وأي امرئ يرجو من العيش غبطةً ![]() إذا اصفرَّ منه العود بعد اخضرارِهِ[16] ![]() إن العبد إذا كثرت في شيبه سيئاتُه، وقلت حسناته، ولم يصلح ما أفسده في شبابه؛ فما أسوأ حاله، وأردأ مآله! فقد قيل: "لا تقتدِ بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يصلح عند الشيب"، وقال عمر رضي الله عنه لرجل: "أما تنهاك شماطتك من معاصي الله؟"[17]. ولقد أحسن من قال: وما أقبح التفريط في زمن الصبا ![]() فكيف به والشيب في الرأس شاملُ[18] ![]() ![]() ![]() فما أجَلَّ من عاد إلى ربه عند مشيبه، واستحيا منه في بقائه على ذنوبه، وانتصر على هواه وشيطانه، وتحرر من رق لهو الشباب وعدوانه! وصف بعضهم رجلًا شابَ وارعوى عن مجاهل الشباب، فقال: "ذاك قد عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب"[19]. معشر المسلمين، وإن كان نزول الشيب بالإنسان يجيء معه الضعف للأبدان، غير أنه يورِث الحكمة، وشروق الأذهان، ويُظهر عمق التجربة في الحياة، فمرور الأعوام يعلِّم الإنسان ويربِّيه، ويفتح آفاق عقله ويقوِّيه، فمن عاش حتى شاب فقد عرف الحياة وعرفته، وعركها وعركته، فاستخرج منها الدروس والعِبر. كان بعض الحكماء يقول: "إذا شاب العاقل، سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب"[20]. ورأى حكيم طارئَ شيبة فقال: "مرحبًا بثمرة الحكمة، وجنى التجربة، ولباس التقوى"[21]. لهذا فـ"الشيب زبدة مخَضَتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب، وفي الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة"[22]؛ كما قيل. وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام ما يبين فضل الشيب للمسلم الصالح؛ فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيب نور للمؤمن؛ لأنه يزيح عن طريقه غفلة الشباب، وغشاء الغرور، وحجاب الطيش، وفي الآخرة يُكسى به النور؛ لكونه كساه التقوى في الدنيا، وحسن الأوبة إلى ربه تعالى، وأخبرنا أيضًا أن الشيب سبب لكثرة الحسنات، ورفعة الدرجات؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفع بها درجةً))[23]. وجاء عن نبي الله إبراهيم عليه السلام أن الله أخبره أن الشيب وقار، فطلب زيادة الوقار؛ فعن سعيد بن المسيب أنه قال: "رأى إبراهيم شيبة منه، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله تبارك وتعالى: وقار يا إبراهيم، فقال: ربِّ زدني وقارًا"[24]. عباد الله، إن لمِن شابَ في المجتمع المسلم حقوقًا على الأقربين والأبعدين، فالشيب عنوان الوقار، ومحط الإكرام، فينبغي للمجتمع أن يوقر ذوي الشيب، وأن يُجلهم، ويُحسن إليهم، وأن يتعامل معهم برحمة ورفق، وأن يقدمهم في الخدمة، والمجالس، والاستشارة، وفي وسائل المواصلات؛ فقد حثنا رسول الله عليه الصلاة والسلام على إعطائهم هذا الإكرامَ؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))[25]. وعلى القريب أن يزيد على ذلك احترام إخوته الكبار وأخواته الكبيرات، وأن يبَر والديه ويحسن إليهما، ويحرص على راحتهما، والحفاظ على الهدوء في البيت من أجلهما؛ فإن كِبر السن يحتاج إلى لطف، وحسن رعاية، وإبعاد عن الإزعاج والمشكلات. قال الله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]. نسأل الله أن يتقبل صالح أعمالنا، وأن يحسن خاتمنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أيها المسلمون:فيستحب لمن شاب شعره أن يغيِّره بلون آخر: أحمر أو أصفر، وأفضل ذلك: الحِنَّاء والكَتَم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود والنصارى))[26]. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحسن ما غُيِّر به هذا الشيب: الحناء، والكتم))[27]. ولا يجوز للرجال ولا للنساء تغيير الشيب باللون الأسود مطلقًا، ومنه أن يكون التغيير لقصد الزينة، أو لإظهار الصغر عند إرادة خطبة أو غيرها؛ فإن هذا من الكذب والخداع؛ فقد جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: أُتِيَ بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيِّروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد))[28]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيِّروا الشيب، ولا تقربوه السواد))[29]. وكما لا يجوز تغيير الشيب باللون الأسود، لا يجوز أيضًا نتف الشعرات البيض من بين السود؛ فقد روى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب، وقال: هو نور المؤمن، وقال: ما شاب رجل في الإسلام شيبةً إلا رفعه الله بها درجةً، ومُحيت عنه بها سيئة، وكُتبت له بها حسنة))[30]. فيا من جاءه الشيب وزاره، وقدم إليه نصحه وإنذاره؛ استعدَّ للعودة إلى دار الوطن، والإقامة بعد الظعن؛ فقد تبسمت في وجهك المنايا، فقدِّم لها توبة من الخطايا، وكثرةَ طاعة، تنفعك يوم قيام الساعة. قال بعض العلماء: ألا فامْهَد لنفسك قبل موت ![]() فإن الشيب تمهيدُ الحِمامِ ![]() وقد جدَّ الرحيل فكن مجدًّا ![]() لحط الرحل في دار المقامِ[31] ![]() وقل لقلبك إذا لم يزل متعلقًا بالهوى والشهوات: ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا ![]() وأن يُحدث الشيب المبين لنا عقلا[32] ![]() ![]() ![]() ويا مَن ما زال شابًّا قويًّا، وشعره أسودَ فاحمًا، لا تغترَّ بشبابك وقوتك؛ فتؤخر التوبة من السيئات، والإقبال على الطاعات؛ فإن الموت لن يصطفي ذوي الشيب، ويدَع أهل الشباب، فكم قد سبق إلى الموت شبَّان قبل آبائهم، وكبار إخوانهم وأخواتهم! "كان عيسى عليه السلام إذا مر على الشباب قال لهم: كم من زرع لم يدرك الحصاد! وإذا مر على الشيوخ قال: ما ينتظر بالزرع إذا أدرك إلا أن يُحصد"[33]. ثم اعلموا - معشر الشبان الكرام - أن تعوُّد الطاعة، واجتناب المعصية في الصغر، يُعين على ذلك في الكبر، فمن شبَّ على شيء شاب عليه، فكم نجد في كبار السن من له همة الشباب ونشاطه في كثرة مداومته على الطاعات، وصبر نفسه على كثير من العبادات التي تؤدي إلى حسن الخاتمة! واسمعوا - رحمكم الله - ما قاله العالم العابد ابن عقيل رحمه الله عن حاله، وقد جاوزت سنه يومئذٍ السبعين عامًا، يقول: "عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعابًا قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين أجد من الحرص على العلم أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وأنا اليوم لا أرى نقصًا في الخاطر، والفكر، والحفظ، وحدَّة النظر بالعين لرؤية الأهِلَّة الخفية، إلا أن القوة ضعيفة"[34]، وصدق من قال: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خُلقي ![]() ولا وفائي ولا ديني ولا كرمي ![]() وإنما اعتاض رأسي غيرَ صبغته ![]() والشيب في الرأس ليس الشيب في الهِمم[35] ![]() نسأل الله أن يصلح أحوالنا، ويختم بالخيرات أعمارنا. هذا، وصلوا على خير البشر... [1] رواه الترمذي والحاكم وأبو يعلى والحاكم، وهو صحيح. [2] للفائدة: قال القرطبي في حديث: (شيبتني هود ...): "فالفزع يورث الشيب؛ وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته، يبست المنابع فيبس الشعر وابيضَّ، كما ترى الزرع الأخضر بسقاية، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضَّ، وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، فمنه تشيب؛ وقال الله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، فإنما شابوا من الفزع، وأما سورة هود فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلَوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحُق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرأوا كلامه"؛ [تفسير القرطبي (9/1)]. [3] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (3/ 36). [4] الذخائر والعبقريات (2/ 19). [5] عيون الأخبار (2/ 282). [6] الشعر والشعراء (1/ 264). [7] الدر الفريد وبيت القصيد (2/ 287). [8] الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 32). [9] مقامات الحريري (ص: 106). [10] تفسير ابن كثير (5/ 385). [11] التذكرة الحمدونية (2/ 152). [12] التذكرة الحمدونية (6/ 11). [13] نثر الدر في المحاضرات (6/ 40). [14] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (3/ 39). [15] الأوراق قسم أخبار الشعراء (1/ 185). [16] الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار (ص: 11). [17] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (3/ 39). [18] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (3/ 43). [19] اللطائف والظرائف (ص: 256). [20] اللطائف والظرائف (ص: 256). [21] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (3/ 40). [22] سحر البلاغة وسر البراعة (ص: 35). [23] رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن، ورواه غيره بلفظ مقارب، وإسناده صحيح. [24] رواه الإمام مالك في الموطأ (1928 – رواية أبي مصعب). [25] رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وغيرهم، وإسناده حسن. [26] رواه أحمد، والنسائي، والبيهقي، وابن حبان، وغيرهم، وإسناده حسن. [27] رواه الخمسة، وغيرهم، وهو صحيح. [28] رواه مسلم؛ قال النووي في شرح هذا الحديث: "ومذهبنا: استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح، وقيل: يكره كراهة تنزيه، والمختار: التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجتنبوا السواد))؛ [شرح النووي على مسلم (14/ 80)]. [29] رواه أحمد، وأبو يعلى، وهو صحيح. [30] رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما، وإسناده حسن. [31] حماسة الظرفاء (ص: 5). [32] تفسير القرطبي (17/ 248). [33] التذكرة الحمدونية (6/ 11). [34] سير أعلام النبلاء (19/ 446). [35] نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار (ص: 106).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |