عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 03-08-2020, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإصلاح بين الناس

الصلح بين الأقارب إذا تهاجروا:
أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة، فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال، وربما مكثوا سنواتٍ عديدة على حال لا ترضي الله عز وجل ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرّحم عليهم، ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ».

ويقول ربنا سبحانه: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23].

ولكنه الشيطان الذي يوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهِجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.

الصلح بين الزوجين:
عباد الله! ومن أعظم أنواع الصلح: الصلح بين الزوجين المتخاصمين، الإصلاحُ بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تبنى عليه البيوت، وتترابط به الأسر التي هي أسُسُ المجتمعات البشرية، كما أن فساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها..

اعْلَموا - عِبادَ اللهِ - أنَّ مِنْ أهم ما يسعى إليه الشيطان، وأشدِّ ما يَسُرّه ويعجبه: أنْ يُفَرِّقَ بيْنَ المرْءِ وزوجِهِ؛ حيث يبعث جنودَه ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبَهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين.

ففي صحيحِ مسلمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا» فَيَقُولُ: «مَا صَنَعْتَ شَيْئًا». قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ». قَالَ: «فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ». قَالَ الْأَعْمَشُ: «أُرَاهُ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ». فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تدخِل السرور والفرح على عدوّك وعدوّ البشرية جمعاء؟ أن ترضي الشيطان، وتغضب الرحمان؟..

لِذا أمر الله تعالى بالصّلح بين الزوجين وحَثّ عليه، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].

قالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ [النساء: 128] قالت: [هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه -كبراً أو غيره- فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا]. ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ خيرٌ من الشقاق، وخيرٌ من الفراق، وخيرٌ من تفكك الأسر وتشرّد الأبناء.

فإن الأسَر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة بالسعي في الإصلاح بين الأزواج، ولا ينبغي ترك الخصومة بين الزوجين لتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حَكميْن من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسْرة، وسلامة الأولاد، فقال ربنا سبحانه: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35].

فإذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35].

فماذا يفعل الحَكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالتقاء وكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفِه الذي ينوب عنه، فيسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان لتشخيص الداء والبحث له عن دواء، بالسعي في تقريب وجهات النظر، بنصح صاحب الخطأ ووعظه، باقتراح الحل الوسط الذي يرضي كلا الطرفين... كلّ ذلك حفاظا على البيت الزوجية، ولمّا لشمل الأسرة.

فعلى الحَكم من أهل الزوج أن يُذَكِّرَ الزوج بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالزوجة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وقول ربنا سبحانه ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

وكذلك ينبغي للحَكَم مِن أهل الزوجة أن يُكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكّرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تُسْمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته. روى النسائي في سننه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ، جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بيَدِ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: وَاللهِ لَا أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى».

فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما ليناً سهلاً، والصلح بينهما قريبا ووشيكاً.

إخوتي الكرام؛ تلكم إذن أهمّ صور الصلح التي ينبغي لكل مُصلح غيور على أمته ومجتمعه أن يسعى جاهدا في العمل لتحقيقها، والانخراط في كل مشروع إصلاحي يروم جمع الشمل وتوحيد الكلمة ونشر المودة وإزالة الشحناء.

فقه الإصلاح بين الناس:
عباد الله:
وبعد أن تحدثنا في الجمَع الماضية عن فصل الصلح ومكانته، وعن بعض صوره؛ تعالوا بنا لنتحدث اليوم عن فقهه ومسالكه.

فلكي يثمر الصلحُ نتيجته المرجوّة لا بدّ من معرفة فقهه ومسالكه؛ فللإصلاح فقه ومسالك، دلت عليها نصوص الشرع، وسار عليها المصلحون المخلصون الناجحون، ومن ذلك:
الإخلاص في الإصلاح بين الناس.
فمِن فِقه الإصلاح صلاح النية، وسلامة القصد، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية، والمنافع الذاتية. فإذا تحقق الإخلاص حلّ التوفيق بإذن الله، وجرى التوافق، وأنزل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

أما مَن قصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألاَّ يحالف التوفيق مسعاه: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء:11].

فالإصلاح بين الناس مَهمة عظيمة، وواجب ديني مقدس، لا يقوم به إلا أولئك الذين شرفت نفوسهم، وصفت أرواحهم، وتضاعف إيمانهم، وكمل يقينهم، أذواقهم سليمة، وطباعهم مستقيمة، وضمائرهم حية، وشعورهم نبيل، يكرهون الشر، ويمقتون الخلاف عند غيرهم من الطوائف، ويسعون لإبطال عمل الشيطان، ويجدّون في إحباط كيد الخائنين، ويعملون على إطفاء الفتن، وإزالة الشرور، وحقن الدماء، وصيانة الأنفس، وحفظ الأموال، وتأليف القلوب، فهم كالماء الذي يُطفِئ النار قبل أن يَستفحِل شرّها، أو كالنور الذي يُبدّد الظلام قبل أن يَعُمّ.

النجوى في الإصلاح.
من فقه الإصلاح: سلوك مسلك السر والنجوى، فإذا كان كثير من النجوى مذموماً، فإنه يكون محمودا عندما يكون من أجل أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، كما ربنا سبحانه: ﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء:11].

ولعلَّ فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فُشُوّ الأحاديث، ونشْر الأخبار، وتشويشات الفهوم، مما يفسد الأمور المضرَمة، والاتفاقيات الخيّرة. والمفروضُ في المُصلِح أن يحافظ على سمعة الطرفين المتنازعين، لا أن يفضحهما وينشر أسرارهما.
تعمَّدني بنصحك في انفرادي
وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه

وإن خالفتني وعصيت قولي
فلا تجزع إذا لم تعط طاعة


فعلى المصلح أن يَجتهد في قطع الطريق على النمّامين ونَقَلة الكلام، الذين يُعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام بين الناس، فَليَحذر المرْء من الاستماع إلى أراجيفهم، وافتراءاتهم.

التسلح بالعلم الشرعي.
ولْيتسلح المصلح في إصلاحه بالعلم والحكمة، حتى لا يفسد من حيث يريد الإصلاح، وحتى لا يشتت الشمل من حيث يريد جمعه. ولْيسألْ أهل العلم فيما يحتاج إلى سؤال؛ ليتبين الظالم من المظلوم، والمخطئ من المصيب، فينبه الظالم على ظلمه، ويدل المخطئ على خطئه.

اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين.
على المصلح أن يبذل وسعه في تقارب وجهات النظر بين الخصمين، وليقترحْ من الحلول أنفعَها وأحسنَها مما فيه مصلحة للطرفين.

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا»..

اختيار الكلام الحسن.
على المصلح أن يختار من الكلام أحسنه وأليقه، فقد أذن الشرع للمصلح أن يختار من الكلمات ما يُطَيِّبُ به خاطر الخصمين، ويُزيلُ الأحقاد والضغائن من النفوس. كأن يقول لأحد الخصمين مثلا:
إن فلاناً لا يقصد أذيّتك، إنما خانه التعبير فلم يختر اللفظ المناسب، إنه نادم على فعله وقوله، وهو الآن مستعد للصلح معك... ونحو ذلك من الكلام الطيّب الذي يسكن به الغضب، وتزول به الكراهية، وينتهي به الهجر والقطيعة. فليس هذا من الكذب المذموم في شيء، لأنه يهدف إلى تحقيق المصلحة والمصالحة، ولا ضرر فيه.

ففي الصحيحين عن أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا». وفي صحيح مسلم: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. أي بما من شأنه أن يزرع المودة والمحبة بينهما.

فلا بأس أن تَنقلَ إلى أحد الخصمين كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتَكتمَ عنه أمورا من الشر جاءت على لسان الطرَف الآخر، فهذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.

فالمصلح الحكيم يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر والنقص.

العدل في الإصلاح.
على الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمالَ إلى أحدهما، وقد أمر الله تعالى بالعدل في الإصلاح بين الخصوم في قوله سبحانه: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات:9].

فالشر لا يُطفأ بالشر.
وليعلم محبو الإصلاح والساعون فيه -أثابهم الله وأنجح مساعيهم- أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاج المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحق فيما بينهما، وإن من التبصر بأحوال الناس أن يعلم أصحاب المروءات من المصلحين أن النفوس مجبولة على الشح وصعوبة الشكائم، مما يستدعي بذلاً في طول صبر وعناء، فربكم يقول: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [النساء:12].

الموعظة والتذكير.
من وسائل الإصلاح النافعة: الموعظة الحسنة، التذكير بالله عز وجل، فالله تعالى يقول: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ﴾.

فعلى المصلح أن يختار من الكلام ما يرقق القلوب، ويؤثر في النفوس، ويبين للخصمين حقارَة الدنيا وما فيها، فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب والوقوف بين يدي الله عز وجل، فماذا يقول القاطع لرحمه؟ الهاجر لإخوانه؟ المسيء إلى جيرانه؟..

ففي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، ـ أي يَسْأَلهُ أنْ يَضَعَ عَنْهُ بَعضَ دَيْنِهِ ـ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، ـ أي يَسأَلُهُ الرِّفْقَ ـ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟»، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَب. وعظه عليه الصلاة والسلام فقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحب، أيْ: فما أراده من عفو عن بعض المال فأنا راضٍ به، فكان عليه الصلاة والسلام يعظ في أمر الصلح ويرغب فيه.

فربّما احتجّ أحد الخصمين بأنه نذر أن لا يتنازل، أو حلف على أن لا يصالح، وهذا كثيرا ما يقع بين الغرماء والمتخاصمين، فمن نذر فليعلم أن النذر الذي يجب الوفاء به إنما هو نذر الطاعة، لا نذر المعصية. ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ».

ومن حلف على هجر أخير أو قطيعة رحمه فليُكِّفرْ عن يمينه، وليصالِح أخاه، وليصل رحمه، فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:224] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هو الرجل يحلف ألاّ يصلَ قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألاّ يعتلّ بالله، وليكفرْ عن يمينه). وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ».. وكفارة اليمين معلومة قال تعالى عنها: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُو ﴾ [المائدة: 89].

ثمرات الصلح بين المسلمين:
أيها المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، ونتائجه جليلة، وعواقبه حميدة؛ فبه تحُلّ الألفة مكان الفرقة، كما أنه سبيل لاستئصال داء النزاع قبل أن يَستفحِل، وحَقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تهدَر في الخصومات والنزاعات، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس.

عباد الله؛ هذه عبادة عظيمة أوصى بها الله سبحانه، وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتدِبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله عز وجل. فلا شك أن الصلح خير من الشقاق، وأن الصلة أفضل من القطيعة، وأن المودة أولى من الكراهية.

ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.

ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليعلمْ أن القوة كل القوة، وأن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح. والسابقُ من الخصمين إلى الصلح هو المنتصر، والمسبوق منهما يودّ بعد الصلح لو كان هو السابق، فكن ـ أخي الكريم ـ خيرَ الخصمين، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام.

روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ: « لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». أيْ كَأنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الحَارَّ، وَهُوَ تَشبِيهٌ لِمَا يَلْحَقَهُمْ من الإثم بما يلحَقُ آكِلَ الرَّمَادِ الحَارِّ مِنَ الأَلمِ، وَلاَ شَيءَ عَلَى هَذَا المُحْسِنِ إلَيهمْ، لكِنْ يَنَالُهُمْ إثمٌ عَظيمٌ بتَقْصيرِهم في حَقِّهِ، وَإدْخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيهِ.

فواجب على كُبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر؛ أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.

يا أيها الناس: نريد مجتمعاً تسوده الشفقة والعطف والرحمة. نريد من المتهاجرين صفحة جديدة، وبداية سعيدة، ونسياناً لذلك الركام الهائل من الأخطاء والمشاكل. نريد تجافياً عن الزلات، وتعافياً عن الهفوات، وإقالة للعثرات. ومَن كانت حاله كذلك فلن يُعدَم الأجر الكثير، والذكر الجميل، والشكرَ الجزيل. فلا يكنْ للشيطان نصيب منا في قطيعة الأرحام، والتناحر بين الجيران، ونقص في الإيمان.

فهيا معشر المسلمين إلى التلاحم والصفاء، هلموا إلى هجر القطيعة وترك الضغينة، إلى ركن الصداقة والإخاء حيث الصفاء والنقاء.. هلموا إلى سلامة الصدر وطهارة القلب.. فإنها من أفضل الأخلاق روعة وحسناً، وأدعاها إلى ثبات الودّ والصفاء، ودوام العهد على الوفاء. سلامةٌ في العواقب، وزيادة في المناقب. راحة في البال، وأنس في الحال. انشراح في الصدر، وطيب في العيش. وفوق ذلك كله فوز وفلاح، وسعادة وهناء، وهداية وتوفيق، ولذا كانت قليلة في الناس، عظيمة عند الله، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾..

جرى بين أخ وإخوانه جفوة وفرقة وعتاب فكتب إليهم:
من اليوم تعارفنا
ونطوي ما جرى منّا

فلا كان ولا صار
ولا قلتم ولا قلنا

وإن كان ولابد
من العتاب فبالحسنى


ثم أبى إلا أن يزيد فرحه بلقاء إخوانه وإزالة شبح القطيعة فقال:
تعالوا بنا نطوي الحديث الذي جرى
ولا سمِع الواشي بذاك ولا درى

تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا
وحتى كأنّ العهد لن يتغيّرا

لقد طال شرح القِيل والقالِ بيننا
وما طال ذاك الشرح إلا ليقصرا

من اليوم تاريخ المحبة بيننا
عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى


اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين بدينك.

نسأل الله أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور.

اللهمَّ اجمعْ علَى الخيرِ قلوبَنا، وأصْلِحْ ذاتَ بَيْنِنا، واغفِرْ لنا وتُبْ علينا إنَّكَ أنتَ التوَّابُ الرحيمُ.

اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ.

اللهمَّ ارزقْنا خَشْيَتَكَ في الغَيْبِ والشَّهادَةِ، وكلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَبِ، والقَصْدَ في الغِنَى والفقْرِ، واجعلْنا مِنَ المعظِّمِينَ لِحُرُماتِكَ، الحافظينَ لحدُودِكَ.

اللهمَّ أصْلِحْ لنا دِينَنا الذي هوَ عِصْمَةُ أمْرِنا، وأصْلِحْ لنا دُنْيانا التَّي فيها مَعاشُنا، وأصِلحْ لنا آخرَتَنا التي فيها مَعادُنا، واجعلِ الحياةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خيْرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لنا مَنْ كُلِّ شَرٍّ.


ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]