عرض مشاركة واحدة
  #46  
قديم 08-03-2024, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن ( 49 )

عند الصباح يحمد القوم السُّرَى



من الأمثال العربية المشهورة قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السُّرَى»، والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصة، ومعنى المثل: أن الذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار، بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار، فهو مثل كما يقول الميداني في (مجمع الأمثال) يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
والنصوص الشرعية قد دلت على هذا المعنى أكمل دلالة، وأرشدت إليه بأوضح عبارة، تحث المؤمنين على المبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في الخيرات، واغتنام الأوقات؛ لتحصل لهم البركات والحسنات، ولينجوا من الندم والحسرات .
قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته، وإدراك جنته، التي أعدها للمتقين».
وقال سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك بالسعي في أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع؛ ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء الأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعه».
ومن النصوص القرآنية في هذا المعنى قوله عز وجل: {فاستبقوا الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «الأمر بالاستباق إلى الخيرات، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات؛ فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل».
ولا تزال الآيات القرآنية تتوالى في الحض على فعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال».
وقال سبحانه: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته وهو غير مشتغل بالعمل، الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!».
ومدح الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يسارعون في الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون الزلفى عند ربهم، فنافسوهم، ولما كان المسابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: {وهم لها سابقون}».
ومن الآيات القرآنية التي تطمئن المؤمن على حسن عاقبته وطيب مآله قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}، قال القاسمي: «ومن أراد الآخرة، ولها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء».
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلم في سعيه إلى الله والدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل ويرغب في الوصول سالما، ويخشى من الانقطاع أو التأخر فقال صلى الله عليه وسلم : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي، قال الطيبي في شرح الحديث:» هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه، ثم أرشد إلى أن سلوك طريق الآخرة صعب، وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي فقال: «ألا» بالتخفيف للتنبيه «إن سلعة الله» أي من متاعه من نعيم الجنة «غالية» أي رفيعة القدر «ألا إن سلعة الله الجنة» يعني ثمنها الأعمال الباقية المشار إليها بقوله سبحانه: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}.
وعلى المسلم في سعيه إلى الآخرة ألا يعتمد على نفسه، ولا يركن إلى جهده، بل يتوكل على الله تعالى، ويعلق قلبه ورجاءه به كما قال صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة».
ويحثنا عمر رضي الله عنه على علو الهمة وصدق العزيمة في السعي للآخرة فقال: «لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم».
وضرب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أروع الأمثلة في الاجتهاد ولاسيما مع التقدم في العمر، فكان يصوم حتى يعود كالخلال (العود الذي يخلل به الأسنان) من النحول فقيل له: «لو أجممت نفسك؟ أي: تركتها تستريح فقال: هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة»، وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
قال ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لاشقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده ذلك لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله».
فلا شك أنه عند الصباح يحمد القوم السُّرَى، فيحمد المسلم ربه على توفيقه حين يرى ما أعده له مما لا يخطر له على بال ولا فكر؛ ولهذا يقول أهل الجنة إذا رأوا ما منّ الله عليهم وأكرمهم به: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، جعلنا الله وإياكم منهم، وبالله التوفيق .


اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.23%)]