|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (11) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا شكَّ أنَّنا أمامَ رَجُلٍ أعاد إلينا ثقةً في ماضِينا الغابِر، وثقةً في حاضرِنا الرَّاهِن؛ فمنذ شبابِه الباكرِ وحمايةُ تُراثِ الأُمَّةِ وثقافتِها هو هدفُه الأعلى، واتِّجاهُه الأسمى. وقد رأينا في المقالِ السَّابقِ كيف كان يبحثُ عن نقاءِ عقيدتِه، وتحقيقِ عُرُوبتِه! ولا عَجَبَ في هذا مِن رَجُلٍ تَرَبَّى في بيتِ عِلْمٍ ودِيانةٍ، وإيمانٍ واستقامةٍ؛ فتَحَوَّلَتْ عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ دمًا في عُرُوقِه، وعَصَبًا في رأسِه؛ فقد قال تلميذُه الدُّكتور محمود الطَّناحي (1935 - 1999م) في "مقالاته" (2/ 523): "ولَعَلَّ الذي زهَّد شيخَنا في الجاحِظِ هو مُيولُه الاعتِزاليَّةُ، والشَّيخُ كما هو مَعروفٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ والأثَرِ") (انتهى). وقال الشَّيخُ محمود شاكر نَفْسُه في حقِّ محمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" (2/ 1202 - 1203) لتلميذه الدُّكتور عادل سليمان جمال-: "وفَتَح عينَيه على ما يَعُمُّ نَجْدًا والبِلادَ التي زارها مِن البِدَعِ التي حدَثَت، وما غَمَر العامَّةَ والخاصَّةَ مِنَ الأعمالِ والعقائِدِ الحادِثةِ، والتي تُخالِفُ ما كان عليه سَلَفُ الأُمَّةِ مِن صَفاءِ عَقيدةِ التَّوحيدِ، وهي رُكْنُ الإِسلامِ الأكبَرُ، فلمَّا عاد إلى نجدٍ لَم يَقنَعْ بتأليفِ الكُتُبِ، ورأى أنَّ خَيْرَ الطُّرُقِ هو أن يَتَّجِهَ إلى عامَّةِ النَّاسِ في نَجدٍ؛ لِيرُدَّهُم عن البِدَعِ المُستحدَثةِ، ويَسلُكَ بهم طريقَ السَّلَفِ في العَمَلِ والعَقِيدةِ" (انتهى). ويقول ابنُه الدُّكتور فِهْر محمود شاكر: "كانت الحِدَّةُ شيئًا أساسيًّا في طِباعِه -رحمه الله-، لكنَّها كانت تَظهرُ في مَواقفَ مُعيَّنةٍ، حينما يَقرأُ أو يَسمعُ ما يَمَسُّ أيًّا ممّا يُؤمِنُ به وما وَهَبَ حياتَه له، كأنْ يَقرأَ تَطاوُلاتٍ على الإسلامِ أو العربيَّةِ، أو يَقرأَ خَوْضًا في حياةِ وسِيَرِ الصَّحابةِ ورجالِ التَّاريخِ الإسلاميّ" (انتهى). وقبل أن أَطْوِيَ هذه الصفحةَ مِن صفحاتِ حياتِه الحافلةِ بالأحداثِ، أُحِبُّ أن أَذْكُرَ قِصَّةً قصيرةً حدثت له في أثناءِ هذه الرِّحلةِ، ذكرها في مجلسٍ مِن مَجالسِه العامرةِ في عاشوراء المحرم (1404 - أكتوبر 1983)؛ فقد قال -رحمه الله-: "أنا كنتُ صغيرًا، كنت مُهاجرًا، خرجتُ من مِصرَ بعد أن تركتُ الجامعةَ في سبيلِ قضيَّةٍ لا يَعلَمُ خَبَاياها إلا اللهُ -تعالى-، وأقمتُ بين جُدَّة ومكة سنتَين، وخرجتُ مِن مِصرَ مُهاجرًا على ألّا أَعُودَ إليها. ولَم تَكُنْ جزيرةُ العربِ في ذاك الوقتِ مُغْرِيَةً لا بالمالِ ولا بشيءٍ، فكانت هجرةً مِن القلب. ومِن الغرائبِ: أنِّي كان لي صديقٌ، وهو الأستاذُ حسين نصيف، ابنُ محمد أفندي نصيف عظيم جُدَّة، وكانت بيني وبينهم مَوَدَّةٌ، فحَمَلُونِي على أن أَتَزَوَّجَ، في سنة 1929، فخطبتُ امرأةً مِن الحجاز، ولكن حَدَثَتْ حادثةٌ وأنا في السُّعوديَّةِ جعلتْني أَعْزِمُ فَوْرًا على أن أَعُودَ إلى مِصرَ كما عَزَمْتُ على أن أُهَاجِرَ منها قبل ذلك على خلافِ إرادةِ والدِي وأساتذتِي جميعًا في الجامعةِ وفي غير الجامعة. فعدتُ إلى مِصرَ في سنة 1929، وهي السَّنةُ التي وُلِدَتْ فيها أُمُّ فِهْرٍ، وهي الحفيدةُ الصُّغْرى مِن أحفادِ الشَّيحِ حسن الكفراوي (ت 1202هـ - 1788م)، شارحِ الآجُرُّومِيَّة...) (انتهى). والحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (12) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ وقفاتٌ مع هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر مِن مِصرَ، وعودتِه إليها: الوقفةُ الأُولَى: عِنَايةُ الأستاذِ بتلميذِه، وحِرْصُهُ عليه؛ وقد ظهر هذا في محاولاتِ أساتذتِه المُتكرِّرةِ في إقناعِه بالرُّجُوعِ عن قَرارِه بتركِ الجامعةِ، وقد فصَّلْنا في هذا بما يُغنِي عن الإعادة. الوقفةُ الثَّانيةُ: تَفَقُّدُ الصَّديقِ صديقَه إذا غاب، وتَعاهُدُه، والسُّؤالُ عن أحوالِه؛ وأَفْضَلُ مثالٍ لهذا: ما فَعلَه معه صديقُه محمود محمد الخضيري بعد ما انقطع عن الجامعةِ؛ فقد قال محمود شاكر -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" (2/ 1108) لِتلميذِه الدُّكتور عادل سليمان جمال-: (وذاتَ يومٍ في الصَّباحِ الباكرِ دخل عليَّ زميلي وصديقي الأستاذُ محمد الخضيري، يَستطلِعُ أمرَ غَيْبَتِي عن الجامعةِ، وكان قد سأل عنِّي مرّاتٍ بالهاتفِ ولَم يَجِدْنِي. فلمّا جلس أفضيتُ إليه بالأمرِ كُلِّه، ففَزِعَ قائمًا، وكاد يبكي، فلمّا أخبرتُه بجميعِ ما في نَفْسِي أَطْرَقَ وسكن، وبقي قليلًا ثم انصرف) (انتهى). ومِن جميلِ ما يُذكَر: أنّ الأحاديثَ التي دارت بين محمود شاكر وزميلِه محمود الخضيري كان لها أثرٌ كبيرٌ، حتى على الخضيري نَفْسِه؛ فيقول الأستاذُ محمود شاكر في مُقدِّمتِه الجديدةِ (1397 / 1977) على كتابِه "المتنبي" (ص 14): (كان مِن أَثَرِ هذه الأحاديثِ بيننا: أنْ بدأ الخضيري مِن يومئذٍ في ترجمةِ كتابِ ديكارت "مقال عن المنهج"، ونَشَرَهُ بعد ذلك سنة 1930 في المطبعة السَّلَفيَّة). وكان مِن أَثَرِهَا أيضًا: أنْ لَخَّصَ الخضيري مقالةَ مرجليوث، ونَشَرَهَا في مَجَلَّةِ "الزَّهراء"، التي يُصْدِرُهَا صاحبُ المطبعةِ السَّلَفيَّةِ، في عددِ ذي الحِجَّةِ سنة 1346 - إبريل 1928) (انتهى). الوقفةُ الثَّالثةُ: وفاءُ التِّلميذِ لِأساتذتِه، ولِكُلِّ مَن أَسْدَى إليه معروفًا، وحِفْظُ الجَمِيلِ لهم، وذِكْرُهُم بالخَيرِ دائمًا؛ وكانت هذه أخلاقَ محمود شاكر، فقد رأينا قَبْلَ ذلك ما قاله في حَقِّ أستاذِه د. طه حسين، على الرَّغْمِ مِن الاختلافِ معه؛ فكان يقول: (فالدُّكتور طه أستاذي، وله عليَّ حَقُّ الهَيْبَةِ، هذا أدبُنا، ولِلدُّكتور طه عليَّ يدٌ لا أنساها... فدخلتُ يومئذٍ بفضلِه كُلِّيَّةَ الآدابِ، قسم اللغة العربية، وحِفْظُ الجميلِ أدبٌ لا ينبغي التَّهاونُ فيه. وأيضًا فقد كنتُ في السابعة عشرة من عمري، والدُّكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتَوْقِيرُ السِّنِّ أدبٌ ارْتَضَعْنَاهُ مع لِبَانِ الطُّفُولَة). ومِن مظاهرِ الوفاءِ في أثناءِ هجرةِ الحِجازِ: ذِكْرُهُ الشَّيخَ "فوزان السَّابق" بالخَيرِ، وتَرَحُّمُهُ عليه، وهو الذي أعانَه على استخراجِ جَوازِ السَّفرِ الذي مَكَّنَه مِن الهجرةِ إلى الحِجازِ؛ فيقول الأستاذُ محمود شاكر -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر" (2/ 1107، 1108): (انقطعتُ عن الذَّهابِ إلى الجامعةِ فجأةً، لَم أَرَ أحدًا مِن زملائي البتَّة، وعزمتُ على أن أُسَافِرَ إلى مَكَّةَ والمدينةِ طَلَبًا لِلْعُزلَةِ، ولَم أُخْبِرْ أحدًا قَطُّ بعَزِيمَتِي إلا رَجُلًا واحدًا، كان قد أطال المُقامَ في مِصرَ، وصار بَعْدُ سَفِيرًا لِلسُّعُوديَّةِ، وهو الشَّيخُ "فوزان السَّابق" -رحمه الله-، كان صديقًا لأبِي وإخوتِي، وكان يَعْرِفُنِي أَوْثَقَ معرفةٍ. استمع الرَّجُلُ إليَّ، وكان وَدِيعًا طَيِّبَ النَّفْسِ، فبَعْدَ لَأْيٍ قَبِلَ أنْ يُعِينَنِي، وأخذتُ عليه العهدَ أن لا يُخْبِرَ أحدًا مِن أهلي بما عزمتُ عليه. ورُحْتُ أسعى سَعْيًا حَثِيثًا حتى استخرجتُ شهادةَ الإعفاءِ مِن الخدمةِ العسكريَّةِ، بَعْدَ دفعِ رُسُومِ "البَدَلِيَّة" -كما كانوا يُسَمُّونَها-، وأعانني الشَّيخُ فوزان حتى استخرجتُ جَوازَ سَفَرٍ بعد جَهْدٍ جَهِيد) (انتهى). ونُكمِلُ هذه المَظاهرَ، وهذه الوقفاتِ، في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية الأستاذ محمود محمد شاكر) (13) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد كان الأستاذُ محمود شاكر مِن الأوفياءِ، الذين يَعتَدُّونَ بالذِّكرى الحَسَنةِ، ويُقدِّرُونَ المَودَّةَ والصَّداقةَ؛ فمِن مَظاهرِ هذا الوفاءِ: وفاؤُه لِأساتذتِه في حياتِهم، وبعد مماتِهم، ومِن أهمِّ هؤلاءِ الأستاذُ: أحمد تيمور باشا، الذي قال عنه -كما ذكرنا في مقالٍ سابقٍ-: "مع فَضْلِ رَجُلٍ عظيمٍ عليَّ وهو مُحِبُّ الدِّين الخطيب، ورَجُلٍ آخَرَ وهو أحمد تيمور باشا، الذي سدَّد خُطاي في كُلِّ ما كنتُ قَلِقًا إليه في ذلك الوقت". فكان يَحتفِي بأحمدَ تيمور كثيرًا، ولِمَ لا يَحتفِي به ويُخَلِّدُ ذِكْراه وله عليه يَدٌ لا تُنسَى؟! حينما أَمَدَّه بمقالةِ مرجليوث قبل التحاقِه بالجامعةِ، فأصبحت الشَّرارةَ التي أوقَدتْ نارَ الصِّراعِ في الجامعةِ، التي لَم تَنطفِئ في حياتِه، ولا بعد وفاتِه. وقد سَطَرَ الأستاذُ محمود حكايتَه مع أستاذِه أحمد تيمور في مُقدِّمتِه الجديدةِ على كتابِه "المُتنبِّي"، وضمَّنَها هُجُومَه المُدَمِّرَ على الاستشراقِ والمُستشرقينَ، بكلماتٍ لا تَصْدُرُ إلا عن كاتبٍ فَذٍّ، لا يَعْرِفُ اللَّغْوَ، والذي تَصْدُرُ عنه الكتابةُ عادةً مُستحكِمةً وطبيعةً مُلازِمةً، فالفكرُ عميقٌ، والأسلوبُ رائقٌ شائقٌ دقيقٌ، والألفاظُ مُنتقاةٌ مُتخيَّرةٌ، تَقَعُ مِن النُّفُوسِ مَوقِعَ الماءِ الباردِ مِن ذي الغُلَّةِ الصَّادي، وتَصِلُ إلى القُلُوبِ دون أن يَحْجُبَها حِجابٌ، أو تُغْلَقَ دونها أبوابٌ. فقال: "وبهذا التَّذَوُّقِ المُتَتابعِ الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه. بمثل هذا الحديثِ كنتُ أفاوضُ الشُّيوخَ الكبارَ ممّن عَرَفْتُهم ولَقِيتُهم، وكان هذا الحديثُ هِجِّيرَاي -أي دأبي وعادتي مِن فَرْطِ النَّشْوة-، فكان يُعرِضُ عنِّي مَن أعرض، ويُرَبِّتُ على خُيلاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بيدٍ لطيفةٍ حانيةٍ. كان مِن هؤلاءِ شيخٌ ساكنُ الهَيْبةِ، رقيقُ الحاشيةِ، ساحرُ الابتسامةِ، رفيقُ اليدِ واللِّسانِ، حُلْوُ المَنْطِقِ، خفيضُ الصَّوتِ، ذَكِيُّ العَيْنَيْنِ، هو أستاذُنا أحمد تيمور باشا -رحمه الله-، فاستمع إلى نَشْوتِي بالشِّعْرِ الجاهليِّ استماعَ مَن طَبَّ لِمَن حَبَّ، كما يُقَالُ في المَثَل. حدَّثتُه مِرارًا، ثمّ جاء يومٌ فالتقَينا، على عادتِنا يومئذٍ (سنة 1925م)، في المكتبةِ السَّلفيَّةِ عند أستاذِنا مُحِبِّ الدِّينِ الخَطِيبِ، فلَم يَكَدْ يجلسُ حتى مَدَّ يدَه إليَّ بعددٍ مِن مَجَلَّةٍ إنجليزيَّة، (عدد يوليه 1925م مِن مَجَلَّةِ الجمعيَّةِ المَلَكِيَّةِ الآسيويَّة)، وقال لي وهو يَبتسِمُ: اقرأْ هذه! فإذا فيها مقالةٌ لِلْأعجميِّ المُستشرقِ مرجليوث، تَسْتَغْرِقُ نَحْوَ اثنتَينِ وثلاثينَ صفحةً مِن هذه المَجَلَّةِ، بعنوانِ: "نشأةِ الشِّعْرِ العربيّ"؛ كنتُ خبيرًا بهذا الأعْجَمِيِّ التَّكوينِ، التَّكوينِ البدنيِّ والعقليِّ، منذ قرأتُ كتابَه عن محمَّدٍ رسولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-. أخذتُ المَجَلَّةَ وانصرفتُ، وقرأتُ المقالةَ، وزاد الأعجميُّ سُقُوطًا على سُقُوطِه؛ كان كُلُّ ما أراد أن يَقُولَه: إنّه يَشُكُّ في صِحَّةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ، لا، بل إنّ هذا الشِّعْرَ الجاهليَّ الذي نَعْرِفُه، إنّما هو في الحقيقةِ شِعْرٌ إسلاميٌّ وضعه الرُّوَاةُ المُسْلِمُونَ في الإسلامِ، ونَسَبُوهُ إلى أهلِ الجاهليَّةِ، وسُخْفًا في خلالِ ذلك كثيرًا؛ ولأنِّي عرفتُ حقيقةَ الاستشراقِ، لَم أُلْقِ بالًا إلى هذا الذي قرأتُ، وعندي الذي عندي مِن هذا الفَرْقِ الواضحِ بين الشِّعْرِ الجاهليِّ والشِّعْرِ الإسلاميّ" (انتهى من مقدمة المتنبي). ونُكمِلُ الحكايةَ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. فاللهمّ يَسِّرْ وأَعِنْ.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (14) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فنُكمِلُ حكايةَ محمود شاكر مع أستاذِه أحمد تيمور باشا، والتي ضمَّنَها هُجُومَه المُدِّمِرَ على الاستشراقِ والمستشرقينَ، بكلماتٍ صدرت عن رَجُلٍ نذر حياتَه لِلدِّفاعِ عن الحقِّ، وتنَفَّس به العُمرُ في ميدانِ الجهادِ، وتمَرَّس بشدائدِ الحياةِ، واستَعذَب الآلامَ في سبيلِ تحقيقِ رسالتِه، ورَاضَ نَفْسَه على أدبِ اللِّسانِ والقلم. قال -رحمه الله-: "ثمّ بعد أيامٍ لَقِيتُ أحمد تيمور باشا، وأعدتُ إليه المَجَلَّةَ، فسألني: ماذا رأيتَ؟ قلتُ: رأيتُ أعجميًّا باردًا شديدَ البُرُودَةِ، لا يَستحِي كعادتِه! فابتسَمَ وتلألأتْ عيناه، فقلتُ له: أنا بلا شَكٍّ أعرفُ مِن الإنجليزيَّةِ فوق ما يَعرِفُه هذا الأعجَمُ مِن العربيَّةِ أضعافًا مُضاعَفةً، بل فوق ما يُمكِنُ أن يَعرِفَه منها إلى أن يَبلُغَ أرذَلَ العُمرِ، وأستطيعُ أن أتَلعَّبَ بنشأةِ الشِّعرِ الإنجليزيِّ منذ شوسر إلى يَومِنا هذا تَلعُّبًا هو أفضلُ في العقلِ مِن كُلِّ ما يَدخُلُ في طاقتِه أن يكتبَه عن الشِّعرِ العربيِّ، ولكن ليس عندي مِن وقاحةِ التَّهَجُّمِ وصَفاقةِ الوجهِ ما يُسوِّلُ لي أن أَخُطَّ حرفًا واحدًا عن نشأةِ الشِّعرِ الإنجليزيِّ؛ ولكن صُرُوفُ الدَّهْرِ التي تَرفَعُ قومًا وتَخفِضُ آخَرينَ، قد أنزلتْ بنا وبِلُغَتِنا وبِأدَبِنا ما يُتِيحُ لِمِثْلِ هذا المسكينِ وأشباهِه مِن المُستَشرقِينَ أن يَتكلَّموا في شِعْرِنَا وأدبِنا وتاريخِنا ودِينِنا، وأن يَجِدُوا فينا مَن يَستمِعُ إليهم، وأن يَجِدُوا أيضًا مَن يَختارُهُم أعضاءً في بعضِ مَجامعِ اللُّغةِ العربيَّةِ! وأَغْضَى أحمد تيمور وهو يَبتسِم. ومرَّت الأيامُ وغَاصَ كلامُ هذا الأعجميِّ في لُجَجِ النِّسيانِ، لأنّ هذا الأعجَمَ وأشباهَه يَدرُسُونَ آدابَنا وشِعْرَنا وتاريخَنا كأنّه نَقْشٌ على مَقبرةٍ عاديةٍ قديمةٍ، مكتوبٌ بِلُغَةٍ ماتت ومات أهلُها وطَمَرَها ترابُ القُرُون! والأسبابُ الدَّاعيةُ لهم إلى ركوبِ هذا المنهجِ كثيرةٌ، أهونُها شأنًا: الأهواءُ والضَّغَائِنُ المُتوارَثة، ولكن أوغلُها أثرًا: أنّ تَوجُّهَهُم إلى هذا المَسلكِ -مَسلكِ الاستشراقِ-؛ هو: أنّ جَمهَرتَهم غيرُ قادرةٍ أصلًا على تَذوُّقِ الآدابِ تَذوُّقًا يَجعلُها حَيَّةً في نُفُوسِهم قبل أن يَكتُبوا. وهم أيضًا مَسلُوبُو القُدرةِ على أن يَبلُغُوا في لسانِهم الذي ارتضَعُوه مع لِبانِ أُمَّهاتِهم مَبلغًا مِن التَّذوُّقِ، يُعِينُهم على التَّعبيرِ عنه تعبيرًا يُتِيحُ لِأحدِهم أن يَكُونَ له شأنٌ يُذكَرُ في آدابِ لسانِه؛ ولهذا العَجزِ آثَرُوا أن يَكُونَ لهم ذِكْرٌ بالكتابةِ في شأنِ لُغاتٍ أخرى يَجهلُها أقوامُهم، وهذا الجهلُ يَستُرُ عوراتِهم عند مَن يقرأ ما يَكتُبون مِن بني جِلْدَتِهم. ولأنِّي خبرتُ ذلك فيما يَكتُبونَ، وفيما يَقولُونَه بألسنتِهم، لَم يَكُنْ لِمِثْلِ هذه الآراءِ في الشِّعْرِ الجاهليِّ وغَيْرِه وَقْعٌ في نَفْسِي يُثِيرُني، اللهمّ إلا ما يُثِيرُ تَقَزُّزِي، فما أَسرعَ ما أُسقِطُ ما أَقرأُ مِن كلامِهم جُملةً واحدةً في يَمِّ النِّسيان" (انتهى). واللهُ المُستعانُ، وبِهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية الأستاذ محمود محمد شاكر) (15) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فمن أساتذة الأستاذ محمود شاكر؛ الذين خلَّد ذِكْرَاهُم، واحتفى بهم: أستاذُه مُحِبُّ الدِّينِ الخَطِيب. ومحب الدين الخطيب هو محب الدين بن أبي الفتح محمد عبد القادر صالح الخطيب، وُلِدَ بدمشق وتعلَّم بالآستانة. حضر إلى القاهرة 1909، وعَمِلَ في جريدة المُؤيَّد، ثمّ قصد العراقَ فاعتقله الإنجليزُ سبعةَ أشهرٍ، ثم ذهب إلى مَكَّةَ المُكرَّمةِ عند إعلانِ الثَّورةِ العربيَّةِ 1916، فحكم عليه الأتراكُ بالإعدامِ غيابيًّا، ثمّ استَقرَّ في مِصرَ سنة 1920، وعَمِلَ مُحرِّرًا في الأهرام، وأنشأ مَجَلَّتَي: الزَّهراءِ والفتحِ، وأنشأ المَطبعةَ السَّلفيَّةَ ومكتبتَها، ونشر كُتُبًا كثيرةً مِن تأليفِه؛ توفي 1969. وقد احتفى به الأستاذُ محمود شاكر كثيرًا في كتاباتِه؛ سأكتفي بِنَقْلِ كلامِه مِن مقالَينِ له: الأوَّل: يَقُولُ الأستاذُ محمود في مقالٍ له في "مَجَلَّةِ العُصُور" (العدد الثاني / 9 ديسمبر 1938 / ص: 44): (لَم يَزَلْ هذا القلبُ يُكلِّفُني مِن عواطفِه يومًا بعد يومٍ، ويُطالِبُني أن أَجْزِيَ عن كُلِّ إحسانٍ بما يُعجِزُني ويُعجِزُه. وحين أصدرتُ العددَ الأَوَّلَ مِن "العُصُور" تَجَلَّتْ له عواطفُ أصحابِه وأحبابِه، وأشرق عليه مِن بِشْرِهِم وترحيبِهِم ما لا وفاءَ لي ولا له ببعضِ مِثْلِه. ومَن حيّاني سِرًّا فأنا أَرُدُّ تَحِيَّتَهُ هنا علانيةً، ومَن قَدَّمَ إليَّ مِن مَعْرُوفِه علانيةً، فأنا أحفظُ له الشُّكْرَ في نَفْسِي ما بَقِيتُ. وأَخُصُّ في هذا المكانِ أستاذيَ الأَوَّلَ ومُرْشِدي وصديقي الأستاذَ مُحِبَّ الدِّينِ الخطيب، صاحبَ "المكتبةِ السَّلفيَّةِ"، و"مَجَلَّةِ الفتح"، وأستاذي وصديقي الأستاذَ أحمد حسن الزَّيّات، صاحبَ "الرِّسالةِ" و"الرِّوايةِ"؛ أَخُصُّهُمَا بِكُلِّ ما أَمْلِكُ مِن هذه الدُّنيا التي يَتنازَعُ عليها الطُّغَاةُ البُغَاةُ، أَخُصُّهُمَا بقلبي وإنْ قَلَّ) (انتهى). الثَّاني: يَقُولُ الأستاذُ محمود في مقالِه "جمعيَّة الشُّبَّان المُسلِمِين"، في "مجلة الفتح" (العدد 401، السنة التاسعة، 16 من ربيع الأول 1353، 29يونيو 1934): (وكنتُ حين تَفَجَّرَ النُّورُ مِن منبعِه الصَّافي، مع أخي -الذي أَشْرَقَتْ عليه- عبد السَّلام هارون، في طريقِنا إلى المطبعةِ السَّلفيَّةِ، يَدفَعُنا الشَّبابُ، وتَثُورُ بنا الفِكْرةُ المُنبعِثةُ مِن الآلامِ التي لَقِينَاهَا حين سَمِعْنَا خبرَ جمعيَّةِ الشُّبّانِ المَسِيحِيَّة. وكانت دارُ المطبعةِ السَّلفيَّةِ -ولَم تَزَلْ- نَبْعَ القُلُوبِ الصَّادِيَةِ، تَرِدُهَا مِن الشَّبابِ فئةٌ قليلةُ الصَّبْرِ على ضَيْمٍ ينزل بِالأُمَّةِ العربيَّةِ مِن ظُلْمِ الاستعمارِ، وعصبيَّةِ الاستعمار. ففي المطبعةِ السَّلفيَّةِ قُلِّدَ السَّيفَ صاحبُه؛ ذلك المُجاهِدُ الرَّابِضُ في مكتبةٍ، يُواصِلُ اللَّيلَ بالنَّهارِ، عاملًا لِأشياءَ قد استَقرَّتْ في نَفْسِهِ فصارت إيمانًا، ودارَتْ على لِسَانِهِ فأصبحت تسبيحًا، وتَرامَتْ عن قَلَمِهِ فكانت جهادًا؛ ذلك هو مُحِبُّ الدِّينِ الخَطِيب) (انتهى). ونُكمِلُ رحلةَ وفاءِ الأستاذِ محمود لِأساتذتِه، ولِكُلِّ مَن أسدى إليه معروفًا، مع سائرِ وقفاتِ هجرتِه إلى الحجازِ وعودتِه منها، في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (16) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فمِن الذين كان محمود شاكر شديدَ الوفاءِ لهم: السَّيِّدُ محمد نَصِيف؛ الذي استضافه في مدينةِ جُدَّة. فقد قال الأستاذُ محمود في مقالِه "الشَّريف الكِتّانيّ"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 82/ إبريل 1933 / ص: 483 - 486): (هُمَا رَجُلانِ أَلَانَ اللهُ لهما مِن صَخْرَتِي أَوَّلَ ما رأيتُهما: السَّيِّدُ الجليلُ "محمد نصيف"، كبيرُ جُدَّة، وعِمادُ الحجاز، والأملُ المُمتَدُّ في جزيرةِ العرب. وهذا السَّيِّدُ المُبارَكُ، مُحَقِّقُ العالَمِ الإسلاميّ، وعُمدَةُ التّاريخِ العربيّ "محمد عبد الحيّ بن عبد الكبير الكِتّانيّ الإدريسيّ"، واحِدُ فاس، وكبيرُ مَراكِش، والعَلَمُ الشّامخُ بين أعلامِ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ في هذا العَصْرِ ما بينَ الصِّينِ إلى رباطِ الفَتْحِ مِن المَغْرِبِ الأقصى) (انتهى). وقال أيضًا في مقالِه "مقاليد الكتب"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 83 / أكتوبر 1933 / ص: 359): (<ماضي الحجازِ وحاضِرُه>: الجُزءُ الأَوَّلُ: تأليف "حسين بن محمد نصيف" بجُدَّة الحجاز، مطبعة خُضير؛ كان غيري أحقَّ بالكتابةِ عن هذا الكتابِ، فإنّ لِلأخِ "حسين" ووالدِه عندي نِعَمًا مَشْكُورَةً ما بَقِيتُ، وأنّ الصَّداقةَ التي بيني وبينه لَتَجْعَلُ بعضَ أخطائِهِ في نَفْسِي بمنزلةٍ مِن الصَّواب) (انتهى). وقد ذكرنا في مقالٍ سابقٍ أنّه قال عن مكتبتِه: لا مَثِيلَ لها في العالَمِ العربيّ. قال خيرُ الدِّينِ الزِّرِكْلِي (ت: 1396) في "الأعلام" (ج 6 / ص: 107، 108): "محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد نصيف: عالِمُ جُدَّة، وصَدْرُها في عصره؛ وُلِدَ بها، وتُوفِّي مُستَشفِيًا بالطَّائفِ، ودُفِنَ بِجُدَّة". مات والدُه وهو صَغِيرٌ، فربّاه جَدُّهُ عُمَر؛ وأُولِعَ بالكُتُبِ فجمع مكتبةً عظيمةً، ونشر كُتُبًا سلفيَّةً وأعان على نشر كثيرٍ منها، وكَتَبَ في الرُّدُود. وكان مَرْجِعًا لِلْباحثِينَ؛ قال أمينُ الرَّيحانِيُّ في "ملوك العرب": "هو دائرةُ معارفَ ناطِقةٌ، يجيب على السُّؤالاتِ التي تُوَجَّهُ إليه، ويَهدِي إلى مَصادِرِ العُلُومِ الأدبيَّةِ والتَّاريخيَّةِ والفقهيَّة". ومِن خَطِّ الشَّيخِ ابنِ مانعٍ، قال: "لَم نَعلَمْ في الحِجَازِ رَجُلًا يُساوِيه في الكَرَمِ وحُسْنِ الخُلُق؛ وفي 25 شبعان سنة 1376 كنتُ في بيتِه بجُدَّة، وسألتُه عن أَصْلِ نَسبِه، فأجاب: الأصلُ مِن صعيدِ مِصرَ، وجماعتُنا في الصَّعيدِ يَدَّعُونَ أنَّهم مِن قبائلِ حَرْبٍ، ولكن جَدِّي عمر كان يرى أنَّهم ليسوا مِن العرب". وكان بيتُه مُلتَقى الفُضلاءِ القَادمِينَ مِن مُختَلفِ البلادِ؛ كتب السَّيِّدُ محمد رشيد رضا في "المَنارِ" فَصْلًا عنوانُه: "محمد نَصِيف، نِعْمَ المُضِيف". وكان حُلْوَ الحديثِ، قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، لا يكاد يَصْدُرُ كتابٌ ممّا يَرُوقُهُ إلا اشترى مِنْهُ نُسَخًا وأهداها إلى المكتباتِ العامَّةِ وبعضِ مَعَارِفِه، وخَلَّفَ مكتبةً حافلةً بالمخطوطاتِ والمطبوعات) (انتهى). وقال الشَّيخُ محمد رشيد رضا (ت 1354) في فَصْلِهِ الذي كَتَبَهُ في "المَنَارِ": (نزلتُ بجُدَّة في دار السَّيِّدِ محمد نصيف، وهي كأنَّها مَجمعٌ علميٌّ يحتوي على مكتبةٍ عامرةٍ، يَؤُمُّهُ جميعُ أقطابِ جُدَّة وأشرافِها. والسَّيِّدُ محمد نصيف عالِمٌ مُحَقِّقٌ، ورَجُلٌ شَرِيفٌ يَزُورُهُ جميعُ مَن يَمُرُّ بجُدَّة مِن العُلَماءِ والنُّبَلاءِ قَبْلَ ذَهَابِهم إلى مكّة) (انتهى). وقال الدُّكتور محسن جمال الدِّين (1918 - 1988) -وكان أستاذًا بكُلِّيَّةِ الآدابِ ببغداد- في رثائِه -وقد زار محمد نصيف عام 1389-: "وهو مِن مَشْهُورِي السُّمْعَةِ الأدبيَّةِ والثَّقافيَّةِ.. ولَم يُتْعِبْنِي البحثُ عن دارِه، فهي معروفةٌ مشهورةٌ، فَالْكُلُّ يعرفونه بـ (الأفندي).. فوجدتُه بيتًا قديمًا عاليًا، أمامه ساحةٌ صغيرةٌ تُؤدِّي إلى سُوقٍ شَعْبِيٍّ، تَقَعُ في مَحَلَّةِ اليَمَنِ، بناها جَدُّهُ عمر أفندي نصيف عام 1295، مُؤلَّفةٌ مِن أربعةِ أدوارٍ، وأمامها شجرةٌ يُقَالُ إنَّها أَوَّلُ شجرةٍ غُرِسَتْ في جُدَّة" (انتهى). ونُكمِلُ وقفاتِ هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر إلى الحجازِ وعودتِه منها، في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. ونَسألُ اللهَ التَّوفِيق.
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (17) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فمِن الوقفاتِ مع هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر مِن مِصرَ، وعودتِه إليها: الوقفةُ الرَّابعةُ: وَلاؤُه الشَّديدُ لِأَرضِ الجَزيرةِ، وهو الذي دفعه إلى الهجرةِ إليها؛ فقد قال عنها في مقالِه "مقاليد الكتب"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 84 / يناير 1934، ص 111، 112): (2- قَلْبُ جَزيرةِ العربِ): تأليفُ "فؤاد حمزة"، المطبعة السَّلفيَّة ومكتبتها، سنة 1352 - 1933. وهذه الجزيرةُ -على ما فيها مِن الضَّعفِ- هي مادَّةُ هذا التَّناصُرِ، وهي مَهوى قُلُوبِ الأممِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، وهي مَعقِدُ الآمالِ، وهي حِصْنُ العربِ، وإليها تُحْشَدُ القُوى الأعجميَّةُ وتُدَبَّرُ الدَّسَائِسُ، وفيها تُلْقَى الفِتَنُ وتُوقَدُ نِيرَانُ العَداوةِ بين أهلِيها). الوقفةُ الخامسةُ والأخيرةُ: حالةُ القَلقِ المُستَمِرَّةُ التي كان يَعِيشُها الأستاذُ محمود بسببِ حادثةِ الجامعةِ وخلافِه مع د. طه، وقد اعتَرفَ بهذا غيرَ مرَّةٍ، كما ذَكَرْنا سابقًا. ومِن مظاهر ذلك: أوَّلًا: التَّرَدُّدُ الذي ظهر عليه حينما أقصى جميعَ كُتُبِ د. طه حينما بدأ في إعدادِ العُدَّةِ لِهجرةِ الحِجازِ، ثمّ اشتراها مرَّةً أخرى حينما استَقرَّ في جُدَّة؛ فقد قال في مقالِه "المُتَنَبِّي لَيتَنِي ما عَرَفتُه"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "الثَّقافة" (السنة الخامسة / العدد 60 / 1978 / ص 4 - 19): (وبدأتُ أُعِدُّ العُدَّةَ، وجمعتُ جميعَ كُتُبِي وعبَّأتُها، ولكن مِن الطَّريفِ أنِّي أقصيتُ منها جميعَ كُتُبِ الدُّكتورِ طه، وهبتُها لِصديقٍ لي -رحمه الله-.. فلَم أَكَدْ أَسْتَقِرُّ في مدينة جُدَّة بالحجاز، وهدأتْ نَفْسِي، حتى عُدتُ فاشتريتُها جميعًا مِن مَكاتبِ جُدَّة؛ كان سُخْفًا منِّي، ولكن هكذا كان!) (انتهى). ثانيًا: حالةُ الشَّكِّ التي تَظهَرُ في أثناءِ كلامِه وهو يَنقِلُ الحوارَ الذي دار بينه وبين والدِه وهو يُحِذِّرُهُ مِن فَشَلِ هجرةِ الحجاز؛ فقد قال في مقالِه "المُتَنَبِّي لَيتَنِي ما عَرَفتُه": (فلمّا وضعتُ الجَوازَ في جيبي واطمأنَّ قلبي، ذهبتُ إلى أبي -رحمه الله- فكاشفتُه بجَلِيَّةِ أمري.. لَم تأخُذْه دهشةُ المُنْكِر، خُيِّلَ إليَّ أنّه كان يَعرِفُ! ظَلِلْتُ أيّامًا بين يديه، يُحاوِرُني ويحاول أن يُقنِعَني بالإقلاعِ عمّا عزمتُ عليه؛ لا هو يَقتَنِعُ بما أَقُولُ وبما أُمَنِّي النَّفْسَ به مُختالًا، ولا أنا أَقتَنِعُ بما يَقُولُ. وأخيرًا ذكر لي بيتَ النّابغةِ الذي مَرَّ آنفًا: وَلَا تـَذْهَبْ بِحِـلْمِكَ طَامِيَاتٌ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَيْسَ لَهُنَّ بَابُ وقال: سَتَجِدُ الأبوابَ مُغلقةً دون أَمانِيكَ بِالضَّبَّةِ والمِفْتَاحِ، وسَتَعُودُ إلينا بعد أن تَضِيقَ كما ذهبتَ، فَافْعَلْ ما تَشاءُ. وأَلْقَى حَبْلِي على غَارِبِي، ووافق على سَفَرِي) (انتهى). ثالثًا: الحَيْرَةُ والتَّرَدُّدُ بين النَّدمِ على عدمِ العملِ بنصيحةِ مَن نَصَحُوه، وعلى إنفاذِ عزمِه بالهجرةِ مِن مِصرَ، والنَّدمِ على رُجُوعِه إلى مِصرَ بعد ثلاثِ سنواتٍ مِن عودتِه إليها. فقد ظهر نَدمُه على الهجرةِ مِن مِصرَ في ديوانِه "الحجازيّات"، الذي كتبه في أثناءِ إقامتِه بالحجاز؛ إذْ قال فيه: كنتُ أبنِي ثُمَّ لَم أُلْفِ بِناءً كنتُ أبنِي ليتني لَم أُنْفِذِ العزمَ، ولكن.. ليتَ أنِّي ثمّ لَم أَجْنِ سوى الأتعابِ والسُّقْمِ المُبِنِّ وأمّا نَدمُه على رُجُوعه مِن الحجازِ إلى مِصرَ فجاء في رسالتِه لابنِ خالِه المُحقِّقِ الكبير عبد السَّلام هارون (ت: 1988م) في سنة 1932م؛ فقد قال فيها وهو يَتحسَّرُ على ما فات: (وعلى ما ضَيَّعتُ بِرُجُوعِي إلى بلدٍ أَحَبُّ ما يَكُونُ فيه إلى نَفْسٍ نازحةٍ أَبْغَضُ ما وَجَدتُ إليَّ). ونَسْطُرُ في المقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ- صفحةً جديدةً مِن صفحاتِ حياتِه الحافلةِ بالأحداث. واللهُ المُستعان.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |