عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 10-04-2019, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)


وصف الناقة: لم تكن الناقة مجرد البساط السحري الذي ينقل العربي من مكان إلى آخر، بل تحولت إلى بساط للشاعر ينتقل من خلاله من معنى إلى آخر، ومن فكرة إلى أخرى في القصيدة العربية القديمة، وظلت مفتاح المقدمة الوصفية، سواء أوقف الشاعر على الديار، ووصف الأطلال، أم لم يقف(215). وهو ما نجده عند بعض الباحثين الذين تحدثوا عن العلاقة بين أسباب تطور شعر الطبيعة في العصر الجاهلي وإجادة لبيد في وصف الناقة؛ فرأى أن لبيداً نجدي عاش في بيئتها الواسعة التي جعلته يربط بين ناقته وبينها، وينتقل إلى أعماقها وأخلاقها، في صور تعد حركة انتقال في شعر الطبيعة العربي(216)؛ وهو ما يفسر لنا تجاوز ولع الطرماح بشعر لبيد، وتجاوزه دائرة الحزن العميق إلى دائرة الوصف، ودوائر أخرى متداخلة ومتآلفة، كما يتبين لنا في مواضع مختلفة من البحث؛ ومما لاحظه ابن قتيبة في هذا السياق أن الطرماح نظر طويلاً في وصف لبيد للناقة(217)، وبخاصة في قوله(218):

كعقر الهاجري إذا ابتناه بأشباه حدين على مثال
فأعاد الطرماح صياغته، وبسطه في بيتين(219):
حرج كمجدل هاجري لزه بذوات طبخ أطيمة لا تخمد
عملت على مثل فهن توا [ئم] شتى يلاحك بينهن القرمد
وتنبه معاصروه إلى تفوقه في ذلك؛ فنسجوا على منواله، ولاحظ ابن قتيبة ذلك، وذكر نماذج منه(220)؛ ومن ذلك ما نجده في قوله(221):
لها حجل قد قرعت من رؤوسه لها فوقه مما تحلب واشل
أعجب به النابغة الجعدي (ت50هـ)؛ فأعاده في قوله(222):
لها حجل قرع الرؤوس تحدرت على هامها بالصيف حتى تمورا
وظل الأمر هكذا حتى العصر الحديث؛ فالبارودي يتناص مع لبيد في مواضع مختلفة من ديوانه؛ منها قوله متأثراً بوصف لبيد الناقة(223):
أفذاك أم ضرغام خيس مدهس تنجاب عن أنيابه الأشداق
وواضح أنه متأثر فيه بقول لبيد في معلقته جامعاً بين وصف الناقة المسبوعة، والأتان، والبقرة الوحشية في لوحة فنية(224) ينتقل من خلالها بجملته الإنشائية من سياق إلى آخر ومن صورة إلى أخرى(225):
أفتلك أم وحشية مسبوعة خذلت وهادية الصوار قوامها
ورأى أستاذنا محمد زكي العشماوي، أنه لم يكتف بدلالة الاستفهام، أولم تكفه الصورة التي رسمها لناقته، فما زال يتفنن ليزيدها وضوحاً، أو بالأحرى لينفس عن مشاعره الحبيسة من خلال تلك الصور الحزينة المتتالية، أو من تفاصيل الصورة الواحدة ذات الأبعاد والمرامي والأعماق(226).
وفطن بعض الباحثين لما بين التركيبين من تماثل من حيث الاستفهام المتبوع باسم الإشارة (مبتدأ خبره محذوف) ثم حرف العطف، فالمعطوف، فالنعت المفرد، فالنعت الجملة، مع استبدال ضرغام بوحشية مع اختلافهما في الدال واتفاقهما في المدلول السياقي للقصيدتين، وارتكاز الشاعرين على هذا الموصوف في استكمال البيت والمعنى المراد لكل منهما(227).
وأرى أن الحزن هو الجامع بين الشاعرين، وأن روح لبيد المفعم بالحزن قد تلبست البارودي؛ فاحتذى حذوه بالتداعي الحر دون تعمد يفسد النص الإبداعي النابض بذاتيته الحزينة، ومشاعره الصادقة.

2- استدعاء التيمة وتداعي المعاني:
المقصود بتداعي المعاني هو إحداث علاقة بين مدركين لاقترانهما في الذهن بسبب ما(228)، ويتلخص في ترابط الصور الذهنية المتشابهة في الذهن بحيث يستحضر بعضها بعضاً(229) فعند ذكر إحداها تتداعى الأخرى تلقائياً بالاستجابة الشرطية كما يرى علماء النفس.
واقترن التفكير في الخيال بنظرية تداعي المعاني في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ ولا يشترط في هذه المعاني المشابهة، بل قد يرتبط بعضها ببعض بالضدية أو المناقضة أو المنافاة أو التلازم أو التكامل. ورأى العلماء أن بين تداعي المعاني والسرقات الشعرية خيطاً دقيقاً رفيعاً، لا يدركه سوى الذواقة الفاقه في المعاني، واللبيب في إدراك الفروق فيها، بحيث لا تخطئه حافظته في كونه قد سمع هذا المعنى أو لاحظ هذه الصورة من قبل عند شاعر من الفحول؛ وهو ما أسهم الفيلسوف الإنجليزي هوبز (ت1679م) في تعميق فهمنا له، وأرسى مبادئه بحيث صار أكثر وضوحاً(230). كما استطاع الفيلسوف الاسكتلندي جيمس مل (773- 1836م) أن يواصل النظر في هذا المفهوم، حين نشر كتابه "تحليل ظواهر الفكر الإنساني (1829م) وعرض فيه مذهب تداعي المعاني في صورة أوضح، وبمادة علمية وتمثيلات أغزر مما جاء عند (أراسم درون) و(ديفيد هارتلي)، اللذين أوحيا بهذا المفهوم إليه(231).
وينبغي على الشاعر الحقيقي أن يتحين الفرصة، وألا يفكر أو يعبث في شعره معتمداً على مخزونه حين لا تكون المناسبة مهيأة، فلا تلوح وحدة تأليفه في غير تداعي الألفاظ، أو على الأكثر تداعي المعاني لروابط شكلية أكثر منها داخلية؛ كما يرى مندور(232)، أو يكرر ذلك حتى يمل المتلقي ويألفه، ويتوقعه، فتقع قصيدته منه موقعاً فاتراً لا روح فيها ولا حياة.
ولا يتوقف الاستدعاء على هذه التيمة، بل تستدعي بطبيعتها استدعاء معاني من لبيد وصور وتراكيب لأن طبيعة الاستلهام معقدة، وعندما يستدعي الشاعر شاعراً آخر، أو يحضره الآخر في تجربته، فإنه من الصعب تنحيته والابتعاد عن تأثيره، بل إن أثره ليتسرب عن طريق اللاوعي وبشكل تلقائي ربما لا يعمد إليه الشاعر، ولا يشعر به، وللتدليل على ذلك نأخذ هذه الصورة التي استدعت لبيداً وأربد، في قصيدة للبحتري(233):
وأنا لبيد عند آخر دمعةيصف الصبابة والمكارم أربد
ونتتبع القصيدة نفسها، فنجد أن مطلعها(234):
يا يوم عرج بل وراءك يا غد! قد أجمعوا بينا وأنت الموعد
ألفوا الفراق كأنه وطن لهم لا يقربون إليه حتى يبعدوا
في كل يوم دمنة من حيهم تقوي، وربع منهم يتأبد
دمن تقاضاهن إعلان البلى هوج الرياح الباديات العود
وهو ما يذكرنا بمطلع لبيد في معلقته(235):
عفت الديار محلاه فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
دمن تجرم بعد عهد أنيسها حجج خلون حلالها وحرامها
لم يستحضر البحتري لبيداً بصورة عرضية، أو: بصورة الكولاج؛ وهو نوع من التناص انتقل إلى النص الأدبي من فن الرسم، ويقصدون به الملصقات للزينة(236) فلم يعمد البحتري إلى مجرد تزيين نصه، بل سيطر لبيد على نصه، وكان في وعيه منذ مراحل تشكيله الأولى.
من ذلك، أيضاً، أن الشاعر قد يستدعي تيمة لبيد؛ فتتداعى تيمات المهلهل، وأخيه كليب وائل، ومتمم بن نويرة وأخيه مالك وفق قانون تداعي المعاني؛ ومما يؤكد حضور الدوائر الثلاث في شعر الشعراء؛ ما نجده عند أبي فراس الحمداني (ت357هـ)(237):
سأبكيك ما أبقى لي الدهر مقلة فإن عزني دمع فما عزني دم
وحكمي بكاء الدهر فيما ينوبني وحكم لبيد فيه حول مجرم
وما نحن إلا وائل ومهلهل صفاء وإلا مالك ومتمم
يلمح أبو فراس إلى وصية لبيد إلى ابنتيه، ولكنه في الوقت نفسه يربط حكمه في البكاء بحزنه على أخيه، ثم تتداعى هذه التيمات المتشابهة والمترابطة؛ فيستدعي حزنه حزن متمم على مالك، ويردنا إلى دائرة أقدم هي دائرة المهلهل بن ربيعة وأخيه وائل. فالمهلهل هو أول من قصد القصائد وذكر الوقائع في قتل أخيه كليب وائل الذي قتله جساس بن مرة(238).
هذا التأصيل الذي صنعه أبو فراس أعطى لصورته أصالة دفعت الشهرزوي (محيي الدين أبو حامد كمال الدين ت572هـ) أن يضمنها في رثائه والده(239):
لقد عظمت بالرغم فيك مصيبتي وإن صوابي لو صبرت لأعظم
وكيف أرجي الصبر والقلب تابع لأمر الأسى فيما يقول ويحكم
وما الصبر إلا طاعة غير أنه على مثل رزئي فيك وزر ومأثم
وإني أرى رأي ابن حمدان في البكا أصاب سواء الحق والله أعلم
أردد في قلبي مع الناس نظمه وفي خلوتي جهراً به أترنم:
"سأبكيك ما أبقى لي الدهر مقلة فإن عزني دمع فما عزني دم
وحكمي بكاء الدهر فيما ينوبني وحكم لبيد فيه حول مجرم
سقاك ملث لا يزال أتيه كجودك يغني كل فج ويفعم
فالشهرزوي في خياله أسير (التوهم)، على حد تعبير (كولردج) الذي يشبه التوهم الذاكرة في أنه يتعين عليه أن يحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعي المعاني"(240): فكم من الصور والإحساسات يجمعها الشاعر دون عناء ودون أي نشاز(241)!، ونجد تشابهاً لذلك في تراثنا؛ من ذلك ما نجده في شعر أسامة بن منقذ (ت584هـ)، حين كتب إلى أخيه عز الدولة(242):
أساكن قلبي والمهامة بيننا وإنسان عيني والمزار بعيد
تمتلك الأشواق لي كل ليلة فهمي جديد والفراق جديد
ومعظم همي أن عمر فراقنا مديد وعمري للشقاء مديد
فيا صخر ما الخنساء مثلي ولا نهى بوادر دمعي ما قضاه لبيد
فأسامة، وإن كان يشير إلى وصية لبيد لابنتيه كما سيأتي، فإنه يستدعي علاقته بأخيه؛ وهذه الأخوة تستدعي أنموذج الأخوة الذي شكله، ومثله لبيد والخنساء ومتمم مشيراً، أيضاً، إلى النموذج المثال للأخوة الصادقة بين الخنساء وأخيها صخر الذي أبقت ذكره في الشعرية العربية، وكأن الحلقات الثلاث التي أشرت إليها في البداية سلسلة متشابكة تستدعي كل منها الأخرى. وكما استدعت تيمة لبيد وأخيه تيمة الخنساء وأخيها عنده فقد استدعت أيضاً تيمة متمم بن نويرة وأخيه مالك؛ حتى عند بهاء الدين علي بن رستم، الشهير بابن الساعاتي (ت604هـ) الذي يوظفهما مقترنين في مقدمته الغزلية لمدحته الظافر بن حسن (سنة 595هـ) بالرغم من فجاجة التوظيف وولعه بها(243):
يا صاحبي، وأين مني صاحب هل لك علم كيف أقوى العلم
ميدان لهو صار ميدان وغى فيه تلاقي أدمعي والديم
كأنما عاش لبيد نادباً وقام يبكي مالكاً متمم
بي بدوي الزي عند مثله تنسى العهود وتصاغ الذمم
معتقل خطية من قده وبالحياء وجهه نلتثم
يحق للشاعر نقل الإطار الشعري من معنى إلى معنى، بل هو نقل مشروع أوصى به النقاد القدماء؛ كما نرى عند ابن طباطبا العلوي (ت322هـ) الذي يوصي الشاعر إذا تناول المعاني التي سبق إليها، وليبرزها في أحسن من الكسوة التي كانت عليها، وبذلك لا يعاب، بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه على حد تعبيره(244)، ولكنه اشترط لذلك شروطاً خاصة؛ منها الإحسان، واللطف لهذه المعاني "فهذا من أبدع ما قيل في هذا وأحسنه، ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى الطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها، وتلبيسها حتى تخفى على نقادها والبصراء بها، وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه، فإذا وجد معنى لطيفاً في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وإن وجده في المديح استعمله في الهجاء"(245). وإذا أعملنا هذه الشروط التي اشترطها ابن طباطبا فقد نجد فيما أتى به بعض الشعراء حيلة لطيفة إلا أننا كثيراً ما نفتقدها؛ فالشريف الرضي (359- 406هـ) يأتي بهذه المعاني المتداولة مباشرة بلا لطف ولا حيلة(246):
فقد فجع الماضي لبيداً بأربد وعزي قبلي مالك من متمم
فالمعنى يدعو أخاه في تلقائية، وليس هناك جديد في الصور المتتابعة.
ومن اللافت أنه جمع بين دائرتين مختلفتين من دوائر الذكرى، في حين استدعتا الثالثة بالتداعي الشرطي في القصيدة نفسها(247):
ولم أجهد السيف الطويل نجاده أمام الظبى والنفع بالنقع يرتمي
والتناص الكنائي في (السيف الطويل نجاده) واضح أنها من الكناية التي غزلت خيوطها الخنساء في بيتها الشهير، واحتفظ بها صخر في المخيلة الشعرية(248):
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
وسيطر عليه هذا التناص الكنائي مع الخنساء بالتداعي الحر في القصيدة نفسها حين يصف ممدوحه(249):
قليل مقام بين أهل وثروة كثير طلوع بين واد ومخرم
وكأنه واقع في دائرة الخنساء، وكنايتها التي خصت بها أخاها الحبيب في صورتها الآسرة تخييلاً وإيقاعاً(250):
حمال ألوية هباط أودية شهاد أندية للجيش جرار
والأمر؛ إذاً، ليس كما يرى محمود الطويل من أن الشريف يضع ميسمه، وطابعه على شعره بحيث تتميز أشعاره عن شعر غيره؛ كأنه النوق العتيقة النجيبة(251)، كما لا يصل به الأمر أن يتهمه عبد الفتاح الحلو في دراسته الموسعة عنه بأنه يأخذ معانى لبيد دون أن يضيف إليها أو أن يجددها في استخدامه، بل يقلده تقليداً أعمى(252)، ومثل لذلك بقوله(253):

وكاذب النفس يمتد الرجاء لها إن الرجاء بصدق النفس ينقطع
ورأى أنه مأخوذ من قول لبيد الشهير(254):

وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
ولست مع الحلو أيضاً فيما ذهب إليه فالبيت من الأبيات السائرة الذي سار مسرى المثل(255)، واختير من بعض الشعراء والنقاد على أنه أفضل بيت قالته العرب(256). والأمر كما رأى زكي مبارك في وصف عبقريته بأنه كان مثقفاً ثقافة نادرة جعلته ينقح ديوانه ويرتبه؛ مما قد يدفعه إلى توشيته بدرر الحكم ليضمن له البقاء الباذخ الذي كان يأمله(257)، وأرى أنه لا عيب مطلقاً في ذلك، بل هو تحكيك يثقل شعره، ويرفع قدره، ما دام لم يخرج به عن إطار الصنعة الفنية إلى التصنع والتكلف.
وعلى كل حال فهذا البيت من الأبيات التي شغلت الشعراء والنقاد من مراثيه في أربد، وكان لها صدى كبير في الشعرية العربية حتى صار من الأبيات السائرة، والأمثال المتداولة(258) التي رأى بعض القدماء أن لبيداً أحسن فيه غاية الإحسان. وكان بشار يفضله على الشعر كله إذا طلب منه التفضيل، مع اعترافه بصعوبة الأمر، ويقول259) "إن تفضيل بيت على أشعار العرب لشديد! ولكن أحسن كل الإحسان، وأوجز وأعجز لبيد في قوله... البيت(260)"، ورآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحسن ما قال لبيد(261)، وأخذه دعبل بن علي الخزاعي (ت246هـ)، وأعاد تشكيله في قوله(262):
هي النفس ما حسنته فمحسن لديها وما قبحته فمقبح
وهي صياغة تحمل سمات دعبل الفنية؛ كما حاوره أبو الطيب المتنبي (ت354هـ) وبسطه في رثائه فاتكاً الكبير(263):
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
وواضح أن البيت بما يكتنز من المعنى الحكمي الإنساني العام شغل المتنبي بطبيعته الفلسفية التي تجنح إلى خطاب النفس الإنسانية وتحليل أدق طبائعها. وأبدع فيه حتى صار من أمثاله السائرة(264)؛ فكرر صياغته في أكثر من موضع؛ منها قوله(265):
فما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
ولم يكن الشريف بدعاً في فتنته به، كما لم يكن أكثر الشعراء ولعاً بشعر لبيد، وبخاصة تيمة لبيد وأربد، وما خلفه من تيمات بديعة أخرى مما تناولته؛ فقد ظهرت هذه التيمة مبكراً واضحة في شعر الطرماح بن حكيم (ت125هـ) الذي حفظ جانباً كبيراً من مراثي لبيد، تمثلها في شعره وفي رثاء موتاه من الشرورية الذين كان يمثلهم، ويرثي قتلاهم؛ وتأسى بلبيد حين فارق أخاه(266):
فإني وإياكم وموعد بيننا كيوم لبيد يوم فارق أربدا
ولم تتوقف فتنة الطرماح عند تيمة لبيد وأربد، بل امتد تأثير حزن لبيد في مواضع مختلفة من شعره؛ كتلك التي نراها في لوحة الصيد التي رسمها لبيد باقتدار للبقرة الوحشية المسبوعة مع كلاب الصيد في معلقته(267):
أفتلك أم وحشية مسبوعة خذلت وهادية الصوار قوامها
خنساء ضيعت الفرير فلم يرم عرض الشقائق طوفها وبغامها
باتت وأسبل واكف من ديمة يروي الخمائل دائماً تسجامها
يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت بكرت تزل عن الثرى أزلامها
وتوجست رز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
حتى إذا يئست وأسحق حالق لم يبله إرضاعها وفطامها
فلحقن واعتكرت لها مدرية كالسمهرية حدها وتمامها
لتذودهن وأيقنت إن لم تذد أن قد أحم مع الحتوف حمامها
يتأثر الطرماح بهذه اللوحة تأثراً واضحاً، فاحتذى هذا المشهد اللبيدي استيحاء تفصيلياً في وصفه(268):

أذاك أم ناشط توسنه جاري رذاذ يستن منجرده
بات لدى نعضة يطوف بها في رأس متن أبزى به جرده
طوف مثلي نذر على نصب حول دوار محمرة جدده
لما استبان الشبا، شبا جربياء المس من كل جانب ترده
غاط حتى استباث من شيم الأرض سفاة من دونها ثأده
ثم آدته كبرياء على الكرر وحرد في صدره يجده
فهو ثان يذوحهن بروقيــه معاً أو بطعنه عنده
ذا ضرير، يشك آباطها القصــوى بطعن يفوح معتنده
تتشظى عنه الضراء فما تثــبت أغماره ولا صيده
فنهى سبحه اليقين وما لاقي عطاف والموت محترده
وتتبع الباحث فتحي المسيعدين كيفية اقتفاء الطرماح خطى لبيد، وانتهى إلى أن الطرماح قد نسخها نسخاً، ولم يضف إليها ما يذكرنا به، أو يميزه عما رسمه لبيد في لوحته الرائعة(269) ومن المواضع الأخرى التي وضح فيها تأثر الطرماح بلبيد ما كان لبيد نفسه قد تأثر فيه بوصف طرفة للسفينة(270) فقال(271):
تشق خمائل الدهنا يداه كما لعب المقامر بالفيال
فاحتذاه الطرماح فقال(272):

وغدا تشق يداه أوساط الربا قسم الفئال تقد أوسطه اليد
ولأن ابن قتيبة كدأب القدماء في ملاحظاتهم الجزئية والسريعة؛ فلم يلتفت إلى أن مواضع التأثير بقصيدة لبيد تسيطر على قصيدة الطرماح كاملة، ولا يقتصر هذا الأثر على هذا البيت المنتزع قصيدته؛ وهو ما ألح عليه في أن الشاعر إذا حضره شاعر آخر ألح على مخيلته الإبداعية، ولم يستطع أن يتحرر من أسره مكتفياً بتركيب ينتزعه أو بصورة يستنسخها، أو مشهد يطوره، أو قالب موسيقي ينسج على منواله.
وملحظ أخير هو أننا لم نجد ولع الطرماح الشديد بشعر لبيد في شعر الكميت بن زيد الأسدي (ت126هـ) شاعر الشيعة، وقد تتبعته لأكشف أثر لبيد فيه؛ فما وجدت ما يقود القول بأنه تأثر به.
والرأي عندي في ذلك أن الطرماح أقرب إلى روح لبيد من الكميت، فالطرماح بدوي مثل لبيد، في حين أن الكميت حضري، والطرماح هواه مع الشام، والكميت مع العراق، وقد فصل ابن قتيبه التباين بين الرجلي في الدين والرأي والإطار الثقافي، ووصف الكميت بكثرة السرقة وشدة التكلف في شعره(273).
وسبب مناقشتي ذلك هو محاولة الوقوف على مدى تأثر شعراء الفرق الإسلامية به، واستقر في ظني أنه ليس كل الشعراء من ذوي الميول المذهبية تأثروا بلبيد، بل تأثر به من كان صادقاً في شعره ودينه ومذهبه، صح مذهبه أولم يصح.
وقد لاحظت سهير القلماوي أن الطرماح مولع بلبيد، ويسعى إلى تقليده، وترى اللوحتين السابقتين متشابهتين تشابهاً كبيراً؛ مما يرجح فكرة النقل القريب التي ذهبت إليها(274). والغريب أن هذا الأثر الواضح لشعر لبيد في شعر الطرماح لم يلحظه كل من محمد علي كساب، ومصطفى أبو طاحون، مع أنهما درسا أثر الشعراء في شعره(275).
وكان رأي الباحث فتحي المسيعدين أكثر دراية بطبيعة الإبداع من عبد الفتاح الحلو، حين برر التناص عند الطرماح بأن عملية الإبداع لا تنشأ من فراغ؛ إذ لا يمكن لأي مبدع أن يبدع من فراغ، واحترز لرأيه بأن يفيد المستلهم من الإطار الشعري للمستلهم، ولا ينقل المعاني كما هي(276)، وهي وصية ابن طباطبا العلوي وغيره من نقادنا القدماء؛ كما مر بنا.
ويمكنني القول هنا بأن من أسباب وقوع بعض الشعراء في الخطأ، أو الفجاجة اعتمادهم الكبير على موروثهم الشعري؛ فهم يستقون منه أكثر من الالتحام بأجواء الصورة الحقيقية التي يرسمونها. ولعل ذلك هو ما يسميه (كولردج): التداخل بين (الخيال المطلق والتوهم المحدود)(277) الذي هو ضرب من الذاكرة تحرر من قيود الزمان والمكان.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.16 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]