عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-06-2019, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,567
الدولة : Egypt
افتراضي كيف ينتشر الترف في المجتمع؟

كيف ينتشر الترف في المجتمع؟
د. خالد بن محمد الشهري









إذا تمكن الترف من الفرد الواحد انتقل بالعدوى إلى غيره، والناس مجبولون على التنافس[1] في الدنيا والتكاثر فيها كما بين ذلك ربنا عز وجل في سورة التكاثر: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1].







وبكثرة الأغنياء وتنافسهم فيما بينهم ثم بعقاب الله للمجتمع بتكثير المترفين فيه كما في آية الإسراء – وما جاء في تفسيرها [2] - ينتشر الترف في المجتمع حتى يكون سمة ظاهرة.







وفي عصرنا هذا أصبح الترف شائعاً ومنتشراً بشكل لم يسبق له مثيل فيما مضى - مع التقدم المادي والصناعي ووفرة الإنتاج - حتى إن المترف في عصرنا لم يعُد يحتاج إلى ما كان يحتاج إليه المترفون في العصور السابقة من ثروة عريضة ومال وفير، بل أصبح أدنى دخل يمكنه من الترف حيث أصبحت المنتجات الاستهلاكية ووفرتها مع توفر الدخل الجيد تُسهل الانخراط في عداد المترفين.[3]







أضف إلى ذلك ما أدت إليه المادية المعاصرة من انكباب على الشهوات وانسياق وراء الملذات ووراء ذلك ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ﴾ وما وصلوا إليه من تقدم في الإعلام حتى أصبحوا يبثون الشهوة في الفضاء ويروجونها في الأرض، فقلما نجا إنسان في هذا العصر من ضغوط هذه الدعوات إلى التلذذ بالشهوات والانسياق وراءها حتى أصبحت الشغل الشاغل والهمّ المقيم الدائم، ولا يمكن الحصول عليها إلا من خلال المال، فانكبوا على الدنيا يجمعون المال من حله وحرامه، وفُتنوا بالشهوات يطاردونها في كل مكان.







وإلقاء نظرة عامة على المجتمعات اليوم تبين أن همّ أكثر الناس اليوم مُنصبٌّ على أمرين: الأول جمع المال، والثاني تبديده في الشهوات وعمّ هذا الأرض في مشارقها ومغاربها إلا القليل النادر ممن اتبع ديناً أو استرشد عقلاً.







وإن كان للترف أخطار وأضرار فإن أشدّها على الإطلاق ما حمل صاحبه على الكفر وعلى ردّ الحق كما سيأتي معنا. والترف إذا حلّ بمجتمع فإنه لا تظهر أضراره حتى تنشأ أجيال عليه فيصبح شائعاً بغير نكير ولا يحدث ذلك بين عشية وضحاها بل تتوارد أجيال متتابعة عليه حتى يكون كالجبلِّة الراسخة في المجتمع وكالسِّمة المميزة له عن غيره.







وإليك ما قاله ابن خلدون في مقدمته أثناء بيانه طريقة دخول الترف إلى المجتمع واستشراءه والآثار التي يحدثها:



(وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقّة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية.







ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب ولُبس الأنيق وركوب الفاره ويُناغي خَلَفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة أن تبلغها بحسب قوتها وعوائد من قبلها سنة الله في خلقه والله تعالى أعلم)[4].







ويقول في بيان ضرر الترف على السلوك والأخلاق وضعف الدول بسبب ذلك:



(وأيضاً فالترف مفسد للخُلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها.. فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنـزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها... فتربي أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف والدعة...







ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئاً فشيئاً وينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية والمدافعة حتى يعودوا عيالاً على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته من ذلك صحيحاً من غير ريبة...) [5].







وأكبر خطر للترف في ما ذكره ابن خلدون هو ما يمكن أن يصل إليه المجتمع من نعومة ورخاوة بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه فيوكل أمر الدفاع والحماية إلى حامية أخرى –وهي من خارجه ولابد- فينمو الخطر حتى يصل إلى استيلاء هذه الحامية على المجتمع وربما الانقلاب عليه؛ وهذا ما حدث للدول الإسلامية الغابرة كالدولة العباسية ودولة المماليك وغيرهما من الدول التي حكمت بلاد المسلمين؛ وهو درس متكرر وسنة تاريخية ثابتة، ومن قرأ التاريخ عرف ذلك.



اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر







[1] أخرج الترمذي عن عوف بن عبدالله بن عيينة أنه قال (صحبت الأغنياء فلم أر أحداً أكثر هماً مني، أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت).



[2] سبق في ص 16 وما بعدها تفسير الآية.



[3] وزاد الأمر سوءاً لدى البعض حتى تورط في الدين والقروض البنكية المرهقة حتى يعيش شيئاً من حياة المترفين.



[4] مقدمة ابن خلدون ص 167



[5] مقدمة ابن خلدون ص 169 باختصار.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.23%)]