تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 52 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4492 - عددالزوار : 1042775 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4027 - عددالزوار : 561012 )           »          لَا يُنْفَقُ الْبَاطِل فِي الْوُجُودِ إلَّا بِشَوْبٍ مِنْ الْحَقِّ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          تربية الأحباب.. بجميل الألقاب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 66 )           »          قراءة في تعليل الأحكام الواردة في كتاب ابن دقيق إحكام الأحكام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 40 )           »          من أبرزمشكلات المراهقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          الأبناء في مجتمعاتنا: تنشئة مدللة على فراش الكسل..!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          عمر الفاروق -رضي الله عنه- (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          قاعدة الحدود تدرأ بالشبهات عند أهل الظاهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #511  
قديم 23-06-2024, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
الحلقة (511)
صــ 134 إلى صــ 147





[ ص: 134 ] أحدهما: أن ذلك للتوكيد .

والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، ذكرهما الزجاج .

قوله تعالى: أولئك المقربون قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظل عرشه وجواره .

ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما

قوله تعالى ثلة من الأولين الثلة: الجماعة غير محصورة العدد .

وفي الأولين والآخرين ها هنا ثلاثة أقوال .

أحدها: أن الأولين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، والآخرون: هذه الأمة .

والثاني: [أن الأولين]: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون .

والثالث: أن الأولين [والآخرين: من] أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

فعلى الأول يكون المعنى: إن الأولين السابقين جماعة من الأمم المتقدمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين نبينا وصدق به .

[ ص: 135 ] وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتبعوهم بإحسان .

وعلى الثالث: أن السابقين: الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممن جاء بعدهم لعجز المتأخرين أن يلحقوا الأولين، فقليل منهم من يقاربهم في السبق .

وأما "الموضونة" فقال ابن قتيبة: هي المنسوجة، كأن بعضها أدخل في بعض، أو نضد بعضها على بعض، ومنه قيل للدرع: موضونة، ومنه قيل: وضين الناقة، وهو بطان من سيور يدخل بعضه في بعض . قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الآجر موضون بعضه على بعض، أي: مشرج .

وللمفسرين في معنى "موضونة" قولان .

أحدهما: مرمولة بالذهب، رواه مجاهد عن ابن عباس . وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وهذا معنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون .

والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الكهف: 30] إلى قوله: ولدان مخلدون الولدان: الغلمان . وقال الحسن البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع .

وفي المخلدين قولان .

أحدهما: أنه من الخلد; والمعنى: أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيرون، وهم على سن واحد . قال الفراء: والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط: أو لم تذهب أسنانه عن الكبر: إنه لمخلد، هذا قول الجمهور . [ ص: 136 ] والثاني: أنهم المقرطون، ويقال: المسورون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وأنشدوا في ذلك:


ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان


قوله تعالى: بأكواب وأباريق الكوب: إناء لا عروة له ولا خرطوم، وقد ذكرناه في [الزخرف: 72]; والأباريق: آنية لها عرى وخراطيم; وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق: فارسي معرب، وترجمته من الفارسية أحد شيئين، إما أن يكون: طريق الماء، أو: صب الماء على هينة، وقد تكلمت به العرب قديما، قال عدي بن زيد:


ودعا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق


وباقي الآيات في [الصافات: 46] .

قوله تعالى: لا يصدعون عنها ولا ينزفون فيه قولان .

أحدهما: لا يلحقهم الصداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا . و"عنها" كناية عن الكأس المذكور، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور .

والثاني: لا يتفرقون عنها، من قولك: صدعته فانصدع، حكاه ابن قتيبة . ولا "ينزفون" مفسر في [الصافات: 47] .

[ ص: 137 ] قوله تعالى مما يتخيرون أي: يختارون، تقول: تخيرت الشيء: إذا أخذت خيره .

قوله تعالى: ولحم طير قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى . وقال مغيث بن سمي: تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البخت، فإذا اشتهى الرجل طيرا دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر شواء، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب .

قوله تعالى: وحور عين قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: "وحور عين" بالرفع فيهما . وقرأ أبو جعفر ، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما . وقرأ أبي بن كعب ، وعائشة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: "وحورا عينا" بالنصب فيهما . قال الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: يطوف عليهم ، قالوا: والحور ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء، لأن المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، فكذلك ينعمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى: ولهم حور عين; ومن قرأ "وحورا عينا" حمله على المعنى، لأن المعنى: يعطون هذه الأشياء ويعطون حورا عينا، إلا أنها تخالف المصحف فتكره . ومعنى "كأمثال اللؤلؤ" أي: صفاؤهن وتلألؤهن كصفاء اللؤلؤ وتلألئه . والمكنون: الذي لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال، فهن كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه .

[ ص: 138 ] "جزاء" منصوب مفعول له; والمعنى: يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر، لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون : يجازون جزاء بأعمالهم; وأكثر النحويين على هذا الوجه .

وقوله تعالى: لا يسمعون فيها لغوا قد فسرنا معنى اللغو والسلام في سورة [مريم: 62] ومعنى التأثيم في [الطور: 23] ومعنى "ما أصحاب اليمين" في أول هذه السورة [الواقعة: 9] .

فإن قيل: التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟

فالجواب: أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، فيقولون: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يؤكل، إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء: أنشدني بعض العرب:


إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا


قال:

والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف، وأنشدني آخر:


ولقيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


وأنشدني آخر:


علفتها تبنا وماء باردا


والماء لا يعلف وإنما يشرب، فجعله تابعا للتبن; قال الفراء: وهذا [هو] [ ص: 139 ] وجه قراءة من قرأ، "وحور عين" بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوله، وهو وجه العربية .

وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين

وقد شرحنا معنى قوله: وأصحاب اليمين في قوله: فأصحاب الميمنة [الواقعة: 9] . وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين .

قوله تعالى: في سدر مخضود سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وج . وهو واد بالطائف مخصب . فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية، والضحاك .

وفي المخضود ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه الذي لا شوك فيه، رواه أبو طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير . قال ابن قتيبة: كأنه خضد شوكه، أي: قلع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: لا يخضد شوكها" .

[ ص: 140 ] والثاني: أنه الموقر حملا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك .

والثالث: أنه الموقر الذي لاشوك فيه، ذكره قتادة .

وفي الطلح قولان .

أحدهما: أنه الموز، قاله علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، [والحسن]، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة .

والثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا هو الطلح عند العرب، قال الحادي:


بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والجبالا


فإن قيل: ما الفائدة في الطلح؟ .

فالجواب أن له نورا وريحا طيبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا . وقال مجاهد: كانوا يعجبون بـ "وج" وظلاله من طلحه وسدره . فأما المنضود، فقال ابن قتيبة: هو الذي قد نضد بالحمل أو بالورق والحمل من أوله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق: شجر الجنة نضيد من أسفلها إلى أعلاها .

قوله تعالى: وظل ممدود أي: دائم لا تنسخه الشمس .

وماء مسكوب أي: جار غير منقطع .

[ ص: 141 ] قوله تعالى: لا مقطوعة ولا ممنوعة فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير، إنما هي مطلقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة . ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان .

والثاني: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمنع من أحد إذا أريدت، روي عن ابن عباس .

والثالث: لا مقطوعة بالفناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: وفرش مرفوعة فيها قولان .

أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم . وفي رفعها قولان . أحدهما: [أنها] مرفوعة فوق السرر . والثاني: أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها .

والثاني: أن المراد بالفراش: النساء; والعرب تسمي المرأة: فراشا وإزارا ولباسا; وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال . أحدها: أنهن رفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن الأدناس . والثالث: في القلوب لشدة الميل إليهن .

قوله تعالى إنا أنشأناهن إنشاء يعني النساء . قال ابن قتيبة: اكتفى بذكر الفرش لأنها محل النساء عن ذكرهن . وفي المشار إليهن قولان .

أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات; ثم في إنشائهن قولان . أحدهما: أنه إنشاؤهن من القبور، قاله ابن عباس . والثاني: إعادتهن بعد الشمط والكبر أبكارا صغارا، قاله الضحاك .

[ ص: 142 ] والثاني: أنهن الحور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج . والصواب أن يقال: إن الإنشاء عمهن كلهن، فالحور أنشئن ابتداء، والمؤمنات أنشئن بالإعادة وتغيير الصفات; وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا" .

قوله تعالى: فجعلناهن أبكارا أي: عذارى . وقال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إلا وجدها بكرا .

قوله تعالى: عربا قرأ الجمهور: بضم الراء . وقرأ حمزة، وخلف: بإسكان الراء; قال ابن جرير: هي لغة تميم وبكر .

وللمفسرين في معنى "عربا" خمسة أقوال .

أحدها: أنهن المتحببات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ، وابن قتيبة، والزجاج .

والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرد; وعن مجاهد كالقولين .

والثالث: الحسنة التبعل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة .

والرابع: الغنجات، قاله عكرمة . [ ص: 143 ] والخامسة: الحسنة الكلام، قاله ابن زيد .

فأما الأتراب فقد ذكرناهن في [ص: 52] .

قوله تعالى: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين هذا من نعت أصحاب اليمين . وفي الأولين والآخرين خلاف، وقد سبق شرحه [الواقعة: 13] . وقد زعم مقاتل أنه لما نزلت الآية الأولى، وهي قوله: وقليل من الآخرين وجد المؤمنون من ذلك وجدا شديدا حتى أنزلت وثلة من الآخرين فنسختها . وروي عن عروة بن رويم نحو هذا المعنى .

قلت: وادعاء النسخ ها هنا لا وجه له لثلاثة أوجه .

أحدها: أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا .

والثاني: أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، [فهو ها هنا لا وجه له] .

والثالث: أن الثلة بمعنى الفرقة والفئة; قال الزجاج: اشتقاقهما من القطعة، والثل: الكسر والقطع . فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثلة في معنى القليل .

وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين .

[ ص: 144 ] قوله تعالى: ما أصحاب الشمال قد بينا أنه بمعنى التعجب من حالهم; والمعنى: ما لهم، وما أعد لهم من الشر؟! ثم بين لهم سوء منقلبهم فقال: "في سموم" قال ابن قتيبة: هو حر النار .

قوله تعالى: وظل من يحموم قال ابن عباس: ظل من دخان . قال الفراء: اليحموم: الدخان الأسود، "لا بارد ولا كريم" فوجه الكلام الخفض تبعا لما قبله، ومثله "زيتونة لا شرقية ولا غربية" [النور: 35]، وكذلك قوله: وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ولو رفعت ما بعد "لا" كان صوابا، والعرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا ينوى [به] الذم، فتقول: ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم .

قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر .

قوله تعالى: إنهم كانوا قبل ذلك أي: في الدنيا "مترفين" أي: متنعمين في ترك أمر الله، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبد .

"وكانوا يصرون" أي: يقيمون "على الحنث" وفيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه الشرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن زيد .

والثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد . وعن قتادة كالقولين .

والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي .

والرابع: الشرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج .

قوله تعالى: أوآباؤنا الأولون قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها ليست بواو "أو" إنما هي "وآباؤنا"، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة . وقرأ أهل المدينة، وابن عامر: "أو آباؤنا" بإسكان الواو .

[ ص: 145 ] وقد سبق بيان ما لم يذكر ها هنا [هود: 103،الصافات: 62، الأنعام: 70 ] إلى قوله: فشاربون شرب الهيم قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة: "شرب" بضم الشين; والباقون بفتحها . قال الفراء: والعرب تقول: شربته شربا، وأكثر أهل نجد يقولون: شربا بالفتح، أنشدني عامتهم:


تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويكفي شربه الغمر


وزعم الكسائي أن قوما من بني سعد بن تميم يقولون: "شرب الهيم" بالكسر . وقال الزجاج: "الشرب" المصدر، و"الشرب" بالضم: الاسم، قال: وقد قيل: إنه مصدر أيضا .

وفي "الهيم" قولان .

أحدهما: الإبل العطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة . قال ابن قتيبة: هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء، يقال: بعير أهيم، وناقة هيماء .

والثاني: أنها الأرض الرملة التي لا تروى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . قال أبو عبيدة: الهيم: ما لا يروى من رمل أو بعير .

قوله تعالى: هذا نزلهم أي: رزقهم . ورواه عباس عن أبي عمرو: [ ص: 146 ] "نزلهم" بسكون الزاى، أي: رزقهم وطعامهم . وفى "الدين" قولان قد ذكرناهما في "الفاتحة" .

نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون

قوله تعالى: نحن خلقناكم أي: أوجدناكم ولم تكونوا شيئا، وأنتم تقرون بهذا "فلولا" أي: فهلا "تصدقون" بالبعث؟!

ثم احتج على بعثهم بالقدرة على ابتدائهم فقال: أفرأيتم ما تمنون قال الزجاج: أي: ما يكون منكم من المني، يقال: أمنى الرجل يمني، ومنى يمني، فيجوز على هذا "تمنون" بفتح التاء إن ثبتت به رواية .

قوله تعالى: أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أي: تخلقون ما تمنون بشرا؟! وفيه تنبيه على شيئين .

أحدهما: الامتنان، إذ خلق من الماء المهين بشرا سويا .

والثاني: أن من قدر على خلق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدر على خلق ما غاب عنكم من إعادتكم .

قوله تعالى: نحن قدرنا بينكم الموت وقرأ ابن كثير: "قدرنا" بتخفيف الدال . وفي معنى الكلام قولان .

أحدهما: قضينا عليكم بالموت .

والثاني: سوينا بينكم في الموت "وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم" قال الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا [ ص: 147 ] سابق، ولا يفوتنا ذلك . وقال ابن قتيبة: لسنا مغلوبين على أن نستبدل بكم أمثالكم .

قوله تعالى: وننشئكم في ما لا تعلمون وفيه أربعة أقوال .

أحدها: نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم، قاله الحسن .

والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون بـ "برهوت" كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب .

والثالث: نخلقكم في أي خلق شئنا، قاله مجاهد .

والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي . قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصور .

قوله تعالى: ولقد علمتم النشأة الأولى وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة فلولا تذكرون أي فهلا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقروا بالبعث






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:33 PM.
رد مع اقتباس
  #512  
قديم 23-06-2024, 06:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
الحلقة (512)
صــ 148 إلى صــ 161





أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم

"أفرأيتم ما تحرثون" أي: ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء [ ص: 148 ] البذور فيها، "أأنتم تزرعونه" أي: تنبتونه؟! وقد نبه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد .

قوله تعالى: لجعلناه يعني الزرع "حطاما" قال عطاء: تبنا لا قمح فيه . وقال الزجاج: أبطلناه حتى يكون محتطما لا حنطة فيه ولا شيء .

قوله تعالى: فظلتم وقرأ الشعبي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: "فظلتم" بكسر الظاء; وقد بيناه في قوله: ظلت عليه عاكفا [طه: 97] .

قوله تعالى: تفكهون وقرأ أبي بن كعب ، وابن السميفع، والقاسم بن محمد، وعروة: "تفكنون" بالنون . وفي المعنى أربعة أقوال .

أحدها: تعجبون، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل . قال الفراء: تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم .

والثاني: تندمون، قاله الحسن، والزجاج . وعن قتادة كالقولين . قال ابن قتيبة: يقال: "تفكهون": تندمون، ومثلها: تفكنون، وهي لغة لعكل .

والثالث: تتلاومون، قاله عكرمة .

والرابع: تتفجعون، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: إنا لمغرمون قال الزجاج: أي: تقولون قد غرمنا وذهب زرعنا . وقال ابن قتيبة: "لمغرمون" أي: لمعذبون .

[ ص: 149 ] قوله تعالى: بل نحن محرومون أي: حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع . وقد نبه بهذا على أمرين .

أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما .

والثاني: قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع . فأما المزن، فهي السحاب، واحدتها: مزنة .

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: تورون قال أبو عبيدة: تستخرجون، من أوريت، وأكثر ما يقال: وريت . وقال ابن قتيبة: التي تستخرجون من الزنود . قال الزجاج: "تورون" أي: تقدحون، تقول: أوريت النار: إذا قدحتها .

قوله تعالى: أأنتم أنشأتم شجرتها في المراد بشجرتها ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أنها الشجرة التي تتخذ منها الزنود، وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج .

والثالث: أن شجرتها: أصلها، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: نحن جعلناها تذكرة قال المفسرون: إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم، وما يخاف من عذابها، فاستجار بالله منها "ومتاعا" أي: منفعة "للمقوين" وفيهم أربعة أقوال .

أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك .

قال ابن قتيبة: سموا بذلك لنزلهم القوى، وهو القفر . وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إليها من المقيمين، لأنهم إذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال . [ ص: 150 ] والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد .

والثالث: أنهم الجائعون، قال ابن زيد: المقوي: الجائع في كلام العرب .

والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مرد لهم، قاله أبو عبيدة .

قوله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: "فسبح" أي: برئ الله ونزهه عما يقولون في وصفه . وقال الضحاك: معناه: فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير . وقال ابن جرير: سبح بذكر ربك وتسميته . وقيل: الباء زائدة . والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبح ربك .

فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله تعالى: فلا أقسم في "لا" قولان .

أحدهما: أنها دخلت توكيدا . والمعنى: فأقسم، ومثله لئلا يعلم أهل الكتاب [الحشر: 29] قال الزجاج: وهو مذهب سعيد بن جبير .

والثاني: أنها على أصلها . ثم في معناها قولان .

أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدم، ومعناها: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي .

[ ص: 151 ] والثاني: أن "لا" رد لما يقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة . ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري: وقرأ الحسن: " فلأقسم" بغير ألف بين اللام والهمزة .

قوله تعالى: بمواقع وقرأ حمزة، والكسائي: "بموقع" على التوحيد . قال أبو علي: مواقعها مساقطها . ومن أفرد، فلأنه اسم جنس . ومن جمع، فلاختلاف ذلك . وفي "النجوم" قولان .

أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون . فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال .

أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن .

والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة .

والثالث: مغيبها في المغرب، قاله أبو عبيدة .

والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه ابن جبير عن ابن عباس . فعلى هذا سميت نجوما لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها "وإنه لقسم" الهاء كناية عن القسم .

وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه . ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى: إنه لقرآن كريم والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان، والهدى، والحكمة، وهو معظم عند الله عز وجل .

قوله تعالى: في كتاب فيه قولان .

أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة .

وفي "المكنون" قولان .

أحدهما: مستور عن الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول .

والثاني: مصون، قاله الزجاج . [ ص: 152 ] قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون من قال: إنه اللوح المحفوظ . فالمطهرون عنده: الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير . فعلى هذا يكون الكلام خبرا . ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال .

أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور . فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي .

والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب .

والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس .

والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء .

[ ص: 153 ] قوله تعالى: تنزيل أي: هو تنزيل . والمعنى: هو منزل، فسمي المنزل تنزيلا في اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق .

قوله تعالى: أفبهذا الحديث يعني: القرآن أنتم مدهنون فيه قولان .

أحدهما: مكذبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء .

والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد . قال أبو عبيدة: المدهن: المداهن، وكذلك قال ابن قتيبة "مدهنون" أي: مداهنون . يقال: أدهن في دينه، وداهن "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" روى مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر" . قالوا: هذه رحمة وضعها الله حيث شاء . وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ أنكم تكذبون . وروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل . فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم . "قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب . وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب" .

[ ص: 154 ] وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .

أحدها: أن الرزق ها هنا بمعنى الشكر . روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وتجعلون رزقكم" قال: "شكركم"، وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عباس . وكان علي يقرأ "وتجعلون شكركم" .

والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون . وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا .

والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ . فالمعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي . وقرأ أبي بن كعب ، والمفضل عن عاصم "تكذبون" بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخففة الذال .

فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن [ ص: 155 ] كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم

قوله تعالى: فلولا أي: فهلا "إذا بلغت الحلقوم" يعني: النفس، فترك ذكرها لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك:


إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر


قوله تعالى: وأنتم يعني أهل الميت "تنظرون" إلى سلطان الله وأمره . والثاني: تنظرون إلى الإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له شيئا "ونحن أقرب إليه منكم" فيه قولان .

أحدهما: ملك الموت أدنى إليه من أهله "ولكن لا تبصرون" الملائكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية ولكن لا تبصرون أي: لا تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي .

قوله تعالى: غير مدينين فيه خمسة أقوال .

أحدها: محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وابن جبير، وعطاء، وعكرمة . والثاني: موقنين، قاله مجاهد . والثالث: [ ص: 156 ] مبعوثين، قاله قتادة . والرابع: مجزيين . ومنه يقال: دنته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة . والخامس: مملوكين أذلاء من قولك: دنت له بالطاعة، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى: ترجعونها أي: تردون النفس . والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلا تردون هذه النفس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم .

قال الفراء: وقوله تعالى: ترجعونها هو جواب لقوله تعالى: فلولا إذا بلغت الحلقوم ولقوله تعالى: فلولا إن كنتم غير مدينين فإنهما أجيبتا بجواب واحد . ومثله قوله تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم [البقرة: 38] ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال تعالى: فأما إن كان يعني: الذي بلغت نفسه الحلقوم من "المقربين" عند الله . قال أبو العالية: هم السابقون "فروح" أي: فله روح . والجمهور يفتحون الراء . وفي معناها ستة أقوال .

أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: الراحة، رواه أبو طلحة عن ابن عباس . والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس . والرابع: الجنة، قاله مجاهد . والخامس: روح من الغم الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب . والسادس: روح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة . وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة، [ ص: 157 ] وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سريج عن الكسائي: "فروح" برفع الراء . وفي معنى هذه القراءة قولان .

أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة .

والثاني: فحياة وبقاء، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها . وفي "الريحان" أربعة أقوال .

أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

والثاني: أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة .

والرابع: أنه الريحان المشموم . وقال أبو العالية: لا يخرج أحد من [ ص: 158 ] المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن . وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة، فتجعل روحه فيه .

قوله تعالى: فسلام لك من أصحاب اليمين فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء . والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة . وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء، قاله الزجاج .

قوله تعالى: وأما إن كان من المكذبين أي: بالبعث "الضالين" عن الهدى "فنزل" وقد بيناه في هذه السورة [الواقعة: 56] .

قوله تعالى: إن هذا يعني: ما ذكر في هذه السورة لهو حق اليقين أي: هو اليقين حقا، فأضافه إلى نفسه، كقولك: صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: ولدار الآخرة [يوسف: 109] وقد سبق هذا المعنى وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقا . وقيل للحق: اليقين .

[ ص: 159 ] قوله تعالى: فسبح باسم ربك قد ذكرناه في هذه السورة [الواقعة: 74] .

سُورَةُ الْحَدِيدِ

وَفِيهَا قَوْلَانِ

أحدهما: أنها مدنية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل .

والثاني: أنها مكية، قاله ابن السائب .

بسم الله الرحمن الرحيم

سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور

قوله تعالى سبح لله ما في السماوات والأرض أما تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء: 44] .

[ ص: 161 ] قوله تعالى: هو الأول قال أبو سليمان الخطابي: هو السابق للأشياء "والآخر" الباقي بعد فناء الخلق "والظاهر" بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وشواهده الدالة على صحة وحدانيته . ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته . وقد يكون الظهور بمعنى العلو، ويكون بمعنى الغلبة . والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية . وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجليه لبصائر المتفكرين . ويكون معناه: العالم بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب هو الذي خلق السماوات والأرض مفسر في [الأعراف: 54] إلى قوله تعالى: يعلم ما يلج في الأرض وهو مفسر في [سبإ: 2] إلى قوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم أي: بعلمه وقدرته . وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى: آمنوا بالله ورسوله [ ص: 162 ] قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشا ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:35 PM.
رد مع اقتباس
  #513  
قديم 23-06-2024, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْحَدِيدِ
الحلقة (513)
صــ 162 إلى صــ 175



آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم

قوله تعالى: وما لكم لا تؤمنون بالله هذا استفهام إنكار، والمعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وقد أخذ ميثاقكم قرأ أبو عمرو "أخذ" بالرفع . وقرأ الباقون "أخذ" بفتح الخاء "ميثاقكم" بالفتح .

[ ص: 163 ] والمراد به: حين أخرجتم من ظهر آدم إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل .

قوله تعالى: هو الذي ينزل على عبده يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم "آيات بينات" يعني القرآن ليخرجكم من الظلمات يعني الشرك "إلى" نور الإيمان وإن الله بكم لرءوف رحيم حين بعث الرسول ونصب الأدلة . ثم حثهم على الإنفاق فقال: وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض أي: أي شيء لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز وجل وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وفيه قولان .

أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور .

والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي . والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك "وقاتل" ومن فعل ذلك بعد الفتح . قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق . أولئك أعظم درجة قال ابن عباس: أعظم [ ص: 164 ] منزلة عند الله . قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها . قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ، ونالهم من المشقة أكثر وكلا وعد الله الحسنى أي: وكلا الفريقين وعده الله الجنة . وقرأ ابن عامر "وكل" بالرفع .

قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له قرأ ابن كثير، وابن عامر "فيضعفه" مشددة بغير ألف، إلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها . وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي "فيضاعفه" بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم، إلا أنه فتح الفاء . قال أبو علي: يضاعف ويضعف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في "يضاعف" هو الوجه، لأنه محمول على "يقرض" . أو على الانقطاع من الأول، كأنه [قال: ] فهو يضاعف . ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يقرض الله، معناه: أيقرض الله أحد قرضا فيضاعفه . والآية مفسرة في [البقرة: 245] والأجر الكريم: الجنة .

[ ص: 165 ] يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير

قوله تعالى: يسعى نورهم قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم . قال ابن مسعود: منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويتقد أخرى . وفي قوله تعالى: وبأيمانهم قولان .

أحدهما: أنه كتبهم يعطونها بأيمانهم، قاله الضحاك .

والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم . والباء بمعنى: "في" . "وفي" بمعنى "عن"، هذا قول الفراء .

قوله تعالى: بشراكم اليوم هذا قول الملائكة لهم .

قوله تعالى: انظرونا نقتبس وقرأ حمزة: "أنظرونا" بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء . قال المفسرون: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون في نور المؤمنين، فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم "قيل: ارجعوا وراءكم" في القائل قولان .

أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس .

[ ص: 166 ] والثاني: الملائكة، قاله مقاتل . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئا .

والثاني: ارجعوا فاعملوا عملا يجعله الله لكم نورا .

والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا فضرب بينهم بسور قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار باطنه فيه الرحمة وهي: الجنة "وظاهره" يعني: من وراء السور من قبله العذاب وهو جهنم . وقد ذهب قوم إلى أن هذا السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب .

قوله تعالى: ينادونهم أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: ألم نكن معكم أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم قال الزجاج: استعملتموها في الفتنة . وقال غيره: آثمتموها بالنفاق "وتربصتم" فيه قولان .

[ ص: 167 ] أحدهما: تربصتم بالتوبة .

والثاني: تربصتم بمحمد الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح وارتبتم شككتم في الحق وغرتكم الأماني يعني: ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حتى جاء أمر الله وفيه قولان .

أحدهما: أنه الموت .

والثاني: إلقاؤهم في النار وغركم بالله الغرور أي: غركم الشطيان بحكم الله وإمهاله فاليوم لا يؤخذ منكم فدية وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر، ويعقوب "لا تؤخذ" بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم . وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال تعالى: ولا من الذين كفروا

قوله تعالى: هي مولاكم قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم .

ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون

قوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين . قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا .

والثاني: ، أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال [ ص: 168 ] مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية . وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع . فأما من كان وصفه الله عز وجل بالخشوع، والرقة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء . فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة . وعلى الثاني: يكون المعنى: "ألم يأن للذين آمنوا" بألسنتهم . قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن، تقول: أنى الشيء: إذا حان .

قوله تعالى: أن تخشع قلوبهم أي: ترق وتلين لذكر الله . المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذكر خشوعا وما نزل من الحق قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي "وما نزل" بفتح النون، والزاي، مع تشديد الزاي . وقرأ نافع، وحفص، والمفضل عن عاصم "نزل" بفتح النون، وتخفيف الزاي . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم "نزل" برفع النون، وكسر الزاي، مع تشديدها . وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء "وما أنزل" بهمزة مفتوحة، وفتح الزاي . وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنه بضم الهمزة، وكسر الزاي . و"الحق" القرآن "ولا يكونوا" قرأ رويس عن يعقوب "لا تكونوا" بالتاء كالذين أوتوا الكتاب يعني: اليهود، والنصارى [ ص: 169 ] فطال عليهم الأمد وهو: الزمان . وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية . والمعنى: أنه بعد عهدهم بالأنبياء والصالحين فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السلام اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها أي: يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قد بينا لكم الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته لعلكم تعقلون أي: لكي تتأملوا .

إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

قوله تعالى: إن المصدقين والمصدقات قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصا بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون، بالتشديد على معنى الصدقة .

[ ص: 170 ] قوله تعالى: أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم اختلفوا في نظم الآية على قولين .

أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله تعالى: أولئك هم الصديقون ثم ابتدأ فقال تعالى: والشهداء عند ربهم هذا قول ابن عباس، ومسروق والفراء في آخرين .

والثاني: أنها على نظمها . والواو في "والشهداء" . واو النسق . ثم في معناها قولان .

أحدهما: أن كل مؤمن صديق شهيد، قاله ابن مسعود، ومجاهد .

والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك . وفي الشهداء قولان .

أحدهما: أنه جمع شاهد . ثم فيهم قولان . أحدهما: أنهم الأنبياء خاصة، [ ص: 171 ] قاله ابن عباس . والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان لله، قاله مجاهد .

والقول الثاني: أنه جمع شهيد، قاله الضحاك، ومقاتل .

اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

قوله تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا يعني: الحياة في هذه الدار "لعب ولهو" أي: غرور ينقضي عن قليل . وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأن حياته تنقضي على لهو ولعب وتزين الدنيا، ويفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حله، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة . ثم بين لهذه الحياة شبها، فقال: كمثل غيث يعني: مطرا "أعجب الكفار" وهم الزراع، وسموا كفارا، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه "نباته" أي: ما نبت من ذلك الغيث "ثم يهيج" أي ييبس "فتراه مصفرا" بعد خضرته وريه "ثم يكون حطاما" أي: يتحطم، وينكسر بعد يبسه . وشرح هذا المثل قد تقدم في "يونس" عند قوله تعالى: [ ص: 172 ] إنما مثل الحياة الدنيا [آية: 24]، وفي "الكهف" عند قوله تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا [آية: 45] .

قوله تعالى: وفي الآخرة عذاب شديد أي: لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته . وما بعد هذا مذكور في [آل عمران: 185] إلى قوله: ذلك فضل الله فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله .

ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد [ ص: 173 ] قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار ولا في أنفسكم من الأمراض، وفقد الأولاد إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ من قبل أن نبرأها أن نخلقها، يعني: الأنفس إن ذلك على الله يسير أي: إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل لكيلا تأسوا أي: تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم وقرأ أبو عمرو- إلا اختيار اليزيدي - بالقصر على معنى: جاءكم من الدنيا . وقرأ الباقون بالمد على معنى: أعطاكم الله منها . وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بد أن يصيبه قل حزنه وفرحه . وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلها قد مات، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تل يغزل الصوف، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت: فهل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم، قلت:


لا والذي أنا عبد في عبادته والمرء في الدهر نصب الرزء والحزن

ما سرني أن إبلي في مباركها
وما جرى في قضا رب الورى يكن


وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة [النساء: 37] والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل ها هنا إلى قوله: ومن يتول أي: عن الإيمان فإن الله هو الغني عن عباده "الحميد" إلى أوليائه . وقد سبق معنى الاسمين في [البقرة 267] [ ص: 174 ] وقرأ نافع وابن عامر "فإن الله الغني الحميد" ليس فيها "هو" وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشام .

لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز

قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات أي: بالآيات والحجج وأنزلنا معهم الكتاب ببيان الشرائع، والأحكام . وفي "الميزان" قولان .

أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة .

والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل . فعلى القول الأول يكون المعنى: وأمرنا بالعدل . وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به ليقوم الناس بالقسط أي: لكي يقوموا بالعدل .

قوله تعالى: وأنزلنا الحديد فيه قولان .

أحدهما: أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس .

والثاني: أن معنى "أنزلنا" أنشأنا وخلقنا، كقوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [الزمر: 6] .

قوله تعالى: فيه بأس شديد قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به ومنافع للناس في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها .

[ ص: 175 ] قوله تعالى: وليعلم الله هذا معطوف على قوله تعالى: ليقوم الناس والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله "من ينصره" بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك . وقد سبق معنى قوله تعالى: وليعلم الله في مواضع . وقوله تعالى: بالغيب أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:36 PM.
رد مع اقتباس
  #514  
قديم 23-06-2024, 06:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ المجادلة
الحلقة (514)
صــ 176 إلى صــ 189






ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون

قوله تعالى: وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب يعني: الكتب "فمنهم" يعني: من الذرية مهتد وكثير منهم فاسقون فيه قولان .

أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس . والثاني عاصون قاله مقاتل .

قوله تعالى: ثم قفينا على آثارهم أي: أتبعنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما "بعيسى" وكان آخر أنبياء بني إسرائيل، وجعلنا في قلوب الذين [ ص: 176 ] اتبعوه يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه "رأفة" وقد سبق بيانها [النور: 2] متوادين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: رحماء بينهم [الفتح: 29] .

قوله تعالى: ورهبانية ابتدعوها ليس هذا معطوفا على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أي: جاؤوا بها من قبل أنفسهم، وهي غلوهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح ، والتعبد في الجبال ما كتبناها عليهم أي: ما فرضناها عليهم . وفي قوله تعالى: إلا ابتغاء رضوان الله قولان .

أحدهما: أنه يرجع إلى قوله تعالى ابتدعوها وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى، والرماني عن قتادة، وزيد بن أسلم .

والثاني: أنه راجع إلى قوله تعالى: ما كتبناها ثم في معنى الكلام قولان أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعا إلا ابتغاء رضوان الله . قال الحسن: تطوعوا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم . وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إتمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه، لزمه أن يتمه . قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، [ ص: 177 ] وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه . وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولا، أو فعلا، فعليه رعايتها وإتمامها . والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إلا بما يرضي الله عز وجل، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى: فما رعوها حق رعايتها في المشار إليهم قولان .

أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم ما رعوها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي . والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم . والثالث: لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث، ذكر القولين الزجاج .

والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس .

قوله تعالى: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم فيهم ثلاثة أقوال .

أحدها: الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا به .

والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى، والفاسقون: المشركون .

والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح .

[ ص: 178 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى . والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم "يؤتكم كفلين" أي: نصيبين، وحظين "من رحمته" قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي . وقد بينا معنى "الكفل" في سورة [النساء: 85] وفي المراد بالكفلين ها هنا قولان .

أحدهما: لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس .

والثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا، والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: ويجعل لكم نورا فيه أربعة أقوال . [ ص: 179 ] أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: نورا تمشون به على الصراط . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: الهدى، قاله مجاهد . والرابع: الإيمان، قاله ابن السائب .

قوله تعالى: لئلا يعلم "لا" زائدة . قاله الفراء: والعرب تجعل "لا" صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد . فهذا مما جعل في آخره جحد . والمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد ألا يقدرون أي: أنهم لا يقدرون "على شيء من فضل الله" والمعنى: أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فآتاه المؤمنين . هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمة أهل الكتاب الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله تعالى: أولئك يؤتون أجرهم مرتين [القصص: 52 -54] افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل . فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم، فإنه فضلكم على جميع الخلائق . وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله . . . الآية . حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب الآية .

سورة المجادلة

وهي مدنية في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والجمهور . وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدني، والباقي مكي . وعن ابن السائب: أنها مدنية سوى آية، وهي قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم

قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير

قوله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها أما سبب نزولها، فروي عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات . [ ص: 181 ] فأما تفسيرها، فقوله تعالى: قد سمع الله قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين، لأنهما من حروف طرف اللسان، وإظهار الدال جائز، لأنه وإن قرب من مخرج السين، فله حيز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى: حروف الصفير . وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال .

أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، والقرظي .

والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس .

والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس .

والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية . واسم زوجها: أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار .

قال ابن عباس: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات . فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كلما قال لها: قد حرمت عليه تقول: والله ما ذكر طلاقا، فقال: ما أوحي إلي في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله . وتشتكي بمعنى: تشكو . يقال: اشتكيت ما بي، وشكوته . وقالت: إن لي [ ص: 182 ] صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا . فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام . قال عنترة في فرسه:


لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي

الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم

قوله تعالى: الذين يظاهرون منكم من نسائهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو "يظهرون" بفتح الياء، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح الياء، وتشديد الظاء، وبألف، وتخفيف الهاء . وقرأ عاصم "يظاهرون" بضم الياء، وتخفيف الظاء والهاء، وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف . وقرأ ابن مسعود "يتظاهرون" بياء، وتاء، وألف . وقرأ أبي بن كعب "يتظهرون" بياء، وتاء، وتخفيف الياء، وتشديد الهاء من غير ألف . وقرأ الحسن، وقتادة، والضحاك "يظهرون" بفتح الياء، وفتح الظاء، مخففة، مكسورة الهاء مشددة . والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا ما هن أمهاتهم قرأ الأكثرون بكسر التاء . وروى المفضل عن عاصم رفعها . والمعنى: ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم إن أمهاتهم [ ص: 183 ] أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم قال الفراء: وانتصاب "الأمهات" ها هنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله "ما هن بأمهاتهم"، ومثله: ما هذا بشرا [يوسف: 31]، المعنى: ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقي أثرها، وهو: النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز . فأما أهل نجد، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، وقالوا: "ما هن أمهاتهم" و"ما هذا بشر" أنشدني بعض العرب:



ركاب حسيل آخر الصيف بدن وناقة عمرو ما يحل لها رحل

ويزعم حسل أنه فرع قومه
وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل


قوله تعالى: وإنهم يعني: المظاهرين ليقولون منكرا من القول لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات . وزورا أي: كذبا وإن الله لعفو غفور إذ شرع الكفارة لذلك .

قوله تعالى: ثم يعودون لما قالوا اللام في "لما" بمعنى "إلى" والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء . قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا . وقال سعيد بن جبير : المعنى: يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرموه على [ ص: 184 ] أنفسهم . وقال الحسن، وطاووس، والزهري: العود: هو الوطء . وهذا يرجع إلى ما قلناه . وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها . فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وإن سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة . وقال داود: هو إعادة اللفظ ثانيا، لأن ظاهر قوله تعالى: " يعودون " يدل على تكرير اللفظ . قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة . وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل، وسميت الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها قال الهذلي:


وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل


وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: وإلى الله ترجع الأمور [البقرة: 210] قال ابن قتيبة: من توهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد . وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في [ ص: 185 ] الجاهلية، وأنزل قوله تعالى: والذين يظاهرون من نسائهم يريد في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، فتحرير رقبة قال المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة، أي: عتقها . وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان .

قوله تعالى: من قبل أن يتماسا وهو كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا: هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان . وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية " والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم " .

[ ص: 186 ]

فصل

إذا وطئ المظاهر قبل أن يكفر أثم، واستقرت الكفارة . وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة . واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان . فإن قال: أنت علي كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضي اليوم، هذا قول أصحابنا، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي . وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبدا .

واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من أمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي . وقال سعيد بن جبير ، وطاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار . ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته، لكن تلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفارة الظهار .

واختلفوا فيمن ظاهر مرارا، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا: يلزمه كفارة واحدة سواء كان في مجلس، أو في مجالس، ما لم يكفر، وهذا قول مالك .

قوله تعالى: ذلكم توعظون به قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به . والمعنى: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار .

[ ص: 187 ] قوله تعالى: فمن لم يجد يعني: الرقبة فصيام شهرين أي: فعليه صيام شهرين ( متتابعين فمن لم يستطع ) الصيام "فـ" كفارته " إطعام ستين مسكينا ذلك " أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لتؤمنوا بالله ورسوله أي: تصدقوا بأن الله أمر بذلك، وتصدقوا بما أتى به الرسول وتلك حدود الله يعني: ما وصفه الله من الكفارات في الظهار وللكافرين عذاب أليم قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به .

إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم

قوله تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله قد ذكرنا معنى المحادة في [التوبة: 63] ومعنى "كبتوا" في "آل عمران" عند قوله تعالى: أو يكبتهم [آية: 127] . وقال ابن عباس: أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل .

قوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا أي: من قبورهم فينبئهم بما عملوا من معاصيه، وتضييع فرائضه "أحصاه الله" أي: حفظه الله عليهم "ونسوه والله على كل شيء" من أعمالهم في السر والعلانية "شهيد" ألم تر أي: ألم تعلم .

قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة وقرأ أبو جعفر "ما تكون" بالتاء . قال ابن قتيبة: النجوى: السرار . وقال الزجاج: ما يكون من خلوة [ ص: 188 ] ثلاثة يسرون شيئا، ويتناجون به "إلا هو رابعهم" أي: عالم به . "ونجوى" مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع . وقرأ يعقوب "ولا أكثر" بالرفع . وقال الضحاك: "إلا هو معهم" أي: علمه معهم .

ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى في سبب نزولها قولان .

أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدم أصحابهم . فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس .

والثاني: نزلت في اليهود، قاله مجاهد . قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم، فيظن [ ص: 189 ] المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية . وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين . والنجوى: بمعنى المناجاة "ثم يعودون" إلى المناجاة التي نهوا عنها "ويتناجون" قرأ حمزة، ويعقوب إلا زيدا، وروحا "ويتنجون" وقرأ الباقون "ويتناجون" بألف . وفي معنى تناجيهم "بالإثم والعدوان" وجهان .

أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول .

والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول .

قوله تعالى: وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

أحدهما: نزلت في اليهود . قالت عائشة رضي الله عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله: ترى ما يقولون؟ فقال: ألست تريني أرد عليهم ما يقولون . وأقول: وعليكم، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك . قال الزجاج: والسام: الموت .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:38 PM.
رد مع اقتباس
  #515  
قديم 23-06-2024, 07:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ المجادلة
الحلقة (515)
صــ 190 إلى صــ 204






والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس .

قال المفسرون: ومعنى "حيوك" سلموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون: سام عليك . فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول .

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فيها قولان .

أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل .

والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى: أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزجاج .

قوله تعالى: تتناجوا هكذا قرأ الجماعة بألف . وقرأ يعقوب وحده "فلا تتنجوا" . فأما "البر" فقال مقاتل: هو الطاعة، "والتقوى" ترك المعصية . وقال أبو سليمان الدمشقي" "البر" الصدق، و"التقوى" ترك الكذب . ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من الشيطان ، فقال تعالى: إنما النجوى من الشيطان أي: من تزيينه، والمعنى: إنما يزين لهم ذلك ليحزن الذين آمنوا وقد بينا اتقاء ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وليس بضارهم شيئا أي: وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئا إلا بإذن الله أي: بإرادته وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي: فليكلوا أمورهم إليه .

[ ص: 191 ] يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير

قوله تعالى: ( إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس ) وقرأ عاصم في "المجالس" على الجمع، وذلك لأن كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه . قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صفة ضيقة في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس، فسلموا وانتظروا أن يوسعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضنوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . قال المفسرون: ومعنى "تفسحوا" توسعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متضايقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده، فأمرهم أن يوسعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظ منه، ويظهر فضيلة المقربين إليه من أهل بدر وغيرهم .

وفي المراد "بالمجلس" ها هنا ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه مجلس الحرب، ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في [ ص: 192 ] الصف، فيقول لهم: توسعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والقرظي .

والثاني: أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد . وقال قتادة: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة .

والثالث: مجالس الذكر كلها، روي عن قتادة أيضا . وقرأ علي ابن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، والأعمش: "تفسحوا في المجالس" بألف على الجمع .

قوله تعالى: يفسح الله لكم أي: يوسع الله لكم الجنة، والمجالس فيها . وإذا قيل انشزوا قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم "انشزوا فانشزوا" برفع الشين . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما . ومعنى "انشزوا" قوموا . قال الفراء: وهما لغتان . وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال .

أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك .

والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن .

والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد .

[ ص: 193 ] والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهدا به، فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد .

والخامس: أن المعنى: قوموا وتحركوا وتوسعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي .

قوله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من الإيمان "و"يرفع "الذين أوتوا العلم" على من ليس بعالم . وهل هذا الرفع في الدنيا . أم في الآخرة؟ فيه وجهان .

أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة . والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم . وكان [ ص: 194 ] ابن مسعود يقول: أيها الناس: افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات .

يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون

قوله تعالى: إذا ناجيتم الرسول في سبب نزولها قولان .

أحدهما: أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس . [ ص: 195 ] والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيان، وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدم أحد من أهل الميسرة صدقة غير علي بن أبي طالب .

وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي آية النجوى . كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت درهما، فنسختها الآية الأخرى أأشفقتم أن تقدموا . . . الآية .

قوله تعالى: ذلك خير لكم وأطهر أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم لما فيه من طاعة الله، وأطهر لذنوبكم فإن لم تجدوا يعني: الفقراء فإن الله غفور رحيم إذ عفا عمن لا يجد .

قوله تعالى أأشفقتم أي: خفتم بالصدقة الفاقة وتاب الله عليكم أي: فتجاوز عنكم، وخفف بنسخ إيجاب الصدقة . قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال . قال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار .

ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء [ ص: 196 ] ألا إنهم هم الكاذبون . استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون

قوله تعالى: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين . وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوما، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فعلت" فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآيات . وروى الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه" من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله، واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون . . . الآية .

فأما التفسير، فالذين تولوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود ما هم منكم يعني: المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود ويحلفون على الكذب وهو ما ذكرنا في سبب نزولها . وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تولوا اليهود وهم يعلمون أنهم كذبة اتخذوا أيمانهم [ ص: 197 ] جنة أي: سترة يتقون بها القتل . قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين، فصدوا عن سبيل الله فيه قولان .

أحدهما: صدوا الناس عن دين الإسلام قاله السدي .

والثاني: صدوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم .

قوله تعالى: فيحلفون له قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ويحسبون أنهم على شيء من أيمانهم الكاذبة ألا إنهم هم الكاذبون في قولهم وأيمانهم .

قوله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة [النساء] عند قوله تعالى: نستحوذ عليكم [آية: 141]، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: أولئك في الأذلين أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذل، وفي الآخرة خزي .

إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون

قوله تعالى: كتب الله أي: قضى الله لأغلبن أنا ورسلي وفتح الياء نافع، وابن عامر . [ ص: 198 ] قال المفسرون: من بعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إن الله قوي عزيز أي: مانع حزبه من أن يذل .

قوله تعالى: لا تجد قوما . . . الآية . اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .

أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرعلة الأولى، فقال: متعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن حمنة يوم أحد، وفي عمرو قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود .

والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر الصديق صكة شديدة سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو فعلته"؟ قال: نعم . قال: فلا تعد إليه، فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج . [ ص: 199 ] والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله، فشرب رسول الله ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال وما تصنع بها؟ قال: أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أمك! فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: ائذن لي في قتل أبي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي .

والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج .

وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته .

قوله تعالى: أولئك الذين، يعني: الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله كتب في قلوبهم الإيمان وقرأ المفضل عن عاصم "كتب" برفع الكاف والنون من "الإيمان" . وفي معنى "كتب" خمسة أقوال .

أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس .

والثاني: جعل، قاله مقاتل .

والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي . والرابع: حكم لهم بالإيمان . وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي . [ ص: 200 ] والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي .

قوله تعالى: وأيدهم أي: قواهم بروح منه وفي المراد بالروح ها هنا خمسة أقوال .

أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس، والحسن . فعلى هذا سمي النصر روحا، لأن أمرهم يحيا به . والثاني: الإيمان، قاله السدي . والثالث: القرآن، قاله الربيع . والرابع: الرحمة، قاله مقاتل . والخامس: جبريل عليه السلام أيدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي . فأما حزب الله فقال الزجاج: هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم وارتضاهم، و"ألا" كلمة تنبيه وتوكيد للقصة .

سُورَةُ الْحَشْرِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير . وكان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وهذه الإشارة إلى قصتهم .

ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، [ ص: 202 ] فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجلتكم عشرا . فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حيي فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه قاموا، على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله، فأخبر الله رسوله بذلك، فبعث محمد بن مسلمة فاغتره فقتله، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا .

فأما التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السورة في [الحديد: 1] [ ص: 203 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [ ص: 204 ] قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب يعني: يهود بني النضير من ديارهم أي: من منازلهم لأول الحشر فيه أربعة أقوال .

أحدها: أنهم أول من حشر وأخرج من داره، قاله ابن عباس . وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب .

والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن . قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر .

والثالث: أن هذا كان أول حشرهم . والحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:39 PM.
رد مع اقتباس
  #516  
قديم 23-06-2024, 07:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْحَشْرِ
الحلقة (516)
صــ 205 إلى صــ 219





أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتسع [ ص: 206 ] لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إلى ما يليها، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك .

والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري .

والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم، وبغيا، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و " الأبصار " العقول . والمعنى: تدبروا ما نزل بهمولولا أن كتب الله أي: قضى عليهم الجلاء وهو خروجهم من أوطانهم . وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين .

أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد .

والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة . والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة . والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة ولهم في الآخرة مع ما حل بهم في الدنيا عذاب النار، ذلك الذي أصابهم بأنهم شاقوا الله وقد سبق بيان الآية [الأنفال: 13] و[محمد: 32] . قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، [ ص: 207 ] ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية . وإنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز له حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم . وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلت الإبل، وذلك مجهول .

قوله تعالى: ما قطعتم من لينة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر . وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم . واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، [ ص: 208 ] والثاني: أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثالث: أنه ألوان النخل كلها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة . وأصل "لينة" لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .

والرابع: أنها النخل كله، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد . قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل .

والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان . والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديد الصفرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل . وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك . والثاني: أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة قاله ابن إسحاق . والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل .

قوله تعالى: فبإذن الله قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله .

قوله تعالى: وليخزي الفاسقين يعني اليهود . وخزيهم: أن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا . والمعنى: وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فبإذن الله .

[ ص: 209 ] وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم

قوله تعالى: وما أفاء الله على رسوله أي: ما رد عليهم منهم يعني: من بني النضير فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب قال أبو عبيدة: الإيجاف . الإيضاع، والركاب: الإبل . قال ابن قتيبة: يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير . وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .

قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس أموال بني النضير لما أجلوا، فنزلت هذه الآية تبين أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت [ ص: 210 ] بهم حاجة، وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة . ثم ذكر حكم الفيء فقال تعالى: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي: من أموال كفار أهل القرى فلله أي: يأمركم فيه بما أحب، ولرسوله بتحليل الله إياه . وقد ذكرنا ذوي القربى واليتامى في [الأنفال: 41] وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة .

فصل

واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم: أن المراد بالفيء ها هنا: الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدو الإسلام للذين سماهم الله ها هنا دون الغالبين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في [الأنفال: 41] واعلموا أنما غنمتم من شيء . . . الآية، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان . وذهب قوم إلى أن هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية .

واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما بينا في [الأنفال: 41] فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيء والتي في [الأنفال: 41] مثبتة لحكم الغنيمة فلا يتوجه النسخ . [ ص: 211 ] قوله تعالى: كي لا يكون يعني: الفيء "دولة" وهو اسم للشيء يتداوله القوم . والمعنى: لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه . قال الزجاج: الدولة: اسم الشيء يتداول . والدولة، بالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال وما آتاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن أخذه فانتهوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه . قال الزجاج: ثم بين من المساكين الذين لهم الحق؟، فقال تعالى: للفقراء [ ص: 212 ] المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم قال المفسرون: يعني بهم المهاجرين يبتغون فضلا من الله أي: رزقا يأتيهم ورضوانا رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أولئك هم الصادقون في إيمانهم . ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، فقال تعالى: والذين تبوءوا الدار يعني: دار الهجرة، وهي المدينة والإيمان من قبلهم فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوؤوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على "الدار" في الظاهر، لا في المعنى، لأن "الإيمان" ليس بمكان يتبوأ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين . وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة يحبون من هاجر إليهم وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم ولا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدا وغيظا مما أوتي المهاجرون .

وفيما أوتوه قولان .

أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن . وقد ذكرنا آنفا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر . [ ص: 213 ] والثاني: الفضل والتقدم، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ولو كان بهم خصاصة أي: فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى . وفي سبب نزول هذا الكلام قولان .

أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله: إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكن شيء؟ فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمك هذه الليلة . ثم قال: "من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟" فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا، ثم أصبحي سراجك، فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله [ ص: 214 ] صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، وظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويين، فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما، فأنزل الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . . . الآية . أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة: أن الضيف كان من أهل الصفة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد عجب من فعالكما أهل السماء" .

والثاني: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر . وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك [ ص: 215 ] قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي، وكان مجهودا، فوجه به إلى جار له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية . قوله تعالى: ومن يوق شح نفسه وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء ومن يوق بتشديد القاف . قال المفسرون: هو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه . والمعنى: أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين .

فصل

وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشح في كلام العرب: هو منع الفضل من المال . وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل: إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة . وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يضن بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه . وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: ومن يوق [ ص: 216 ] شح نفسه وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشح: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة" .

قوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يعني التابعين إلى يوم القيامة . قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: ربنا اغفر لنا ولإخواننا فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غل لهم، فله حظ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحم عليهم، وكان في قلبه غل لهم، فما جعل الله له حقا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب . وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات .

[ ص: 217 ] ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين

قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه يقولون لإخوانهم في الدين، لأنهم كفار مثلهم، وهم اليهود لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أي: في خذلانكم أحدا أبدا فكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: والله يشهد إنهم لكاذبون ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى ولئن نصروهم لئن قدر وجود نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده . وقوله تعالى: ثم لا ينصرون يعني: بني النضير .

قوله تعالى: لأنتم أشد يعني: المؤمنين أشد رهبة في صدورهم وفيهم قولان .

[ ص: 218 ] أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل . والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

قوله تعالى: لا يقاتلونكم جميعا فيهم قولان .

أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون .

والثاني: اليهود والمنافقون، قاله أبو سليمان الدمشقي . والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين في قرى محصنة أو من وراء جدر وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان "جدار" بألف . وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي "جدر" بضم الجيم والدال . وقرأ أبو بكر الصديق، وابن أبي عبلة "جدر" بفتح الجيم والدال جميعا، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري "جدر" بفتح الجيم وسكون الدال . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر "جدر" بضم الجيم وإسكان الدال بأسهم بينهم شديد فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله .

قوله تعالى: تحسبهم جميعا فيهم قولان .

أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل .

والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

قوله تعالى: وقلوبهم شتى قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه .

قوله تعالى: ذلك يعني: ذلك الاختلاف بأنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم . ثم ضرب لليهود مثلا، فقال تعالى: كمثل الذين من قبلهم قريبا وفيه ثلاثة أقوال . [ ص: 219 ] أحدها: بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية . فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم .

والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد . والمعنى: مثل هؤلاء اليهود كمثل المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر . والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مثل بني النضير كبني قريظة ذاقوا وبال أمرهم بأن قتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم في الآخرة . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال تعالى: كمثل الشيطان والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وفيه قولان .

أحدهما: أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد .

والثاني: أنه مثل ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:41 PM.
رد مع اقتباس
  #517  
قديم 23-06-2024, 07:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْحَشْرِ
الحلقة (517)
صــ 220 إلى صــ 234





ذكر أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفيني برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم [ ص: 220 ] يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعد إليه، فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيه، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دلنا، قال: انطلقوا إلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيعافون، فلما طال ذلك [ ص: 221 ] عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم . فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال: برصيصا ، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: إن قبلها، والا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا إليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده . وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال: له انزل إليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدقوه، وانصرفوا . وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعت إليكم، فتفرقوا ينظرون لها أثرا، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، و برصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال [ ص: 222 ] الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيوا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدو الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم قادوه إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحييت من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مت على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت إني بريء منك ثم قتل . فضرب الله هذا المثل لليهود حين غرهم المنافقون، ثم أسلموهم .

[ ص: 223 ] قوله تعالى: إني أخاف الله ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء "إني" وأسكنها الباقون . وقد بينا المعنى في [الأنفال: 48] فكان عاقبتهما يعني: الشيطان وذلك الكافر .

[ ص: 224 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون

قوله تعالى: ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم؟ أعملا صالحا ينجيه؟ أم سيئا يوبقه؟ ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي: تركوا أمره فأنساهم أنفسهم أي: أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدموا خيرا . قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع .

لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

قوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته تمييزا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقق من خشية الله، وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن . و"الخاشع": المتطأطئ الخاضع، و"المتصدع": المتشقق . وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل، ويدلك على هذا المثل قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو قال الزجاج: قوله [ ص: 225 ] تعالى: هو الله رد على قوله تعالى: في أول السورة: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم

فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر "الله"، و"الرحمن"، و"الرحيم" في [الفاتحة] وذكرنا معنى عالم الغيب والشهادة في [الأنعام: 73] . و الملك في سورة [المؤمنين: 116] .

فأما "القدوس" فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف . قال أبو سليمان الخطابي: "القدوس": الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد والأولاد . و"القدس": الطهارة . ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب . وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا . والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فعول بضم الفاء إلا "قدوس" و"سبوح" وقد يقال أيضا: قدوس، وسبوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سفود، وكلوب .

فأما "السلام" فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء . وقال الخطابي: معناه: ذو السلام . والسلام في صفة الله سبحانه: هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين . قال وقد قيل هو الذي سلم الخلق من ظلمه .

فأما "المؤمن"، ففيه ستة أقوال .

أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه، قاله ابن عباس، ومقاتل .

والثاني: أنه المجير، قاله القرظي .

[ ص: 226 ] والثالث: الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، قاله ابن زيد .

والرابع: أنه الذي وحد نفسه، لقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران: 18] ذكره الزجاج .

والخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده، قاله ابن قتيبة .

والسادس: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يخيب آمالهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي" حكاه الخطابي .

فأما "المهيمن" ففيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي . قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: ومهيمنا عليه [المائدة: 48]، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل .

والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة . ولم يأت مفيعل في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف "مسيطر" و"مبيطر" و"مهيمن" وقد ذكرنا في سورة [الطور: 37] عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف .

والثالث: المصدق فيما أخبر، قاله ابن زيد .

والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل . قال الخطابي وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء; والرعاية له، وأنشد:


ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر


[ ص: 227 ] يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم . وقد زدنا هذا شرحا في [المائدة: 48] وبينا معنى "العزيز" في [البقرة: 129] .

فأما "الجبار" ففيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي . وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء . وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه . يقال: جبره السلطان، وأجبره .

والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق .

والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي .

فأما "المتكبر" ففيه خمسة أقوال .

أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء، قاله قتادة .

والثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده، قاله الزجاج .

[ ص: 228 ] والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري .

والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق .

والخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي . قال: والتاء في "المتكبر" تاء التفرد، والتخصص، لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل . وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق .

وأما "الخالق" فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق: كقول زهير:


ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري


يقول: إذا قدرت شيئا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنى ما لا يبلغه . و"البارئ" الخالق . يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم . و"المصور": [ ص: 229 ] الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها . ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل . وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع "البارئ المصور" بفتح الواو والراء جميعا، يعني: آدم عليه السلام . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأعراف: 180،والإسراء: 110] إلى آخر السورة .

سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ

وَهِيَ مَدَنَيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير

قوله تعالى: أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ذكرأهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها: "أمسلمة جئت؟" قالت: لا، قال: "فما جاء بك؟" قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجة شديدة، فقدمت إليكم لتعطوني . قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من شباب أهل مكة؟" وكانت مغنية، فقالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، [ ص: 231 ] فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، فكسوها، وحملوها، وأعطوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، [وكتب في الكتاب: من حاطب إلى أهل مكة] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، وعمارا، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا "روضة خاخ"، فإن فيها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخلوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها" فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئا فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا ضربت عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، فخلوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: "هل تعرف الكتاب؟" قال: نعم . قال: "فما حملك على ما صنعت؟" فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت [غريبا] فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدقه رسول الله [ ص: 232 ] صلى الله عليه وسلم وعذره، ونزلت هذه السورة تنهى حاطبا عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . وقد أخرج هذا الحديث في "الصحيحين" مختصرا، وفيه ذكر علي، وابن الزبير، وأبي مرثد فقط .

قوله تعالى: تلقون إليهم بالمودة وفيه قولان .

أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، ومثله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج: 25]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور .

والثاني: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج .

[ ص: 233 ] قوله تعالى: وقد كفروا الواو للحال، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن "يخرجون الرسول وإياكم" من مكة ( أن تؤمنوا بالله) "إن كنتم خرجتم" هذا شرط، جوابه متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير . قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .

قوله تعالى: تسرون إليهم بالمودة الباء في "المودة" حكمها حكم الأولى . قال المفسرون: والمعنى: تسرون إليهم النصيحة وأنا أعلم بما أخفيتم من المودة للكفار وما أعلنتم أي: أظهرتم بألسنتكم . وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستسرون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!

قوله تعالى: ومن يفعله منكم يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فقد ضل سواء السبيل أي: أخطأ طريق الهدى . ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى: إن يثقفوكم أي: يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء لا موالين ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسوء وهو: الشتم وودوا لو تكفرون فترجعون إلى دينهم . والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى: لن تنفعكم أرحامكم أي: قراباتكم . والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يوم القيامة يفصل بينكم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: "يفصل" برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد . وقرأ ابن عامر" يفصل" برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد . وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها . وقرأ أبي بن كعب ، [ ص: 234 ] وابن عباس، وأبو العالية: ( نفصل ) بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة . وقرأ أبو رزين ، وعكرمة، والضحاك: ( نفصل ) بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده . قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم . وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقية، وإنما [قال] عمر; دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:43 PM.
رد مع اقتباس
  #518  
قديم 23-06-2024, 07:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
الحلقة (518)
صــ 235 إلى صــ 249





قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ ص: 235 ] قوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وقرأ عاصم: ( أسوة ) بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداء حسن به وبمن معه . وفيهم قولان .

أحدهما: أنهم الأنبياء .

والثاني: المؤمنون إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم قال الفراء: تقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم

قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه قال المفسرون: والمعنى: تأسوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وما أملك لك من الله من شيء أي: ما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: ربنا عليك توكلنا إلى قوله تعالى: العزيز الحكيم قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكلنا . وقد بينا معنى قوله تعالى: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا في [يونس] [آية: 85] .

ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة فقال تعالى: لقد كان لكم فيهم أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله . وقوله تعالى: لمن كان يرجو الله بدل من قوله تعالى: لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة .

قوله تعالى ومن يتول أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فإن الله هو الغني عن خلقه "الحميد" إلى أوليائه . فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادوا أقرباءهم، فأنزل الله تعالى: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم أي: من كفار مكة "مودة" ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان [ ص: 236 ] عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام والله قدير على جعل المودة والله غفور لهم رحيم بهم بعدما أسلموا .

قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى . قدمت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها ، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير . والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، قاله ابن عباس . وروي عن الحسن [ ص: 237 ] البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به .

والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطية العوفي ومرة . والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5]، قاله قتادة .

والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج .

قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم .

قوله تعالى: ولم يخرجوكم من دياركم أي: من مكة أن تبروهم وتقسطوا إليهم أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم .

قوله تعالى: وظاهروا على إخراجكم أي: عاونوا على ذلك أن تولوهم والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تولوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة . وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف . قال ابن جرير: لا وجه لادعاء النسخ، لأن بر المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام . ويدل على ذلك حديث أسماء وأمها الذي سبق .

يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم [ ص: 238 ] حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم . ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد: اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية . وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي [ ص: 239 ] معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنونني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله عز وجل العهد في النساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهن بحكم رضوه كلهم، ونزل في أم كلثوم فامتحنوهن فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها، يقول: والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله، وما خرجتن لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن .

وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور .

والثالث: أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني .

قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ [ ص: 240 ] فقالت طائفة: قد كان شرط ردهن في لفظ الهدنة لفظا صريحا، فنسخ الله تعالى ردهن من العقد، ومنع منه، وأبقاها في الرجال على ما كان . وقالت طائفة: لم يشرط ردهن في العقد صريحا، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عز وجل خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين .

أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم .

والثاني: أنهن أرق قلوبا، وأسرع تقلبا منهم . فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم . وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإن لم يقع الفعل .

قال المفسرون: والمراد بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي تولى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم . قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقن بمحمد . وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال . [ ص: 241 ] أحدها: أنه كان يمتحنهن بـ "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله" رواه العوفي عن ابن عباس .

والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة .

قوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فإن علمتموهن مؤمنات وذلك يعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردهن "إلى الكفار" [لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك "وآتوهم" يعني أزواجهن الكفار] ما أنفقوا يعني: المهر . قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم . فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وهي المهور . [ ص: 242 ]

فصل

عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها . فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي . وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين .

قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( تمسكوا ) بضم التاء، والتخفيف . وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: ( تمسكوا ) بضم التاء، وبالتشديد . وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: ( تمسكوا ) بفتح التاء، والميم، والسين مشددة . و"الكوافر" جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن . وقال الزجاج: المعنى: أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عقد النكاح .

وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه .

قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وليسألوا ما أنفقوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر . والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم . [ ص: 243 ] قال أهل السير: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة .

قوله تعالى: ذلكم حكم الله يعني ما ذكر في هذه الآية .

فصل

وذكر بعضهم في قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [المائدة: 5]، وهذا تخصيص لا نسخ .

قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم . وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: ( فعقبتم ) بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها .

وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، والأعمش مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة . قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم . وقرأ أبي بن كعب ، وعكرمة، ومجاهد: ( فأعقبتم ) بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة . وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: ( فعقبتم ) بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف .

فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر .

وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته [ ص: 244 ] مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدت، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: براءة من الله ورسوله [التوبة: 1] إلى رأس الخمس .

فصل

قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم . وقد نص أحمد على هذا . قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف .

يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم

قوله تعالى: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية، فبايعهن وهو على الصفا، فلما قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم . وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 245 ] لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام . وقد سمينا من أحصينا من [ ص: 246 ] المبايعات في كتاب "التلقيح" على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة، والله الموفق .

قوله تعالى ولا يقتلن أولادهن قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله .

قوله تعالى ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى . وإنما قال: بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها . وقيل: معنى يفترينه بين أيديهن : يأخذنه لقيطا وأرجلهن ما ولدنه من زنى .

والثاني: السحر .

والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماوردي .

قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف فيه ثلاثة أقوال .

[ ص: 247 ] أحدها: أنه النوح، قاله ابن عباس . وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني: أنه لا يدعين ويلا، ولا يخدشن وجها، ولا ينشرن شعرا، ولا يشققن ثوبا، قاله زيد بن أسلم .

والثالث: جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المباح دون المحظور .

قوله تعالى: فبايعهن المعنى إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن .

يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم اليهود، وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقربون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية .

[ ص: 248 ] قوله تعالى: قد يئسوا من الآخرة وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمدا، وهم يعرفون صدقه، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح . وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كما يئس الكفار فيه قولان .

أحدهما: كما يئس الكفار من بعث من في القبور، قاله ابن عباس .

والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد .

سُورَةُ الصَّفِّ

وَيُقَالُ لَهَا سُورَةُ الْحَوَارِيِّينَ

وفيها قولان .

أحدهما: مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور .

والثاني: مكية قاله ابن يسار

بسم الله الرحمن الرحيم

سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص

قوله تعالى: لم تقولون ما لا تفعلون في سبب نزولها خمسة أقوال .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:44 PM.
رد مع اقتباس
  #519  
قديم 23-06-2024, 07:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْجُمُعَةِ
الحلقة (519)
صــ 250 إلى صــ 264





أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ عملناه، فأنزل الله سبح لله ما في السماوات إلى آخر السورة . [ ص: 250 ] والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لم تقولون ما لا تفعلون رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت، ولم يصبر، فنزلت هذه الآية .

والثالث: أن ناسا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والرابع: أن صهيبا قتل رجلا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب .

والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد .

[ ص: 251 ] قول تعالى: كبر مقتا عند الله قال الزجاج: مقتا منصوب على التمييز، والمعنى: كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله . ثم أعلم عز وجل ما الذي يحبه؟، فقال تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أي: بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص . ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وللمفسرين في المراد بـ "المرصوص" قولان

أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون .

والثاني: أنه المبني بالرصاص، وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية [ ص: 252 ] يقول: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض لهذه الآية .

اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس الترغمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفون في الغالب إنما يصطف الرجالة .

وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ ص: 253 ] قوله تعالى: وإذ قال موسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى . وقد ذكرنا ما آذوا به موسى في [الأحزاب: 69] .

قوله تعالى: فلما زاغوا أي: مالوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم أي: أمالها عن الحق جزاء لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى يأتي من بعدي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم ( من بعدي اسمه) بفتح الياء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم ( من بعدي اسمه) بإسكان الياء ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وفيهم قولان .

أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل .

والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف (يدعي إلى الإسلام) بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في [براءة: 32] إلى قوله تعالى: متم نوره قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف ( متم نوره) مضاف . وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم ( متم) رفع منون .

[ ص: 254 ] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين

قوله تعالى: هل أدلكم على تجارة قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبدا فدلهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه .

قوله تعالى: تنجيكم قرأ ابن عامر ( تنجيكم ) بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف . ثم بين التجارة، فقال تعالى: تؤمنون بالله إلى قوله تعالى: يغفر لكم قال الزجاج: وقوله: يغفر لكم ، جواب قوله: «تؤمنون» "وتجاهدون" لأن معناه معنى الأمر . والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم . وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب "هل" وهذا غلط بين، لأنه ليس إذا دلهم على ما ينفعهم غفر لهم، إنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك . ومن قرأ ( يغفر لهم ) بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، [ ص: 255 ] والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم . وقد رويت عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إلا وقد سمعها من العرب . وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام وحجتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها . وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: وأخرى تحبونها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبونها، ثم فسرها فقال تعالى: نصر من الله وفتح قريب وفيه قولان .

أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس .

والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء .

قوله تعالى: وبشر المؤمنين أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة . ثم حضهم على نصر دينه بقوله تعالى: كونوا أنصار الله قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ( كونوا أنصارا لله ) منونة . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي ( أنصار الله ) ومعنى الآية: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله، مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وحرك نافع ياء ( من أنصاري إلى الله ) وقد سبق تفسير هذا الكلام [آل عمران: 52] . فآمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى وكفرت طائفة فأيدنا الذين [ ص: 256 ] آمنوا بعيسى على عدوهم وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله تعالى: وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا بمحمد على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بمحمد على الأديان . وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة . قال ابن قتيبة: فأصبحوا ظاهرين أي: غالبين عليهم بمحمد . من قولك: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه .

سُورَةُ الْجُمُعَةِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

وقد سبق شرح فاتحتها . وقرأ أبو الدرداء، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والنخعي، والوليد عن يعقوب ( الملك القدوس العزيز الحكيم ) بالرفع فيهن .

فإن قيل: فما الفائدة في إعادته ذكر التسبيح في هذه السورة؟

فالجواب: أن ذلك لاستفتاح السور بتعظيم الله عز وجل، كما تستفتح بـ بسم الله الرحمن الرحيم وإذا جل المعنى في تعظيم الله، حسن الاستفتاح به .

بسم الله الرحمن الرحيم

يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

قوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين يعني: العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في [البقرة: 78] رسولا يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم منهم أي: من جنسهم ونسبهم .

[ ص: 258 ] فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبيا أميا؟

فعنه ثلاثة أجوبة .

أحدها: لموافقة ما تقدمت البشارة [به في كتب] الأنبياء .

والثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم .

والثالث: لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله . وما بعد هذا في سورة [البقرة: 129] . إلى قوله تعالى: وإن كانوا من قبل أي: وما كانوا قبل بعثته إلا في ضلال مبين بين، وهو الشرك .

[ ص: 259 ] قوله تعالى: وآخرين منهم فيه قولان .

أحدهما: وبعث محمدا في آخرين منهم، أي: من الأميين .

والثاني: ويعلم آخرين منهم، ويزكيهم . وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال .

أحدها: أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد . فعلى هذا إنما قال: " منهم " ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملة واحدة .

والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل .

والثالث: جميع من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .

[ ص: 260 ] والرابع: أنهم الأطفال، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: لما يلحقوا بهم أي: لم يلحقوا بهم .

قوله تعالى: ذلك فضل الله يعني: الإسلام والهدى والله ذو الفضل العظيم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم .

مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا، فقال تعالى: مثل الذين حملوا التوراة أي: كلفوا العمل بما فيها ثم لم يحملوها أي: لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدوا حقها كمثل الحمار يحمل أسفارا وهي جمع سفر . والسفر: الكتاب، فشبههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التوراة ، وهي دالة على الإيمان بمحمد [وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه بئس مثل القوم ذم مثلهم، والمراد ذمهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد] والله لا يهدي القوم الظالمين أنفسهم بتكذيب الأنبياء .

[ ص: 261 ] قوله تعالى: إن زعمتم أنكم أولياء لله وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله، ونحن أولى بالله عز وجل من سائر الناس، وإنما تكون النبوة فينا . فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام "قل" لهم إن كنتم أولياء لله فتمنوا الموت لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا . وقد بينا هذا وما بعده في [البقرة: 94] إلى قوله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدا، وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لا بد من نزوله [بكم] بقوله تعالى: فإنه ملاقيكم قال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: "من" و"الذي" فمن أدخل الفاء ها هنا ذهب "بالذي" إلى تأويل الجزاء . وفي قراءة عبد الله إن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم وهذا على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إن من يضربك فظالم . وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء . ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى: تفرون منه كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره فإنه ملاقيكم وتكون "فإنه" استئنافا بعد الخبر الأول .

يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون

قوله تعالى: إذا نودي للصلاة وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله نداء سواه، كان إذا [ ص: 262 ] جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دار له بالسوق، يقال لها: "الزوراء" وكان إذا جلس أذن أيضا .

قوله تعالى: للصلاة أي: لوقت الصلاة . وفي "الجمعة" ثلاث لغات . ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور . وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء ، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش . وبضم الجيم، مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو . قال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين . وأما فتح الميم، فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول: رجل لعنة: يكثر لعنة الناس، وضحكة: يكثر الضحك .

[ ص: 263 ] وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال .

أحدها: لأن فيه جمع آدم . روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما الجمعة؟" قلت: لا . قال: "فيه جمع أبوك"، يعني: تمام خلقه في يوم . [ ص: 264 ] والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة .

والثالث: لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء .

وفي أول من سماها بالجمعة قولان .

أحدهما: أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة، قاله أبو سلمة . وقيل: إنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه .

والثاني: أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين .

قوله تعالى: فاسعوا إلى ذكر الله وفي هذا السعي ثلاثة أقوال .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:47 PM.
رد مع اقتباس
  #520  
قديم 23-06-2024, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,929
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْجُمُعَةِ
الحلقة (520)
صــ 265 إلى صــ 279








أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس . وكان ابن مسعود يقرؤها "فامضوا" ويقول: لو قرأتها "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي . وقال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة . [ ص: 265 ] والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها .

والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن . وقال ابن قتيبة: هو المبادرة بالنية والجد .

وفي المراد بـ (ذكر الله ) قولان .

أحدهما: أنه الصلاة، قاله الأكثرون . والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب .

قوله تعالى: وذروا البيع أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت . وعندنا: أنه لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلا في حق من يلزمه فرض [ ص: 266 ] الجمعة، وبه قال مالك خلافا للأكثرين .

فصل

تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صيتا، والريح ساكنة . وقد حده مالك بفرسخ، ولم يحده الشافعي . وعن أحمد في التحديد نحوهما . وتجب الجمعة على أهل القرى . وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على أهل الأمصار . ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافا للشافعي . ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين . وعن أحمد: أقله خمسون . وعنه: أقله ثلاثة . وقال أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في [ ص: 267 ] الجمعة ، وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفردا . وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان . وعندنا: تجب على الأعمى إذا وجد قائدا، خلافا لأبي حنيفة . ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافا لأبي حنيفة . وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان . وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة . وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد . وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافا لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي، والنخعي، خلافا للأكثرين . والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة . وقال أبو حنيفة: يكره . ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال . وقال أبو حنيفة: يجوز . وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن أحمد روايتان . ونقل عن أحمد: أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد . وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر . وقال الشافعي لا يجوز أصلا .

والخطبة شرط في الجمعة . وقال داود: هي مستحبة . والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافا للشافعي في أحد قوليه . والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافا للشافعي . ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافا له أيضا .

[ ص: 268 ] ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة . وقال أبو حنيفة: يجوز أن يخطب بتسبيحة .

والخطبتان واجبتان . وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافا للشافعي .

والسنة للإمام إذا صعد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلم، خلافا لأبي حنيفة، ومالك . وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان . ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافا للأكثرين . ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافا لأبي حنيفة .

ويستحب له أن يصلي تحية المسجد والإمام يخطب، خلافا لأبي حنيفة، ومالك .

وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان .

قوله تعالى: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون أي: إن كان لكم علم بالأصلح فإذا قضيت الصلاة أي: فرغتم منها فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحة وابتغوا من فضل الله إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: وذروا البيع وقال الحسن، وابن جبير: هو طلب العلم .

[ ص: 269 ] وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين

قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث جابر بن عبد الله، قاله الحسن: وذلك أنهم أصابهم جوع، وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو اتبع آخرهم أولهم التهب عليهم الوادي نارا" . قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل أن يسلم . قالوا: قدم بها من الشام، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومها . وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير . قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعاما . وقال أبو مالك: كانت زيتا . والمراد باللهو: ضرب الطبل . و"انفضوا" بمعنى: تفرقوا عنك، فذهبوا إليها . والضمير للتجارة . وإنما خصت برد الضمير إليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد . وقال الزجاج: المعنى: وإذا رأوا [ ص: 270 ] تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف . وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة "انفضوا إليهما" على التثنية . وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة "انفضوا إليه" على ضمير مذكر وتركوك قائما وهذا القيام كان في الخطبة قل ما عند الله من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويقبل على خدمته .

سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه . وكان السبب أن عبد الله خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر قريب . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوه، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبي، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاري يده فلطم الجهني، فأدماه، فنادى الجهني: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاري: يا آل قريش ، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين . فبلغ الخبر عبد الله ابن أبي ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرهط من قريش إلا مثل ما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم . وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أضرب عنقه . فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمد بن مسلمة، أو عباد بن بشر فليقتله، فقال: إذن يتحدث [ ص: 272 ] الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي ، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإن زيدا لكذاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، وكذبوه، وقال له عمه: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك! فاستحيا زيد، وجلس في بيته . فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي ، لما بلغك عنه . فإن كنت فاعلا فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل تحسن صحبته ما بقي معنا" وأنزل الله سورة [المنافقين] في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال: إن الله قد صدقك . ولما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم اليوم من الأعز، ومن الأذل، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل، فلما نزلت السورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب: إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فذلك قوله تعالى: لووا رءوسهم وقيل: الذي قال له هذا [ ص: 273 ] عبادة بن الصامت .

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [ ص: 274 ] قوله تعالى: إذا جاءك المنافقون يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا نشهد إنك لرسول الله وها هنا تم الخبر عنهم . ثم ابتدأ فقال تعالى: والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله قد ذكرناه في [المجادلة: 16] . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: "أشهد" يمين، لأنهم قالوا: "نشهد" فجعله يمينا بقوله تعالى: اتخذوا أيمانهم جنة وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أشهد، وأقسم، وأعزم، وأحلف، كلها أيمان . وقال الشافعي: "أقسم" ليس بيمين . وإنما قوله: ( أقسم بالله) يمين إذا أراد اليمين .

قوله تعالى: ذلك أي: ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان ثم كفروا في السر فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الإيمان والقرآن وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم يعني: أن لهم أجساما ومناظر . قال ابن عباس: كان [ ص: 275 ] عبد الله بن أبي جسيما فصيحا، ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله . وقال غيره: المعنى: تصغي إلى قولهم، فتحسب أنه حق كأنهم خشب قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: ( خشب ) بضم الخاء، والشين جميعا، وهو جمع خشبة . مثل ثمرة، وثمر . وقرأ الكسائي: بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بدنة، وبدن، وأكمة، وأكم . وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله . وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين: "خشب" بفتح الخاء، والشين جميعا . وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل ، وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . والمسندة: الممالة إلى الجدار . والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خشب مسندة إلى حائط . ثم عابهم بالجبن فقال تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم أي: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن . وأنشدوا في هذا المعنى:


ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما


أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين

قوله تعالى هم العدو فاحذرهم أي: لا تأمنهم على سرك، لأنهم [ ص: 276 ] عيون لأعدائك من الكفار قاتلهم الله أنى يؤفكون مفسر في [براءة: 30]

وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون

قوله تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله قد بينا سببه في نزول السورة لووا رءوسهم وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: "لووا" بالتخفيف . واختار أبو عبيدة التشديد . وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرة بعد مرة . قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أبي: تعال يستغفر لك رسول الله لوى رأسه، قال: ماذا قلت؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار . وقال الفراء: حركوها استهزاء بالنبي وبدعائه .

قوله تعالى: ورأيتهم يصدون أي: يعرضون عن الاستغفار . وهم مستكبرون أي: متكبرون عن ذلك . ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم بقوله تعالى: سواء عليهم أستغفرت لهم وقرأ أبو جعفر : ( آستغفرت ) بالمد .

قوله تعالى: هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله قد بينا أنه قول ابن أبي . و ينفضوا بمعنى: يتفرقوا . ولله خزائن السماوات والأرض قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات . والمعنى: أنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، ولكن المنافقين [ ص: 277 ] لا يفقهون أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة . وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أبي ليخرجن الأعز يعني: نفسه، وعنى بـ الأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن: ( لنخرجن ) بالنون مضمومة وكسر الراء، ( الأعز ) بنصب الزاي [والأذل منصوب] على الحال [بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة "أل" فيه، أو بتقدير "مثل"] . المعنى: لنخرجنه ذليلا على أي حال ذل . والكل نصبوا "الأذل" فرد الله عز وجل عليه فقال: ولله العزة وهي: المنعة والقوة ولرسوله وللمؤمنين بإعزاز الله ونصره إياهم ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك .

يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون

قوله تعالى: لا تلهكم أي: لا تشغلكم . وفي المراد بذكر الله ها هنا أربعة أقوال .

أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل .

والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك .

والرابع: أنه على إطلاقه . قال الزجاج: حضهم بهذا على إدامة الذكر .

قوله تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم في هذه النفقة ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس .

والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحج، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الضحاك . [ ص: 278 ] والثالث: أنه صدقة التطوع، ذكره الماوردي . فعلى هذا يكون الأمر ندبا، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب .

قوله تعالى: من قبل أن يأتي أحدكم الموت قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت .

قوله تعالى: لولا أخرتني أي: هلا أخرتني إلى أجل قريب يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدق ويزكي، وهو قوله تعالى: فأصدق قال أبو عبيدة: فأصدق نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب .

تقول: من عندك فآتيك . هلا فعلت كذا، فأفعل كذا، ثم تبعتها وأكن من الصالحين بغير واو . وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط . كما يكتب أبو جاد أبجد هجاء، وهكذا يقرؤها أبو عمرو "وأكون" بالواو، ونصب النون . والباقون يقرؤون "وأكن" بغير واو . قال الزجاج: من قرأ "وأكون" فهو على لفظ فأصدق . ومن جزم "أكن" فهو على موضع "فأصدق" لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن . وروى أبو صالح عن ابن عباس "فأصدق" أي: أزكي مالي وأكن من الصالحين أي: أحج مع المؤمنين، وقال في قوله تعالى: والله خبير بما تعملون والمعنى: بما تعملون من التكذيب بالصدقة . قال مقاتل: يعني: المنافقين . وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، وقد كان له مال لم يزكه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية .

سُورَةُ التَّغَابُنِ

وَفِيهَا قَوْلَانِ .

أحدهما: أنها مدنية، قاله الجمهور، منهم ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة .

والثاني: أنها مكية، قاله الضحاك . وقال عطاء بن يسار: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم واللتان بعدها .

بسم الله الرحمن الرحيم

يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد

وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله تعالى: فمنكم كافر ومنكم مؤمن وفيه قولان .

أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، رواه الوالبي عن ابن عباس .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:48 PM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 440.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 434.10 كيلو بايت... تم توفير 6.17 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]