عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 10-04-2019, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)





الاستلهام بين انتزاع البنية ومحاورة النص الكلي:

تتداول المعاني وتتطور بين الشعراء، فلست أزعم أن لبيداً له السبق في كل المعاني المأخوذة منه، بل أخذ هو بعضها من غيره، ولكنه أعطاها من روحه وصياغته ما جعلها مثيرة وأخاذة، فأخذ هو؛ كما مر من بيت طرفة بن العبد، وبثه لبيد من روحه، ولكنه كثير السبق إلى المعاني والابتكار، مما دفع الشعراء الكبار إلى احتذائه؛ من ذلك ما يرصده ابن قتيبة من ابتكارات لبيد(278) التي لم يسبق إليها(279):
من المسبلين الريط لذا كأنما تشرب ضاحي جلده لون مذهب
أخذه الأخطل (غياث بن غوث ت90هـ)، ونقله من إيقاع الطويل إلى إيقاع الكامل محتفظاً بقافيته كثير من ألفاظه(280):
لذ تقبله النعيم كأنما مسحت ترائبه بماء مذهب
تنطبق على الأخطل في ذلك رؤية إيليا حاوي لنفسيته وشعره، حين رآه مولياً وجهه شطر كعبة التقليد، ولكنه ينفذ إلى المعاني العظيمة، ويكسوها بحلته التعبيرية الخاصة(281)، مثال ذلك ما نجده أحياناً حتى عند المجددين؛ كما هو الحال عند أبي نواس (الحسن بن هانئ ت198هـ) الذي أطال النظر في قول لبيد حين يذكر قوماً ماتوا(282) في قوله(283):
وإنا وإخواناً لنا قد تتابعوا لكالمغتدي والرائح المتهجر
فينقله النواسي من إيقاع الطويل إلى إيقاع الخفيف المجزوء محتفظاً أيضاً بقافيته(284):
سبقونا إلى الرحيـل وإنا على الأثر
وفات ابن قتيبة أن معاني النواسي تدور كلها في هذه القصيدة حول التباين والتناقض في طباع الناس، وضرب الأمثلة على تحول النعم، وزوال ذوي السطوة والحول والطول؛ ولذا فإني أرى أن التواشح لم يكن على مستوى بنية تركيبية، أو صورة جزئية، أو بيت بتمامه، بل على مستوى البناء الجزئي، أو الكلي للقصيدة، وتأكيداً لذلك لو أخذنا البيتين السابق واللاحق لبيت لبيد المذكور عنده لوجدناهما كالآتي(285):
نحل بلاداً كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
هل النفس الأمتعة مستعارة تعار فتأتي ربها فرط أشهر
ولو أخذنا قصيدة النواسي كاملة لوجدناها كالآتي(286):

يا بني النقص والعبر وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطباع على القرب في الصور
والشكول التي تبا ين في الطول والقصر
أحتساء من الحرام وختماً على الصرر
أين من كان قبلكم من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم المدائن واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيــل وإنا على الأثر
من مضى عبرة لنا وغدا نحن معتبر
إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر
فكأني بكم غداً في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصور إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القباب عليكم ولا الحجر
حيث لا تظهرون فيــها للهو ولا سمر
رحم الله مسلماً ذكر الله فازدجر
فالقصيدة كلها لا تبعد أن تكون نسجاً مطرداً على منوال لبيد، وليست تشابهاً بين بيت وآخر كما توقف ابن قتيبة عند تلك المشابهة الجزئية.
ترك لنا أبو نواس نفسه ما يؤكد تمثله للشعرية العربية القديمة، وتأثيرها في إبداعه حين "استأذن خلفاً الأحمر في نظم الشعر؛ فقال: لا آذن لك في عمل الشعر إلى أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ومائة أرجوزة قصيد ومقطوع فغاب عنه مدة، وحضر إليه، فقال له: قد حفظتها، فقال: أنشدها، فأنشده أكثرها في عدة أيام ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له الآذن لك إلى أن تنسى هذه الألف أرجوزة، كأنك لم تحفظها، فقال له: هذا أمر يصعب علي؛ فإني قد أتقنت حفظها، فقال: لا آذن لك أو تنساها، فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه، وأقام مدة حتى نسيها، ثم حضر إليه، فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط، فقال: الآن فانظم الشعر(287). "وهو ما يوضح لنا سر تأثر النواسي بلبيد تأثراً عميقاً يتجاوز التركيب والصورة والبيت إلى القصيدة الكاملة. ولا غرو، فالشعراء الكبار قد تأثروا بلبيد لأن الشاعر الكبير لا يوجد من فراغ، بل هو كالذئب الذي يحتوي خرافاً مهضومة بالهضم والتمثل والتجزئ والنقل والتفصيل والبسط والحوار والتكثيف، إلى ما لا نهاية له من صور التناص(288). وقد تنبه قدماؤنا إلى ذلك، وبخاصة ابن طباطبا وابن خلدون (ت808هـ) في تعريفهم لما يمكن تسميته وعاء الذاكرة التي يعاد تدويرها في قصائد أحدث، تعيد إنتاج القديم بروح جديدة، وتضيف إليه من إبداعها، بعيداً عن المفهوم الضيق للسرقات الذي استغرق بعضهم(289).
ولا شك أن الشعراء الكبار كتميم بن مقبل، والنابغة الجعدي، والطرماح، وجرير، والفرزدق، وذي الرمة، والأحوص، وبشار، والبحتري، وأبي تمام، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، ومهيار، وابن قلاقس، والشريف الرضي، وابن زيدون، وابن سناء الملك، وابن النبيه، وعلي الجارم،، وشوقي، وبدوي الجبل، وعامر بحيري، ومحمود درويش وغيرهم كثير قد تأثروا بلبيد تأثراً واضحاً.
وللبيد بيت أيقوني شغل جزءاً من الثقافة، وكون نسقاً مضمراً يؤكد أن كل جيل يرى من قبله أفضل منه، وأنه يعيش في الأسوأ، ويتمنى أنه لو عاش مع سلفه الأسوياء، لا مع خلفهم الأشقياء؛ فهذا عبد الله بن عروة بن الزبير، الشاعر والخطيب، وراوي الحديث الثقة، يصف تبدل القوم(290):
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاًب شوا إلي ورحبوا بالمقبل
وبقيت في خلف كأن حديثهم ولغ الكلاب تهارشت في المنزل
ولأن الرجل محدث، فقد شغله قول لبيد من ناحية، كما شغله الحديث الشريف، الذي يوضح كيفية طهارة الإناء من ولغ الكلاب: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه، وليغسله سبع مرات"(291) بوصفها أشد النجاسات التي يصعب إزالتها بالطرق الميسورة المأهولة. فتسرب الحديث كنسق ثقافي إلى أهل الحديث ليكسبوه بعداً اجتماعياً آخر يكشف مفارقة حادة بين السلف والخلف، تنبئ عن عظيم غيظه من أهل زمنه.
ومما ينسب إلى عبد الله ابن أبي طاهر، وحكي أن الرشيد قرأها مكتوبة في لوح على أحد جدران بني برمك بعدما أبادهم(292):
يا منزلاً لعب الزمان بأهله طوراً يفرقهم وطوراً يجمع
أين الذين عهدتهم بك مرة كان الزمان بهم يضر وينفع
(ذهب الذين يعاش في أكنافهم) وبقي الذين حياتهم لا تنفع
أصبحت تقزع من رآك، وطالما كنا إليك من الحوادث نفزع
أيام لا أغشى لأهلك مربعاً إلا وفيه للمسرة مربع
لهفي عليك، لو أن لهفا ينفع أو أن دهراً راحم من يجزع
ما كان ذاك العيش إلا خلسة خطفاً كرجع الطرف أو هو أسرع
فالنص كله تنويع على بيت لبيد، وليست المسألة انتزاع بنية جزئية، بل قد يمتد التناص حتى يحاور النص الكلي بنية ومعنى.
البيت المكتنز، والخطاب المكتنز:

النص المكتنز هو نص يثير مخيلة المتلقي، وقد يدفعه إلى نشاط إبداعي آخر(293)، يشكل من خلاله تشكيلات وتأويلات يمارسها وعيه مدركاً التضمينات والإحالات المحتملة لهذا الكنز حتى يخرج من حيز النص إلى التعبير عن الوعي الثقافي والحضاري في نصه الجديد.
ويمكننا أيضاً أن نقول عن بيت لبيد(294):

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
إنه البيت المكتنز بالدلالات القادرة على أن تحوي خطاباً مكتنزاً قابلاً للتمدد عبر النصوص؛ كما مر بنا من أخذ (عبد الله بن عروة) البيت، وتوزيعه بآليتي الامتداد والتحويل بحيث صار كل شطر بداية لصدر بيت عنده. أما ابن أبي طاهر؛ فقد احتفظ بالصدر، وحول العجز ليوافق الصدر الملهم، ووطأ لهذا المعنى الملهم ببيتين ليولد من معناه المكتنز باقي أبيات المقطعة التي احتفظت بالنص، ولكنها أعادت تشكيل الخطاب وفق لحظة حضارية مختلفة، حيث أخرج البداوة والصورة البدوية المستمدة من جلد الجمل الأجرب إلى الامتداد العمراني والحضاري الذي ملأ حيز المكان والزمان، والوجدان في العصر العباسي. والمقطعة كلها نسج على منوال لبيد، وهو ما يطلق عليه الإشباع النموذجي، أو إشباع النموذج الشعري؛ ويقصد به أن هناك نصوصاً لها حضور طاغ في الذاكرة الشعرية، مما يغري النصوص الجديدة بالحوار معها، وخاصة التجارب ذات الظل الإنساني الكثيف. ولذا فلا يكتفي التناص الجزئي بأن يطل برأسه عند بيت أو مقطع، بل يمتد تفاعله على مستويات عدة؛ مما يجعلنا إزاء نموذجين: سابق، ولاحق، وتكون الغلبة في النهاية غالباً للنص السابق، وهو ما يدل على محوريته واستقطابه وحواريته وقدرته على التأثير في اللاحق، والنفاذ إلى الحاضر من خلاله؛ إنه نص ذو نفوذ وسيطرة(295) وممن أولعوا بهذا البيت فأحدث فيه تحويلاً وتوسيعاً، جحظه البرمكي (أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى ت326هـ)(296):
أصبحت بين معاشر هجروا الندى وتقبلوا الأخلاق عن أسلافهم
قوم أحاول نيلهم فكأنما حاولت نتف الشعر من آنافهم
هات اسقنيها بالكبير وغنني ذهب الذين يعاش في أكنافهم
والملاحظ هنا أن جحظه قد أحدث في بيت لبيد تحويلاً وتوسيعاً معاً، وواضح أنه كان شديد الولع بالبيت؛ فضمنه أكثر من مرة(297)، والغريب أن يعلق البلاغي ابن الأثير (ضياء الدين ت637هـ) على البيت في كتابه هكذا: "الضرب الثاني من التضمين: وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاماً آخر لغيره، قصداً للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود، ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى تاماً.
وربما ضمن الشاعر البيت من شعره بنصف بيت، أو أقل منه، كما قال جحظه:
قم فاسقنيها يا غلام وغنني ذهب الذين يعاش في أكنافهم
ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت "ذهب الذين يعاش في أكنافهم "لان المعنى تاماً لا يحتاج إلى شيء آخر، فإن قوله: "قم فاسقنيها يا غلام وغنني" فيه كفاية، إذ لا حاجة له إلى تعيين الغناء، لأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم، لا على الغرض المقصود"(298).
وهذا كلام عجيب؛ لأن الصدر هنا غير مقصود لذاته، مع ما فيه من تهيئة للمتلقي، بل إن المعنى المقصود كله يستكن في العجز المضمن.
واستغل الصفدي هذا المعنى المكتنز؛ فأخذه مثالاً ومثلاً لشيوع المصيبة والبلوى في عيوب الناس، حتى في النخبة من المحدثين والفقهاء والنحاة، والقراء، وأهل اللغة، والإخباريين(299).
وفي القرن الثالث عشر الهجري يقول سعيد بن القاسم بن صالح الشهير بالحلاق الدمشقي (1259هـ):
نظر الزمان إلى من طرف قذي يوماً فقلت منادياً من منقذي
فنظرت في كل الجهات فلم أجد حلاً يغيث فقلت غب تعوذي
إلى أن يختم مقطوعته(200):

ذهب الذين يعاش في إكنافهم وبقيت في خلف كجلد القنفذ
فحذف (الأجرب)، واستبدل بها (القنفذ) دلالة على انسحابه من ناحية، ومواجهته إياهم بحصن واق مؤذ لهم من ناحية أخرى، وربما انسحب المعنى على أهل زمانه أيضاً الذين صاروا كالقنافذ المذعورة. والصورة فيها نوع من السخرية والازدراء لأهل زمانه، تشكل تطوراً دلالياً؛ فإذا كانوا هم القنافذ، فقد سخر من تقوقعهم وانسحابهم. وإذا كان هو القنفذ فهم الحيات والأفاعي الخبيثة السامة التي صارت رمزاً للإيذاء والخبث والعدوان الماكر والموت المحقق في الخيال البشري منذ الأزل(301)، لارتباط القنفذ بها مع ضعفه يستطيع أن يصطادها على أسهل الوجوه(302).
ومن ذلك ما فعله أبو نواس بالمعنى على طريقته، وتمثل به العلماء وأهل الحديث "ساق الذهبي، رحمه الله تعالى، في ترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين ت سنة (218هـ) أنه قال: "كثر تعجبي من قول عائشة: ذهب الذين يعاش في أكنافهم(303)، لكني أقول(304):
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا خلفاً في أراذل النسناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم بدروني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني مفلت عند ذاك رأساً برأس
في أناس تعدهم من عديد فإذا فتشوا فليسوا بناس
ومن هذه السخرية الممضة ما نجده عند ضرب المثل الشعري في أنه لا يريد الثناء إلا أن يكون مطابقاً للواقع بلا إفراط ولا تفريط، وإلا كان من المذموم الممقوت الداخل تحت قول القائل(305):
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
وينسب البيتان مع غيرهما للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه(306):
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
سلكوا بنيات الطريق فأصبحوا متنكبين عن الطريق الأنور
أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطنا بكل مصيبة في ماله فإذا أصيب بدينه لم يشعر(307)
فبسط معنى البيت وحمل معاني جديدة بالتحويل والتوسيع؛ فهؤلاء الخلف الجدد ليسوا بدواً يعيشون كما يعيش الفارون من الجرب، بل هناك مؤامرة، في ظنه، فيها من الخسة ما يدفع إلى انهيار المجتمع؛ فقد تحولوا من قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إلى قوم يزكي فيهم صاحب النقيصة والرزيلة صاحبه الناقص المرذول؛ فيضيع الكرام في مجتمع اللئام، ويفتن الأحوص الأنصاري في نتفة له(308):
ذهب الذين أحبهم فرطاً وبقيت كالمقمور في خلف
من كل مطوي على حنق متضجع يكفي ولا يكفي
لم يتكئ الأحوص على بيت لبيد فحسب ليحمله شكواه، بل تحاور مع التيمة الثانية التي أشرت إليها آنفاً؛ وهي تيمة متمم بن نويرة وأخيه مالك؛ فأحدث ما يمكن أن نقول عنه تضفير التيمتين والاعتماد على بنيتهما اللغوية والإيقاعية والتصويرية؛ فكما يتضح لنا أثر لبيد في أربد، يتضح لنا بشيء من التمعن أثر متمم بن نويرة في قوله(309):
إذا جرد القوم القداح وأوقدت لهم نار أيسار كفى من تضجعا
فالملحوظ أن الأحوص أفاد من البنى اللغوية للبيد ومتمم معاً، ولكنه التزم بالبنية الإيقاعية لبيت لبيد، وشكل معنى جديداً يحمل روحه، ويعبر عن تجربته بكل صدق، وإن كان الأحوص في النهاية شديد الولع بلبيد، بل يفتخر أنه يضمن شعره شيئاً من شعر لبيد، ويأخذ من معانيه، مبرئاً نفسه من تهمة سرقة معاصريه(310)، مؤمناً بأن لبيداً صار إطاراً ثقافياً عاماً مشروعاً.
ولا يكتفي ابن معصوم المدني (ت1119هـ) بالبناء المعنوي حتى يضمن صدر البيت في عجز الختام عنده(311):

لله إن معاشراً آلفتهم فحويت فضل المجد في إيلافهم
ذهبوا فأخلفت الليالي عنهم قوماً يرون الجود في إخلافهم
عش عائلاً فالدهر أنشد قائلاً ذهب الذين يعاش في اكنافهم
وإن كان بناء بيت جحظة البرمكي لم ينل إعجاب ابن الأثير؛ كما مر بنا؛ فإن ابن معصوم استبدل بقول جحظة الموطئ: "قم فاسقنيها يا غلام وغنني" قوله: "فالدهر أنشد قائلاً". وتكرار صيغة الإنشاد والغناء يؤكد أن هذه سمة الدهر، وأن كل جيل أفضل مما بعده؛ فناس زمانه يرون في الإخلاف جوداً؛ ولذا فاليأس منهم واجب، كما أنها صيغة موطئة لقول عام مهم يأتي بعدها، وفيها من التنبيه، ولفت الانتباه ما فيها.
ويبني أحمد شوقي على هذا البيت الملهم رأيه في عصره، وسياسته، وأهله، وشكواه من القضايا الوطنية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والحضارية، وما يعانيه من تخلف بسبب الشقاق وسيطرة الفاسدين الذين يتشحون بوشاح الهداية زوراً وبهتاناً(312):
ذهب الكرام الجامعون لأمرهم وبقيت في خلف بغير خلاف
أيظل بعضهم لبعض خاذلاً ويقال شعب في الحضارة راقي
وإذا أراد الله إشقاء القرى جعل الهداة بها دعاة شقاق
ولأن شوقياً يمتلك من الحكمة ما يمتلك لبيد، فقد اتكأ على حكمة لبيد مولداً حكمته الخاصة في البيت الأخير، وكما استطاعت حكمة لبيد أن تجد من يتلقاها في زمن شوقي إبداعاً لعمقها وقدرتها على الغوص في أعماق النفوس البشرية، وتبدل طبائع الناس؛ فإن حكمة شوقي تمثل عصرنا، حيث نرى أسوأ أنواع الرذيلة عندما يتزيا الفاسدون ثياب الفضيلة.
وإذا كان الحلاق الدمشقي وابن معصوم قد ختما ببيت لبيد نصيهما؛ فإن ابن لنكك البصري (أبو الحسن محمد بن محمد ت360هـ) كان قد حاور البيت، وأشار إلى معنى طريف في مطلع مقطوعته(313):
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف بلا أكناف
بطيالس وقلانس محشوة يتعاشرون بقلة الإنصاف
ما شئت من حلل وفره مراكب أبواب دورهم بلا أجواف
يولد الدمشقي عجز بيته من صدر بيت لبيد، ليغبطه على أنه وجد من يعيش في كنفه في حين أنه لم يجد هذه الأكناف التي يعاش في ظلها بين أهل زمانه، ثم ينقلنا إلى صورة حضارية تناسب عصره الذي تطور وتحضر من حيث الشكل الخارجي والمظاهر المتصلة بالملابس، والطيالس، والقلانس في مظاهر خداعة مخادعة، ولكنهم في جوهرهم آنذاك لما يعرفوا عدلاً ولا إنصافاً؛ فهم في حلل وافرة، ومراكب مذهلة، ولكن الجوهر خاو؛ فهم كالدو الفارغة.
ونجد هذه المرارة المنعكسة من المفارقة التصويرية في مواضع كثيرة؛ عند غيره؛ منها تلك الصورة اللاذعة النقد في قول أبي محمد لطف الله المعافى (من شعراء اليتيمة) متشحة بالسخرية الموجعة والتصوير الكاريكاتوري(314):
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وهم الكرام السادة الأشراف
وبقيت في خلف كأن وجوههم خبز الشعير إذا علاه جفاف
فوجوه أهل زمانه جافة خشنة، فيها من البؤس البغيض والفقر المصطنع مثل ما يبدو على رغيف الشعير الجاف، ولا يرغب فيه؛ ولذا يؤكل ويذم ولذا فهو أدنى أنواع الخبز(315).
ويبدو أن بيت لبيد شغل كثيراً من شعراء اليتيمة؛ منهم أبو بكر الخوارزمي(ت382هـ)( 316):
بودي لو رأى كنفيه يوماً ومن قد عاش تحتهما لبيد
يشير الخوارزمي إلى كنف لبيد، ولكنه يغبطه فيه؛ فقد افتقده غيره، ولم يره يوماً واحداً، وكثيراً ما يضمن الخوارزمي شعره من شعر لبيد وغيره(317)، وهكذا تنوعت آليات الشعراء في تثوير هذا الخطاب المكتنز عبر خطاباتهم المختلفة من خلال بيت لبيد المكتنز لدلالات قادرة على اختراق حواجز الزمن لما يحتويه من خطاب إنساني عام.

3- الارتداد العكسي بين التناسل والمعارضة:
تتفاوت طبائع المتلقين ومشاعرهم بلا شك، ومن هنا يمكننا فهم تفاوت الارتداد العكسي لشعر لبيد ومواقفه. ويقصد بمفهوم الارتداد العكسي النص الذي ينتجه المتلقي عندما يتأثر بنص ما؛ فيثيره إلى إبداع نص آخر فيتحول المتلقي إلى مبدع. ولا يشترط في نصه أن يكون توافقياً مع النص الأول، بل هو ارتداد عكسي لإعجابه به، حسب ملكاته، وخبرته، وتجربته، الجمالية، وقدرته على الاكتساب من التجارب الكبرى المؤثرة، والاستبصار بها(318) وهي رد فعل النص. من ذلك ما حكي من اجتماع مروان وابن الزبير عند أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وأن مروان ذكر بيتاً للبيد في رثاء أربد (من الطويل):
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يعود رماداً بعد إذ هو ساطع
فتعجب منه. قال ابن الزبير: وما تعجبك؟ لو شئت قلت ما هو أفضل منه:

ففوض إلى الله الأمور إذا اعترت فبالله –لا بالأقربين- تدافع
قال مروان:

وداو ضمير القلب بالبر والتقى ولا يستوي قلبان: قاس وخاشع
وقال ابن الزبير:
ولا يستوي عبدان: عبد مصلم عتل لأرحام الأقارب قاطع
قال مروان:
وعبد تجافي جنبه عن فراشه يبيت يناجي ربه وهو راكع
قال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهديهم إذا جمعتهم في الخطوب المجامع
قال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير، فقالت له عائشة: ما سمعت مجادلة قط أحسن من هذه، ولكن لمروان إرث في الشعر ليس لك.(319) "وهو من الأبيات السائرة؛ كما يرى الثعالبي (أبو منصور ت429هـ)(320)، ومن العجيب أن يصنفه ابن طبا، وهو الناقد المتمرس، من "الأبيات الحسنة المعاني الواهية الألفاظ، ومن الحكم العجيبة، والمعاني الصحيحة، الرثة الكسوة، التي لم يتنوق في معرضها الذي أبرزت فيه.(321)"
في الوقت الذي يراه شهاب الدين النويري (ت773هـ) من أبرز أمثلة الملاءمة؛ وهي "تأليف الألفاظ الموافية بعضها لبعض على ضرب من الاعتدال(322)" ويرى فيه الراغب الأصفهاني (ت502هـ)، تلخيصاً لماهية الإنسان مساوياً لسؤال جالينوس (ت200م) عنها، فقال: سراج ضعيف وكيف يدوم ضوؤه بين أربع رياح؛ يعني بالسراج روحه وبالرياح الأربع طبائعه(323)". أما ابن الرومي فنظر إلى المعنى، وأكسبه حلته؛ فقال من الوزن نفسه(324):
محار الفتى شيخوخة أو منية ومرجوع وهاج المصابيح رمدد
وعده ابن سعيد المغربي (ت685هـ)، من الشعر المرقص في الإسلام لشاعر من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم(325).
واللافت، أيضاً، أن الارتداد العكسي للبيت الذي تفاوتت آراء النقاد حوله إلى درجة التناقض الحاد يتمثل به في بنية هذه الحكاية الطويلة التي تناسلت فيها من بيته أبيات تستمد من وزنه وبنيته ومعناه، وهو بيت في رثاء أخيه أربد الذي تآمر مع عامر بن الطفيل على قتل النبي صلى الله عليه وسلم. والبيت يتمثل به في حضور أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، التي روت للبيد؛ كما مر بنا، ولكن الشعراء يحاولون الحوار مع البيت حول المعنى من نواحٍ فلسفية وإيمانية متفاوتة بارتداد عكسي متفاوت أيضاً.
أما بيته الأشهر الذي شغل الشعراء، ورآه السلف خير ما قيل في العزاء عن كل غالٍ ونفيسٍ(326)؛ فهو قوله(327):
وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع
وقد سرى مسرى المثل عند القدماء(328) وبنى عليه أبو عبد الله محمد بن الهيصم، رأس فرقة الكرامية، مقطوعة من الوزن نفسه، والقافية نفسها، مما جعله يضمن صدره عجزاً لبيته الثاني ليوطئ للبناء عليه في التركيب والقالب الموسيقي، ويبسط المعنى المكتنز في البيت(329):
ألا إنما الإنسان كاسب نفسه فلا الشر منسي ولا الخير ضائع
وما المرء إلا للحوادث نهبة (وما المال والأهلون إلا ودائع)
وما جسد الإنسان إلا كعلة مورثة سلالة الموت تابع
ومن لم يزعه العقل عما يشينه فليس له إلا المقارع وازع
ومن يركب الإعجاب يخذل ومن يرد حياض الهوى أكدت عليه المشارع
عجبت لهذا السائلي أين أنتوي؟ وهل منتوى إلا إلى الشار شارع؟
وممن بنى مقطوعة كاملة على هذا البيت يزيد بن الحكم الثقفي (ت105هـ) الذي يقطر حكمه البيت، ويكثفها حتى تمطر عليه حكمة أوسع تشمل رؤيته إلى الحياة والأحياء(330):
ترى المرء يخشى بعض ما لا يضيره ويأمل شيئاً دونه الموت واقع
وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن ترد الودائع
فكل أماني امرئ لا ينالها كأضغاث أحلام يراهن هاجع
وفي اليأس من بعض المطامع راحة ويارب خير أدركته المطامع
أبي الشيب والإسلام أن أتبع الهوى وفي الشيب والإسلام للمرء وازع
وواضح أنه بنى مقطوعته داخل الإطار الموضوعي والموسيقى لبيت لبيد، مع الإقرار بوجود أثر لشعراء آخرين كسحيم عبد بني الحسحاس (ت40هـ) داخل الإطار الثقافي ليزيد.
وإذا كان البيت مؤثراً في الإطار الثقافي لشعراء العصرين الأموي والعباسي، فإنه ظل يشغل خيال الشعراء ووعيهم بعد ذلك؛ فيبني ابن نباتة المصري (ت768هـ) داخل هذا القالب الموسيقي وزناً وقافية، وإن تحول بالموضوع من الرثاء إلى الغزل(331):
يفوت عياني مشهد من جمالكم فيجمع طرفي والمدامع جامع
هوى مطمع إنسان عيني وإنما تقطع أعناق الرجال المطامع
بروحي من نظمت في خصرها الثنا فرح وفي لا شيء نظمي ضائع
وأودعتها قلبي وصبري والكرى وحكم الهوى أن لا ترد الودائع
والنص على كل حال قائم بنفسه في زمنه، وإن استقى من الماضي وسياقاته، وحاوره وحوره، ليعيده في نشأة أخرى، والقراءة له تعيده في نشأة جديدة في حاضرها، فتحرره من ذاكرة التاريخ؛ لتكون آثار حضوره دائمة في غير انقطاع(332). فابن نباته تسيطر عليه ذكرى لبيد، وبخاصة مأساة أربد؛ فيعيد تشكيلها في مدحته فخر الدولة(333):
وأدهم رهوال بقرية أربد شلت له الأحمال بالرجل واليد
وفارقته أبكي عليه حقيقة بكاء لبيد يوم فرقة أربد
ويبدو أن ابن نباتة أتى بذكر قريته (أربد) بداعي المجانسة ليوفر لقصيدته أعلى قدر ممكن من الطاقات الإيحائية والجمالية. ولأن شعر المديح خاصة سلعة يبيعها الشاعر للمشتري؛ فلابد أن يقربه إليه ويغريه به باستيعاب الميراث الثقافي ومعرفة مدى وقعه وسحره في ترويج سلعته، وأن يضمن لها القبول والتحبب إلى النفوس بأن يكون سهلاً مألوفاً وثيق الصلة بمناطق القبول لدى المشتري في صورة حسنة وخلقة تامة نسيجاً وتصويراً(334) حتى صرح صر در (أبو منصور علي بن الحسن بن الفضل ت465هـ) أن الشعر سلعة، وللأشعار أسعار(335):
ولست أرخص أقوالي لسائمها إلا عليك وللأشعار أسعار
ولا يستحيي الشعراء من بعده أن يصرحوا بهذه المتاجرة التي تستلزم كل ما يمكن شراء رضا المشتري للسلعة المعروضة؛ فيكرر ابن قلاقس (نصر بن عبد الله ت 567هـ) بكل صراحة(336):
أغليتها بدلاً وأعليتها فضلاً وللأشعار أسعار
فكان على ابن نباتة أن يعلي من قدراته التصويرية باقتباسه من صور الآخرين ومعانيهم وتوشيتها بالزخرف البديعي"(337). وقد كان اللاوعي الجمعي المتعلق بالنماذج الأصلية والأصيلة مرتفعاً وحساساً، ومستثاراً دوماً عنده(338)؛ فلم يكتف بتشبيه حالته من استبداد آلام الفراق به بحالة لبيد يوم فارق أربد فجانس بين المدينة (اربد)، و(أربد) الأخ الفقيد للبيد. ومعنى ذلك أن أربد صار أقرب للذاكرة في عمليات الاستدعاء اللاواعي، ولولا بلبيد لما سمعنا به، ولا طغت حروف اسمه للمجانسة البديعية لتوشية صورة ابن نباتة المستوحاة من مأساته. ولم تكن ذكرى أربد ستتجاوز ذكرى أولئك النكرات الذين حاولوا وضع القاذورات في طريق نبينا صلى الله عليه وسلم، أو من حاولوا اغتياله، ووضع السم له في الطعام، ولكنه سحر الشعر الذي يصنع تلك الذكرى المستديرة المحتومة التي لم تسيطر على ابن نباتة فحسب، بل كانت جزءاً من الذاكرة الجمعية التي تجعل لشعره بريقاً عند متلقيه، وتسويقه.
هذه التوشية البديعية لم تكن سر عبقرية البحتري الشعرية عندما حاور قول لبيد في أربد(339):
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
ونقل المعنى من إيقاع المنسرح إلى إيقاع الكامل:

لو أنني أوفي التجارب حقه افيما أرت لرجوت ما أخشاه

ولكنه أحسن وطغى اقتداراً على العبارة واتساعاً في المعنى؛ كما يقول عبد القاهر (ت471هـ)(340)، في حين اكتفى آخرون بمعارضة البيت وزناً وقافية، ولم يخرج كثير منهم عن حمولته الفلسفية والفكرية بوصفه نصاً من نصوص الألفة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]