عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-07-2020, 12:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,580
الدولة : Egypt
افتراضي كيفية إنزال القرآن

كيفية إنزال القرآن
أ. طاهر العتباني



(بحث مستخرج من الإتقان للسيوطي والبرهان للزركشي مع زيادات)



تنزلات القرآن:
قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].

قد اختلف العلماء في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: (وهو الأصح الأشهر):
أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجَّمًا في عشرين سنة، وثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة.

عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض؛ (أخرجه الحاكم).

في رواية عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ثم قرأ: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئًا، أحدَث الله لهم جوابًا.

وعن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم؛ (رواه الحاكم).

وعن ابن عباس أيضًا، قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم؛ (أخرجه الطبراني).

وعن ابن عباس أيضًا: دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة، فوضعه في بيت العزة، ثم جعل ينزله تنزيلًا؛ (أخرجه ابن أبي شيبة).

وعن محمد، عن ابن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس: أنه سأل عطية بن الأسود فقال: أوقَع في قلبي الشكَّ قولُه تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وهذا نزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرَّم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رَسَلًا في الشهور والأيام؛ (أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات).

قال أبو شامة: قوله: "رَسَلًا"؛ أي: رِفقًا، وعلى مواقع النجوم؛ أي: على مِثل مساقطها.

القول الثاني: أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلةَ قدرٍ، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في جميع السنة.

وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي بحثًا، فقال: يحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثلها من اللوح إلى السماء الدنيا،ثم توقف، هل هذا أولى أو الأول؟!

قال ابن كثير: وهذا الذي جعله احتمالًا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.

قال السيوطي: وممن قال بقول مقاتل: الحَليميُّ والماوردي، ويوافقه قول ابن شهاب: آخر القرآن عهدًا بالعرش آيةُ الدَّين.

القول الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، وبه قال الشعبي.

قال ابن حجر في شرح البخاري:
والأول: هو الصحيح المعتمد...وقد حكى الماوردي قولًا رابعًا؛ أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجَّمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجَّمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة،وهذا أيضًا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة.

وقال أبو شامة: كأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الأول والثاني.

قال السيوطي: هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجَّمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.

أقوال العلماء في حكمة التنزيل:
قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء: تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه؛ وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله بايَن بينه وبينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا؛ تشريفًا للمُنزَل عليه.

وقال الحكيم الترمذي: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا تسليمًا منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا، ووضعت النبوة في قلب محمد، وجاء جبريل بالرسالة، ثم الوحي، كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله إلى الأمة.

وقال السخاوي: في نزوله إلى السماء جملةً تكريم بني آدم، وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تشيِّع سورة الأنعام، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السَّفرة الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له.

قال: وفيه أيضًا التسوية بين نبينا وبين موسى عليه السلام في إنزاله كتابه جملةً، والتفضيل لمحمد في إنزاله عليه منجمًا ليحفظه.

قال أبو شامة: فإن قلت: فقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة وإن كان منه، فما وجه صحة هذه العبارة؟ قلت: له وجهان:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام: إنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضيناه وقدرناه في الأزل.
والثاني: أن لفظه لفظ الماضي، ومعناه الاستقبال؛ أي: ينزله جملة في ليلة القدر.

وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه)).

وفي رواية: ((وصحف إبراهيم لأول ليلة)).

قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، ولقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أولُ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1].

قال أبو شامة أيضًا: فإن قيل: ما السر في نزوله منجمًا؟ وهلا نزل كسائر الكتب جملة؟!

قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]، يعنون: كما أنزل على مَن قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: أنزلناه كذلك مفرَّقًا؛ ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: لنقوي به قلبك؛ فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة، كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة؛ ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان؛ لكثرة لقائه جبريل.

وقيل: معنى ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: لنحفظه؛ فإنه عليه السلام كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ففُرِّق عليه ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبًا قارئًا، فيمكنه حفظ الجميع.

وإنما لم ينزل جملة واحدة؛ لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أُنزل مفرَّقًا، ومنه ما هو جواب لسؤال، وما هو إنكار على قول قيل، أو فِعل فُعِل، وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ونزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم، وفسر به قوله: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ [الفرقان: 33]؛ (أخرجه ابن أبي حاتم).

قال السيوطي: وما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة،هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم،حتى كاد يكون إجماعًا، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك وقال: إنه لا دليل عليه، بل الصواب أنها نزلت مفرَّقة كالقرآن.

وأقول: الصواب الأول، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى، فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: "قال المشركون"، وأخرج نحوه عن قتادة والسدي.

فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو - على تقدير ثبوته - قول الكفار!

قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته: دليل على صحته، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة، لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك قولَهم: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 7]، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، وقولهم: ﴿ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ [الأنبياء: 7]، وقولهم: كيف يكون رسولًا ولا همَّ له إلا النساء؟! فقال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]، إلى غير ذلك.

ومن الأدلة على ذلك أيضًا: قوله تعالى في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة: ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ [الأعراف: 144، 145].

وقوله: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 150]، وقوله: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [الأعراف: 154].

وقوله: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [الأعراف: 171]، فهذه الآيات كلها دالَّة على إتيانه التوراة جملة.

وأخرج النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: أخذ موسى الألواح بعدما سكت عنه الغضبُ، فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف، فثقُلت عليهم، وأبَوْا أن يقروا بها، حتى نَتَقَ الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم، حتى خافوا أن يقع عليهم، فأقروا بها.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبُر عليهم، فأبَوْا أن يأخذوها حتى ظلَّل الله عليهم الجبل، فأخذوها عند ذلك.

فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة، ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرَّقًا؛ فإنه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفِر من قبوله كثيرٌ من الناس؛ لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.

ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: "لا تشربوا الخمر"، لقالوا: لا ندَعُ الخمر أبدًا، ولو نزل: "لا تزنوا"، لقالوا: لا ندَعُ الزنا أبدًا.

قال السيوطي: والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآنَ كان ينزل بحسَب الحاجة، خمسَ آيات، وعشرًا، وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنون" جملة، وصح نزول: ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ [النساء: 95] وحدها، وهي بعض آية، وكذا قوله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول الآية.

وقال بعض العلماء: كان القرآن ينزل مفرَّقًا، الآية والآيتين، والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك.

وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشيِّ، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.

في كيفية الإنزال والوحي:
قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزَّل، واختلفوا في معنى الإنزال؛ فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عالٍ من المكان، وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان، وفي التنزيل طريقان، أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل.

والثاني: أن الملَك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، والأول أصعب الحالين.

وقال الطِّيبي: لعل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقُّفًا روحانيًّا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.

والإنزال لغة بمعنى الإيواء، وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى أسفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى، فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى، ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: القرآن هو الألفاظ، فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب؛ لكونه منقولًا عن المعنيين اللغويين، ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفًا روحيًّا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ، وينزل بها فيلقيها عليهم.

وفي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به، والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، وتمسَّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، والثالث: أن جبريل ألقى إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك.

قال السيوطي: ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعًا من الله تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: ((إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا، وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، فكلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق،فينتهي به حيث أمر)).

وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة))، وأصل الحديث في الصحيح.

وقال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له: بيت العزة، فحفظه جبريل، وغُشي على أهل السموات من هيبة كلام الله، فمر بهم جبريل وقد أفاقوا، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ﴾ [سبأ: 23]، فأتى به جبريل إلى بيت العزة، فأملاه على السَّفرة الكتبة، يعني الملائكة، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 15، 16].

وقال الجويني: كلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملك: لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة،وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابًا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان؛ فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفًا.

قال السيوطي: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة.

كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن،ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى، والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه،وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه والتخفيف على الأمة، حيث جعل المنزل إليهم على قسمين:
قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف.

قال الزهري: الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله (وهو القرآن)، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدث به الناس حديثًا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه (وهو السنة).

يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]