|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (1) حسن عبدالحي كثيرون في هذه الأمة المباركة من نبغوا في العلوم الشرعية.. وكثيرون كذلك من جمعوا بين العلم الشرعي والعمل الصالح، فكانوا علماء عاملين، لكن قليلون من جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، وبين العلم الدنيوي والعمل البنائي الحضاري، فجمعوا خصال المعرفة والخير، وساسوا الدنيا بالدين، فاستحقوا أن يكونوا مناراتٍ للسالكين بعدهم، وأئمة في الدنيا والدين معًا، إذ ترجموا ما علموا وما عرَفوا من علوم الدارين إلى واقعٍ مشاهَد، فكانوا لبناتٍ لحضارة متكاملة، وكانوا هم معالمها وأركانها التي تقوم عليها. ومن هؤلاء الأفذاذ العلامة حسن الجبرتي رحمه الله تعالى (1110هـ، 1188هـ)، وهو والد المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي (1167هـ، 1240هـ) صاحب التاريخ المشهور بـ"تاريخ الجبرتي"، أو بـ "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وقد ذكره العلامة محمود شاكر رحمه الله في كتابه: "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، وجعله أحد رواد النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث.. النهضة التي عمل الغرب بكل السبل على وأدها في مهدها، قبل أن تلحق أو تسبق ركب الحضارة الغربية المعاصرة، التي كانت حينئذ في بداياتها، وليس ثَمّ فوارق كبيرة بينها وبين النهضة العربية الإسلامية. وقد ترجم للعلامة حسن الجبرتي رحمه الله ابنُه عبدالرحمن الجبرتي رحمه الله في تاريخه المشار إليه في أكثر من مائة وعشرين صفحة، كما ذكر ابنه عبدالرحمن كثيرًا من أخبار والده في تراجم شيوخه وتلامذته، والسلاطين والأمراء والبكوات الذين اتصلوا به، واستفادوا من علمه واطلاعه الواسع على علوم كثيرة، واستعملوه في حاجاتهم المتغايرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فرأيت أن أجمع أخباره من تلك المتفرقات في تاريخ ابنه، ثم أضمّها لأصل الترجمة وأهذبها بشكل لا يخل، لتخرج تلك الترجمة في صورة تجسّد صاحبها رحمه الله على الوجه الذي كان عليه، لا سيما وقد أعوزتني المصادر والبحوث التي تتناول ترجمته. كما كان لا بدّ من الإلمام بالبيئة والمجتمع الذي نشأ فيه العلامة حسن الجبرتي رحمه الله، لنقف ونتفهّم معالم تلك الحِقبة الهامة في تاريخ مصر خاصة، وسائر البلاد والشعوب المسلمة عامة، ثم لنقدّر أثر العلامة حسن الجبرتي الإصلاحي بحسب حال المجتمع الذي نشأ وبدأ فيه رحلة العمل والبناء. وقد حوى بالفعل تاريخُ عبدالرحمن الجبرتي رحمه الله أهمَّ عناصر التأريخ في تلك المرحلة، فألمّ إلمامًا تامًّا بالحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، مع متابعة دقائق الحركة العلمية في الإقليم المصري، فيما يتعلق بالشرع أو الحياة، وما يمكن أن يتصل بتلك الحركة من الخارج، وبهذا كله يتأتّى للمطالع في تاريخ عبدالرحمن الجبرتي رحمه الله تعالى تصوّرُ الحياة بكلّ جوانبها في مصر في تلك المرحلة وما يسبقها، وما سيترتب عليها من أحداث عظيمة ستتغيّر بها الوجهة المألوفة للحياة السياسية في مصر، من دخول الفرنسيس مصر، إلى علمنة الحكم على يد محمد علي. وليس الغرض من الترجمة للعلامة حسن الجبرتي التعريف بعالم، أو ناسك، أو حتى عبقري مخترع فحسب، بل الغرض الإلمام بأثر المصلح القائد للأمة، من حيث هو فرد من أفرادها، لا من حيث هو قائد مسؤول، أو صاحب سلطان قد نُصّب، فالتَّعرّف على حياة العلامة حسن الجبرتي منار للمصلحين بعده، يُهتدَى به ويُسار على نوره. نعم، قد تختلف وسائل الإفادة، وطُرق البناء، من عصره لعصرنا، للعصر الذي بعدنا، لكن تبقى عوامل مشتركة ثابتة في كلّ عصر، تلك العوامل هي التي تكون في صميم النفس وصفاتها وتصوراتها، والتي تتجسّد لواقع ملموس يناسب خصائص كلّ عصر. فنحن إنما نبحث عن التصورات التي انطلق منها العلامة حسن الجبرتي رحمه الله، وكذلك كلّ مصلح قبله وبعده، وكذلك الصفات التي تحقق بها وصولهم لغاياتهم، والأخلاق التي انطلقوا بها ومهدت لهم طرق البناء والإصلاح. بعيدًا عن الوسائل التي ربما وافقت عصرًا ولم تناسب آخر.. وبعيدًا عن الأسباب التي ربما يُنظر لها النظرة الوقتية الضيقة، أي التي تصلح في زمان ولا تصلح في زمان آخر، وبعيدًا عن حجم الأهداف ومدى تحقّقها في جملة التجرِبة، بعيدًا عن كلّ هذا وغيره من الصورة الظاهرة للتجربة.. ننظر إلى التصور، وإلى الصفة، وإلى الخُلق، ننظر إلى تلك الكليات والأصول التي قامت عليها التجربة، وتحقق بها وجودُها في دنيا الواقع، متجسدةً في رجال من الأمّة. وإنما يُعتنى بتلك التصورات، والصفات، والأخلاق، التي تتجسّد في رجال، فتقوم بهم الحضارات.. إنما يعتنى بها من خلال تراجم الرجال لهدف شحذ الهمم خلفها، وهدف خلق رُوح المحاولة والتجربة في الأجيال المعاصرة، وفتح مجالات التصور والتجديد في كلّ زمان، وفق تلك الكليات التي انطلق منها المصلحون في كلّ وقت. وقبل أن نسرد حياة العلامة حسن الجبرتي رحمه الله تعالى، وقبل أن نقتبس منها معالم شخصيته التي أهّلته ليكون أحدَ روّاد النهضة في مصر، في تلك الحقبة التاريخية، وقبل أن نستخرج فوائدَ وعبرًا من ترجمته.. قبل كلّ هذا يلزمنا الوقوفُ على عناصر تكوين الشخصية الإصلاحية، أي العناصر المؤهلة لبناء قادة يسوسون الدنيا بالدين، كما أراد الإسلام لهم، وكما أراد بهم، ومنها: صحة المنطلق وإفراد الغاية: وهما شيء واحد، وهما تحقيق العبودية في الانطلاقة الإصلاحية، وتحقيق العبودية في الغاية من البناء الإصلاحي، فبدء التحرّك نحو البناء والتشييد عبادة، كما أن تحقيق البناء وإرساء دعائمه استخلاف خوّلَناه الله تعالى في الأرض. فمن شمولية العبودية تكون الانطلاقة نحو الإصلاح والبناء الحضاري، ومن شمولية العبودية تُسخّر تلك الحضارة في عبادة الله تعالى، وتلك خَصِيصة من خصائص التصور الإسلامي للبناء الإصلاحي الحضاري، فالله تعالى استخلف الإنسانَ في هذه الأرض وسخّر له فيها أدوات البناء لتكتمل له منظومتا الدنيا والدين، وتتحقق عبوديته تعالى على أكمل وجه. ولو لم يَسُسِ الدعاة والمصلحون الناس بالدين اليوم، فمن يسوسهم به؟ من يعمل على البناء والتشييد الحضاري، وقد تخلى عامة من خوّلهم الله تعالى أمر الناس عن مسؤوليتهم؟ البصيرة بالواقع ومتطلبات البناء فيه: فكلّ واقع له متطلبات محددة، لا تصلح غيرها فيه، ومن هنا كان فهم هذا الواقع عنصرًا أساسيًا في رحلة الاستخلاف والبناء الحضاري. وفهم الواقع ليس شيئًا يسيرًا.. فإنه رصيد تجربة، ورصيد محاولات كثيرة، وإنما يلمّ به من باشر العمل فيه، وعالج آفاته، حتى تمكّن من استيعابه، ولا غنى عن معرفته لمن يتصدّر للإصلاح والبناء، وليست معرفته مجرد الاطلاع عليه، بل بقدر الاحتكاك به، وممارسة العمل فيه. اكتمال خصائص الشخصية البنّاءة: كالتصورات الواضحة للأثر والوسيلة والغاية، والصفات المعينة على تحقيقها، والأخلاق الباعثة على هذا كلّه، والممهدة له، وقد سبق طرَف من هذا. فليس كلّ عالم عاملاً، وليس كلّ داعية مصلحًا، وليس كل أحد مؤهلاً للقيادة وللتصدّر في رحلة البحث عن العمل المنوط بخير أمّة أخرجت للناس، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما الناس كإبلٍ مائةٍ، لا تكاد تجدُ فيها راحلةً) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة]. فتلك سنّة كونية أرادها الله تعالى في خلقه، وإن أُمرنا بسننه تعالى الشرعية أن نسدّد ونقارب، ثم إن الله عز وجل يعطي المعونة على قدر المؤنة، ولا تظهر المعادن إلا بعد التجربة والعمل، تمامًا كما تذهب النار عن الذهب خبثه. يبقى أن يقال إنّ نهضة أمة لا تكون على أكتاف أفراد معدودين من أبنائها، نعم، هم عوامل رئيسة فيها، لكن النهضة الحضارية عمل تتعاقب عليه الأجيال، ولا يمنع هذا أن يبذل وأن يتصدر المصلحون لها، ثم يأتي من الأبناء والأحفاد من يكمل أعمالها، ومن يخرجها على وجهها المأمول، فبناء الحضارات أكبر من الجيل والجيلين. ولا يعني هذا أيضًا أن نكفّ أيدينا عما نستطيع، وإن لم يقع العمل على وجه الكمال والإحاطة، ففارقٌ بين الكلام التوصيفي لبناء الحضارة، وبين العمل الإصلاحي المتاح في الواقع، فالأول أعمّ وأشمل، والثاني جزء من الأوّل. ونحن نلتمس من تراجم المصلحين في عصور التأخّر التي نحياها.. أصول العمل الإصلاحي المتاح في الواقع. وللحديث تتمة.. والحمد لله رب العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (2) حسن عبدالحي المجتمع المصري الذي نشَأ فيه الجبرتي: وحتى نتصوَّر الدَّور الإصلاحي للعلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله تعالى - لا بُدَّ من إلمامٍ بمجتمعه الذي نشَأ وزاوَل العمل فيه، ولو على وجه الاختِصار؛ وذلك ليتأتَّى لنا تقديرُ عمله طبق إمكانيَّات واقِعه، وحال الحياة السائدة في زمانه، سواء الحياة العلميَّة التي أخرجَتْه، أو الحياة الاجتماعيَّة التي سيتفاعل عملُه معها، أو الحياة السياسيَّة التي تُمثِّل علاقة المحكوم بالحاكم، والتي يتَّضِح بتصوُّر معالمها الحالةُ الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة في مصر وقتها. الحياة السياسية في مصر: كانت مصر في تلك المرحلة تحت السلطان العثماني، وكان حُكَّامها الفعليُّون المماليك؛ وذلك لانشِغال الدولة العثمانيَّة بحروبها في أوربا، فكانت الدولة في إسلامبول تُرسِل الوالي كلَّ سنة، فإمَّا أنْ يُقَرَّ على السَّنَة التي بعدَها، وإمَّا أنْ يُرسَل غيره، ولم يكن للوالي العثماني - غالبًا - سلطان على البلد، بل كان أحيانًا تعزله المماليك فيُعيَّن غيره، وأحيانًا تحبسه في بيته، وأحيانًا يُطرَد أو يُنفَى، بل لما اشتدَّ أمر علي بك الكبير منَع دخول الولاة العثمانيين إلى مصر واستقلَّ بالأمر، فلمَّا قُتِل رجَع الولاة ثانيةً. وقد كانت المماليك تسير في الناس بشرِّ سِيرة، بحيث افتقَدُوا مقومات الصلاح والتربية التي كان عليها أسلافهم الأُوَل، إبَّان حكم مصر بعد الدولة الأيوبيَّة، واستَطاعُوا أنْ ينتَصَروا على التتار في حكم الملك قطز، ومن بعده الملك بيبرس الذي سار في الرعيَّة سِيرَة حسنة. فتغيَّر حالهم لَمَّا انشغَلُوا بالدنيا عن جِهاد الأعداء، ثم تنافَسُوا عليها، فقَوِيَت الضغينة بينهم، واستَحكمَتْ من نفوسهم، حتى نشبَتْ بينهم العداوات واستحلُّوا دماءهم، فلا يَكاد يخلص لأحدٍ منهم الأمر حتى يُعادِيه الآخَرون ويخرجوا عليه، فتقَع مزيدٌ من الفتن في البلاد! كان هذا التغيُّر كلُّه في المماليك نتاج انعِدام التربية العلميَّة والفكريَّة التي كانت يتعاهَد بها المملوك في نشْأته وصِباه، فلمَّا أهملت النشأة، تمكَّن من رِقاب الناس أراذلُهم، فسامُوهم سُوءَ العذاب؛ من قتل، لتشريد، لتخريب، لفرض أُتًى ومكوس! هذه باختِصارٍ كانت الحياة السياسيَّة في مصر في تلك الحقبة، التي شهدَتْ مولد وترعرع وتعلُّم وعمل العلاَّمة حسن الجبرتي. ومن رسمِ تلك الحياة السياسيَّة في مصر، يُمكِننا تصوُّر وفهْم تَأثِير تلك الحياة السياسيَّة على الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، ثم على التأخُّر الحضاري. أثر الحياة السياسيَّة على الحياة الاقتصاديَّة: كانت لصِراعات المماليك وانشِغالِ الدولة العثمانيَّة عنها، أسوَأُ الأثَر على الحياة الاقتصاديَّة في مصر؛ بحيث كان يُضيَّق على التجَّار والأعيان من أجل سدِّ حاجات المماليك، مع ما يُفرَض على الناس من المظالم طوال العام. نعم، كانت تهدَأ الأوضاع لفترات، وتَزداد أنواع الأموال وتنمو بعد نزع فتيل الفتنة بين المماليك المتقاتلين، لكن لا يخلو الأمر كذلك من ضرائب وظلومات، ثم سرعان ما تشتَعِل الخصومات بين أطرافٍ جديدة فتذهَب بالأخضر واليابس. وإنما هذه إشارة إلى أثر الجانب السياسي المتعلِّق بالاقتصادي فحسب. أثر الحياة السياسيَّة على الحياة العمليَّة الحضاريَّة: من المقرَّر أنَّ استِقرار الدُّوَل والشُّعوب أوَّل لَبِنَات البِناء الحضاري، وقد كانت مصر قبلَ تدَهوُر أحوالها في تلك الحقبة منارةً علميَّة عمليَّة حضاريَّة، يُتفاخَر بها، ويُتحاكَى عنها، وتُذكَر بمختلف الفنون العلميَّة والصناعيَّة، فلمَّا تصارَع حُكَّامها المماليك وأخلَدُوا إلى اللذَّات الرخيصة أهمَلُوا البناء والتشييد الحضاري. ويذكر عبدالرحمن الجبرتي أنَّ أحمد باشا لَمَّا دخل مصر واليًا في سنة (1162 هـ) والتَقَى صدور العُلَماء في ذلك الوقت، فتكلَّم معهم وناقَشَهم وباحَثَهم، ثم تكلَّم معهم في الرياضيات فأحجموا، وقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجَّب وسكت، ثم لَمَّا انفَرَد أحمد باشا بالشيخ الشبراوي قال له: المسموع عندنا بالديار الروميَّة أنَّ مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلمَّا جئتها وجدتها كما قيل: "تسمعَ بالمعيدي خير من أن تراه"! [(2/ 71، 72) طبعة مكتبة مدبولي، وهي التي أعتمد فيها كل النقولات بعد مطابقتها بطبعة الجيل]. ثم دلَّه الشيخ على مَطلُوبِه في علم الرياضيات، وهو الشيخ حسن الجبرتي - رحمه الله - فسُرَّ بلقائه الباشا، وستأتي القصة كاملة، والشاهد قول الباشا: "المسموع عندنا بالديار الروميَّة أنَّ مصر منبع الفضائل والعلوم". وقد شهد ابن خلدون - رحمه الله - في مقدمته التي كتَبَها في أواخر القرن الثامن لمصر بالعلوم والصنائع والحضارة، فقال: "ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر، فهي أمُّ العالم، وإيوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع"، ["مقدمة ابن خلدون": 697]. فلمَّا فسدت الحياة السياسية، أثَّرت بالسلب على البناء الحضاري، وقد ساعَد على تأخُّر البِناء الحضاري في مصر عدَّة عَوامِل أخرى، منها: • اهتمام الدولة العثمانيَّة بتعمير عاصمتها على حساب عَواصِم سائر الدولة: فعاصمة الدولة الكبيرة - عادة - مجمع خيراتها وحضارتها، ولهذا تأثيرٌ سلبي على سائر أقطارها، بل وتنقل دعائم الحضارات إلى تلك العواصم نقلاً، ويذكر عبدالرحمن الجبرتي - رحمه الله - في "تاريخه" أنَّ السلطان سليمًا لما خلص له أمر مصر ثم رجَع إلى بلاده "أخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم تُوجَد في بلاده، بحيث إنَّه فُقد من مصر نيف وخمسون صنعة!"، (1/ 127). • طبائع المماليك الغليظة: بحيث يغلب عليها الميل للحروب والمقاتلة أكثر منها للبناء والتعمير؛ ولهذا تراجعت النهضة الحضارية المصريَّة في عصرهم بشكلٍ كبير. • إضعاف الإنتاج الصناعي: للنهضات الصناعية الحضارية في تلك العصور شكل غير الشكل الحالي لها؛ فهي تقوم في تلك العصور على مجموع الإنتاج للأفراد، بضدِّ النهضات الحديثة القائمة على المؤسَّسات العامة للدول، كمرحلةٍ ثانية بعد مرحلة مجموع إنتاج الأفراد. فلمَّا ازدادت ضغوط الدولة والمماليك الاقتصاديَّة على التجَّار والصُّنَّاع، ضعُف الإنتاج الصناعي والتمهُّر فيه. الأزهر والحياة الدينيَّة في مصر: لم يزل الدِّين هو المهيمن رُوحيًّا على المجتمع المصري في تلك الحقبة، وأهله لهم من الوقار والهيبة في قلوب العامَّة والخاصَّة شيء عظيم، وهو بحقٍّ محكَّم في الجملة، وإن احتال عليه الحكَّام لأهواء وبشبهات، وإن ضعف كذلك وازعه في نفوس بعض العامَّة. لكن المشكلة الأكبر من مشكلة تحايل الحكَّام على الدين باسم الدين، وأكبر من مشكلة ضعف الدين في نُفُوس بعض العامَّة - المشكلة الأكبر هي أنَّ الدين في تلك الحقبة لم يكن مصفى، فلقد شابَه كثير من البدع والخرافات الصوفيَّة! بل أضحت السُّنة غريبة، والبدعة دينًا مطبقًا لا يكاد يختلف عليه اثنان، فلم يسلم - بحكم تعاقُب الأجيال على الاعتقاد الصوفي - أحدٌ من تلك البدع الصوفيَّة النكراء، وإنْ تفاوتت المقاصد. فوقَع شِرك الدُّعاء والعبادة، وغلَت الخاصَّة من العلماء قبل العامَّة في الصالحين، وانحرَفَت الأعمال عن السُّنَّة، ووقَعت البدع العمليَّة بكثرة. ويذكر الجبرتي عبدالرحمن - رحمه الله - أنَّ في سنة (1223 هـ) "جلَس رجلٌ رومي واعظ، يَعِظُ الناس بجامع المؤيَّد، وازدحم المسجد وأكثرهم أتراك، ثم انتَقَل من الوعظ، وذكرَ ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم، وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركُه، وعلى ولاة الأمور السعي في إبطال ذلك، فذهب بعض الناس إلى العُلَماء بالأزهر وأخبروهم بقول ذلك الواعظ، وكتبوا فتوى وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي بأنَّ كرامات الأولياء لا تنقَطِع بالموت، وأنَّ إنكاره على اطِّلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز، ويجب على الحاكم زجره عن ذلك، وأخَذ بعض الناس تلك الفتوى ودفعها للواعظ وهو في مجلس وعظه، فلمَّا قرأها غضب وقال: يا أيها الناس، إنَّ علماء بلدكم أفتوا بخلاف ما ذكرتُ لكم، وإنِّي أريد أنْ أتكلَّم معهم وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر، فهل منكم مَن يساعدني على ذلك وينصر الحقَّ؟ فقال له الجماعة: نحن معك لا نفارقك". ثم ذكر الجبرتي إتيان الواعظ ومعه جمع من العامَّة إلى القاضي، ثم إلى الوالي، بغرَض مناظرة عُلَماء الأزهر، ثم غدرَ الوالي به وبجماعته، ووشى بهم إلى الأمراء، حتى فرَّقوا جماعتهم، ونفوا الواعظ، أو قتلوه. ثم نقل الجبرتي ثمانية عشر بيتًا للشيخ حسن الحجازي يُبَكِّت فيها الواعظ ويُنكِر عليه إنكاره انقِطاع الكرامات عن الأولياء بعد الموت، واطِّلاعهم على اللوح المحفوظ وغير ذلك، ثم ختمها بقوله: وَالوَاعِظُ فَرَّ وَقِيلَ قُتِلْ ![]() وَعَلَيْهِ الخِزْيُ قَدِ اسْتَرْبَضْ ![]() وَكَفَانَا اللهُ مَؤُونَتَهُ ![]() وَلَهُ أَرِّخْ عَيْبٌ أَمْرَضْ ![]() الجبرتي (1/ 178، 181). وفي تلك الواقعة يتبيَّن لنا جليًّا كيف تمكَّنت الخرافات والأباطيل والشركيَّات من اعتقاد الناس في تلك الحقبة، حتى إنَّك لا تجد أحدًا من مشايخ الأزهر في تلك الفترة إلاَّ وله اعتقادٌ في المقبورين، ودائم الزيارة لهم، مع ما تلبَّسوا به من البِدَع الصوفيَّة العمليَّة. وللحديث تتمَّة - إن شاء الله تعالى - والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (3) حسن عبدالحي بالإضافة إلى التدهوُر العقدي عند كثيرٍ من العُلَماء والعامَّة في تلك الحقبة في مصر وكثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة غيرها، وبالإضافة كذلك للبِدَع العمليَّة الكثيرة المنتشرة، بالإضافة إلى هذَيْن الخطرَيْن - فقد استَشرَى كذلك الفساد في أعمال بعض المشايخ والعُلَماء في الأزهر، بحيث مالت القلوب لطلب الدنيا والتنافُس عليها، ولو بما حرَّم الله - تعالى - وعرفه المشايخ ضرورة. فيذكر الجبرتي - رحمه الله - في حوادث سنة ست وستين ومائة وألف أو نحوها: "أنَّ نصارى الأقباط قصَدُوا الحجَّ إلى بيت المقدس، وكان كبيرهم إذ ذاك نوروز كاتب رضوان كتخدا، فكلَّم الشيخ عبدالله الشبراوي في ذلك وقدَّم له هديَّة وألف دينار، فكتَب له فتوى وجوابًا، ملخَّصه أنَّ أهل الذمَّة لا يُمنَعون من دياناتهم وزياراتهم! فلمَّا تَمَّ لهم ما أرادوا - أي: النصارى - شرَعُوا في قَضاء أشغالهم، وتشهيل أغراضهم، وخرَجُوا في هيئة وأبَّهة وأحمال ومواهي وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم، ومعهم طبول وزمور، ونصَبُوا لهم عرضيًّا عند قبَّة العزب، وأحضروا العربان ليسيروا في خفارتهم، وأعطوهم أموالًا وخلعًا وكساوي وإنعامات، وشاع أمرُ هذه القضيَّة في البلد واستنكَرَها الناس، فحضر الشيخ عبدالله الشبراوي إلى بيت الشيخ البكري كعادَتِه، وكان علي أفندي أخو سيدي بكري متمرضًا فدخَل إليه يَعُودُه، فقال له: أيُّ شيء هذا الحال يا شيخ الإسلام؟! على سبيل التبكيت، كيف ترضى وتفتي النصارى وتأذن لهم بهذه الأفعال؟ لكونهم رشوك وهادوك؟! فقال: لم يكن ذلك، قال: بل رشوك بألف دينار وهديَّة، وعلى هذا تصير لهم سُنَّة، ويخرجون في العام القابل بأزيد من ذلك، ويصنَعُون لهم محملًا، ويُقال: حِجُّ النصارى وحِجُّ المسلمين! وتصير سُنَّة عليك وزرُها إلى يوم القيامة، فقام الشيخ وخرَج من عنده مُغتاظًا، وأذن للعامَّة في الخروج عليهم ونهب ما معهم، وخرج كذلك معهم طائفةٌ من مجاوري الأزهر، فاجتمَعُوا عليهم ورجموهم وضربوهم بالعصي والمساوق، ونهبوا ما معهم وجرسوهم، ونهبوا أيضًا الكنيسة القريبة من دمرداش، وانعَكَس النصارى في هذه الحادثة عكسة بليغة وراحت عليهم، وذهب ما صرَفُوه وأنفَقُوه في الهباء"، (2/ 75، 67). ولهذا افتُقِدت بعض هيبة المشايخ في قلوب بعض الأمراء والعامَّة، حتى إنَّ يوسف بك الكبير كان يسوء ظنُّه بفَتاواهم وأحكامهم، وربَّما تعرَّض لبعضهم بالظنَّة فيحبسه، وتشفع فيه المشايخ والعُلَماء ليُخرجه، مثلما عزَل الشيخ حسن الكفراوي من إفتاء الشافعيَّة، وكما حبس الشيخ عبدالرحمن العريشي مفتي الحنفيَّة حتى خلَّصَه الشيخ السادات، (2/ 884، 885). ولا يعني فَساد أحوال بعض المشايخ أنَّ هذا هو حال أكثرهم، بل كان جملتهم على الخير والصَّلاح، والزُّهد في الدُّنيا، وطلب ما عند الله - تعالى - ولكن لا شكَّ أنَّ بعض تلك السلوكيَّات قد أثَّر في هيبة أهل الدِّين في القلوب، كما برَّر مزيدًا من فَساد الأُمَراء والحكَّام، ولكلِّ هذا أثَرُه الكبير على تأخُّر رحلة الإصلاح والبناء الحضاري. أثر البِدَع والخُرافات الصوفيَّة على البِناء الحضاري: إنَّ من أكبر دَعائِم البِناء الحضاري لدى المسلمين التصوُّرَ الصحيح الذي جاء به الإسلام عن الكون، وعن استِخلاف الإنسان فيه، وتسخير الله له ما في الأرض جميعًا ليبني ويتقدَّم ببني جنسه وفق سنن الله - تعالى - الكونيَّة والشرعيَّة بلا مُصادَمة أو مُعارَضة. ووفق - كذلك - إنزال الأسباب الماديَّة منازلها، بلا توهُّم معارضتها لعقيدة المسلم، أو الاستعاضة عنها بما لا يقوم مقامها من الأسباب الحسيَّة؛ يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]. فامتنَّ - تعالى - علينا أولًا بتَسخِير الأرض وتَذلِيلها، وفي هذا الحثُّ على استعمالها واستغلالها، ثم أمَر بالمشي في مَناكِبها، وفيه الحثُّ على العمل والجدُّ في أسبابه، وإنْ كان السبب له مسبِّب، وهو الله - تعالى - ولهذا قال - تعالى -: ﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾، ثم لأنَّ الاستخلاف في الأرض في منظور التصور الإسلامي عبادة لله تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾، فيجازيكم على أعمالكم، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، فلا يلهينا الاستخلاف في الأرض عن غاية وجودنا، ولا نحسبنَّ أنَّ الاستخلاف في الأرض مُعارِضٌ لعبوديَّة الله في شيء. ورغم وُضوح هذا التصوُّر، ورغم استِفاضَة الأدلَّة الشرعيَّة والشواهد التاريخيَّة عليه، رغم كلِّ هذا، ضلَّ عنه وضلَّ فيه جماعات من المتصوِّفة قديمًا وحديثًا، فعارَضوا سنن الله - تعالى - الكونيَّة والشرعيَّة معًا، ونابَذُوا الأسبابَ العداء بالخُرافات والأباطيل والبِدَع. ولما جاءَت الحَملة الفرنسيَّة، كان من ضمنها مجموعةٌ من العُلَماء والصنَّاع في شتَّى العلوم، وحصل "أن استدعوا كِبار علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعة؛ ليطلعوهم على عَجائِب العلوم الجديدة، من ذلك مثلًا: أنْ يوقفوهم صفًّا، مشبكي الأيدي، جارًا مع جاره، ثم يمسُّون الواقف بسلكٍ مكهرب، فتَسرِي رعدة الكهرباء في جميعهم، وأمَّا هم فيأخذهم العجب، وأمَّا العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك، ولقد حدَث يومًا أنِ اغتاظَ من تلك الألاعيب الصبيانيَّة أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانًا موجودًا هنا موجودًا في بلاد الغرب في وقتٍ واحد؟ فأجابوا بقولهم: إنَّه ليس في علومهم ذلك؛ لأنَّه محال، فردَّ هو قائلًا: لكن ذلك ممكن في علومنا الروحانيَّة"، نقلًا عن "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" (ص 92)، نقلًا عن مقال في جريدة الأهرام للأستاذ زكي نجيب محمود، وهو من المتخصصين في تأريخ الحملة الفرنسيَّة، كما يذكر محمود شاكر. فتلك الحادثة وغيرها شاهدة على انحِطاط التصوُّف بالعقول، وإخراجها عن آفاق العلم والعمل الداعمين للحضارة والاستِخلاف في الأرض، إلى مُصادَمة السنن، ومُعارَضة مُقتَضيات الاستِخلاف والنُّهوض. وكان أولى من توهُّم الخرافات علومًا تُدفع بها الحقائق المدعومة بالسَّير على السنن الثابتة، كان أولى من هذا الاعترافَ بتفاوُت القدرة الحضاريَّة بين الخصمَيْن، والاستعلاء بالإيمان عليها، حتى نأخُذ بأسبابها وتتحقَّق لنا كما تحقَّقت لغيرنا. وفي حديث الجبرتي - رحمه الله - عن دخول الفرنسيس الإسكندريَّة قبل القاهرة، يقول: "وقد كانت العُلَماء عند توجُّه مراد بك - أي: لملاقاة الفرنسيس - تجتمع بالأزهر كلَّ يوم ويقرؤون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير، ويعمَلون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء"، (4/ 70). فكان البخاري يُقرَأ ليُتبارك بألفاظه، لا للتدبُّر في أحكامه وتعاليمه والعمل بها! هذا إذا رضينا بتأخُّر المشايخ عن الصفِّ، وعن تحريض المجاهدين من خلف الصف، إنَّنا لا نُحاكِم المشايخ وقد كُوِّنوا تكوينًا في بيئتهم تلك، بقدر ما نُحاكِم المنهج الصوفي ونتتبَّع آثاره في التصوُّر والفكر والعمل. وإنْ كان حديثنا هنا عن التصوُّف وأثره الفكري على مهامِّ الاستِخلاف التي خوَّلَناها الله - تعالى - فإنَّه تجدر الإشارة إلى أنَّ كلَّ فكرٍ مصدرُه العقل البشري لا تتمُّ له هذه المهمَّة المنوطة بالإنسان في الأرض، والبِدَع باعتبارها خليطًا بين التشريعات السماويَّة وبين الاستِحسانات المحدَثة عليها، فهي بشريَّة كذلك، وكذا سائر المناهج البشريَّة، فإنَّ تصوُّرها عن الكون وعلاقة الإنسان بخالقه فيه وعلاقته بالإنسان - يعتَرِيه النَّقص في أداء الاستِخلاف البشري في الأرض، وإن بهرنا في ظاهره الحضاري، فإنَّه أضاع جوهر وغاية تلك المهمَّة، التي لا تكتَمِل مقاصدها، والتي لا تسلم وسائلها، إلاَّ في الإسلام المُصفَّى من البِدَع ومن الأفكار الدَّخيلة عليه. أثَر الأعمال البدعيَّة على البناء الحضاري: كذلك يمكننا أنْ نستخلص ضعْف البناء الحضاري في تلك الحقبة التاريخيَّة؛ من استهلاك البِدَع العمليَّة لجهود مَن افترض فيهم القيام بأمر الأمَّة، بما في ذلك مصالح دنياهم، لا سيَّما ونحن نتكلَّم عن بِدَع تنقل أصحابها من واقع الناس وحياة المجتمع إلى مُغَيَّبات الروحانيَّات الصوفيَّة، فتعزل الدين عن الواقع، وعن سياسة الدنيا بالدِّين، فلا يَبقَى للدنيا إلا نهابها من أُمَراء وحُكَّام، لا يُراعون غير أهوائهم، ولا يُشغَلون بغير صِراعاتهم، ولا يَحصد سوءَ أفاعيلهم إلاَّ العامَّةُ والدهماء، فمن أين يأتي الإصلاح؟ وعلى ماذا يقوم البناء؟ عود على بدء: في تلك البيئة السياسيَّة والدينيَّة خرَج العلاَّمة حسن الجبرتي ليَسُوس الدنيا ويُواكِب الحضارات المُعاصِرة بعقليَّة رجل الدين المتفتِّحة المتقدِّمة، وللحديث تتمَّة - إن شاء الله تعالى - والحمد لله ربِّ العالمين، وصَلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (4) حسن عبدالحي النسب والتعريف: هو أبو التداني، حسن بن إبراهيم بن حسن بن علي بن محمد بن عبدالرحمن، ويُلقَّب العلامة حسن بالزيلعي، أو الجبرتي، أو العقيلي، أو الحنفي. ووقع في طبعة "الجيل" المنتشرة لـ"تاريخ الجبرتي" (أبو التدائي) بالهمز، لا (أبو التداني) بالنون، وأظنُّه تحريفًا، والصواب بالنون؛ لأنَّه في نفس طبعة "الجيل"، في منتصف الترجمة "أبو التداني". قال عبدالرحمن الجبرتي: وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة، تحت حكم الخطي ملك الحبشة، وهم عدَّة بلاد معروفة تسكُنها هذه الطائفة، وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهَبُون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير، ويُنسَبون إلى سيدنا أسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أميرهم في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - النجاشي المشهور الذي آمَن به ولم يره، وصلَّى عليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاةَ الغيبة كما هو مشهورٌ في كتب الأحاديث، وهم قومٌ يغلب عليهم التقشُّف والصَّلاح، ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمُجاوَرة في طلب العلم، ويحجُّون مُشاةً، ولهم رواق بالمدينة المنورة، ورواق بمكة المشرفة، ورواق بالجامع الأزهر بمصر، وللحافظ المقريزي مؤلَّف في أخبار بلادهم وتفصيل أحوالهم ونسبهم. قلت: ولا يَزال مكان رواقهم في الأزهر موجودًا إلى اليوم، وعليه اللافتة باسمه، ومساحته - تقريبيًّا - مائة متر مكعب أو أقل قليلاً، وقبله - من ناحية الباب المخصَّص للنساء اليوم - الرواق العباسي، وبعده رواق الجبرت، ثم بعده رواق الأتراك، ثم رواق المغاربة، ثم رواق الشوام، وكلها بمساحته تقريبًا، وعليها اللافتات إلى اليوم، وإنْ تغيَّر استخدامها. المولد والنشأة: وُلِدَ العلاَّمة حسن الجبرتي في سنة عشر ومائة وألف، (1110هـ)، ونشَأ ببيت علم خلفًا عن سلف، فبعد أن ارتحل جدُّه الخامس عبدالرحمن - آخِر ما يعرف من نسبه - إلى جدة، ثم إلى مكة والمدينة فلقي بهما المشايخ والعُلَماء، ثم رجَع لجدة، ثم قدم مصر، فجاوَر في الأزهر وتولَّى شيخًا على الرواق، ثم مات بمصر بعد أنْ تزوَّج وخلف ابنه محمدًا، فنشأ هو الآخَر على الصلاح وطلَب العلم، حتى مات وخلَّف ابنه عليًّا، فنشأ على سيرة آبائه، وأعقب عليٌّ إبراهيمَ - والد العلاَّمة حسن - فنشَأ نشوءًا حسنًا، وتزوَّج وأنجَبَ العلاَّمة حسن الجبرتي، ثم مات إبراهيم هذا بعد شهرٍ من ولادة العلامة حسن. ولَمَّا مات والده ربَّته أمُّه ستيتة بنت عبدالوهاب أفندي، بكفالة جدَّته أمِّ أبيه، ووصاية الشيخ العلاَّمة محمد النشرتي، فتربَّى في حجورهم حتى ترعرع. وقد كان لجدَّته أمِّ أبيه فضلٌ كبير عليه، وكانت ذا غنى وثروة، ولها أملاك وعقارات كثيرة، قد أوقفَتْ له أشياء منها، فهيَّأت له سبل الحياة الطيِّبة، وكفَتْه مؤونة العَيْش والانشِغال بأسبابه، حتى إنَّه كان يقول - رحمه الله -: "ما عرفت المصرف واحتِياجات المنزل والعيال إلاَّ بعد موتها". كما كان لشهرة العائلة بالعلم والفضل عاملٌ كبير في تيسير أسباب طلب العلم والقُرب من العُلَماء، يقول عبدالرحمن الجبرتي: "واتَّفق له في أثناء ذلك - طلب العلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنَّه مرَّ مع خادمه بطريق الأزهر، فنظَر إلى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة، وعليه جَلالة ووَقار، طاعِن في السن، والناس يزدَحِمون على تَقبِيل يده ويتبرَّكون به، فسأل عنه وعرف أنَّه ابن الشيخ الشرنبلالي، فتقدَّم إليه ليقبل يده كغيره، فنظَر إليه الشيخ وتوسمه وقبَض على يده، وقال: مَن يكون هذا الغُلام ومَن أبوه؟ فعرفوه عنه، فتبسَّم وقال: عرفته بالشبه، ثم وقف وقال: اسمع يا ولدي، أنا قرأتُ على جدك، وهو قرأ على والدي، وأحبُّ أنْ تقرَأ عليَّ شيئًا وأجيزك، وتتَّصِل بيننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد، فامتَثَل إشارته ولازَم الحضور عنده في كلِّ يوم". طلبه للعلم: اشتَغَل العلاَّمة حسن الجبرتي بحفظ المتون العلميَّة بعد أنْ أتَمَّ حفظ القرآن وعمره عشر سنين، ثم اجتَهَد في طلب العلوم وحضَر لمشايخ وعُلَماء عصره، وجدَّ في التحصيل حتى فاقَ أهلَ زمانه، وباحَثَ وناضَل ودرَّس بالرواق والمدرسة السنانيَّة ببولاق في سائر العلوم. فجمَع بين العلوم الشرعيَّة وآلاتها، كما أتْقن علم الجبر والمقابلة والحساب والمساحات والفلكيَّات، وأعمال المناسخات والكسورات، واشتَغَل كذلك بتجويد الخط، وتعلَّم اللسان الفارسي والتركي، حتى إنَّ كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتَقِدون أنَّ أصله من بلادهم؛ لفَصاحته في التكلُّم بلسانهم ولغتهم. ولَمَّا كان في عقده الثالث اشتَغَل بالرياضيَّات، فانفَتَح له الباب، وعرف السمتَ والارتفاع، والتقاسيم والأرباع، والميل الثاني والأوَّل، والأصل الحقيقي والمعدل، وخالَط أربابَ المعارف، وكلَّ مَن كان من بحر الفن غارف، وحلَّ الرموز، وفتح الكنوز، واستخرج نتائج الدر اليتيم، والتعديل والتقويم، وحقَّق أشكال الوسائط، في المنحرفات والبسائط، والزيج والمحلولات، وحركات التداوير والنطاقات، والتسهيل والتقريب، والحل والتركيب، والسهام والظلال، ودقائق الأعمال، وانتهَتْ إليه الرئاسة في الصناعة، وأذعَنت له أهلُ المعرفة بالطاعة. وبالجملة فقد أفنى حياتَه في طلب العلوم، ولم يكن يأنف من إتيان أحدٍ لعلمٍ ليس عنده، وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيَّات. أخلاقه وطبائعه: وكانت ذاته جامعةً للفضائل والفواضِل، مُنزَّهة عن النقائص والرذائل، وَقُورًا محتشمًا، مهيبًا في الأعين، معظمًا في النفوس، محبوبًا للقلوب، لا يعادي أحدًا، ولا يخاصم على الدنيا؛ لذلك لا يكرهه أحد ولا ينقم عليه في شيء من الأشياء. وأما مكارم الأخلاق، والحلم والصفح، والتواضع والقناعة، وشرف النفس، وكظم الغيظ، والانبساط إلى الجليل والحقير، كلُّ ذلك سجيَّته وطبعه من غير تكلُّف لذلك، ولا يرى لنفسه مقامًا أصلاً، ولا يعرف التصنُّع في الأمور، ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة، ولا يرضى التعاظُم ولا تقبيل اليد. وكان - رحمه الله - عذب المورد للطالبين، طلق المحيَّا للوَاردين، يُكرِم كلَّ مَن أمَّ حماه، ويُبلِّغ الراجي مناه، والمقتفيَ جَدواه، والراغب أقصى مَرماه، مع البشاشة والطَّلاقة، وسَعة الصدر والرياقة، وعدم رؤية المنَّة على المحتدي، ومسامحة الجاهل والمعتدي. شهرته وعلاقته بأكابر السلاطين والأمراء والمشايخ: وله منزلة عظيمة في قلوب الأكابر والأمراء والوزراء والأعيان، ويسعَون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات، ويرسل إليهم فلا يردُّون شفاعته، ولا يتوانون في حاجةٍ يتكلَّم فيها، وله عندهم محبَّة ومنزلة في قلوبهم زيادة عن نُظَرائه من الأشياخ؛ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم، ورغبتهم فيما يَعلَمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره، وخصوصًا أكابر العثمانيين والوزراء وأهل العلوم والفُضَلاء منهم، وكلُّ ذلك مع العفَّة والعزَّة، وعدم التطلُّع لشيءٍ من أسباب الدنيا بوَظِيفة أو مرتب أو فائظ أو نحو ذلك. وكان بينه وبين الأمير عثمان بك ذي الفقار صحبة ومحبَّة، وحجَّ في أيَّام إمارته على الحج مُرافِقًا له ثلاث مرَّات من ماله وصلب حاله، ولم يصله منه سوى ما كان يُرسِله إليه على سبيل الهديَّة، وكان منزل سكنه الذي بالصنادقيَّة ضيقًا من أسفل وكثير الدرج، فعالَجَه إبراهيم كتخدا على أنْ يشتري له أو يبني له دارًا واسعة، فلم يَقبَل، وكذلك عبدالرحمن كتخدا. وأرسَلَ إليه السلطان مصطفى كتبًا من خِزانته، وكذا أكابر الدُّول في مصر وتونس والجزائر وغيرها. ولَمَّا دخَل أحمد باشا مصر واليًا عليها، والتَقَى العلماء والمشايخ، وسألهم عن مقصوده في علم الرياضيات دلَّه الشيخ عبدالله الشبراوي على العلاَّمة حسن الجبرتي وأطنب في ذكره، فقال له الباشا: ألتمس منكم إرساله عندي، فقال له الشيخ: يا مولانا، إنَّه عظيم القدر، وليس هو تحت أمري، فقال: وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال تكتبون له إرساليَّة مع بعض خواصِّكم، فلا يسعه الامتناع، ففعل ذلك، وطلع إليه العلامة حسن ولبَّى دعوته، وسُرَّ الباشا برؤياه، واغتبط به كثيرًا، وكان يتردَّد إليه يومين في الأسبوع، وأدرك منه الباشا مأموله، وواصَلَه بالبر والإكرام الزائد الكثير، ولازَم المطالعة عليه مدَّة ولايته، وكان يقول: لو لم أغنم من مصر إلاَّ اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني، وممَّا اتَّفق له - الباشا - لَمَّا طالَع ربع "الدستور" وأتقَنَه، طالَع بعدَه "وسيلة الطلاب في استخراج الأعمال بالحساب"، وهو مؤلَّف دقيق للعلامة المارديني، فكان الباشا يختَلِي بنفسه ويستخرج منه ما يستخرجه بالطُّرق الحسابيَّة، ثم يستخرجه من النجيب فيجده مطابقًا، فاتَّفق له عدم المطابقة في مسألة من المسائل، فاشتَغَل ذهنه، وتحيَّر فكره، إلى أنْ حضر إليه العلاَّمة حسن في الميعاد، فأطلعه على ذلك، وعن السبب في عدم المطابقة، فكشف له علَّة ذلك بديهًا، فلمَّا انجَلَى وجهها على مرآه، كاد عقله يطير فرحًا، وحلف أنْ يُقبِّل يده، ثم أحضر له فروة من ملبوسه السمور باعَها العلامة حسن بثمانمائة دينار، ثم اشتَغَل عليه برسم المزاول والمنحرفات حتى أتقَنَها، فكان الشيخ عبدالله الشبراوي كلَّما التقى العلامة حسن الجبرتي قال له: سترك الله كما ستَرتَنا عند هذا الباشا، فإنَّه لولا وجودك كنَّا جميعًا عنده حميرًا! وكان علي بك الكبير ينتَدِبه لكتابة رسائله المهمَّة، وغيره يستَشِيره في الملمَّات والمهمَّات. وللحديث تتمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين، وصَلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (5) حسن عبدالحي علاقته بأصحابه وتلامذته: كان للعلامة حسن الجبرتي - رحمه الله - ثلاثة مساكن: أحدها بالقُرب من الأزهر، وآخَر بالإبزارية بشاطئ النيل، والثالث تجاه جامع مرزه، فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته، فيُلقي ويُعلِّم. وكان إذا أتاه طالبٌ، فرح به، وأقبَل عليه، ورغَّبه وأكرَمَه، وخصوصًا إذا كان غريبًا، وربما دَعاه للمُجاوَرة عنده وصار من جملة عِيالِه، ومنهم مَن أقام عشرين عامًا قِيامًا ونِيامًا لا يتكلَّف إلى شيءٍ من أمر معاشه، حتى غسْل ثيابه! من غير مللٍ ولا ضجر. فأنجب عليه كثيرٌ من علماء وقته المحقِّقين طبقةً بعد طبقةً، وكان ربما قام أحد المشايخ من بين تلامذته فيَسأله عن المسألة أشكلت عليه، ثم يَعُود وقد أَروَى غليلَه بالجواب إلى طلابه. آثاره الإصلاحيَّة الحضاريَّة: وكان قد اجتَمَع عنده ممَّا اقتناه من الكتب في سائر العلوم شيءٌ كثير جدًّا، قلَّما اجتمع ما يُقارِبها في الكثرة عند غيره من العُلَماء أو غيرهم، وكان سموحًا بإعارتها وتغييرها للطلبة، وذلك كان السبب في إتْلاف أكثرها وتخريمها وضَياعها، حتى إنَّه كان أعدَّ محلاًّ في المنزل ووضع فيه نسخًا من الكتب المستعملة التي يَتداوَل عُلَماء الأزهر قراءتها للطلبة، فكانوا يأتون إلى ذلك المكان ويأخذون ويُغيِّرون وينقلون من غير استئذان، فمنهم مَن يَأخُذ الكتاب ولا يردُّه! ومنهم مَن يُهمِل التغيير فتضيع الكراريس، ومنهم مَن يُسافِر ويتركها عند غيره، ومنهم مَن يُهمِل آخر الكتاب، ويتَّفق أنَّ الاثنين والثلاثة يشتركون في الكتاب الواحد والنُّسخة الواحدة، ولا بُدَّ من حصول التَّلَف من أحدهم، ولا بُدَّ من حُصول الضَّياع والتَّلَف في كلِّ سنة، وخُصوصًا في أواخر الكتب عندما تفتر هممهم، واقتنى أيضًا كتبًا نفيسة خِلاف المتداولة، واجتمع لديه من كتب الأعاجم شيء كثير! وكذلك الآلات الفلكيَّة من الكرات النحاس، التي كان اعتنى بوضعها حسن أفندي الروزنامجي بيد رضوان أفندي الفلكي، ولَمَّا مات حسن أفندي المذكور اشترى جميعها من تركته، وكذلك غيرها من الآلات الارتفاعيَّة، والميالات، وحبق الأرصاد والإسطرلابات، والأرباع، والعدد الهندسية، وأدوات غالب الصنَّاع؛ مثل: النجَّارين، والخرَّاطين، والحدَّادين، والسمكريَّة، والمجلدين، والنقَّاشين، والصوَّاغ، وآلات الرَّسم والتقاسيم. وكان يجتمع به كلُّ مُتقِن وعارف في صناعته؛ مثل: حسن أفندي الساعاتي، وكان ساكنًا عنده، وعابدين أفندي الساعاتي، وعلي أفندي رضوان، وكان من أرباب المعارف في كلِّ شيء، ومحمد أفندي الإسكندراني، والشيخ محمد الزبداني وكان فريدًا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان. وحضر إليه طلاب من الإفرنج، وقرؤوا عليه علم الهندسة، وذلك سنة تسع وخمسين، وأهدوا له من صَنائِعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشَرُوا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القول إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة، مثل طَواحِين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وغير ذلك. وفي أيَّام اشتغاله بالرسم، رسَم ما لا يُحصَى من المزاول على الرخامات والبلاد الكدان، ونصبها في أماكن كثيرة، ومساجد شهيرة، وغير ذلك بمنازله، حتى إنَّ الخدم تعلَّموا ذلك فصاروا يقطَعُون البلاط بالمناشير، ويمسَحُونه بالمماسح الحديد والمبارد، ويهندسون اعتِداله بالمساطر والقِياسات بالبياكير، بل ويرسمونه أيضًا. ولَمَّا تمهَّر الآخِذون عنه والمُلازِمون عنده، ترَك الاشتِغال بذلك وأحال الطلاَّب عليهم، فإذا كان الطالب من أبناء العرب تقيد بتلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوى، وإنْ كان من الأعاجم والأتراك تقيد بمحمود أفندي النيشي. كما كان له آلات صناعيَّة كثيرة نافعة. واتَّفَق أنَّه في سنة اثنتين وسبعين وقَع الخلل في الموازين والقبابين، وجُهِل أمر وضعها ورسمها، وبعُد تحديدها وريحها، ومشيلها واستِخراج رمامينها، وظهَر فيها الخطأ، واختَلفَتْ مقادير الموزونات، وترتَّب على ذلك ضَياع الحقوق وتلاف الأموال، وفسَد على الصُّنَّاع تقليدهم الذي درَجُوا عليه، فعند ذلك تحرَّكت همَّة العلاَّمة حسن لتصحيح ذلك، وأحضر الصُّنَّاع من الحدَّادين والسبَّاكين، وحرر المثاقيل، والصنج الكبار والصِّغار والقرسطونات، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي، والوَضْع الهندسي، وصرَف على ذلك أموالاً من عنده، ثم أحضَرَ كبار القبانيَّة والوزَّانين، وبيَّن لهم ما هم عليه من الخطأ، وعرَّفَهم طريقَ الصواب في ذلك، وأطلَعَهم على سِرِّ الوَضْعِ والصَّنعة ومكنونها، وأحضَرُوا العُدَد وأصلَحُوا منها ما يُمكِن إصلاحه، وأبطَلُوا ما تقدَّم وضعه وفسَدَت لقمه ومراكزه، وقيَّدوا بصناعة ذلك بعض أسطوات الصنعة، حتى تحرَّرت المَوازِين، وانضَبَط أمرُها، وانصَلَح شأنها، وسَرَتْ في الناس العَدالَةُ الشرعيَّة المأمورِين بإقامتها، وقد استمرَّ العملُ في ذلك أشهرًا، وهذا هو السبب الحامل له على تَصنِيف كتاب "الدر الثمين في علم الموازين"، وهذا هو ثمرة العلم، ونتيجة المعرفة والحكمة. ثم اشتَغَل في آخِر حياتِه بِمُدارَسة الفقه وإقرائه، ومراجعة الفتاوى والتحرِّي في الفروع الفقهيَّة والمسائل الخلافيَّة، وانكبَّ عليه الناسُ يستَفتُونه في وَقائِعهم ودَعاواهم، وتقرَّر في أذهانهم تحرِّيه الحقَّ والنُّصوص، حتى إنَّ القُضاة لا يَثِقُون إلاَّ بِفَتواه دون غيره. همَّته وعِبادته: كان أكثَرُ نومِه وهو جالسٌ، وله مع الله جانبٌ كبير، كثير الذِّكر، دائم المُراقَبة والفِكر، يَنام أوَّلَ الليل، ويَقوم آخِره فيُصلِّي ما تيسَّر من النَّوافِل والوتر، ثم يشتَغِل بالذِّكر حتى يطلع الفجر، فيُصلِّي الصبح ويجلس كذلك إلى طُلُوع الشَّمس، فيضطجع قليلاً أو يَنام وهو جالسٌ مستندًا، وهذا دأبه على الدَّوام. ويُحاذِر الرِّياء ما أمكَنَ، فيَصُوم رَجب وشَعبان ورَمضان ولا يَقول: إنِّي صائم، وربما ذهَب إلى بَعْضِ الأعيان أو دُعِي إلى وليمةٍ فيَأتُون إليه بالقَهوة والشربات فلا يرد ذلك، بل يَأخُذها ويُوهم الشرب، وكذلك الأكل، ويضايع ذلك بالمؤانسة والمباسطة مع صاحِب المكان والجالسين. وكان مع مُسايَرته للناس وبَشاشَتِه ومُخاطَبته لهم على قدْر عقولهم - عظيمَ الهَيْبَةِ في نُفُوسِهم، وَقُورًا محتشمًا، ذا جلال وجمال. اشتغاله بالتجارة: ومع كامل انشِغاله بالعلوم وتحصيلها، والإفادة بأنواعها، كان يُعانِي التجارة والبيع والشِّراء، والمُشارَكة والمُضارَبة والمُقايَضة. صفته: كان مربوع القامَة، ضخْم الكَرادِيس، أبيَضَ اللون، عظيم اللحية، منوَّر الشيبة، واسِع العينَيْن، غزير شعر الحاجبين. ثَناء الناس عليه: قد مدَحَه تلامذته وأصحابُه وأقرانُه، وكتَبُوا في مَدحِه قَصائِدَ وأشعارًا في حياته، فكان يَقبَلها منهم ثم يحرقها بعد انصِرافهم؛ لأنَّه لم يكن يرى لنفسه فضلاً أو مكانةً! ولهذا لم يتوفَّر منها شيءٌ بعد مماته. وفاته: تُوفِّي يوم الثلاثاء قُبَيلَ الزَّوال غرَّة شهر صفر من سنة 1188 هـ، وجُهِّز في صبح يوم الأربعاء، وصُلِّيَ عليه بالأزهر بمشهدٍ حافل جِدًّا، ورَثاه تَلامِذته وأصحابه بقَصائِد كثيرة. وللحديث تتمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحبِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (6) حسن عبدالحي كانت تلك حَياةَ العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله تعالى - بكلِّ جوانبها الفكريَّة والعلميَّة والعمليَّة، كما كان هذا هو المجتمعَ الذي نشَأ فيه، والذي كان محلاًّ لعمله الإصلاحي وبنائه الحضاري. ففي الوقت الذي انشَغَل فيه حُكَّام مصر بالدُّنيا والتَّصارُع عليها، وانشَغَل فيها عُلَماؤُها ومَشايِخها ببعض واجِبات التعليم الشرعي، وببعض الدنيا، وببعض البِدَع المُستَهلِكة للجهود والأعمال، في هذه البيئة التي قلَّ فيها أو انعَدَم المُصلِحون، الذين يَأخُذون الدُّنيا بالدِّين، ويَسُوسون الناسَ بشرع ربهم، والذين يَعمَلون على نهضات الأُمَم وقت استِرخائها وفتورها، لتُواكِب الأُمَم، ولتَتسابَق نحو التقدُّم الحضاري، ولتَفرِض نفسَها على الساحة العالميَّة، وتضمن البَقاءَ عزيزةً مَهِيبة كما كانت، وكما أرادَ الله لها. في هذا الوقت، كان للعلاَّمة حسن الجبرتي عملٌ آخَر، فجمَع بجانب العِلمِ الشرعي العلمَ الإنساني، فطالع ما تيسَّر له منه، حتى شُهِدَ له بالبَراعَة في كلِّ علمٍ يقف عليه، وكلِّ صَنعةٍ يُطالِعُها، وحتى سابَق أهلَ الفنون في فنونهم. لا لشهوة المعرفة، بل لسَعيِه لرفعة أمَّته، وشاهِدُ صِدقِه بذْلُه بعدَ ذلك وقتَه وجهدَه للعمل والتعليم، ولو كان الأمر أمرَ معرفةٍ فحسب، لما تبع المعرفةَ عملٌ وبذلٌ وعطاءٌ، حتى إنَّ مَنازِلَه كانَتْ بِمَثابَة المكتبات العامَّة تارَةً، وبِمَثابَة المَصانِع والوِرَش تارَةً أخرى، وبِمَثابَة مُجمَّعات السَّكَن للطلاَّب والوافدين والمُعدمين والأساتذة تارَةً ثالثة! يدعم حركته العلميَّة الصناعيَّة بماله الخاص، ويُتابِع مُتطلَّبات الواقع وحاجاته، فيَعمَل على سَدِّها والإقامة بواجب الجماعة فيها، تتَّسِع شُهرَته، ويذيع صِيته، فلا يتنكَّب لحاله الأولى، بل يَسِير وفْق مُقتَضيات العبوديَّة، ووفق خُطوات المُصلِحين قبلَه. التصوُّر البنَّاء: ولأنَّ التصوُّر الفكري هو المحرِّك الأوَّل للعمل والسُّلوك، فإنَّ أوَّل ما يجب أنْ نُلقِي عليه الضوء في حياة العلاَّمة حسن الجبرتي هو ذلك الجانب المُؤثِّر والخالق لحياة المُصلِحين في كلِّ زمان. والتصوُّر الإصلاحي نِتاج فهمٍ لِمَقاصِد الشَّريعة المحمَّدية، التي جاءَتْ ليعمَّ الناسَ الخيرُ في الدنيا والآخِرة، والتي جاءَتْ كذلك مَنُوطةً بالحكَّام والعُلَماء، فإنْ أخلَّ بها الأوَّلون، أقامَها الآخِرون حسب طاقاتهم وإمكانيَّاتهم. والتصوُّر الإصلاحي كذلك نِتاجُ فهْم للواقع، واقع المصلح الذي يَحياه، والذي سيَعمَل فيه بعد الإلمام بإيجابيَّاته وسلبيَّاته. فمن هذين الفهمَيْنِ: فهْم مَقاصِد الشَّرع، وفهْم الواقع - ينبَثِق عند المُصلِح الشعورُ بالحاجة إلى التغيير وفْق ما يُحسِن، ووفْق ما يستَطِيع، وتلك هي بِدايَات الانطِلاقَة نحو العمل الإصلاحي. ومن خَصائِص التصوُّر الإسلامي أنَّ العمل الإصلاحي والبِناء الحضاري وظيفةٌ من وظائف العبوديَّة، حَثَّ عليها الإسلام، وجلَّى حقيقتَها، وعلى هذا التصوُّر بُنِيَت الحضارة الإسلاميَّة في شَكلِها الفردي والجماعي. لهذا كان أَوْلَى الناسِ بإقامة الدُّنيا وتحقيق الاستِخلاف فيها على الوَجْهِ الذي أرادَه الله - تعالى - هم العُلَماء الذين اكتَملتْ فيهم واكتَملتْ بهم تلك التصوُّراتُ البنَّاءة، وقد تخلَّى أولو الأمر من ذوي السُّلطان عن دورهم، وهذا ما وَعاه العلاَّمة حسن الجبرتي من دَوْرِ العُلَماء المُصلِحين، وبهذا اتَّسعَتْ مَجالات علمِه وعمَلِه بين العلوم والصِّناعات. لقد أدرَكَ العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله - أنَّ واجب المُصلِح في زَمانِه أكبر من دور الواعظ في المسجد، أو دور الشيخ يلتفُّ حوله طلاَّبه، أو دور العالم يُباحِث ويُناظِر على الحقِّ، نعم، هذا كلُّه من مهامِّ الإصلاح، لكن دور المُصلِحين أكبَر وأعمَق، إنَّه دورُ القائد يُلبِّي احتِياجات أمَّته المختلفة ما استَطاع إلى ذلك سبيلاً، فيَنظُر الخلل فيسُده، ويَنظُر الآفة فيقتَلِعها، يُجاهِد على تصوُّره لدَورِه حتى آخِر نفَس. وما أحرى أنْ نتربَّى ونُربِّي شَبابنا على شموليَّة هذا التصوُّر البنَّاء، فتخرج أجيال تَعِي مسؤوليَّتها ودورَها الحقيقيَّ نحو الإصلاح والبِناء، بعيدًا عن اجتِزاء دورهم، وتَشوِيه فِكرِهم، وبَتْرِ أعمالهم، ما أحوَجَنا لتغذية التصوُّر الكامل لأدوار المُصلِحين حتى نتَجاوَز الأزمة! العمل ومقوماته: ويَتْبع التصوُّرَ الفكري لدَوْرِ المُصلِح العملُ، ومُقوِّمات العمل الهمَّةُ في تَحصِيله، ورَجاحة العقل في استِيعابه، وكرَم النَّفس في بَذلِه، وتلك جميعها - وغيرها - من صِفات النَّفس التي لا يُؤتِي العمل ثمارَه بغيرها. وبتلك الصِّفات وغيرها استَطاع العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله - التقوِّي على مُتطلَّبات الإصلاح والبِناء الكثيرة، فاستَطاع بهمَّته العالية طلَب العلوم المختلفة، ثم استِيعابها على الوَجْه المؤهِّل لإخراجها إلى حيِّز التفعيل العملي برَجاحَة عَقلِه، ثم بذلِها وإحيائها بكرَمِ نفسه وانتظار ثواب ربِّه - تعالى. فللمُصلِح صِفات تُزوِّده في رحلة البناء؛ ولهذا لا تتحقَّق قِيادة حركات الإصلاح والبناء لكلِّ أحدٍ، نعم، يُسهِم الجَمْعُ في تشييد الحضارة، ولكن لا يَقُود حركة البِناء والحضارة غير مَن اتَّصَف بصِفات القائد المُصلِح. فكم صبَر العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله - على تَعلُّم العلوم المختلفة؟ وكم جاهَد في إخراج الصِّناعات من طَوْرِ التَّنظِير العلمي إلى التحقيق الفعلي؟ إنَّ هذا الصبر، وإن هذه المجاهدة، عاملان آخَران للشخصيَّة البنَّاءة، التي تَحوِي كثيرًا من الصِّفات الفعَّالة والضروريَّة لخلق شخصيَّة المُصلِح القائد. وتتجَلَّى لنا في شخصيَّة العلاَّمة حسن الجبرتي من صِفات العَباقِرة والمُبدِعين الكثير والكثير غير ما أشرنا إليه منها، فليس الغرَض تقصِّيها بقدر الإشارة إلى دَوْرِها وفعاليَّتها في نَجاح خطَّته الإصلاحيَّة بها. وأكثر الدُّعاة المُصلِحين اليومَ تُعجزهم صفاتهم المحرِّكة عن مَأمُولهم الإصلاحي، فيَفُوتهم ويَفُوت أمَّتهم من الخير على قدر ما فرَّطوا فيها. الأخلاق الممهدة: ثَمَّ أخلاق مهَّدت للمُصلِحين الطريقَ نحو الإصلاح والبِناء، تلك الأخلاق عاملٌ أساسٌ في شخصيَّة المُصلِح البنَّاء، إنها بِمَثابَة إعلانٍ منه على صدق مقصده، وإرادَته للخير والرشاد. نَلمَح في سِيرَة العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله تعالى - منها الكثير، فهو المُتعفِّف عمَّا في أيدي عليَةِ الناس من السَّلاطين والأُمَراء والتجَّار، رغم ما جُمِع له من الصيت والشُّهرة بينهم، ثم حاجتهم إليه، وهو المُتواضِع مع الطلاَّب والفُقَراء والأصدقاء، رغم فضله عليهم وسِيادته بينهم، وهو الكريم الجواد الذي لا يَمنَع أحدًا خيرًا يستطيعه. إنَّه لا سبيل لعملٍ إصلاحي بين الناس وفي الناس بغير أخلاقٍ عالية تُوازِي عملنا الإصلاحي، وكم من خُلقٍ يحجب بيننا وبين الخير نلتَمِسه ممَّن حولنا. يَبقَى أنْ نُشِير إلى عامل التوفيق الذي مفتاحه دَوام الصلة بالله - تعالى - نَلحَظ هذا جَلِيًّا في الجانب الخفي في حَياة العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله - فقد كان كثيرَ الصلاة بالليل، دائمَ الذِّكر، مُحافِظًا على الصِّيام، فأنَّى لِمِثلِ هذا أنْ يخذله ربُّه أو يُعرِض عنه؟ ذلك هو العلاَّمة حسن الجبرتي - رحمه الله تعالى - وذلك هو تصوُّره الإصلاحي، وتلك هي صِفات نفسه التي أهَّلَتْه للعمَل، وتلك هي أخلاقه التي مهَّدت له الطريقَ للبناء والإصلاح، إنّنا بِحَقٍّ أمام شخصيَّة إصلاحيَّة جديرة بدِراسة أَوفَى وأجمع؛ لا لنفتَخِر بها فحسب، ولكن لنستفيد من شموليَّتها في النَّظرة للدُّنيا والدِّين معًا. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |