عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10-04-2019, 11:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)



الدكتور


محمد سيد علي عبد العال


ب- الشيخ الحكيم:

حكمة لبيد حكمة روحية وإنسانية خالصة(147) استمدها من عمره الطويل، وذاته المتفردة، وانكفائه على أحزانه الداخلية، ومحاولة التفكير في الحياة بعمق ليطهر نفسه من استبداد الحزن بها. كما أستطاع أن يخلص روحه من أدران الشرك والجاهلية بالإسلام الخالص الذي لا تشوبه شائبة؛ فلم ينافق، ولم يداهن، ولم يزايد بإسلامه، بل أطلق نفسه على سجيتها يبكي أخاه المشرك العاصي بمشاعر الأخوة الصادقة دون مواربة أو نفاق، وليحمل الآخرون عنه ما يحملون، وليفهموا ما يفهمون. فكان نتيجة ذلك أن تسرب صدقه إلى قلوبهم ووعيهم، فتناقلوا أحزانه على أخيه وتمثلوا موقفه، وخطابه ونصه، بكل صور التمثل على اختلاف البيئات والأزمان. وهو ما جعل لحكمته السحر ذاته؛ إذ خرجت تجاربه متسمة بإخلاصه في معايشتها وتعميقها والغوص في تفاصيلها وأسبابها، وما يمكن أن تصير إليه أموره وأمور الحياة إلى حكمة خاصة تغري الصادقين بتمثلها، والمتشاعرين ومدعي الحكمة بادعائها ولو قولاً. ولا عجب أن تقترن الحكمة بالرثاء؛ فكلاهما غوص في التفكير وراء ظاهر الحياة وبدايتها ونهايتها، والدروس المستفادة منها(148).

ولعل أشهر حكم لبيد الشعرية التي كان لها أكبر ارتداد منعكس على المتلقين مبدعين وعلماء وعامة هي قوله من مرثية إسلامية يرثي بها النعمان بن المنذر(149):
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويكفيه وصف النبي، عليه الصلاة والسلام، بأنها أصدق كلمة قالتها العرب(150).
ولذا تبارى الشعراء في تضمينها والتفاعل معها بآليات التناص المختلفة؛ كما سيأتي في درس التناص والمتلقي المختلف، ومنهم معاصره حميد بن ثور الهلالي (ت30هـ) الذي حاول أن يغير في التضمين قليلاً(151):
فلما أدى واستربعته ترنمت ألا كل شيء ما خلا الله بائد
فاستبدل بـ(زائل) (بائداً) مراعاة للقافية، وجعل قول لبيد على لسان امرأة ضافته وصديقاً له فلم تحسن ضيافتهما، واستغل حميد الحمولة الفكرية والمعنوية للبيت ليحمله طابعاً فيه سخرية سوداء ومفارقة، ولطواعية الجملة في احتمالها أكثر من مرادف يحل محل الخبر (زائل)؛ من ذلك ما وجدنا مثاله عند أبي إسحاق الإلبيري (ت460هـ) في قوله(152):
لساءلت عنهم رسمها فأجابنيألا كل شيء ما خلا الله ذاهب
وإن كان حميد جعل قول لبيد على لسان امرأة بخيلة لا تريد ضيافته، وترفع في وجهه حكمة لبيد شعاراً لتستفز عاطفة الزهد عنده؛ ويذهب بنا الإلبيري بعيداً عندما يجعل قول لبيد على لسان الديار في مدينته البيرة التي يرثيها ويرثي نساءها ورجالها وديارها، وإن كان هذا التضمين على مستوى البيت أو الشطر، فابن الرومي يوطئ له، ثم يبني عليه حتى يسيطر على نصه(153):
فيا آملاً أن يخلد الدهر كله سل الدهر عن عاد وعن أختها إرم
يخبرك أن الموت رسم مؤبد ولن تعدو الرسم القديم الذي رسم
رأيت طويل العمر مثل قصيره إذا كان مفضاه إلى غاية تؤم
وما طول عمر لا أبا لك ينقضي وما خير عيش قصر وجدانه العدم
ألا كل حي ما خلا الله ميت وإن زعم التأميل ذو الإفك ما زعم
يروح ويغدو الشيء يبنى فربما جنى وهيه الباني وإن أغفل انهدم
إذا أخطأته ثلمة لا يجرها له غيره جاءته من ذاته الثلم
تضعضعه الأوقات وهي بقاؤه وتغتاله الأقوات وهي له طعم
لا يرثي ابن الرومي دياراً ولا يخاطب بخيلاً، وإنما يرثي أمه؛ ولذا نراه يسترسل في معانيه استرسالاً ويمتص معنى لبيد، ويتمثله ليحاوره في نص طويل في اللاوعي. وإذا كان ابن الرومي قد استبدل بباطل ميتاً؛ فقد تفنن الشعراء في تضمين أي جزء من البيت ووضع الخبر المناسب للمعنى والوزن في الصدر، بالإضافة إلى مراعاة القافية في العجز، حتى نصل إلى الشاعر أبي مسلم العماني (ت1920م) قاضي قضاة زنجبار، وصاحب التجربة الروحية الفريدة والجماهيرية العريضة الذي يصفه أحمد درويش بـ(الشاعر الشعبي)، قاصداً المعنى اللغوي لا المصطلحي للكلمة(145) حين يقول من قصيدة طويلة(155):
كذا كل شيء ما خلا الله منته لحد ومرمى نفسه لتبابها
استبدل العماني بباطل (منتهياً)، وأكمل بما يوافق مراده من الرثاء، وأحسن توظيف تضمينه بما يخصب تجربته الشعرية؛ كما يشير محمد المحروقي عن إحسانه في توظيف التراث؛ ولذا عد بحق رائد الشعر العماني الحديث، وأثر في الشعراء العمانيين بعدة تأثيراً واضحاً(156).
وإن كان العماني قد أحسن في تضمينه، فإننا نجد الشاعر عبد الغفار الأخرس (ت1875م) قد أساء التناص في مدحه أحد معاصريه، مستغلاً القالب الأسلوبي وبعض مفردات البيت(157):
لا خلاك الله من دنيا بها كل شيء ما خلا مجدك فان
فقد خرج في تناصه عن المبالغة المقبولة إلى الغلو المستهجن. وظلت هذه الحكمة تغري الشعراء؛ فتصرفوا فيها على اختلاف مشاربهم ومضامينهم ورؤاهم، حتى نصل إلى عامر بحيري (1912- 1988م) الملقب بشيخ الشعراء، حين يضمن بيت لبيد بتمامه، جاعلاً منه خاتمة لمقطع من قصيدته (المناجاة)(158):
قلوبهم فيما رأت مطمئنة حقيقة قول صدقتها الأوائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وبالرغم من أن عامراً من شعراء مدرسة أبوللو التي رفعت شعار التجديد، فإن التجديد لا يبدأ من الفراغ، وقد كان عامر مغرماً بهذه الحكمة للبيد منذ شبابه الأول، وحاول أن يحتذيها في رثائه أحد أصدقائه(159).
ت- جهل الحكيم:

هل يمكن أن يكون الحكيم جاهلاً؟ نعم، على سبيل الهفوة أو الادعاء، وكما سيطرت حكمة لبيد على الشعراء، وصار كثير من حكمه إطاراً شعرياً وثقافياً لهم، فقد أشار بعض القدماء إلى جهل لبيد، وقد يقصدون بذلك بكاءه الشديد على أخيه أربد، وبكاءه عمه ملاعب الأسنة، وأهله من طغاة الجاهلية ومشركيها، أو قوله ما يخالف عقيدة التوحيد؛ وهو ما سأتوقف عنده لاحقاً.
والرغم مما عرف عن حكمة لبيد، فإن الشعراء ولدوا عكس الصفة من معايشتهم لشعره ومواقفه في مقابل مواقفهم ومعتقداتهم، مما جعلهم ينعتونه بالجهل في المقابل، وهذه الجهالة اصطنعوها من موقفين؛ أحدهما قوله:
واعفف عن الجارات وامنحــ ـهن ميسرك السمينا(160)
يريد بالميسر السمين الجزور يأكلها الميسر، ويقسمها؛ أي يتقاسمها المتياسرون، وهي صورة جاهلية، إن لم نعدها مجازاً من القول؛ لأنها من قصيدة إسلامية، بل هي آخر قصائده التي يوصي فيها ابن أخيه بما يصنعه بعد وفاته(161).
وأظن أن وصفه بالجهالة نوع من الصنعة بعكس الصفة، أو لخلاف في التأويل، كما جاء في قول محيي الدين بن عربي (ت638هـ) يحمل عليه حملة شديدة؛ لأنه وصف أخاه أربد بما يجب أن يصف به النبي صلى الله عليه وسلم(162):
إن الوجود وجود الحق ليس له فيه شريك كما قد جاء في الأثر
وأين مثل رسول الله سيدنا فيما يقال ففكر فيه واعتبر
فيما يقول لبيد في جهالته وليس يدري الذي قد قال فادكر
فإن ذا فطنة مثلى مخلقة ترى الحقائق تأتيها على قدر
ولا تقل إن ذا وهم وسفسطة القول ما قلته فانهض على أثري
التلميح، هنا، إلى شعر لبيد في أربد، وبالتحديد إلى قصة نقلها إلينا أبو الفرج الأصفهاني (ت356هـ) حين نسخ من كتاب ابن النطاح "أنشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول لبيد في أخيه أربد:
لعمري لئن كان المخبر صادقاً لقد رزئت في حادث الدهر جعفر
أخاً لي، أما كل شيء سألته فيعطي، وأما كل ذنب فيغفر
فقال أبو بكر رضوان الله عليه: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم(163)، لا أربد بن قيس(164)، ومع ذلك فقد أخذ الشعراء منه أيضاً قوله في رثاء أربد(165):
لعمري لئن كان المخبر صادقاً لقد رزئت في سالف الدهر جعفر
فيروي أنه لما سمع جرير خبر وفاة الفرزدق بكى بكاء شديداً؛ فعاتبه قومه أن استبد به الحزن والبكاء لوفاة رجل ظل في هجاء معه أربعين سنة؛ فأوضح لهم أنه: ما تبارى اثنان ومات أحدهما إلا لحقه الآخر، وأنشد:
لعمري لئن كان المخبر صادقاً لقد عظمت بلوى تميم وجلت
فلا حملت بعد الفرزدق حرة ولا ذات حمل من نفاس تعلت
هو الوافد المحبو والراقع الثاي إذا النعل يوماً بالعشيرة زلت
ينقل جرير بهذا التناص صاحبه الفرزدق من مقام الند المنافس إلى مقام الأخ الشقيق الذي لا يكفيه بكاء الدهر، ولا تطيب بعده الحياة، وفعلاً لم تطب؛ فلحقه بعد أربعين يوماً(166).
ولاكتناز هذا التركيب "إن كان المخبر صادقاً" توقف أمامه بعض نقادنا القدماء(167)؛ ومنهم التبريزي (ت502هـ) الذي علق عليه بقوله: "فهو قد علم صدق الحديث، لكنه لاستعظامه للنبأ، وفخامة أمر المتوفى في النفوس عنده؛ يرجع على المخبر بالتكذيب، وأدخل الشك على المسموع والمشهود(168)".
ويحيلنا هذا الاستدعاء تلقائياً ًإلى باقي مقطوعة لبيد في رثاء أربد؛ فيجعل المعاني متواشجة، والصفات متزايدة ومنعكسة ومنسحبة بالتبعية على الفرزدق:
لعمري لئن كان المخبر صادقاً لقد رزئت في سالف الدهر جعفر
فتى كان أما كل شيء سألته فيعطي وأما كل ذنب فيغفر
فإن يك نوء من سحاب أصابه فقد كان يعلو في اللقاء ويظفر(169)
فالأبيات وإن كانت تشير إلى الصاعقة التي حلت على أربد بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصابته صاعقة فقتل، فأخبر لبيد بالخبر فاستعظمه، بل شك في صدقه لهوله، فإنها تنعكس على موقف جرير من الفرزدق بشكل أو بآخر، وتعطي نوعاً من الجوار الجدلي الذي يجعل صورة أربد في عين أخيه كصورة الفرزدق في عين رفيق دربه، ويجعل بين النصين حواراً متكاملاً. وعلى كل حال فقد كانت نقطة البدء التي بدأ منها جرير عند سماعه الخبر هي نقطة البدء التي بدأ بها لبيد؛ مما يجعله يتمثل به، ويضع نفسه في موضعه وقرينه في منزلة الأخ العزيز الشقيق الذي لا يمكن أن يعوض مهما بلغت أخطاؤه، وصاحبته اللعنات الغاضبة. ولا ينبغي أن نذهب إلى أنه يجعل من أربد كافراً مدعواً عليه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم فالمشابهة هنا خاصة بالصورة المقترنة بخيال قائلها المحب المتعاطف، لا متلقيها الساخط أو المحايد.
وذكاء جرير في استحضاره موقف لبيد لمعرفته مدى حب الفرزدق له وتعظيمه إياه؛ الأمر الذي وصل به إلى السجود لأحد أبيات معلقته الشهيرة. ولم يكن كل المتلقين بعاطفة جرير التي تناغمت مع عاطفة لبيد وتمثلها، بل كانت هناك عواطف متضاربة من المرثي خاصة، وإن عظمت الراثي، ونماه العباس بن الأحنف (ت192هـ)، وبسطه في مقطوعته(170):
أما والذي أبلى المحب وزادني بلاء لقد أسرفت في الظلم والهجر
فإن كان حقاً ما زعمت أتيته إليك فقام النائحات على قبري
وإن كان عدواناً علي وباطلاً فلا مت حتى تسهري الليل من ذكري
ويبدو أن العباس قد حاول تنمية المعنى فجعل الاحتمالين قائمين بعد أن حول طريقة القسم وحورها بما يناسب غزله وخطابه لمعشوقته (فوز)؛ فالأول أقسم قسماً جاهلياً، في حين أقسم العباس قسماً إسلامياً شاعت طريقته في عصره بما يناسب الموضوع والخطاب الشعري في القصيدة، وهو ما يبدو من استعانة ابن الرومي من تحويرات العباس وتطويراته لبيت لبيد حين يقول
فإن كان حقاً ما زعمت اجترمته فلا قل من أوجاعه بدني النضو(171)
فقد استبدل بـ"أتيته" قوله" اجترمته لينفخ في الماضي من روحه، مع استمرار روح لبيد ساكنة خلف الأفق.
ث- الكريم النبيل:

آلي لبيد على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر جزوراً ويطعم الطعام(172)، وربما ذبح العتاق إذا أضاف؛ فخطب الوليد بن عقبة، وقال: فقد علمتم ما جعل أبو عقيل على نفسه، فأعينوه على مروءته، وبعث إليه بخمس جزائر وبهذه الأبيات(173):
أرى الجزار يشحذ مديتيه إذا هبت رياح أبي عقيل
طويل الباع أبلج جعفري كريم الجد كالسيف الصقيل
وفي ابن الجعفري بما نواه على العلات والمال القليل
وواضح أن الكرم كان بحثاً عن الخلود؛ وهو ما نجده عند جعيفران الموسوس (ت208هـ):
لو كان شيء له خلود خلد ذا الفضل الجواد(174)
ويربط لبيد نفسه بين الكرم والخلود؛ كما يبدو في رثائه أبرهة الأشرم:
لو كان حي في الحياة مخلداً في الدهر ألفاه أبو يكسوم(175)
وقد اتخذ الشعراء من كرم لبيد مثالاً؛ ومثال ذلك ما نجده عند ابن حيوس الدمشقي (394- 473هـ):
كل إذا ما الحرب شبت عامر وإذا أتى الأضياف فهو لبيد(176)
ومعنى ذلك أن الشعراء قد تمثلوا تفاصيل سيرته في أشعارهم، ورأوه مضرب المثل في الكريم النبيل الذي لا يمنعه الفقر، أو العجز عن البر به، والوفاء بقسمه.

ج- الفاني الذي سئم الحياة:
تواترت الروايات على طول عمر لبيد؛ فقد طال عمره حتى مله، وضجر واشتاق الموت بعد أن عاش مائة وخمسين عاماً تقريباً(177). ففيما رواه ابن قتيبة (ت276هـ) ما يفيد أنه أدرك الإسلام، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني كلاب، فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم، ثم قدم لبيد الكوفة؛ فأقام بها إلى أن مات في أول خلافة معاوية، وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة(178).
وتكرر في شعره ما يفيد سأمه من طول حياته؛ لعل أشهر ما قاله في ذلك قوله(179):
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وقد استدعى الشعراء هذه التيمة أيضاً في أشعارهم؛ وبخاصة في المعاني التي تعبر عن الفناء، وأنه لا خلود لأحد من الشر؛ فوظفها ابن هانئ الأندلسي (ت362هـ) في مديحه، ووفق في التلميح الذي خرج مخرج الجدة حين حاول أن يقنع ممدوحه أن حياته لن تطيب، ولن يشعر بالسعادة فيها إلا في حياة ممدوحه، وبحياة ممدوحه، ولو عمر عمر لبيد(180):
لولا حياتك ما اغتبطت بعيشة ولو أنني عمرت عمر لبيد
وتسللت الكناية عن طول العمر بعمر لبيد من الشعر إلى النثر الفني(181)؛ مما لا يمكنا الوقوف عليه في هذا البحث الخاص بالنص الشعري.
ويربط ابن الهبارية (414- 509هـ) بين لبيد ولبد بجامع طول العمر(182):
الموت لا يبقى أحد لا والداً ولا ولد
مات لبيد ولبد وخلد الفرد الصمد
لم تكن المجانسة بين لبيد ولبد هنا من قبيل المحسن البديعي الذي استدعاه اسم لبيد فحسب، بل هو استدعاء فني عمق المعنى، وأضاف إليه؛ فلبد نسر من نسور لقمان، يضرب به المثل في طول العمر؛ فقيل: عمر لبد(183). ولبيد نفسه يكرر هذا المعنى؛ كما نجد في قوله(184):
ولقد جرى لبد فأدرك جريه ريب الزمان وكان غير مثقل
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
يعطي ابن الهبارية المعنى بعداً إسلامياً "خلد الفرد الصمد" التي تحمل معنى قوله تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ"(185)، ولكنه في الوقت نفسه يعطيه بعداً أسطورياً حين يجمع بين عمر لبيد الحقيقي وعمر هذا النسر الأسطوري الذي مات قبله سبعة أنسر في حياته متتابعين جيلاً بعد جيل.
ولا يجانس المعري بين لبيد ولبد النسر الأسطوري المعروف، بل ينتقل بعيداً بالجناس بين اللبد الذي هو الصوف المتلبد، ولبيد الذي تبكي إبله المشتاقة ذات الحنين في قوله(186):
فاجعل سوامك نهبى ما بكت إبل مثوى لبيد ولا أوبارها اللبد
فالتلميح واضح ومخالف لأفق التوقع، والمعري يشير إلى قول لبيد في المعلقة(187):
شاقتك ظعن الحي حين تحملوا فتكنسوا قطناً تصر خيامها
والاستدعاء الجمالي والثقافي في المجانسة بين لبيد ولبد مع الانحراف به عن أفق التوقع يجعل المبتذل المأهول ذا مذاق آخر؛ إذ انحرف عن المأهول المتعارف عليه وفك العلاقة القائمة التي بردت في التلقي بفعل التعاور والتداول، واتكأ على كل مفردة على حدة جاعلاً بينها وبين غيرها علاقة جديدة تحمل روحه وملامحه؛ ودليل ذلك أن يقول المعري في البيت التالي لهذا البيت مباشرة(188):
والملك يفنى ولا يبقى لمالكه أودى ابن عاد وأودى نسره لبد
وهذا دأب المعري في تناصه مع لبيد الذي يتبدى منه مدى إعجابه به في سيرته، وشعره، من ذلك ما نجده في قوله(189):
أبيدة قالت للوعول مسرة تبدن بحكم الله ثم أبيد
ولا أدعي للفرقدين بعزة ولا آل نعش ما ادعاه لبيد
فالتلميح ذكي وبعيد يحتاج إلى إعمال للفكر، وشحذ للذاكرة، وحوار مع النص؛ حتى يصل المتلقي إلى إشارة لبيد التي يدعى فيها مثل هذا المعنى، وهو قوله(190):
فهل نبئت عن أخوين داما على الأيام إلا ابني شمام
وإلا الفرقدين وآل نعش خوالد ما تحدث بانهدام
لا يكتفي المعري باستدعاء لبيد بالاسم، بل يشتبك مع جزء من سيرته أو شعره، أو يحاوره في قضية من قضاياه بالاتفاق أو الاختلاف معه، كما لا يكتفي ابن الساعاتي (553- 604هـ) بنسخ معنى لبيد في رثاء ولده محمود(191):
أخنت على لبد ولقمان وأوقع صرفها بربيعة ولبيد
وفي المعنى شيء من الجدة ناتج عن حرصه على مراعاة النظير في الجمع بين لبد ولقمان صاحب النسر الذي امتلكه وارتبطت قصته به، وربيعة قبيلة لبيد الذي يضرب به المثل في طول العمر؛ وهو ما أعطى تفصيلاً للمعنى، وإن كان نسخ التركيب الأول من النابغة الذبياني في معلقته(192):
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أحنى عليها الذي أخنى على لبد
وينتقل المعنى في العصر الحديث خطوات كثيرة؛ إذ يطوره الشاعر محمد توفيق علي (1882- 1937م) حين يقول في معرض الحكمة(193):
كل حي مفارق الإلف والدار ولو عاش ضعف عمر لبيد
ويأتي أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يلمح إلى هذا المعنى، ويكسبه عمقاً عندما يجعل آلامه التي صبر عليها دهراً تدعوه إلى أن يشكو شكوى لبيد من طول الحياة، ولما يزل في الثلاثين من عمره(194):
ومن صابر الدهر صبري له شكا في الثلاثين شكوى لبيد
ويعيد شوقي المعنى في ثوب جديد مؤكداً قدرته على استثمار الإطار بشاعريته الوقادة التي تحيل المعنى الواحد معاني عدة في مواضع متفرقة تفجؤنا وتدهشنا في كل مرة(195):
جزعت فراعتني من الشيب بسمة كأني على درب المشيب لبيد
وينفي بعض الباحثين أن تكون شكوى شوقي وجدانية مهما بلغت من العمق، بل هي أزمة وجودية، تتعلق بالثنائية المعروفة (الإنسان والزمن)، ولكنه يعالجها معالجة كلاسيكية باستدعاء لبيد الذي أراحه من عناء التفكير وأسلمه للإيمان بالقدر(196)، ولكني أراه يضفي على المعنى من روحه وشاعريته ما يحمل سماته، وشخصيته الشعرية الخاصة، ودليل شاعرية شوقي الفريدة أنه يعيد هذا المعنى تارة ثالثة، ويدهشنا ويخالف أفق توقعنا حين يرسم صورة لأبي الهول مستثمراً هذا الإطار الموروث، ولكن في إطار فلسفي يذكرنا بفلسفة أبي العلاء وأضرابه في بناء المعاني الوجودية؛ كذلك يعكس شوقي المعنى، ويرى أن عمر لبيد لو قصر لتشكى القصرة كطبيعة البشر من شكوى حالهم والنظر دوماً إلى ما يخالفها معتقدين فيها السعادة المحجوبة(197):
أبا الهول ماذا وراء البقاء إذا ما تطاول غير الضجر
عجبت للقمان في حرصه على لبد والنسور الأخر
وشكوى لبيد لطول الحياة ولو لم تطل لتشكى القصر
وفضلاً عن مناقشته لبيداً ومخالفته الرؤيا في شكوى طول الحياة، لأن حب الحياة غريزة مركوزة في الإنسان، فإنه يجمع في الوقت نفسه بين لقمان ونسره، ويضيف صورة قد تبدو قديمة جداً، ولكنها تعكس تطور النسق الثقافي للمجتمع المصري حين التفت إلى ماضيه العريق محاولاً البحث عن هوية مصرية مميزة بعدما سقطت الخلافة العثمانية.

ثانياً: أصداء النص:

1- لبيد وتقاليد القصيدة الكلاسيكية
شعرية الوقوف على الديار:

لعل في نص ابن قتيبة (ت276هـ) الذائع في تعليل حرص الشعراء الأوائل الذين أرسوا تقاليد القصيدة القديمة ما يكفي في بيان أهمية الوقوف على الديار في القصيدة القديمة؛ حين يرى "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان(198)". ولذا كان للمقدمة الطللية هذه المكانة في القصيدة التقليدية عند الفحول ومن سلك مسلكهم(199)؛ فيشيد أبو تمام بفحولها الذين هم فحول الشعراء(200):
أذكرتنا الملك المضلل في الهوى والأعشيين وطرفة ولبيدا
والملحوظ أن اختار المقدمين في ذلك، وعلى رأسهم امرؤ القيس، وأعشى قيس، وأعشى بأهله وطرفه بن العبد، وأخر لبيداً إلى الختام لضرورة القافية. والواو هنا لا تفيد ترتيباً؛ لأن الأعشيين، وطرفة ليسا بأعظم من لبيد، بل يتفوق على الفحول في تحديد المواضع وتسميتها ووصفها تفصيلياً، وهو أكثر شعراء المعلقات قاطبة تأنقاً في ذلك؛ كما تشهد بذلك دراسة الدارسين لهذه الظاهرة في شعره(201). ولذا يراه المعري مضرب المثل في الوقوف على ديار أهله؛ كامرئ القيس المشهور في ذلك(202):
مضى الواقف الكندي والسقط غابر وصاحت ديار الحي أين لبيد
يتخذ المعري منه مثالاً على الفناء والزوال مهما طال العمر، واستطال العيش في الديار بين الأهل والأحباب. ويشير بقوله: (صاحت ديار الحي) إلى قول لبيد الشهير في معلقته(203):
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها
والمعري شديد الولع بلبيد كما يبدو في مواضع متفرقة من رسالة الغفران(204) و يتجلى هذا الإعجاب النادر بلبيد في شعره كما مر، وكما سيأتي في مواضعه.
وتبدو جدلية الحوار وانعكاسه بين ديار لبيد التي كان يسألها عن أهله، والديار التي صارت تسأل لبيداً ذات طابع استقطابي للمتلقي، وتسأل عنه مع أنها كانت في عصره صماً لا تسمع ولا تعي ما يقوله في حواره معها من طرف واحد يخاطب، ولا ينتظر رداً؛ بما يدفعه للتعجب من حاله (وكيف سؤالنا؟!) فكيف لعاقل أن يسأل من لا يعقل ولا يسمع، ولا يبين له كلام؟! فيتحول معنى (ما يبين كلامها) من عدم القدرة على الكلام إلى الكلام غير المفهوم الذي لم يفهمه لبيد في حين فهمه أبو العلاء المعري.
توقف القدماء أمام هذا المعنى ورأى الطوسي أنها كانت تقول، وكأن لبيداً لا يفهم كلامها(205) حتى أدرك المعري لغة الديار، وفك طلاسمها، وأدرك مراميها بعد حين من الدهر.
ويرتبط وصف الديار عند لبيد بحزنه الشفيف المسيطر على شعره كله، وهو ما استدعاه البحتري (الوليد بن عبيد ت284هـ) حين بكى على الشعر في عصره، وما وصل إليه من ركاكة وضعف وانكسار؛ كما يرى(206):
ويلكم! ويبكم! لقد هتك الشعـر فبكوا لستره المهتوك
ثم شقوا الجيوب قد قرب الأمــر واتساعه كأبي الدروك
يا امرأ القيس لو رأيت حبيك الشــعر يغذى بماء لفظ ركيك
لبكيت الدماء للأدب الغض (م) بفيض من الدموع سفوك
ولأبكيت طرفه وزهيراً ولبيداً وقرم آل نهيك
يبكي البحتري الشعر وفحوله، ويجمع لبيداً معهم هنا، ولكنه يفرده مرات كثيرة، ويستلهم تيماته في صوره ومعانيه وقصائده؛ كما سيأتي في مواضعه. وقد مر بنا كيف تأثر به في تيمة الحزن على أربد، ولم يخل تأثره فيها من أثر لوصف الديار، والوقوف على الأطلال؛ كما ذكرته في موضعه.
وعلى كثرة ما وصف الشعراء الأطلال تبقى أطلال لبيد التي لا تجيب هي الأقرب في الاستدعاء؛ وهو ما جعل الباحث محمد الدناي يقرر على الفور أن مهياراً قد أخذ قوله(207):
أجدك بعد أن ضم الكثيب هل الأطلال إن سئلت تجيب
من قول لبيد في معلقته(208):
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها
مع أن المعنى متداول بين شعراء الجاهلية(209)، وذلك لما أسلفته من تميز لبيد في الوقوف على الديار تميزاً أغرى الشعراء على احتذائه؛ من ذلك ما فعله ذو الرمة حين عارض لبيداً في وصف الأطلال والوقوف على الديار في قصيدة كاملة تحتاج إلى دراسة مستقلة(210).
والأحوص الأنصاري (ت105هـ) ممن أعجبوا بلبيد في وصف الديار؛ ففي إحدى قصائده المعجبة يأتي قوله(211):
ضوء نار بدا لعينيك أم شــبت بذي الأثل من سلامة نار
وكذاك الزمان يذهب بالناس وتبقى الديار والآثار
وعندما يتهمه المعاصرون بسرقة المعنى الفريد الذي يساوي شعرهم جميعاً يعترف بأخذه من قول لبيد(212):
فعفا آخر الزمان عليهم فعلى آخر الزمان الدبار
وكذاك الزمان يذهب بالناس وتبقى الرسوم والآثار
وفي دراسة عن التناص في شعر الرصافي البلنسي (ت572هـ) يوضح الباحث كيف تناص شعره البلنسي مع لبيد في وصف الديار، والوقوف على الأطلال(213).
وفي ظني أن ذلك التأثر يرجع إلى أن لبيداً يمزج وصف الأطلال بفلسفته العميقة في رؤيته للحياة والأحياء، وبقاء الديار بعد أصحابها؛ أو بمعنى آخر فإنه يلتقط من الموصوفات التي يحسها ما يتعلق بموقفه النفسي، وعلاقته الخاصة بالآخر الذي يعمق إحساسه بالعالم المحيط به على النحو الذي يسمح له باستجلاء المعاني الحقيقية الخبيئة للموصوف بما يملكه من شفافية مميزة. وتميز لبيد بحس إنساني عال؛ مما منحه عمقاً في رؤيته الذاتية، وقدرة على إيجاد نوع من العلاقات الخفية التي تربط بين كائنات العالم من حولنا، من خلال تأمله الدائم للمرئيات ونسج صور لها طابع البصر العقلي المفعم بالدلالات العميقة التي تتجاوز الدلالات الظاهرة إلى دلالات أخرى غنية بالرمزية والفلسفة؛ فقد عاش حياته بمنأى عن السفه والطيش والتهور والخفة(214)؛ مما أكسب أوصافه طابعاً فلسفياً مغرياً بالأخذ المباشر حيناً والامتصاص أحياناً.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]