عرض مشاركة واحدة
  #28  
قديم 08-03-2024, 11:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (28)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.



الحديث الثامن والعشرون:
وقف جزء من المال
عن كعب بن مالك- رضي الله عنه – قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، قلتُ أُمْسِكُ سهمي الذي بخيبر.
بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب الوصايا: «باب إذا تصدق أو أوقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز»؛ وفيه خبر كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن جيش المسلمين في غزوة تبوك، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تخلفه، فصدق القول مع النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يتخلف لعذر يقبل، ولم يختلق الأعذار الواهية؛ فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي حتى يقضي الله بأمره، وقد نهى رسول اللهصلى الله عليه وسلم الناس عن كلام الثلاثة الذين خلفوا، فكان يخرج إلى السوق، فلا يكلمه أحد، وتنكر له الناس امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو في هذه الحال أتته صحيفة من ملِك غسَّان بأن يلحق بهم ليواسوه، أرادوا أن يفتنوه، وإذا به يحرقها في التنور، وبعد هذه الشدة والضيق سمع صوتاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك، فخر ساجداً، وأعطى الفارس الذي بشره ثوبه، ولبس غيره، فقد نزلت توبته على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا نبي الله، إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً، وأن أنخلع من مالي كلهُ صدقة. فقال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك».
فأراد كعب بن مالك رضي الله عنه أن يُكفِّر عن ذنبه بتخلفه عن جيش المسلمين الخارج إلى تبوك، بأن ينخلع من ماله، كما يخلع الإنسان ثوبه، أي بأن يتصدق بكل ماله. ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بكعب بن مالك رضي الله عنه وعياله، ويقينه بصدق كعب وتأثره بتوبة الله عليه، وأن اندفاعه بقراره التبرع بكل مَاله قد يؤثر عليه سلبًا مستقبلاً, وقد يؤدي به إلى العِوز والحاجة؛ لذلك وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم خير توجيه، بأن يمسك بعض ماله، وأن يتصدق ببعضه، ففعل، فقد تصدق وأبقى لنفسه وعياله سهمه الذي غنمه من خيبر؛ لكيلا يحتاج إلى الناس.
فالصدقة دليل صدق الإيمان وقوة اليقين وحسن الظن برب العالمين، وهي برهانٌ على صحة إيمان العبد وتصديقه بموعود الله ووعيده، وعظيم محبته له؛ قال صلى الله عليه وسلم : «والصدقة برهان»، فالصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه، فمن تصدق بطيب نفس تورث القلب حلاوة الإيمان، وتذيق العبد طعمه، وتعمق يقينه بالله عـز وجل، وتخلص توكله عليه، وتوجب ثقته بالله وحسن الظن به.
واختلف العلماء في التبرع بكل المال، وقال ابن بطال: «واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأكثر العلماء على أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بكل ماله في صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقي لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة وما يتقي من الآفات، مثل الفقر وغيره؛ فإن آفات الدنيا كثيرة وربما يطول عمره ويحصل له العمى أو الزمانة مع الفقر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، ويروى: «أمسك عليك ثلث مالك» فحض على الأفضل.. ومذهب مالك أنه يجوز إذا كان له صناعة أو حرفة يعود بها على نفسه وعياله وإلا فلا ينبغي له ذلك».
واستدل بعض أهل العلم على أن الصدقة لا حد لها، وليس شرطاً ألا تخرج عن الثلث بأحاديث كُثر، ومنها هذا الحديث – حديث كعب - حيث لم يحدد له النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة بالثلث، قال الشوكاني رحمه الله: «دل حديث كعب أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع مالِه أن يُمسك بعضه ولا يلزم من ذلك أنه لو نجَّزهُ لم ينفَّذْ، وقيل: إن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال, فمن كان قوياً على ذلك يعلم من نفسه الصَّبرَ لم يُمنع, وعليه يتنزَّلُ فعل أبي بكر الصِّديق، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ, ومن لم يكن كذلك فلا, وعليه يتنَزَّلُ: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى»، وفي لفظ: «أفضلُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
وفي الموسوعة الفقهية: «يستحب أن تكون الصدقة بفاضل عن كفايته, وكفاية من يمونُهُ, وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم. ومن أراد التصرف بماله كله، وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز.
ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفقة نفسه عن الكفاية التامة، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية، وقال المالكية: إن الإنسان ما دام صحيحا رشيدا فله التبرع بجميع ماله على كل من أحب، قال في «الرسالة»: ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله، لكن قال النفراوي: محل ندب التصدق بجميع المال أن يكون المتصدق طيب النفس بعد الصدقة بجميع ماله، لا يندم على البقاء بلا مال، وأن ما يرجوه في المستقبل مماثل لما تصدق به في الحال، وألا يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، أو يندب الإنفاق عليه، وإلا لم يندب له ذلك، بل يحرم عليه إن تحقق الحاجة لمن تلزمه نفقته، أو يكره إن تيقن الحاجة لمن يندب الإنفاق عليه؛ لأن الأفضل أن يتصدق بما يفضل عن حاجته ومؤونته ، ومؤونة من ينفق عليه».
وقد أجمع أهل العلم على أن من أراد الصدقة بماله كله، ولا عيال له، ويعلم من نفسه حسن التوكل، والثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس، والصبر عن المسألة مما في أيديهم، جاز واستحب له ذلك، أما إن لم يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر على الضيق، أو ما لا عادة له به، فيمنع من ذلك، ومقدار الصدقة يختلف باختلاف أحوال الناس، في الصبر على الفاقة والشدة، والاكتفاء بأقل الكفاية.
ومما يستفاد من الحديث: رفق النبي صلى الله عليه وسلم بصحابته ومعرفته بأحوالهم، وحرصه على مصالحهم في الدنيا، ونيلهم خير الجزاء في الآخرة، وفيه أن مع حاجة الأمة للمال إلا أن الرحمة به وبمن يعول تقتضي أن يُمسك المسلم بعض ماله.
وفيه كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وإرشادهم إلى ما فيه فوزهم وسعادتهم، وفيه أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للواحد خطاب للجميع، ما لم يدل دليل على التخصيص.
وفيه جواز التصدّق من الحيِّ في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدّق به، وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه: «الثلثُ والثلثُ كثيرٌ»، وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
وفيه دليل على إمساك ما يُحتاج إليه من المال أولى من أن إخراجه كله في الصدقة، وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان، فإن كان لا يصبر كره أن يتصدق بكل ماله، وأن كان يصبر: لم يكره، وفيه دليل على أن الصدقة لها أثر في محو الذنوب، ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية، وفيها مصلحتان، كل واحدة منهما تصلح للمحو، إحداهما: الثواب الحاصل بسببها وقد تحصل به الموازنة، فتمحو أثر الذنب، والثانية: دعاء من يتصدق عليه فقد يكون سببا لمحو الذنوب.
وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله، وفيه أن الصدقة تخرج عن طيب نفسٍ من المتصدق، وأن يُراعي حاجاته لكيلا يندم على صدقته بعد مضيها، وفيه أن الصدقة شكر لله تعالى على نعمه، وهي دليل على صحة إيمان مؤديها وتصديقه.
وفيه أن الصدقة مع التوبة دليل على صدق توبة باذلها؛ ولهذا سميت صدقة، وفيه استحباب أن يكون المال المعطى كصدقة أو وقف، من أجود وأنفس مال المتصدق وأحبه إليه، وهذا فِعل الصحابة والسلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله تعالى، وفيه مبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى تنفيذ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه الحث على الصدقة ببعض المال، وفيه الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن أمور دينهم، وفيه ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الرغبة في الخير وحرصهم على الأجر في الآخرة، وفيه صدق توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وصدقه مع الله تعالى، ومع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنه لا يجب على الإنسان أكثر مما يطيق ويستطيع.
لقد اتصفت الشريعة الإسلامية بالتوازن والرحمة والحكمة والشمول، فحضت على الإنفاق، وفتحت مجال الصدقات واسعًا أمام المسلمين, لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِه, ولتسعد الأمة بكاملها بسخاء أغنيائها ومنفقيها، ومع ذلك رعت حاجات الإنسان، وحاجات من يعول، وقوة تحمل المتصدق حتى لا يندم على صدقته.



اعداد: عيسى القدومي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.77%)]