الموضوع: حقوق الوالدين
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 22-10-2020, 03:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقوق الوالدين

حقوق الوالدين (2)


أحمد عماري










الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

إخوتي الكرام، مرة أخرى مع حقوق الوالدين، تلكم الحقوق التي أمر الله تعالى بها في كتابه، وحثَّ عليها نبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، إكراما للوالدين، واعترافا بفضلهما، وبيانا لمكانتهما.. وهذه جملة أخرى من حقوق الآباء على الأبناء، إضافة إلى ما ذكرناه في الجمعة الماضية:

من حقوق الوالدين على الأبناء: الاهتمامُ بهما عند الكبَر:

فأشدّ فترةٍ يحتاج فيها الآباء إلى الأبناء عند الكِبَر والتقدم في السّن، حين تحُلّ بهم الشيخوخة ويعتريهم الهرَم والوهَن، حينها يتأكدُ وجوبُ برّ الوالدين والإحسان إليهما، فقد يحتاجان إلى من يساعدهما على الأكل والشرب، والنوم والاستيقاظ، والنهوض والجلوس، والخروج والدخول، وعند قضاء الحاجة، وإزالة الأذى... لذا خصّ الله تعالى هذه المرحلة بالذكر، فقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]. أي إذا بلغ الوالدان الكِبَرَ أحدُهما أو هما معا، وهما في كنفك وكفالتِك، قد صارَا عندك في آخر العمر كما كنتَ عندهما في أوله، فيجبُ عليك أن تحنوَ عليهما وتشفقَ عليهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه.. فلا تتأففْ ولا تتضجّرْ مما يستقذِرُه الناس، أو تستثقله النفس.. ولا تزْجُرْهما، ولا تقسُ عليهما بالقول.. وقل لهما قولا لينا جميلا مهذبا.. وتواضعْ لهما، وتذلل لهما، وارفُقْ بهما.. وادعُ لهما برحمة الله الباقية، بعد رحمتك الفانية، جزاءَ حُسْنِ تربيتهما ورعايتهما لكَ حين كنتَ صغيرا.




فرُدّ المعروفَ بالمعروف، وقابلِ الإحسان بالإحسان، وتذكرْ أنك قد مررتَ بهذه المرحلة من الضعف والعجز عن كل شيء في صِغرك، وكان الوالدان هما من يتولى أمورك ويسدّ حاجتك ويقوم برعايتك، فلا تبخلْ عليهما ولا تتكبّرْ ولا تتضجّرْ، فقد يطولُ بك العمرُ حتى تصيرَ إلى مثل حالهما، كما قال ربنا سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضعْفٍ ثمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضعْفٍ قُوَّةً ثمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].



إنها فرصة لمضاعفة الأجْر والثواب، والفوز بالنعيم في أعالي الجنان. فهنيئا لمن اغتنم هذه الفرصة بمزيد من البرّ والمعروف والإحسان، وويل لمن ضيّعها بالكبْر والعقوق والحرمان..



عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ». قيل: من يا رسول الله؟. قال: «مَنْ أدرَكَ والديه عند الكِبَر، أحدَهما أو كِليْهِمَا، ثم لم يَدْخُلِ الجنة». رواه مسلم.



في مرحلة الشيخوخة والكبَر يحتاج الوالدان إلى مزيد من التوقير والاحترام؛ فحق على الأبناء أن يوقروا آباءهم، ويحترموهم، ويعترفوا بفضلهم ومكانتهم، وأن يتأدبوا معهم في مخاطبتهم، والجلوس معهم، وأن يتواضعوا لهم، ولا يتطاولوا عليهم بقول أو فعل...﴿ وَاخْفِضْ لهُمَا جَنَاحَ الذلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾. فهما أحق الناس بعطفك ورفقك ورحمتك وتواضعك ومعروفك...



عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركتُ أبوَيّ يَبْكِيان، فقال: «ارجعْ إليهما فأضحِكهُمَا كما أبكيتهما». أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.



فإياك أن تأففَ من شيء تراه أو تشمّه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبرْ على ذلك واحتسب الأجرَ عليه من الله عز وجل، كما صَبَرَا عليك في صغرك، واحذر الضجرَ والملل قليلاً أو كثيراً، وعليك بالرفق واللين معهما، والله لا يُضِيع أجرَ من أحْسَنَ عملاً..



إياك أن تُسيءَ الأدبَ معهما، أو تقسوَ عليهما، أو ترفعَ صوتك فوق صوتهما، أو تخالفهما على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما، بل احفظ وصية الله فيهما: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ﴾.



في مرحلة الشيخوخة والكبَر يحتاج الأبوان إلى زيارة الأبناء لهما وتفقد أحوالهما على الدوام؛ فهما أحق الناس بصِلتك وتفقدك وزيارتك.



فإياك أن تهجرَ والديك وتقطعَ الصلة بهما، أو تزجّ بهما في دُور العجزة وأنتَ قويّ البدن سليمُ الأعضاء، بلْ عليك بخدمتهما، والإحسان إليهما، مهما كانت ظروفك وكثرَتْ همومُك وانشغالاتُك، ومهما كانت أسباب خلافك مع والديْك..



ففي الصحيحين عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَة، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ». فإذا كان هذا مع الأم المشركة؛ فكيف بالأمّ التي أرضعتك مع اللبن دينَ الفطرة والتوحيد؟.



من حقوق الآباء على الأبناء: برّهما بعد مماتهما:

فبرّ الوالدين لا ينقطعُ بالموت، وحقهما لا ينتهي برحيلهما عن هذه الدار، بل هو مستمرّ ودائم مدة بقاء الأبناء على قيد الحياة؛ لأن حقوقهما لا تنحصرُ في خدمتهما والنفقة عليهما... بل لهما حقوق يحتاجانِها بعد رَحيلهما. وهذه دعوة لمن قصّرَ في برّ والديه في حياتهما، أو كان صغيرا عند وفاتهما، أن يستدرك ما فاته من البرّ بعد وفاتهما.



فمن برّ الوالدين بعد وفاتهما: زيارة أقاربهما وأهلِ وُدِّهِما: ففي زيارة الأقارب وصلة الأرحام برّ بالوالدين، وفي صلة أهل وُدّ الوالدين من الأحباب والأصدقاء برّ بالوالدين..



عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا كبيرا، فهل لي من توبة؟، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك والدان؟»، قال: لا، قال: «فلكَ خالة»؟، قال: نعم، قال: «فبرَّها إذاً». أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي بلفظ: «هل لك من أمّ؟»... وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخالة بمنزلة الأمّ».



وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، أن رجلا من الأعراب لقِيَهُ بطريق مكة فسلمَ عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبُه، وأعطاه عِمامة كانتْ على رأسِه، فقال ابن دينار فقلنا له: أصلحكَ الله، إنهم الأعرابُ، وإنهم يَرْضَوْنَ باليَسير. فقال عبد الله: إنّ أبَا هذا كان وُدّا لِعُمَرَ بنِ الخطاب، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أبَرَّ البرّ صلةُ الوَلدِ أهلَ وُدّ أبيهِ».



ومن برّ الوالدين بعد وفاتهما: الدعاءُ لهما؛ فذلك من أفضل ما يقدّمه الأبناء لآبائهم بعد وفاتهما، أنْ تدعوَ لهما بالرحمة والمغفرة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. فذلك مما أمر الله تعالى به، فقال سبحانه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾.



والدعاء للوالدين من هدي الأنبياء والرسل؛ فقد قال تعالى عن دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾. وقال عن دعاء نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَارًا ﴾ [نوح: 28].



والدعاء للوالدين من برّ الأبناء الصالحين الذي يستمرّ أجرُه وثوابه للوالدين بعد رحيلهما.. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عَمَلهُ إلا مِنْ ثلاثة؛ إلا مِنْ صدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتَفعُ به، أو وَلدٍ صالح يَدعو له»..



وبالدعاء للوالدين بالمغفرة ترْفعُ درجتهما في الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عز وجل ليَرْفعُ الدرجة للعبدِ الصالح في الجنة، فيقول: يا ربّ أنّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار وَلدِكَ لك». أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.



ومن حق الآباء على الأبناء بعد وفاتهما: انفاذ عهدِهِما وقضاءُ دَيْنِهما؛ فمن مات والِداه وتركا ديْنا عليهما، أو وصية من بعدهما، فعلى الأبناء أن يَقضوا عنهما الدّيْن، وأن يُؤدّوا وصيتهما، من تركة الوالدين قبل قسمتها، أو من مال يتبرّع به الأبناء على الوالدين... فقد قال الله تعالى في آيات المواريث: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾، أي أن قسمة المواريث إنما تكون بعد قضاء الديْن وأداء الوصيّة.



وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفسُ المؤمن معلقة بدَيْنِهِ، حتى يُقضَى عنهُ». رواه الإمام أحمد الترمذي وابن ماجة والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.



ومن برّ الوالدين بعد وفاتهما: قضاء ما عليهما من نذر؛ فمن مات من الوالدين وقد نذر أن يتقرب إلى الله تعالى بطاعة معينة، كالصوم أو الحج أو الصدقة أو غير ذلك من الطاعات، ولم يتمكن من الوفاء بنذره قبل موته، فمن برّ أبنائه به أن يَقضوا عنه نذرَه إن كان في استطاعتهم.

ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقالَ: «اقضِهِ عَنْهَا».



ومن بر الوالدين بعد وفاتهما: قضاء ما لزمهما من صيام رمضان؛ فقد يُفطِرُ أحدٌ من الوالدين لعُذر كالمرض، أو السفر، أو الحيض والنفاس بالنسبة للأم، فإن ماتا قبل قضاء ما عليهما من الصوم، صام عنهما وليّهما من الأبناء أو الأقارب، فإن كان سببُ الإفطار مرضا مزمنا أطعم الأبناءُ عنهما عن كل يوم مسكينا.

ففي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عَنْ عَائِشَة رَضِيَ الله عَنْهَا، أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَليْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيّهُ».



وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صوْمُ شَهْرٍ، أفَأقضِيهِ عَنْهَا؟ فَقالَ: « لَوْ كان عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أكُنْتَ قاضِيَهُ عَنْهَا؟» قالَ: نَعَمْ. قالَ: « فَدَيْنُ اللهِ أحَقّ أنْ يُقْضَى».



ومن بر الوالدين بعد وفاتهما: التصدق عنهما؛ بأي نوع من الصدقة، كالإطعام أو النقود أو اللباس أو غير ذلك مما يدفع للفقراء والمساكين. ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَة رَضِيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَجُلا قالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأظنّهَا لَوْ تَكلّمَتْ تَصَدَّقتْ، فَهَلْ لهَا أجْرٌ إِنْ تَصَدَّقتُ عَنْهَا؟ قالَ: «نَعَمْ».



وفي صحيح البخاري عن عِكْرِمَة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَقولُ: أنْبَأنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أمّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ أمِّي تُوُفِّيَتْ وَأنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قالَ: «نَعَمْ»، قالَ: فَإِنِّي أشْهِدُكَ أنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقةٌ عَليْهَا. (المخراف): اسم لحائطه، وهو في الأصل الشجرة، وقيل ثمَرها..



ومن حقوق الوالدين على الأبناء: اجتنابُ عقوقِهما والإساءةِ إليهما:

فإذا كان برّ الوالدين والإحسان إليهما واجبا على الأبناء، فإن عقوق الوالدين والإساءة إليهما محرّم على الأبناء.

وقد حذرَ الله تعالى من العقوق في أدنى صوره، وأقلّ أشكاله وألوانه، فقال جل وعلا: ﴿ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا ﴾. فإذا كان التأفف والتضجر في وجه الوالدين عقوقا محرما، فما بلك بالسبّ والشتم والإهانة والضرب والقتل، الذي يتعرّض له الوالدان من قبل الأبناء العاقين المنحرفين..!!.

أهكذا يكون جزاء من رَبّى وأنفق، ورحم وأشفق، وسهر وتعب...؟.

أم هكذا يكون جزاء من حملتْ ووضعتْ وأرضعتْ، وسهرت وتعبتْ...؟.



أبالعقوق والجحود تكون مكافأة الوالديْن الذيْن لطالما عاشا لحظاتٍ حاسمة في هذه الحياة ينتظران تفوّقَ ابنهما ونجاحَه، وتخرّجَه وزواجَه، ثم بعدَ أن يَشِبّ ويَشقّ طريقه في هذه الحياة يترقبان بكل شوق ولهف ماذا سيكون جزاءُ الأعمالِ التي قدّماها؟ وبماذا سيكافئهم جزاءَ تضحياتهم وجهودهم وآلامهم؟ هل سيقابلُ الإحسانَ بالإحسان؟ أم سيذهب كل ذلك أدراج الرياح؟ ويكون جزاءُ الإحسان هو العقوقُ والنكران؟.



فمن الأبناء والبنات من هو قاسي القلب، جاحدٌ ناكر، شقي النفس، خبيث الطباع، متحجّرُ الضمير، يريد كل شيء لنفسِه، ولا يبالي بوالدين، همه أن يأخذ ولا يعطي، ويُخدَم ولا يَخدُم، يَطيبُ كلامه مع الناس، ويَسُوءُ مع والديه، يتودّدُ إلى الناس، ويتنكرُ لوالديه، يبتسم في وجوه الآخرين، ويَعْبِسُ في وجه والديه.. يتصرّف مع والديه بوحشية وهمجية وقسوة.. إذا سمع من والديه ما لا يُرْضيه، يُذِلّ أمّه ويُبْكيها، ويَبْطش بأبيه ويَرْميه..



من الأبناء من يعامل أمه معاملة الخدَم، يجعلها خادمة في بيته لزوجته وأبنائه، فتظلّ المسكينة محبوسة في البيت، في طبخ وتنظيف وترتيب... بينما العاق وزوجته في وظائفهما أو في الشوارع يتجولان.. وربما شرّد أمه ورمى بها في الشارع إرضاء لزوجته.



ومن الأبناء من يتكبّر على والديه، فلا يَرْضى أن ينتسبَ إليهما، تكبراً وجُحُودا وإنكارا، فينتسِبُ إلى غير والديه من أجل منصب أو مكانة أو عَرَض من الدنيا زائل.. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن ادّعَى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غيرُ أبيه، فالجنة عليه حرام». متفق عليه.



ترى العاق لوالديه يبتعد عنهما أميالاً حتى لا يقول الناس هذان أبَوَا ذلك الرجل، ولم يعلمْ أنّ دَمعة الأبوين المظلومَين بسبب ظلم الأبناء تقع من الله بمكان، ويجعلها على العاقين ناراً ووبالاً، فرضى الله في رضاهما، وسخطه سبحانه في سخطهما، والظلم ظلمات يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 17، 18].



ومن الأبناء من يسبّ أبويه، أو يتسبّبُ في سَبّهما من طرف الآخرين، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبره من الكبائر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مِنَ الكبائر شتمُ الرجل والديه». قالوا: يا رسولَ الله؛ هل يشتمُ الرجلُ والديه؟. قال: «نعَمْ، يَسُبّ أبا الرجل فيَسُبّ أباه، ويَسُبّ أمّه فيَسُبّ أمّه». متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعَنَ الله مَنْ لعَنَ وَالديْه..».



إخوتي الكرام؛ احذروا عقوق الوالدين:

إياكم وعقوق الوالدين؛ فإنه من كبائر الذنوب وموبقاتها، ففي الصحيحين عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.



إياكم وعقوق الوالدين؛ فإنه يوجب سخط الله تعالى وغضبه، فعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضى الرّبّ في رضى الوالد، وسخط الرّبّ في سخط الوالد». أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.



إياكم وعقوق الوالدين؛ فإنه يُذِلّ صاحبه يوم القيامة ويمنعُه من دخول الجنة.. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى». أخرجه الإمام أحمد والنسائي والطبراني، واللفظ للنسائي. وصححه الألباني في صحيح الجامع.



فيا من تريد الجنة؛ اجتنب العقوق، واجتهد في برّ والديك، فذاك سبيلك إلى الجنة.. عن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها». أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.



فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لآبائكم قدرَهم، واحفظوا لهم مكانتهم، وأدّوا لهم حقوقهم التي أوجبها الله عليكم.. وَقرُوهم واحترموهم، وأطيعوهم، وأدخِلوا السرور عليهم، وتجنبوا كل ما يُغضِبهم ويُؤذِيهم..



فاللهم اجعلنا بارّين بآبائنا وأمهاتنا، وأعنا على أداء حقوقهما على الوجه الذي يرضيك عنا، يا رب العالمين.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهما كما ربونا صغار، اللهم متع الأحياء منهم بالصحة والعافية ووفقهم لما تحبه وترضاه، وارحم الأموات منهم برحمتك الواسعة، واجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم. يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.

اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، وأصلح أحوال المسلمين، واشف مرضى المسلمين أجمعين.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.77 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]