عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-07-2020, 12:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي العبيد بين الشكران والجحود

العبيد بين الشكران والجحود


عراقي محمود حامد







بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.














وبعدُ،



فإنَّ الله تعالى أكْرَمَنَا - نحن معاشر بني آدم - وفضَّلنا على سائر المخلوقات؛ قال - جل في علاه -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].







وسَخَّر لنا ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ علينا نعِمَه الظاهرة والباطنة؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].







وآتانا مِنْ كل ما سألناه، ومن كل خير لَم نسأله؛ قال سبحانه: ﴿ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ [إبراهيم: 34].







وتكرَّم علينا بالعقل الذي هو مناط التكليف، وهدانا النجدَيْن، ويسرنا لأحد السبيلَيْن، وتفضَّل علينا - نحن المسلمين - بنِعمة الهداية للدين الحق من غير أن نسأله، وأعطانا النِّعم التي نرفل فيها صباح مساء، بل في كل طرفة عين وانتباهتها، وأقل من ذلك.







فنعمُه علينا لا تزال تترى، وأفضاله سبحانه علينا تغمرنا، ولن نستطيع لها إحصاءً؛ قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، ومع ذلك لا نقدرها قدرها، ولا يشكره عليها منَّا إلا القليل، كما قال سبحانه: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].







مع أنَّه - جلَّ في عُلاه - وَعَد الشاكر بالمزيد، فلن يشكر مجانًا، بل إن مَن أحب النِّعمة وتعلَّق بها، وخاف زوالها عنه، فما عليه إلا أن يشكره سبحانه عليها ليزيده مِنْ فَضْله؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].







والمتدبر في الآيتين اللتين تُعلمانا أننا لا نستطيع إحصاء نعَم الله علينا، يجد أن الله تعالى يقول في الآية الأولى: ﴿ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].







أما الثانية فيقول فيها الحق سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].







وفي ذلك يقول العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: "قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعَم الله لكثْرتها عليهم، وأتْبع ذلك بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، فدلَّ ذلك على تقصير بني آدم في شُكر تلك النِّعم، وأن الله يغفر لمن تاب منهم، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النِّعم، وبين هذا المفهوم المشار إليه هنا بقوله: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]"[1].







ولا يظنن ظانٌّ أن شكره سبحانه عسيرٌ، ويحتاج إلى العمل الكثير والذكر الطويل، بل هو من أيسر ما يكون، ومع يُسره فرِضا الله متعلِّق به؛ قَالَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فيحمده عليها، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَة فيحمده عليها[2].







قال المُناوي - رحمه الله -: "عبَّر بالمرَّة إشعارًا بأنَّ الأكل والشرب يستحقُّ الحمد عليه وإنْ قلَّ، وهذا تنويهٌ عظيم بمقام الشكر"[3].







وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث: "ففي هذا دليلٌ على أن رضا الله - عز وجل - قد يُنال بأدنى سبب، قد يُنال بهذا السبب اليسير ولله الحمد، يرضى الله عن الإنسان إذا انتهى من الأكْل قال: الحمد لله، وإذا انتهى من الشرب قال: الحمد لله"[4].







فلله أيضًا على هذا التيسير الفضْل والمنَّة؛ إذ جعل شكره يسيرًا، وجعل رضاه في الاعتراف لصاحب الفضل بفضله، وتعظيم النعمة وإن دقَّت، كما كان هذا وصف الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ[5].







وقد رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هذا ورزقنيه من غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ[6].







ألا فليعلم العبدُ أن أغنى الناس الراضي بما قَسَمه الله له؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: وارضَ بما قسم الله لك تكنْ أغنى الناس[7].







وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ[8]، فهذا هو الفالح على الحقيقة.







وأن الدُّنيا ما هي إلا أكلة ونومة وعافية بدن؛ مصداقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن أصبح منكم آمنًا في سرْبه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها[9].







ومَن نظر لأحوالنا ووازنها بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجُلِّ أصحابه، يعلم يقينًا أننا - بالنسبة لهم فيما خوَّلنا الله من متاع الدنيا - ملوكٌ، بلا أدنى مبالغة؛ فمَنْ مِنَّا بات طاويًا، ومن منا ربط على بطنه حجرًا أو حجرين من الجوع، ورضي بذلك، ولم يسخط، وأحب ذلك وطلبه، ودعا به: اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا[10].







فسبب البلاء الذي نحياه سخطُنا على خالقنا، مع ما منَّ به علينا من نعَم نعجز عن حصرها، وشكايتنا إياه لمن لا يملك لنفسه - فضلاً عن أن يملك لغيره - نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وصار هذا السخط والضجر من الحياة ومن فيها وما فيها لا يكاد يخلو منه مجلس.







الكلُّ يشتكي، الكل يعترض ويسخط، ويدَّعي أنه يستحق أكثر مما أوتي، إلا من رحم ربك - وقليل ما هم - كأنه يُطالب الله بما وجب له عنده - والعياذ بالله.







ولم يعلم أن الله لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه بنفسه على نفسه - جل في علاه - وأن الله قد زكَّى ومدح مَن رضي به وعنه، ورضي عنهم، وقرن الزيادة بالشكر، ولا يكون هذا إلا بعد اعتراف لله بالجميل، ونسبة التقصير للعبد في أداء ما عليه وجب، والعجز عن شكر ما له وُهِب.







قال أبو عبيدة الخواص - رحمه الله -:





سُبْحَانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنَا بِالعُيُونِ لَهُ

عَلَى حِمَى الشَّوْكِ وَالمَحْمِي مِنَ الإِبَرِ




لَمْ نَبْلُغِ العُشْرَ مِنْ مِعْشَارِ نِعْمَتِهِ

وَلا العَشِيرَ وَلا عُشْرًا مِنَ العُشُرِ [11]












وقد صاغ هذه المعاني شيخُ الإسلام - طيَّب الله ثراه - في أبيات رقيقة رقراقة، تفيض ذُلاًّ واطِّراحًا بين يدي الوهَّاب سبحانه، فقال:





أَنَا الفَقِيرُ إِلَى رَبِّ البَرِيَّاتِ

أَنَا المُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالاَتِي




أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهْيَ ظَالِمَتِي

وَالخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهُ يَاتِي




لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ

وَلاَ عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعَ المَضَرَّاتِ




وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي

وَلاَ شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي




إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا

إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَا فِي الاَيَاتِ




وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا

وَلاَ شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِي




وَلاَ ظَهِيرَ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ

كَمَا يَكونُ لِأَرْبَابِ الوَلايَاتِ




وَالفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَات لازِمٍ أَبَدًا

كَمَا الغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي




وَهَذِه الحَالُ حَالُ الخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ

وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي









وَالحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الكَوْنِ أَجْمَعِهِ

مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي [12]












فالاعترافُ بالنِّعم مع العجز عن شكرها هو عينُ شكرها؛ يقول الإمام ابن كثير: وقد روي في الأثر: أن داود - عليه السلام - قال: يا ربّ، كيف أشكرك وشكري لك نعمةٌ منك عليَّ؟ فقال الله تعالى: الآن شكَرْتني يا داود، أي: حين اعترفتَ بالتقصير عن أداء شكر النِّعَم.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]