عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-09-2020, 04:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي هدم اللغة العربية

هدم اللغة العربية


د. محمد محمد حسين





هدم اللغة العربية





كانت الشعبةُ الثالثة من الدعوات الهدَّامة تتَّجه إلى اللغة العربية؛ تريد أن تفرق المجتمعين عليها بِمُختلِف الحيل والأساليب، تحت ستارٍ منَ الرغبة في الإصلاح، وفي مُسايَرَةِ الزمان، وقبل أن أدخل في تفاصيل المسألة، أحب أن أعرض تاريخها عرضًا سريعًا في لمحة خاطفة، لنتبين مصادر هذه الدعوة، فقد يُعِينُنا ذلك على تصوّر مبلغ ما فيها من الصدق والإخلاص والبراءة من الهوى، بدأت هذه الدعوى في أواخر سنة 1881م حين اقترح "المقتطف" كتابة العلوم باللغة التي يتكلمها الناس في حياتهم العامة، ودعا رجال الفكر إلى بحث اقتراحه ومناقشته، ولا أراني في حاجة إلى أن أتحدث عن "المقتطف" وعن ميوله السياسية، والجهات التي كان يخدمها، فقد تكلمت عنه وعن شقيقه "المقطم" في الجزء الأول من هذا الكتاب، ثم هاجت المسألة مرة أخرى في أوائل سنة 1902م حين ألَّف أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في مصر من الإنجليز – وهو القاضي ولمور – كتابًا عمَّا سمَّاه لغة القاهرة، وضع لها فيه قواعد، واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية، وتنبَّه النَّاس لِلكتاب حين أشاد به "المقتطف" في "باب التقريظ والانتقاد"، فحملتْ عَلَيْهِ الصحف، مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تَقْصِدُ إلاَّ إلى محاربة الإسلام في لغته، وفي ذلك الوقت كتب حافظ قصيدته المشهورة، التي يقول فيها، مُتَحدّثًا بِلِسان اللغة العربية[1]:



رَجَعْتُ لِنَفْسِي فَاتَّهَمْتُ حَصَاتِي وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَيَاتِي
رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَابِ وَلَيْتَنِي عَقِمْتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي
وَلَدْتُ وَلمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
وَسِعْتُ كِتَابَ اللَّهِ لَفْظًا وَغَايَةً وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ؟
أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ فَهَلْ سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي؟
فَيَا وَيْحَكُمْ أَبْلَى وَتَبْلَى مَحَاسِنِي وَمِنْكُمْ وَإِنْ عَزَّ الدَّوَاءُ أُسَاتِي
فَلا تَكِلُونِي لِلزَّمَانِ فَإِنَّنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَحِينَ وَفَاتِي
أَرَى لِرِجَالِ الغَرْبِ عِزًّا وَمَنْعَةً وَكَمْ عَزَّ أَقْوَامٌ بِعِزِّ لُغَاتِ
أَتَوْا أَهْلَهُمْ بِالمُعْجِزَاتِ تَفَنُّنًا فَيَا لَيْتَكُمْ تَأْتُونَ بِالكَلِمَاتِ
أَيُطرِبُكُمْ مِنْ جَانِبِ الغَرْبِ نَاعِبٌ يُنَادِي بِوَأْدِي فِي رَبِيعِ حَيَاتِي؟
وَلَوْ تَزْجُرُونَ الطَّيْرَ يَوْمًا عَرَفْتُمُ بِمَا تَحْتَهُ مِنْ عَثْرَةٍ وَشَتَاتِ
سَقَى اللَّهُ فِي بَطْنِ الجَزِيرَةِ أَعْظُمًا يَعِزُّ عَلَيْهَا أَنْ تَلِينَ قَناتِي
حَفِظْنَ وِدَادِي فِي البِلَى وَحَفِظْتُهُ لَهُنَّ بِقَلْبٍ دَائِمِ الحَسَرَاتِ
وَفَاخَرْتُ أَهْلَ الغَرْبِ وَالشَّرْقُ مُطْرِقٌ حَياءً بِتِلْكَ الأَعْظُمِ النَّخِرَاتِ
أَرَى كُلَّ يَوْمٍ بِالجَرَائِدِ مَزْلَقًا مِنَ القَبْرِ يُدْنِينِي بِغَيْرِ أَنَاةِ
وَأَسْمَعُ لِلكُتَّابِ فِي مِصْرَ ضَجَّةً فَأَعْلَمُ أنَّ الصَّائِحِينَ نُعَاتِي


وثارت المسألة من جديد، حين دعا إنجليزي آخر، كان مهندسًا للري في مصر – وهو السير وليم ولكوكس – سنة 1926 إلى هجر اللغة العربية، وخطا بهذا الاقتراح خطوة عملية، فترجم أجزاء من الإنجيل إلى ما سماه "اللغة المصرية"، ونوَّه سلامة موسى بالسير ولكوكس وأيَّده، فثارت لذلك ثائرة الناس من جديد، وعادوا لمهاجمة الفكرة، والتنديد بما يكمن وراءها من الدوافع السياسية، ولكنَّ الدعوة استطاعت أن تجتذب نفرًا من دعاة الجديد في هذه المرة، فاتَّخذوا القوميَّة والشعبيَّة ستارًا لدعوتهم، حين كان لمثل هذه الكلمات رواج، وكان لها بريق خداع يعشي الأبصار، وحين كان الناس مفتونين بكل ما يحمل هذا العنوان في أعقاب ثورة شعبية تمخضت عن "الفرعونية"[2]، وحين كانوا يتحدثون بما صنع الكماليون من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وترجمة القرآن للغة التركية، وإلزام الناس بالتعبد به، وتحريم تدريس العربية في غير معاهد دينية محدودة، وضعت تحت الرقابة الشديدة، وقد مضوا من بعد في مطاردة الكلمات العربية الأصل ينفونها من اللغة التركية كلمة بعد كلمة.




ثم بدا أنَّ الدعوة آخذة في الانتشار، حين اتخذت اللهجة السوقية في المسرح الهزلي[3]، ثم انتقلت إلى المسرح الجدي حين تجرأت عليه وقتذاك فرقة تمثيلية تتخذ اسمًا فرعونيًّا، وهي "فرقة رمسيس" فوجدت مسرحياتها إقبالاً ولقيت رواجًا عند الناس، وظهرت الخيالة (السينما) من بعد فاتخذت هذه اللهجة، ولم يعد للعربية الفصحى وجود في هذا الميدان[4]، ثم ظهرت هذه اللهجة السوقية التي تسمى بالعامية في الأدب المكتوب، فاستعملها كثير من كتاب القصة في الحوار، ولا يزال دعاتها يمكنون لها في هذا الميدان، ويجدون في ذلك جاهدين.



ولم يكن ذلك هو كل ما كسبته الدعوة الجديدة الَّتي روجها الإنجليز وعملاؤهم كما رأينا، ولكن أعجب ما ظهر من ذلك في هذه الفترة وأغربه، مما لا يخطر على البال، هو أن الدعوة قد استطاعت أن تتسلل متلصصة إلى الحصن الذي قام لحماية اللغة العربية الفصيحة، والمسمى "بمجمع اللغة العربية" فظهرت في مجلته الناطقة باسمه سلسلة من المقالات عن "اللهجة العربية العامية"، كتبها عضو من أعضاء هذا المجمع اسمه عيسى إسكندر المعلوف[5]، وإنَّ مِمَّا يدعو إلى العجب حقًّا أن يختار المجمع لعضويته رجلاً معروفًا بعدائه الصريح للعربية، وهو عداء عريق ورثه عن أبيه الذي أعلنه وجهر به حين سجَّله في مقال له نشرته الهلال سنة 1902، دافع فيه عن اللهجات السوقية، وقال إنه يشتغل بضبط أحوالها، وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم[6]، وقد أكد هذا المقال أن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو من أهم أسباب تخلفنا الثقافي، وزعم أنَّ من الممكن اتخاذ أي لهجة عامية لغة للكتابة، كالمصرية أو الشامية، وأنها ستكون أسهل على سائر المتكلمين بالعربية – على اختلاف لهجاتهم – من العربية الفصيحة[7]، كما أنه زعم أن تعلق المسلمين باللغة الفصيحة لا مبرر له، لأن هناك مسلمين كثيرين لا يتحدثون بالعربية ولا يكتبون بها، ولأن اللغة التي يتكلمها المسلمون هي غير العربية الفصيحة على كل حال، وقال إن كل ما يطالب به هو وضع قواعد هذه اللغة التي يتكلمون بها فعلاً وواقعًا، وختم المقال بقوله:



"وما أحرى أهلَ بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغة صعبة المراس، قد استنزفت أوقاتَهم، وقوى عقولهم الثمينة، وهي مع ذلك لا توليهم نفعًا، بل أصبحت ثقلاً يؤخرهم عن الجري في مضمار التمدن، وحاجزًا يصدهم عن النجاح... ولي أمل بأن أرى الجرائد العربية وقد غيرت لغتها، وبالأخص جريدة الهلال الغراء، التي هي في مقدمتها، وهذا أعده أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي ومنتهى رجائي".

هل تعرف عداء للعربية التي لم ينشأ هذا المجمع إلا لحمايتها أعرق من هذا العداء الصريح في الولد وأبيه على السواء؟ فلأي شيء اختير هذا العضو وأمثاله من المعروفين بالكيد للعربية وللعرب[8]؟!


وليس هذا هو كل ما يدعو للعجب من أمر هذا المجمع، فقد تقدَّم عضو من أبرز أعضائه، وهو عبدالعزيز فهمي – ثالث الثلاثة الذين بني عليهم الوفد المصري – في السنة 1943 باقتراح كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وشغل المجمع ببحث اقتراحه عدة جلسات، امتدت خلال ثلاث سنوات، ونشر في الصحف، وأرسل إلى الهيئات العلمية المختلفة، وخصصت الحكومة جائزة مقدارها ألف جنيه لأحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية[9].

أليس يدعو ذلك إلى أن نتساءل: هل أنشئ هذا المجمع لينظم جهود حماة العربية، أو أنشئ ليكسب الهدم والهدامين صفة شرعية، وليضع على بيت حفار القبور لوحة نحاسية كتب عليها بخط عريض "طبيب"[10]، وعلى وكر القاتل السفاح اسم "جراح"؟!



أليس يرضى الاستعمار عن مثل اقتراح المعلوف، واقتراح عبدالعزيز فهمي؟ أليس يرضى عنه العضو الإنجليزي الموقر هـ. ا. ر. جب، الذي يقرر في كتابه "إلى أين يتَّجه الإسلام؟" عند كلامه عن الوحدة الإسلامية، أنَّ من أهم مظاهرها الحروف العربية التي تستعمل في سائر العالم الإسلامي، واللغة العربية التي هي لغته الثقافية الوحيدة، والاشتراك في كثير من الكلمات والاصطلاحيَّة العربية الأصل[11]، أليس يرضى عنه الاستعمار الفرنسي الذي حارب العربية الفصيحة في شمال إفريقيا أعنف الحرب، وضيق عليها أشد التضييق، ووضع مستشرقوه مختلف الكتب في دراسة اللهجات البربرية وقواعدها لإحلالها محل العربية الفصيحة؟[12] أليس يرضى عنه المستشرق الألماني كامفماير الذي يقرر في شماتة أن تركيا لم تعد بلدًا إسلاميًّا، فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحًا بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، ثم يقول (إن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية)؟!



وبعد فهذه الدَّعوة هي أخطر الشعب الثلاث التي عرضناها في هذا الفصل إن الدعوات التي تستهدف هدم الدين أو الأخلاق، قد تضل جيلاً من الشباب؛ ولكن الأمل في إنقاذ الجيل القادم يظل كبيرًا ما دام القرآن حيًّا مقروءًا، وما دام الناس يتذوَّقون حلاوة أسلوبه وجمال عبارته، أمَّا هذه الدعوة الخطيرة، فهي ترمي إلى قتل القرآن نفسه – وهيهات – والحكم عليه بأن يُصْبِح أثرًا ميتًا؛ كأساطير الأوَّلين التي أصبحت حشو لفائف البردي، أو بأن يصبح أسلوبه عتيقًا باليًا لتحويل أذواق الأجيال الناشئة عنه، وتنشئتهم على تذوق ألوان أخرى من الأساليب المستجلبة من الغرب، وبينما نجح اليهود في إحياء لغتهم العبرية الميتة، واتخاذها لغة للأدب والحياة، كان بعض المفتونين من العرب ينادون – ولا يزالون – بأن اللغة العربية الفصيحة لغة ميتة، وينشرون في ذلك المقالات الطوال، المكتوبة "بالعربية الفصيحة" التي يزعمون موتها، والَّتِي يقرؤها أقل الناس حظًّا من الثقافة في الصحف فلا يغيب عنه منها شيء؛ بل إنا لنرى الأميين في الصباح وفي المساء مجتمعين حول رجل منهم لا تتجاوز ثقافته الإلمام بالقراءة، يطالع لهم الصحف، وهي غير مضبوطة بعلامات الشكل، وهم من حوله يستمعون فيفهمون.



يزعمون أنَّ قواعدها صعبة معقدة، وفي اللغات الأوربية الحية ما هو أشد منها صعوبة وتعقيدًا كالألمانية، ويقولون إنَّ الشاذَّ فيها من غير القياسي كثير، والشذوذ في صيغ الأفعال وفي صيغ الجمع والتأنيث وفي المصادر يملأ اللغات الأوروبية كلها، والشواهد عليه لا تحصى، وقالوا إن الكتابة فيها غير ميسرة، مع أنَّ مطابقة الصوت المسموع للصورة المقروءة هي في العربية أوضح منها في الإنجليزية وفي الفرنسية، اللتين يتقنهما معظم المتذمرين، وصانعي الفتن من الهدامين، فالفرنسي يسقط من النطق أربعة حروف من أواخر الكلمات في كثير من الأحيان، والإنجليزي يفعل ذلك في مثل حرفي (H ) و(O ) في (Honour )، وحرفي (gh ) في (right )، وفي (through )، وهو بعد ذلك يكتب الصوت الواحد في ست صور أحيانًا، مثل الياء التي تصور الكسرة الطويلة في مثل (كبير)، إن هذا الصوت يكتب في الإنجليزية على ست صور متعددة، لا يُمَيِّز إحداها عن الأخرى منطق أو قواعد، وهي:



(y-e, e-e, ie ,ei ,ea, ee )؛ بينما هو لا يكتب في العربية إلا ياء، وحرف (ك) لا يكتب في العربية إلا كافًا، وهو يكتب في الإنجليزية على صور عدة هي (ch, q, ck, k , c )، وحرف (ف) لا يكتب في العربية إلا فاء، وهو يكتب في الإنجليزية (ph, f, gh )، وقس على ذلك ما لا سبيل إلى إحصائه من الأمثلة العديدة في مختلف الأصوات، ثم إن لكل صوت في العربية حرفًا واحدًا يصوره، وبعض الأصوات اللغوية لا يصورها إلا حرفان في الإنجليزية مثل حرف (ش) العربي، الذي يقابله في الإنجليزية (sh )، وحرف (ذ) الذي يقابله حرفا (th )، وميزة ثالثة للكتابة العربية، هي أن الحرف لا يقرأ إلا على صورة صوتية واحدة، وليس كذلك الحرف الإنجليزي، فحرف (c ) ينطق (س) حينًا، وينطق (ك) حينًا آخر، و(th ) ينطق (ذ) حينًا، وينطق (ث) حينًا آخر، و(g ) ينطق جيمًا قاهرية تميل نحو الكاف، وينطق جيمًا معطشة حينًا آخر.



أيقال بعد ذلك كله إنَّ العربيَّة معقَّدة نحوًا أو كتابة، والذين يشكون من صعوبتها، أو يتشاكَوْنَ، يُتقنون ما هو أكثر منها تعقيدًا ولا يُخْطِئون فيه؟ بل إنَّ مِنْهُم مَنْ يُتْقِنُ لُغَتَيْنِ أو ثلاث لغات أجنبيَّة مُعَقَّدة فِي بعض الأحيان، يقيمونها ويخجلون أن يُخْطِئوا فيها، حين لا يُقيمون لغتهم ولا يخجلون أن يخطئوا فيها، بل ربما فاخروا به وقالوا ساخرين (نحن لا نتكلم لغة سيبويه)، ولعل كثيرًا منهم لا يعلمون أن (سيبويه) كان فارسي الأصل.



ويقولون إنَّ اللغات الأوربية قد تطورت، فيجب أن تتطور لغتنا كما تطورت لغاتهم، وهناك فرق بين "التطور" و"التطوير" تتطور اللغة بأن تفرض عليها قوانين قاهرة هذا التطور، أما التطوير فهو سعي مفتعل إلى التطور، هو إرادة إحداث هذا التطور دون أن تكون له مبررات تستدعيه، والتطور لا يسعى إليه ولا يصطنع، ولكنه يفرض نفسه فلا نجد بدًا من الخضوع له، وأي نعمة وأي مزية في تطور اللغات الأوربية حتى نسعى إلى افتعال نظيره في لغتنا؟ إن هذا التطور كان نكبة على أصحابه، قطعهم أممًا بعد أن كانوا أمة واحدة، فما زالوا في خلاف وحروب منذ ذلك الوقت، ثم إنه لم يحكم على تراثهم القديم المشترك وحده بالموت، بل هو لا يزال يقضي بين الحين والحين على التراث القومي لكل شعب من هذه الشعوب بالموت، حتى ما يستطيع الإنجليزي اليوم من عامة الشعب أن يفهم لغة (شكسبير) الذي مات في القرن السابع عشر، بينما لا يستطيع الإنجليزي المثقف أن يقرأ ما قبل شكسبير، مثل تشوسر، ولا يقدر عليه إلا قلة من المتخصصين، ومثل ذلك الفرنسية والإيطالية وسائر اللغات الأوربية الحديثة، أمَّا نحن العرب على اختلاف أقدارنا من الثقافة، فنقرأ القرآن ونفهمه إلا قليلاً مما ترجع صعوبته إلى دِقَّة المعانِي في أغلب الأحيان، ونقرأ رسائل الجاحظ، وأغاني الأصفهاني، فلا نكاد نحس فارقًا بين أسلوبِها وبين أسلوب بعض المعاصرين، فلِماذا نَسْعَى إلى أن نُفْقِد أنفسنا هذه المزايا التي لم تَفرض علينا فقْدَها ضرورةٌ من الضرورات؟ لماذا نحسد أوروبا التي ابتليت بذلك على مصابها، ونصنع صنيع اليهود الذين قالوا لنبيهم حين مروا بقوم من الكفار عاكفين على أصنام لهم يعبدونها: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؟



وبعد، فلنعد إلى عرض هذه الدعوات الهدامة التي تستهدف قتل العربية الفصيحة في شيء من التفصيل.

نستطيع أن نحصر هذه الدعوات في شعب ثلاث: تتناول أولاها اللغة، فيطالب بعضها بإصلاح قواعدها، ويطالب بعضها الآخر بالتحول عنها إلى العامية، وتتناول ثانيتُها الكتابة، فيدعو بعضها إلى إصلاح قواعدها، ويدعو بعضها الآخر للتحول عنها إلى الحروف اللاتينية، وتتناول الشعبة الثالثة الأدب، فيدعو بعضها إلى العناية بالآداب الحديثة، وما يتَّصل منها بالقومية خاصة، ويدعو بعضها الآخر إلى العناية بِما يُسمّونه "الأدب الشعبي" ويَقْصِدُون به كُلَّ ما هو مُتداول بِغَيْرِ العربيَّة الفصيحة، مِمَّا يختلف في البلد الواحد باختلاف القرى وبتعدد البيئات، وسنتناول فيما يلي هذه الشعب الثلاث واحدة بعد الأخرى.



أمَّا ما يتناول اللغة من هذه الدعوات، فقد أثاره "المقتطف" أولاً – كما بينا – سنة 1881 م، ثم أثاره القاضي الإنجليزي ولمور سنة 1902، ثم أثاره المهندس الإنجليزي وليم ولكوكس سنة 1926، وأثاره بعض الكتاب، وبعض الصحف والمجلات في خلال ذلك ومن بعد ذلك، ولا يزال يثور حتَّى الآن بين حين وحين، فيهيج بعد سكون، ثم يعود إلى الكمون، كما تتحصن الجراثيم داخل أغلفتها وأكياسها التي تحيط نفسها بها حين تأنس من قوى الجسم الدفاعية صلابة وعنادًا، منتظرة سنوح الفرصة لهجوم جديد في نوبة تعب أو إجهاد أو اضطراب[13].



والَّذي يَعْرِضُ ما كَتَبَهُ الكتَّاب في ذلك يحسُّ أنَّ هُناك هدفًا واحدًا يَسعى إليه أصحابه من كُلِّ وجه وبكُلِّ وسيلة، وهو محاربة الفصحى والتخلُّص منها، فهم تارة يدعون إلى العامِّيَّة دعوة صريحة، وهم تارة أخرى يدعون إلى التوسط بين الفصحى والعامية[14]، وتارة يدعون إلى فتح باب التطور في اللغة، والاعتراف بحقِّ الكتَّاب في تغييرها كيفما كان هذا التغيير، وإلى أي مذهب ذهب[15]، وتارة يدعون إلى إسقاط أبواب معينة من النحو، أو تعديل بعض قواعده[16]، فإذا لم ينجحوا في شيء من ذلك اكتفوا بالدعوة إلى دراسة اللهجات العامية، وحصر مفرداتها وأساليبها ووضع القواعد والمعاجم لضبطها وإحصائها، يدعون إلى ذلك باسم العلم، واتباعًا للمناهج الأوربية في البحوث اللغوية الحديثة، فإذا سألت هؤلاء عن هدفهم من هذه الدراسات، قالوا: الأوروبيون يفعلون ذلك، فإذا قلت: ما النفع الذي نرتجيه من وراء هذه الدراسة؟ قالوا: إنها دراسة العلم للعلم، إنها لذَّة المعرفة المجرَّدة من كل غرض، هذا ما يقوله الخبثاء الذين يخفون أهدافهم الحقيقية، والمغفلون الذين لا يعرفون ماذا يصنعون، أمَّا من أوتي منهم نصيبًا أوفر من الجرأة وصلابة الوجه فإنه يقول: إننا ندرس اللهجات لأنَّ فيها أدبًا يستحق الدراسة، ولست أدري في أي قسم من هذين القسمين أضع طه حسين، الذي يُبَرِّرُ إنشاء معمل للأصوات في كلية الآداب بأن الحاجة إليه شديدة جدًّا في تعليم اللغات الأجنبية على اختلافها، وبأن إنشاءه ضرورة من الضرورات، إذا أردنا درس اللهجات العربية قديمها وحديثها[17]، على أن حجج أعداء اللغة العربية في كل حال لا تتجاوز الكلام عن صعوبة تعلم اللغة العربية من ناحية، والقول بعجزها عن تأدية أغراضها الأدبية أو العلمية من ناحية أخرى، وربما أضيف إلى هذين السببين سبب ثالث، أكثَرَ دعاة الفرعونية من الكلام عنه في صدر هذه الفترة التي نؤرخها، وهو تمصير اللغة؛ فاللغة الفصحى – على حسب تعبير أحدهم[18] - (تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية، فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويعجب بأبطال بغداد، بدلاً من أن يشرب الروح المصرية، ويدرس تاريخ مصر).



وقد ظل كثير من أعداء العربية هؤلاء – والإنجليز منهم خاصة – يحلمون بتأييد أصحاب السلطان أو بتأييد الصحف، ويرون أن ذلك هو أقرب الطرق لتنفيذ مؤامرتهم الهدامة[19]، وكانوا يجيبون على اعتراض المعترضين بضياع التراث القديم بالتقليل من قيمة هذا التراث تارة، وبإمكان ترجمة الصالح منه إلى العامية الجديدة تارة أخرى، بينما يردون على اعتراض المسلمين بأن علماء الدين مكلفون بدرس كتبه وتفسيرها (وهذا هو الجزء الأكبر من عملهم، إن لم يكن كله، وللمسلمين أسوة بالنصارى من اللاتين والأروام، فإن اللاتين يقرؤون إنجيلهم باللغة اللاتينية، والأروام باليونانية، أو بالمسلمين من الفرس والأتراك فإنهم يقرؤون القرآن بالعربية، وأما كتب الفقه فقد صار العدول عنها إلى النظام، ولا مانع من كتابة النظام بلغة العامة ليفهمه الخاصة والعامة)؛ وربما زعموا أن دراسة القرآن ونحوه وصرفه وأسلوبه هي دراسة عالية لطبقة خاصة، وأن الأدب العربي القديم من شأن خاصة المتأدبين لا عامتهم، وهذه الخاصة تستطيع أن تدرسه كما يدرس طلاب الأدب في الجامعات الراقية أدَبَيِ اليونان واللاتين[20]، وحاول بعض أعداء العربية أن يدعموا مزاعمهم على قرائهم بالأسماء الرنانة، وباسم الوطنية والشعبية، مثل ما فعل سلامة موسى حين قال[21]:



"والتأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثًا، إذ يرجع إلى ما قبل ثلاثين سنة، حين نعى قاسم أمين على اللغة الفصحى صعوبتها، وقال كلمته المشهورة "إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم، أما نحن فنفهم لكي نقرأ"؛ أو ما معناه ذلك وقد اقترح أن يلغى الإعراب، فنسكن أواخر الكلمات كما يفعل الأتراك، وقام على أثره منشئ الوطنية الحديثة أحمد لطفي السيد، فأشار باستعمال العامية، أي لغة العامة، ولكن هؤلاء العامة الذين انتصر للغتهم كانوا من سوء القدر لأنفسهم، بحيث تألبوا عليه، وجازوه جزاء لا يأتي إلا من العامة الذين لا يدرون مصالحهم، وفي العام الماضي حدثت في سوريا مثل هذه الحركة، فألف فاضل رسالتين دعا فيهما إلى اصطناع العامية السورية بدلاً من اللغة الفصحى، واستند في دعوته إلى أن اللغة العامية أوفى تعبيرًا وأدق معانيَ، وأحلى ألفاظًا من اللغة الفصحى، وأنها لذلك يجب إيثارها على اللغة الفصحى، وقد هبت الصحف السورية والفلسطينية حتى العراقية، تقبح رأيه وتنسبه إلى ضعف الحمية الوطنية مع أن المنطق أحرى أن ينسبه إلى قوة هذه الحمية، التي غلبته حتى أخرجته من شيوعية القومية العربية، حتى حصرته في حدود الوطنية السورية".



وقد أبطل المدافعون عن العربية كل مزاعم خصومها فأبرز خليل اليازجي في رده على اقتراح المقتطف سنة 1881 نقطتين: أولاهما هي أن اتخاذ العامية لغة للكتابة (فيه هَدْم بناية التّصانيف العربية بأسرها، وإضاعة كثير من أتعاب المتقدمين، ثم تكلف مثلها في المستقبل)، وأما النقطة الأخرى فهي أن عامة الناس وجهالهم يفهمون العربية الفصيحة ويتذوقونها، على غير ما يدعيه خصوم العربية، (وكفانا من أمثلة ذلك ما يراه كل منا ويسمع به من ليالٍ تحيا حتى مطلع الفجر في قراءة الحكايات العربية، من نحو قصص عنترة، وكتاب ألف ليلة وليلة، وبعض الروايات المترجمة عن الإفرنجية، وكلها فصيحة العبارة، بمعنى أنها ليست من لغة العامة في شيء، إلا ما هو من سقط الكتاب في بعضها، ومع ذلك فهي مفهومة من سامعيها، ولو كانوا من أجهل العامة، يتهافتون على سماعها ويحفظونها ويتناقلون وقائعها على ما هو مشهور، وذلك أن لغة العامة لا تباين الفصيح في غالب الأمر إلا من جهة الإعراب، وهو لا يقف في طريق المفهوم، وما لا يفهمونه من الغريب أو مما هو غريب بالنسبة إليهم، فلأكثره مرادفات من لسانهم من نفس الفصيح، وإذا اضطر الكاتب أحيانًا إلى إدراج شيء من ذلك الغريب في كلامه يمكن أن يبين بالقرينة أو بتفسيره عطفًا أو اعتراضًا، وهو على كل حال قليل)[22].



وأبرز "الهلال" في رده على أحد قرائه سنة 1902 النقط التالية:

1 – أن المسلمين لا يستغنون عن الفصحى؛ لمطالعة القرآن والحديث وسائر كتب الدين.

2 – أن اللغة العربية ليست غريبة على أفهام العامة، إلا إذا أريد التقعر واستخدام الألفاظ الغريبة، أما لغة الإنشاء العصرية فهي شائعة في الصحف والمجلات، يفهمها الخاص والعام.



3 – أنه لا يجوز قياس العربية على اللاتينية؛ لأن الفرق بين اللاتينية وفروعها أبعد كثيرًا من الفرق بين العربية الفصحى وفروعها العامية؛ فالعامي الإنجليزي والفرنسي مثلاً ينظر إلى اللاتينية نظره إلى لغة غريبة، أما العامي العربي فإنه يفهم اللغة العربية الفصحى، وإذا فاته فهم بعض الألفاظ فإن المعنى الإجمالي يندر أن يفوته[23].

4 – أن الزعم بأن اللغة العربية بدع في اللغات بامتياز اللغة المكتوبة فيها عن اللغة المحكية زعم باطل، فالإنجليز يكتبون العلم بلغة لا يفهمها عامتهم، يسمونها لغة علمية، فالعامي من الفرنسيين لا يفهم أبحاث رينان في فلسفة التاريخ، والعامي الإنجليزي لا يفهم ما كتبه سبنسر في فلسفة العمران، والعامي من الألمان لا يفهم ما كتبه شوبنهور في فلسفة الوجود.



5 – أنَّ الذاهبين إلى أن تتَّخذ كلُّ أُمَّة عربيَّة لَهْجَتَها العاميَّة هم القائلون بانحلال العالم العربي وتشتيت شمل الناطقين بالعربية، فإن (أمم أوروبا لم يهملوا اللغة اللاتينية ويستبدلوها إلا بعد أن أصبحت كل أمة منهم دولة مستقلة يهمها الانفصال عن جيرانها أكثر مما يهمها الانضمام إليهم، لما يقتضيه طلب الاستقلال من المنافسة لمسابقيه، ونحن نتعهَّد للمستر ولمور أنَّ الأمم العربية حالما تصير دولاً مستقلة، ويصير كل منها في غِنًى عنِ الأمم الأخرى لا تستنكف من حصر اللغة الفصحى بالكتب الدينية!! أمَّا الآن فقد كفانا من المصائب ما نتحمَّله من إهمال الحكومة المصرية للغة العربية في مدارسها، وإغفال هذه اللغة في أشهر مدارس سوريا الكبرى، ويكفي للشرق ما يَعْتَوِرُه من أسباب الشقاق، حتى لم يبق جامعة غير هذه اللغة؛ فبالله إلا أبقيتم عليها!!).



ومع ذلك كلِّه، فالواقع الملموس يُكَذِّبُ كلَّ دعاوى الهدامين، والتاريخ أصدق من كل ما يكتبون، فقدِ استطاعتِ العربيَّة البدوية أن تساير الحضارة في بغداد، ولم تنهزم أمام الفارسية أو اليونانية أو التركية، واستطاعتْ أن تُسايِرَها في الأندلس بعد أن فَرَضَتْ نفسها على البيئة الجديدة، واستطاعتْ أن تُساير ألوانًا من الحضارات في خلال ثلاثةَ عشرَ قرنًا أو أكثر في بيئات متباينة أشد التباين، وصمدت أمام الغارات المدمرة، وخلالَ الاحتِلال الأجنبي الطويل، ثُمَّ إنَّ قواعدَ النَّحو التي يزعمون أنها معقَّدة قدِ استطاعت أن تعيش أكثر من ألف سنة، أنتج الناس خلالها في مختلف الأمصار العربية وغير العربية ثروةً من الكتب الصحيحة العربية لا تُحصى، وهذه القرون العِشرون أصدقُ شهادة لصلاحية النحو من كل ما يزعمون، ويؤيد هذه الشهادة ويقويها أن الناس كانوا منذ قرن واحد أو أكثر قليلاً لا يكادون يقيمون العربية، ولا يقدر على كتابة مقال سليم اللغة إلا نفر قليل منهم، وقد استطاعوا رغم ما لقيت العربية في أوطانها من حرب الاحتلال الجائر خلال فترة طويلة أن يُجيدوها فهمًا وكتابة في هذه الفترة القصيرة، وهم لم يجيدوها بتبسيط النحو ولا بتبسيط قواعد الكتابة، ولكنهم أجادوها بحفظ النحو، وبحفظ قواعد الكتابة.



ومن المحقق أنَّ الجيل السابق الَّذي نشأ على توقير قواعد النحو وإتقانِها خير من هذا الجيل الذي لا يزال يتقلَّبُ بين مشاريعَ وتجاريبَ للتبسيط والتيسير، تحتاج إلى ألف عام لكي تُثْبِتَ أنَّها لا تقلُّ عن القواعد الَّتِي يقترح الاستغناء عنها، فضلاً عن أن تَفْضُلَها، وترجح عليها، ثُمَّ إنَّ مُزاحَمة العامِّيَّة للعربيَّة ليست شيئًا جديدًا، فقد كانت العربية الفصحى دائمًا لغة أدبية، وكان العرب في جاهليَّتِهم لا يتحدَّثونَها في أسمارهم، ولا في معاملاتهم، ولكنَّها كانَتْ وقْفًا على الشِّعْرِ الرفيع الذي يَفِدُ به أصحابُه على الملوك والأشراف، أو يرحلون به إلى المواسم والأسواق، وكان لهم إلى جانِبِه أدبٌ محلِّيّ يتمثَّل في أرجازهم، وفيما ينشدونه في أسمارهم، مِمَّا أهْملتْهُ كُتب الأدب لِتفاهةِ ما ينطوي عليْهِ مِنَ المعاني والأغراض، ولِضيقِ مَجالِه وقِلَّة عدد المتذوِّقين له[24]، على أنه إن أعْوَزَتْنا الأدِلَّة القاطعة على وجود لهجة سوقيَّة إلى جانب اللغة الفصيحة الأدبية في الجاهلية، فليستْ تُعْوِزُنا الأدلة على امتياز لغة الأدب من لهجات الأمصار التي كان يستخدمها الناس في حاجاتِهمُ اليومية منذ القرن الأول الهجري، وهنا يكذِّب التاريخُ مرة أخرى مزاعم الذين يدَّعون أن لا حياة للعربية إلى جانب اللهجات السوقية التي يسمونها في هذه الأيام بالعامية.



أما الشعبة الثانية التي تدعو إلى تيسير الخط العربي فقد ظهرت مع مطلع القرن العشرين، ورأيناها في كتاب القاضي ولمور عن اللغة المصرية (The spoken Arabic of Egypt ) الذي اقترح فيه إلى جانب الأخذ بالعاميَّة كتابة هذه العامية بالحروف اللاتينية، وقد مرَّت الإشارة إليه[25] ولقي الاقتراح إعراضًا، وهاجم الناس صاحبه هجومًا شديدًا، كما هاجموا من قبل اقتراحًا سابقًا مُزْدَوجًا يتناول اللغة والكتابة للطفي السيد، الذي يُسَمِّيه سلامة موسى (منشئ الوطنيَّة المصريَّة الحديثة).

وسكتت الفتنة، حتَّى جاء مصطفى كمال فحَمَل الناسَ في تركيا على ما حملهم عليه من الأضاليل، وكان في جملة ما سامَهُم من الأباطيل استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية[26]، فتجدَّدَ كلامُ النَّاس في إصلاح الخطِّ وخاضَتِ الصُّحُف فيه، وكان أعجب ما ظهر في ذلك المشروع الذي تقدم به شيخٌ من شُيوخ مَجمع اللغة العربية في مختتم هذه الفترة التي نؤرخها، واقترح فيه اتخاذ الحروف اللاتينية للكتابة العربية[27].



سألت مجلة "الهلال" في سنة 1932 ثلاثة من المشتغلين بالدراسات العربية "هل ينبغي تغيير الحروف العربية؟" وقدَّم المحرِّرُ لإجابتهم بقوله[28]: "وفد على مصر في الشهر الماضي العلامة اللغوي الأب أنستاس الكرملي، فأتاحت الفرصة لأحد محرري الهلال الاجتماع به، فدار الحديث حول شؤون كثيرة تتعلَّق باللغة العربية، وكان أهم ما تناوله الحديثُ مسألة إصلاح الحروف العربية حتى تسهل القراءة بها، فأطْلَعَنَا جنابه على طريقة ابتكرها لإصلاح هذه الحروف، فأحبَبْنا أن نطلع القُرَّاءَ عليها، وطلبنا أن يوافينا برأيه في هذا الموضوع، كما طلبنا إلى عالمين جليلين أن يَقُولا كَلِمَتَهما في هذا الموضوع أيضًا، وهما الأستاذ محمد فريد وجدي، والأستاذ محمد مسعود، وسيرى القارئ في هذه الردود الثلاثة آراء مختلفة، له أن يحبذ منها ما يشاء".



أمَّا أنستاس الكرملي فهو يبدأ إجابته بأنه يرفض كتابة اللغة العربية بحروف غير حروفها، لأنَّ ذلك يقطع الصلة بيننا وبين تُراث أجدادنا؛ ولكنه لا يلبث أن يقترح بعد ذلك وضع الحركات في صلب الكتابة، وتصوير الفتحة والكسرة والضمة بألف وياء وواو مشطورة بخط، كما يقترح أشكالاً جديدة للحركات الأوروبية التي لا نظير لها في العربية، مثل حروف u, e, o ، وبذلك نرى أنه انتهى إلى مخالفة ما بدأ به.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.30 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]