عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 26-09-2023, 05:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,788
الدولة : Egypt
افتراضي رد: براعة الوصف في شعر ابن الرومي

وتخال انْسِرابَهُ في مجاريهِ
اقْتراعَ الأبْكارِ والإغْفَاءَ
لو تكونُ القلوبُ مأوى طعامٍ
نازعَتْه قلوبُنا الأحشاءَ
إنني لحقيقٌ بالشَّبع السَّائغ منْ
أكْلهِ وإنْ كان ماءَ

إن الناظر لمثل هذا الوصف سيجزم فعلًا أن ابن الرومي كان يمتلك من القوة الشعرية ما يجاوز المعتاد، مما جعل اللغة الواصفة بين يديه طَيِّعةً، يصنع بها ما يشاء في شعره، يُقلب ما شاء، ويصحف ما أراد للتعبير عن مزاجه المتَّسم بالتطير والتشاؤم، أو هجاء لغيره، فقد صحَّف لفظة قينة وصيَّرها فتنة توقع في البلية، فيقول[6]:
لا تلْحُ مَنْ تَفْتِنهُ قيــْنَةٌ ♦♦♦ فإنَّ تصْحيفَ اسمها فِتْــــــنَة

وصحف اسم "إسحاق" وقلبه إلى "فاحش"، وذلك بعد إلغاء الهمزة في أوله وقراءته مقلوبًا من آخره، بعد تصحيف القاف فاء والسين شينًا يقول في هجاء المدعو "أبا إسحاق"[7]:
يا أبا إسْحاقَ واقْلِبْ
نظْم إسْحاق وصَحِّفْ
واتْركِ الحاءَ على حالٍ
فما للمَاءِ مَصْرِفْ
يشْهَد اللَّه لقَدْ
أصبحت عينَ المُتَخَلِّفْ


لقد تجاوز ابن الرومي حدود الوصف نفسه، ولذلك لا أجد مغالاة في اعتداده بنفسه حينما وصف الخباز وهو يدحو رقاقة الخبز قائلًا: انظروا إذا وصفت، أين يقع الناس كلهم مني؟ هل أحد قط أملح من قولي في صفة الرقاقة[8]:
ما أنْسَ لا أنْسَ خبَّازا مررْتُ بهِ
يدْحُو الرُّقاقَةَ وشْكَ اللَّمْحِ بالبَصَرِ[9]
ما بيْن رؤْيَتِها في كفِّهِ كُرَة ٌ
وبين رؤْيَتهَا زهْراءَ كالقَمرِ
إلا بمِقْدارِ ما تنْداحُ دائرَةٌ
في صَفْحَةِ الماءِ يرمِي فيهِ بالحَجَرِ


نماذج مثل هاته تضعنا حقيقة أمام رهبة هذا الشاعر الجهبيذ الذي نكاد نجزم أنه لا يُضاهى في عصره، لا من حيث اللغة الواصفة فحسب، ولكن من حيث صدق التعبير الوصفي النابع من الإحساس بحب الأشياء التي يصفها أو مَقتها، منطلقة توصيفاته البديعة الدقيقة من رهافة الإحساس لديه، وصدق الشعور، ويقظة الحدس الشعري، الأمر الذي جعل ابن الرومي في نظري شاعرًا وصَّافًا بامتياز، قادرًا على نقل الصور الخارجية عبر اللغة الشعرية المتمكنة بفنيَّة عالية جعلته واحدًا من كبار شعراء العربية.

[1] ابن الرومي حياته من شعره ص143.

[2] ديوان ابن الرومي ج 1، ص 251.

[3] زهر الآداب ج 1.

[4] الديوان ج2، ص180.

[5] الديوان ج1، ص 34 ـ 35.

[6] ابن الرومي حياته من شعره ص212.

[7] المرجع السابق ص 212.

[8] ابن الرومي سلسلة نوادر الظرفاء من الشعراء والأدباء، قدَّم لها وصنَّفها الدكتور يحيى شامي، الكتاب صدر عن دار الفكر العربي، بيروت ط1 سنة 1992.

[9] العمدة ابن رشيق القيرواني ج2، ص 237.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.32%)]