|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بين الاجتهاد الشخصي والتقليد المشروع رد على شبهة «التعبد بما استقر في القلب» د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر مقدمة: الحمد لله. كثرت في الآونة الأخيرة دعوات تدعو إلى الانفلات من منهج العلماء، وتسوِّي بين الاجتهاد الشخصي والتقليد العلمي، متذرعةً بحرية الاعتقاد أو التعبد بما يستقر في القلب، بل وتصل أحيانًا إلى الزعم بأن تقليد العلماء في الدين نوع من الشرك أو ضلال مبين. وفي هذا السياق، ورد نصٌّ فيه طعن ضمني في التقليد المشروع، وتقديم لرؤية مغلوطة لمفهوم التعبد والاجتهاد، ما يقتضي بيان الحق ونقض هذه المزاعم بما يوافق أصول الشريعة ومنهج أهل العلم. جاء النص كالتالي: (وأرجو أن يعلم كل قارئ لكتابي هذا، أنه نتاج بحثي ودراستي الخاصة، وأنني أتعبد ربي بما علمته واستقر في قلبي، وأن لكل إنسان على وجه الأرض كاملَ الحق في التعلم والتفكر والخروج بما يعتقده حقًّا يتعبد به لربه، بل إنه واجب على كل مسلم أن يتعلم دينه وأن يتعبد ربه بما استقر في نفسه وبما اعتقده، فاتِّباع الأوائل والآباء بلا تفكُّر ولا تدبُّر لمجرد أنهم الأوائل وأنهم الآباء، حتى لو كانوا على الباطل، أمر يستنكره رب العالمين بوضوح ويرفضه ويذمه، بل أدخله بعض العلماء في دائرة الشرك. فمن فتوى (القول الصحيح في إيمان المقلد): ومن لم يقم إيمانه على العلم فهو مقلد لغيره في إيمانه، وقد اختلف العلماء في صحة إيمان المقلد، فمنهم من قال بأن إيمانه غير صحيح، مستدلين بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39]، وقالوا: والمقلد ليس له سعي في إيمانه؛ لأنه يقبل قول من يقلده بغير حجة، لكن جمهور العلماء حكموا بصحة إيمان المقلد؛ لأن أصل الإيمان موجود في فطرة الإنسان التي فُطر عليها، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]. وقال عليه الصلاة والسلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه»؛ أخرجه البخاري ومسلم، فالأصل في الإنسان الإيمان، وهو يقلد في أمر قد فطره الله عليه) اهـ. وقد اشتهرت هذه المقالة عن الأشعري: (أن إيمان المقلد لا يصح)، وقد أنكر أبو القاسم القشيري، والشيخ أبومحمد الجويني، وغيرهما من المحققين صحته عنه، وقيل: لعله أراد به قبول قول الغير بغير حجة، فإن التقليد بهذا المعنى قد يكون ظنًّا، وقد يكون وهمًا، فهذا لا يكفي في الإيمان، أما التقليد بمعنى الاعتقاد الجازم لا الموجب، فلم يقل أحد إنه لا يكفي في الإيمان، إلا أبو هاشم من المعتزلة؛ اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء، حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة، قالوا: لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص، وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها؟ وأيضًا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص، بل بطرق أُخَر: من اضطرار، وكشف، وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك؛ اهـ. إذًا هناك خلاف على إيمان من يأخذ دينه من غيره ويقلده بلا تمحيص وفهم وتدبر؛ لذلك جعل رسول الله العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، ويقول تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، ويقول تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]؛ انتهى بحروفه ولفظه. والرد بفضل الله وحده وحوله وقوته- مختصرًا - من وجوه: أولًا: لا عبادة إلا بما شرع الله، لا بما «استقر في القلب». ادَّعى الكاتب أنه يتعَبَّد الله بما «استقر في قلبه»، وهذا مبدأ خطير لو أُطلق على عواهنه. فالعبادة لا تُقبل عند الله إلا إذا كانت على وجهٍ موافقٍ للشرع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»؛ رواه البخاري (2697) ومسلم (1718). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»؛ رواه مسلم (1718). ومجرد "الاطمئنان القلبي" ليس معيارًا شرعيًّا للصواب، بل قد يكون القلب مطمئنًّا بباطل، قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾ [فاطر: 8]. ثانيًا: دعوى أن لكل إنسان الحق في التعبد بما يراه حقًّا = مذهب فرداني متهافت: قال الكاتب: "وأن لكل إنسان على وجه الأرض كاملَ الحق في التعلم والتفكر والخروج بما يعتقده حقًّا يتعبد به لربه". وهذا القول لو أُطلق لفتح باب التحلل من الدين، ومساواة الحق بالباطل، وجعل من الهوى الشخصي مصدرًا للتشريع. قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، فهل سبيل المؤمنين هو أن "يعتقد كلٌّ ما يشاء ويتعبد بما يراه؟!" أم هو في الاتباع والرجوع للعلماء؟ ثالثًا: التقليد المشروع أصل في الشريعة لا مذمة فيه: طعن الكاتب في تقليد العلماء واعتبره مخالفة دينية، وربما شركًا. وهذا تلبيسٌ مرفوض: التقليد الجائز: هو أن يقلد العاميُّ من يثق بعلمه ودينه من العلماء، وهذا واجب في حقه؛ لأنه لا يستطيع الاجتهاد، وقد نصَّ على ذلك جمهور أهل الأصول، قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]. أما التقليد المذموم، فهو تقليد أهل الباطل أو تقليد الآباء والأجداد في مخالفة الدين، وهذا الذي ذمَّه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22]. رابعًا: مسألة "إيمان المقلد" خلافٌ نظري لا يُبنى عليه طعن في عوام الأمة: استشهد الكاتب بخلاف العلماء في إيمان المقلد، وظن أن هذا الخلاف دليل على بطلان التقليد، لكن هذا الخلاف محله الأصول النظرية في العقيدة، وليس في إيمان عامة المسلمين. وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل السُّنَّة على أن العامة لا يُكلفون بالاستدلال العقلي الخاص، وأن إيمانهم صحيح إذا آمنوا بالله ورسوله إجمالًا. بل قال: "فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص، بل بطرق أُخَر: من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك"؛ (مجموع الفتاوى – ص 202). خامسًا: الاستدلال بالآيات الداعية للعلم لا يبرر الانفلات من العلماء: استشهد الكاتب بآيات فضل العلم، وهذه آيات في الحث على طلب العلم والفضيلة، لكنها لا تعني أن كل إنسان يجب أن يصبح مجتهدًا أو أن يترك تقليد العلماء. وقد نص أهل العلم على أن الواجب على المسلم أن يتعلم ما لا يسعه جهله، أما دقائق المسائل فلا تُطلب من الجميع، بل من أهل الاجتهاد. خاتمة: هذه الدعوى التي طرحها الكاتب هي في حقيقتها دعوى إلى الفوضى الفكرية باسم التعبد، وتؤسس لتقديم العقل الفردي على النصوص، والرأي الشخصي على إجماع العلماء. والواجب أن نُحكِّم نصوص الوحي، ونرجع إلى أهل العلم الموثوقين، لا أن نجعل "ما استقر في القلب" مرجعًا للدين. والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |