عرض مشاركة واحدة
  #740  
قديم 07-07-2008, 04:36 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

حتى إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ

(رد على رسالة من أحد نصارى المهجر تدعونا إلى ترك الإسلام واعتناق التثليث)
بقلم: د. إبراهيم عوض
بعث لي أحد إخواننا من نصارى المهجر في الأسبوع الماضي برسالة مشباكية (مكتوبة بلغة إنجليزية لا بأس بها، وإن لم تخل من الأخطاء) يعقّب فيها على مقالي: "إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات"، الذي نُشِر بجريدة "الشعب" الضوئية يوم الجمعة الموافق 20/ 8/ 2005م، لكنه ترك تقريبا كل ما قلته في مقالي المشار إليه فلم يردّ على شيء منه، اللهم إلا ما كتبته عن المعجزات وأن غيابها عن النسق العقيدى عندنا لا يضر الإسلام في شيء، ورغم هذا جاء تناوله للموضوع على نحو لم أجد معه داعيا إلى الخوض فيه كَرّةً أخرى، وبخاصة أنه لم يحقِّق جيدا ما كتبته في هذه النقطة. ثم ثنَّى فتحدَّى المسلمين أن يستطيعوا الرد على ما يوجَّه للقرآن من انتقادات علمية منها ما يتعلق مثلا بما جاء في الآية 86 من سورة "الكهف" عن ذي القرنين ومشاهدته الشمس وهى تغرب في عين ماء، مما يخالف حقائق علوم الفلك كما قال. وفى نهاية الرسالة لم ينس أن يرجو لنا أن نفيق من الغاشية التي تطمس على أبصارنا منذ أربعة عشر قرنا من الظلام وأن نعود إلى المسيح بعد أن بيَّن لنا هو وأمثاله مقدار الجهل الكبير الذي يتصف به الله ومحمد حسبما قال. يا شيخ، فأل الله ولا فألك! أتريدنا أن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ونعود إلى العصر الحجري في مسائل العقيدة والعبادة، ونترك التوحيد إلى التثليث، وندع الاحترام والتقدير العظيم الذي نكنّه في أعماق قلوبنا للسيد المسيح عليه السلام بوصفه رسولا وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ونتخذه وثنا نشركه مع الله سبحانه وتعالى كما يفعل الكافرون؟ ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:"وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أَنَّى يُؤْفَكون؟" (التوبة/ 30)؟ لا يا عم، يفتح الله! خّلِّك فيما أنت فيه، ولْنَبْقَ نحن أيضا في النور والهدى الذي أكرمنا الله به على يد سيد النبيين والمرسلين، صلَّى الله وسلَّم عليه وعليهم أجمعين. وقد كتبتُ هذه الكلمة على الطائر وأنا على جناح سفر، ولم يرنِّق النوم في عيني طوال الليل إلا لساعة أو أقلّ دون سببٍ واضح، فلم يتسنّ لي تدقيق مراجعتها، ولعلي لم أخطئ فيها أخطاء فاحشة، وإلا فإني أعتذر مقدما من الآن.
والآية التي يشير إليها صاحب الرسالة هي قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ (أي ذو القرنين) مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...". وأَدْخُل في الموضوع على الفور فأقول: من المعروف في كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعا في استعمالها، بل إن في اللغة توسعات كثيرة في غير حروف الجر أيضا، وإن لم تكن هذه التوسعات دون ضوابط حتى لو لم نستطع في بعض الأحيان أن نتنبه لها، أو على الأقل حتى لو لم نتفق عليها. وقد تُسَمَّى هذه التوسعات بــ"المجاز"، وهو ما يعنى أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره أو حرفيته. وهذا، كما سبق القول، معروف عند دارسي اللغات. ولْنأخذ حرف الجرّ "في" (الموجود في الآية) لنرى ماذا يقول النحاة في استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ‏:‏ الأول‏:‏ الظرفية، زمانًا أو مكانًا، حقيقةً أو مجازًا، ومن الزمانية: "حضرتُ إلى الاجتماع في العاشرة مساء"، ومن المكانية: "سكنتُ في هذا البيت أعواما طوالا". الثاني‏:‏ المصاحبة، نحو قوله تعالى: "ادخلوا في أُمَمٍ"، أي بمصاحبتها ‏(الأعراف‏/ 38‏)‏‏.‏ الثالث‏:‏ التعليل، نحو‏:‏ ‏"فذلكم الذي لمتُنَّنى فيه"، أي بسببه (يوسف‏/ ‏32). الرابع‏:‏ الاستعلاء، نحو قوله تعالى: "ولأُصَلِّبَنَّكم في جذوع النخل"، أي عليها (طه/ 71‏). الخامس‏:‏ مرادفة الباء، نحو: "فلان بصير في الموضوع الفلاني"، أي بصير به‏.‏ السادس‏:‏ مرادفة ‏"إلى‏" نحو قوله تعالى: "فرَدّوا أيديهم في أفواههم"، أي مَدَّ الكفار أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور ‏(إبراهيم‏/ ‏9). السابع‏:‏ مرادفة ‏"‏مِنْ‏".‏ الثامن‏:‏المقايسة، وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كما في قوله سبحانه:"فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"، أي أن متاع الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل ‏(التوبة‏/‏ 38). التاسع‏:‏ التعويض، ‏ كما في قولنا: "دفعتُ في هذا الكتاب عشرين جنيها".‏ العاشر‏:‏ التوكيد، وأجازه بعضهم في قوله تعالى: "وقال: اركبوا فيها"، أي أن الركوب لا يكون إلا في السفينة، ولذلك لا ضرورة للنص على ذلك إلا من باب التوكيد (انظر في ذلك مثلا "مغنى اللبيب" لابن هشام).
وفى القرآن الكريم نقرأ قوله عز وجل:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، والمقصود أن كلا منهم يضع طرف إصبع واحدة من أصابعه عند فتحة الأذن، لا في داخلها. ونقرأ: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (البقرة/ 30)، وطبعا لم يجعل المولى الإنسان خليفة في الأرض، أي في باطنها، بل على سطحها. ونقرأ: "وأُشْرِبوا في قلوبهم العِجْل بكفرهم" (البقرة/ 93)، وليس المقصود العجل نفسه بل عبادته، وهى لا تُشْرَب ولا تدخل في القلب بالمعنى الذي نعرفه. ونقرأ: "قل: أتحاجّوننا في الله، وهو ربنا وربكم" (البقرة/ 139)، أي أتحاجّوننا بشأن الله؟ ونقرأ:"قد نرى تقلُّب وجهك في السماء، فلنولينَّك قِبْلَةً ترضاها" (البقرة/ 144)، أي صوب نواحي السماء، وليس في السماء فعلا. ونقرأ: "ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" (البقرة/ 177)، والإنسان لا ينفق ماله في الرقاب، بل يعتق به الرقاب. ونقرأ: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم القِصَاص في القتلى" (البقرة/ 178)، أي مقابل جريمة القتل وتعويضا لأهل القتيل. ونقرأ: "وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفْسِد فيها" (البقرة/ 205)، أي فوقها. ونقرأ:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر؟" (البقرة/ 217)، أي يقع بهم عقاب الله في هيئة ظلل من الغمام. ونقرأ: "والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويَذَرُون أزواجا وصيةً لأزواجهم متاعًا إلى الَحْول غيرَ إخراج. فإن خرجن فلا جُناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف" (البقرة/ 234)، أي فعلن بأنفسهن. ونقرأ: "وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكل شيء" (الأعراف/ 145)، أي على الألواح. ونقرأ: "وإذ يُريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا" (الأنفال/ 44)، أي أمام أعينكم وأعينهم. ونقرأ: "يا أيها النبي، قل لمن في أيديكم من الأسرى..." (الأنفال/ 70)، ولا يمكن إنسانا أن يكون في يد إنسان آخر بالمعنى الحرفي كما هو واضح. ونقرأ: "الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذِكْرِي" (الكهف/ 101)، والعيون لا تكون في الغطاء، بل تحت الغطاء. ونقرأ: "وأَذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالا" (الحج/ 27)، أي أذِّن بحيث يسمعك الناس. ونقرأ: "... وتقلُّبك في الساجدين" (الشعراء/ 219)، أي معهم. ونقرأ:"فإذا أُوذِيَ في الله جَعَل فتنة الناس كعذاب الله" (العنكبوت/ 10)، أي أُوذِىَ بسبب إيمانه بالله. ونقرأ: "لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ: جنتان عن يمينٍ وشِمال" (سبأ/ 15)، والجنتان لم تكونا في مساكن سبإ، بل حولها أو قريبا منها. "أَوَمَنْ يُنَشَّا في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مُبِين؟" (الزخرف/ 18)، والنساء لا ينشأن في الحلية بل مرتديات لها ومستمتعات بها. ونقرأ: "إن المتقين في جنّات ونَهَر" (القمر/ 94)، والمتقون في الآخرة سيكونون فعلا في الجِنَان، لكنهم بكل تأكيد لن يكونوا في الأنهار، بل ستجرى الأنهار في الجِنَان. ونقرأ: "في سِدْرٍ مخضود" (الواقعة/ 28)، وهم لن يكونوا في الجنة في شجر السِّدْر، بل سيأكلون منه. ونقرأ: "أولئك كَتَب في قلوبهم الإيمان" (المجادلة/ 22)، ولا كتابة في القلوب بالمعنى الظاهرى بطبيعة الحال ولا حتى فوقها. ونقرأ:"ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعا فاسلكوه" (الحاقة/ 32)، أي اربطوه بها. ونقرأ: "في جِيدها حبلٌ من مَسَد" (المسد/ 5)، أي حَوْل جيدها... وهكذا.
وفى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أمثلة كثيرة على ما نقول، وهو أمر طبيعي، فهذه هي طبيعة اللغة، سواء في كتاب الله أو في كلام أهل الكتاب أو في أي كلام آخر. وهذه بعض الأمثلة من الكتاب المذكور: " كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض" (تكوين/ 2/ 5)، " وكان قايين
عاملا في الأرض" (تكوين/ 4/ 2)، "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، " كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله" (تكوين/ 6/ 9)، "تنجح طريقي الذي أنا سالك فيه" (تكوين/ 24/ 42)، "فوضعت الخزامة في انفها" (تكوين/ 24/ 47)، "فاحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا" (تكوين/ 25/ 28)، "فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم" (تكوين/ 26/ 13)، "فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به" (تكوين/ 27/ 8)، "ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض" (تكوين/ 28/ 14)، "وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه" (تكوين/ 41/ 42)، "فتقدموا إلى الرجل الذي على بيت يوسف وكلموه في باب البيت" (تكوين/ 43/ 19)، "أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه؟" (تكوين/ 44/ 5)، "وحمل بنو إسرائيل يعقوب أباهم وأولادهم ونساءهم في العجلات التي أرسل فرعون لحمله" (تكوين/ 46/ 5)، "ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل" (خروج/ 1/ 14)، "خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم" (خروج/ 2/ 11)، "ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم" (خروج/ 2/ 18)، "وقال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون" (خروج/ 4/ 21)، "فذهب والتقاه في جبل الله وقبّله" (خروج/ 4/ 27)، "هما اللذان كَلّما فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من مصر" (خروج/ 6/ 27)، " الدمامل كانت في العرّافين وفي كل المصريين" (خروج/ 9/ 11)، "تخبر في مسامع ابنك وابن ابنك بما فعلتُه في مصر وبآياتي التي صنعتها بينهم" (خروج/ 10/ 2)...إلخ، وهى بالمئات، إن لم تكن بالألوف. ومن هنا كان من السهل أن ندرك معنى قول القرطبى مثلا في الآية المذكورة: "وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا (أي وراء العَيْن الحَمِئَة) أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه". يقصد أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن يُسْتَعْمَل بعضها في مكان بعضها الآخر. وفى نفس المجرى يجرى ما نجده عند البغوى وأبى حيان، إذ نقرأ في تفسير الأول نقلا عن القتيبى أنه بجوز أن يكون المعنى هو أنه كان "عند الشمس" أو "في رأى العين" عين حمئة، أما الثاني فقد ذكر أن بعض البغداديين يفسر قوله تعالى: "في عين حمئة" بمعنى "عند عين حمئة".
بل إن في الكتاب المقدس عبارات كثيرة من نوع الآية القرآنية التي بين أيدينا بل أَوْغَل في مضمار الاستخدامات المجازية، ويقرؤها هؤلاء الذين يرددون تخطئة القرآن كما تفعل الببغاوات الغبية، لكن دون فهم أو تمييز، ومن ثم لا يخطر في بالهم أن يقفوا ويتدبروا ويفكروا في أمر هذا التشابه في الاستعمالات الأسلوبية وأنه مسألة عادية جدا لأنه هكذا كانت اللغة وهكذا ستظل إلى يوم يبعثون. وهم في هذا كالكلب الذي ربّاه صاحبه على نباح المارة وعضِّهم، فكلما رأى شخصا مارًّا من أمام البيت نبحه وعضه دون تفكير. لنأخذ مثلا الشواهد التالية: "اما هما في عبر الأردن وراء طريق غروب الشمس في ارض الكنعانيين..." (تثنية/ 11/ 30)، "هكذا يبيد جميع اعدائك يا رب. واحباؤه كخروج الشمس في جبروتها" (قضاة/ 5/ 31)، "هكذا قال الرب: هانذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك إمام عينيك واعطيهنّ لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس" (صموئيل 2/ 12/ 11)، "وقلت لهما: لا تفتح أبواب أورشليم حتى تَحْمَى الشمس" (نحميا/ 7/ 3)، "قدام الشمس يمتد اسمه" (مزامير/ 72/ 17)، "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس" (الجامعة/ 4/ 1)، "ويخجل القمر وتَخْزَى الشمس" (إشعيا/ 24/ 23)، "واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه" (لوقا/ 23/ 44)، "انك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك اختفِي وأكون تائها وهاربا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني" (تكوين/ 4/ 14)، "وفسدت الأرض إمام الله وامتلأت الأرض ظلما" (تكوين/ 6/ 11)، "الآن قم اخرج من هذه الأرض" (تكوين/ 31/ 13)، "وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم" (خروج/ 6/ 8)، "واستراحت الأرض من الحرب" (يشوع/ 14/ 15)، "دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد" (جامعة/ 1/ 4)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). ومن الواضح أن هذا كله على خلاف الواقع وينبغي ألا يأخذه القارئ مأخذا حرفيا، وإلا لم يكن للكلام معنى: فمثلا ليس هناك للشمس تحتٌ ولا فوقٌ، وإنما هو تعبير بشرى، فنحن أينما كنا على الأرض نتصور أن الشمس فوقنا، ومن ثم فنحن تحتها، على حين أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي إذن أن نكون "فوق" الشمس بعد ستة أشهر من ذلك حين تدور الأرض نصف دورتها السنوية، وهذا لا يصير. كذلك فليس للشمس عين (ولا أذن ولا أنف) أصلا حتى نكون أوْ لا نكون في عينها، كما أنها ليس لها طريق تسير فيه على الأرض، ودَعْك من أننا يمكن أن نسير نحن فيه أيضا. وبالنسبة لقول قابيل إنه هرب في الأرض، فهو مجرد تعبير بشرىّ، وإلا فقولنا: "في الأرض" إنما يعنى حرفيا: "داخل الأرض"، وهو ما لا يقصده قابيل ولا أي إنسان آخر في مثل وضعه... وهكذا.
وقبل كل ذلك فإن الكلام هنا ليس كلاما في علم الطبيعة أو الجغرافيا أو الجيولوجيا، بل هو كلام أدبي يقوم في جانب منه على التعبيرات المجازية والتجسيدية والتشخيصية وما إلى ذلك. باختصار: هذه هي طبيعة اللغة، أما الكلاب التي تنبح المارة وتعضهم لا لشىء سوى أنه قد قيل لها: انبحي أي مارٍّ من هنا وعضّيه، فإنها لا تفهم هذا ولا تفقهه ولا تدركه ولا تتذوقه، إذ متى كانت الكلاب تستطيع أن تتذوق شيئا غير العظم المعروق الذي أُكِل ما عليه من لحم، ثم أُلْقِىَ به لها تعضعضه وتمصمصه تحت الأقدام؟ وعلى هذا فليس هناك أي متعلَّق لأي إنسان كائنا من كان كي ينتقد الآية القرآنية إلا إذا كان يريد النباح والعضّ والسلام، ولا يبغى فهما أو معرفة. فالحرف "في" في الآية الكريمة لا يعنى "داخل العين الحمئة" لأن الآيات القرآنية التي تذكر الشمس (كما سنوضح لاحقا) تتحدث عنها على أنها جِرْمٌ موجودٌ في الفضاء لا يغادره أبدا، بل يعنى أنه قد تصادف وقوع غروب الشمس حين كان ذو القرنين في ذلك المكان عند العين الحمئة، وإن كان ما شاهده بعينه يوحى أنها قد غربت في تلك العين. وحتى لو قيل إنها لم تغرب في العين بل وراء العين أو عند العين أو ما إلى ذلك، فإن هذا كله لا يصح من الناحية العلمية، فالشمس لا تبتعد ولا تختفي، بل الأرض هي التي تتحرك حولها، فتبدو الشمس وكأنها هي التي تغيب. لكنى قد عثرت أثناء تقليبي في المشباك بمن يقول معترضا على الآية إن مثل هذا التوجيه كان يمكن أن يكون مقبولا لو أن الآية فالت إن ذا القرنين "رأى" أو "شاهد" الشمس تغرب في العين، أمّا والآية تقول إنه "وجدها" تغرب في عينٍ حمئةٍ فمعنى هذا أن المقصود هو أنها كانت تغرب في العين فعلا. وقد جعلني هذا أفكر في استعمال هذا الفعل في مثل ذلك السياق في العربية لأرى أهو حقا لا يعنى إلا أن الأمر هو كذلك في الواقع لا في حسبان الشخص وإدراكه بغضّ النظر عما إذا كان هذا هو الواقع فعلا أو لا. وقد تبين لي أن الأمر ليس كما ذهب إليه ذلك المعترض الذي سمي نفسه: "جوتاما بوذا" أو شيئا كهذا، فنحن مثلا عندما يُسْأَل الواحد منا السؤال التالي عن صحته: "كيف تجدك اليوم؟" (أي "كيف حالك؟") يجيب قائلا: "أجدنى بخير وعافية"، وقد يكون هذا القائل مريضا لكنه لا يدرى لأن أعراض المرض ليست من الوضوح أو لأنه من الاندماج في حياته اليومية بحيث لا يتنبه لحالته الصحية الحقيقية. وبالمثل يمكن أن يقول الواحد منا (صادقا فيما يظن) إنه وجد فلانا يضرب ابنه عند البيت، بينما الحقيقة أنه كان يداعبه أو كان يضرب ابن الجيران مثلا، لكن المتكلم توهم الأمر على ما قال. كذلك فالمصاب بعمى الألوان قد يقول إنه وجد البطيخة التي اشتراها خضراء على عكس ما أكد له البائع، ثم يكون العيب في الشاري لا في البائع ولا في البطيخة. أما المتنبي في قوله:
ومن َيكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا
فقد كفانا مؤنة التوضيح بأنّ وجْداننا الشيء على وضعٍ ما لا يعنى بالضرورة أنه على هذا الوضع في الحقيقة والواقع. وفى القرآن مثلا: "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه" (الكهف/ 77)، وليس هناك في أي مكان في الدنيا جدار عنده إرادة: لا للانقضاض ولا للبقاء على وضعه الذي هو عليه، لأن الجدران من الجمادات لا من الكائنات الحية ذوات الإرادة. كذلك فعندنا أيضا قوله عز شأنه: "والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه" (النور/ 39)، ولا يمكن القول أبدا بأن الآية على معناها الحرفي، فالله سبحانه لا ينحصر وجوده في مكان من الأمكنة، بل الكون كله مكانا وزمانا وكائنات في قبضته عز وجل، ومن ثم لا يمكن أن ينحصر وجوده عند السراب، وهذا من البداهة بمكان لأنه سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا يحده حد. والطريف أن بعض المفسرين الذين رجعت إليهم بعد ذلك قد وجدتهم يقولون إنه لو كانت الآية قالت إن الشمس "كانت تغرب" في العين فعلا لكان ثم سبيل لانتقادها، أما قولها إن ذا القرنين "وجدها تغرب" في العين فمعناه أن ذلك هو إدراكه للأمر لا حقيقته الخارجية. ومن هؤلاء البيضاوى، وهذه عبارته: "ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب"، وهذا الذي قاله أولئك المفسرون هو الصواب. وفى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى شيء مثل ذلك، ومنه هذا الشاهدان: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). فالنعمة لا توجد في عين الرب على سبيل الحقيقة، فضلا عن أن الله لا يمكن أن يُرَى ولا أن تُرَى عينه (إن قلنا إن له سبحانه عينا لكنها ليست كأعيننا). كما أن المرأة التي وجدها ملاك الرب لم تكن "على" العين، بل "عند" العين. أي أن الحقيقة الخارجية في كلا الشاهدين لم تكن على حَرْفِيّة ما جاء في العبارتين.

يتبـــــــــــــــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.86 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]