عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-09-2020, 03:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي تساؤلات حول النقد

تساؤلات حول النقد


رشيد العطران





لكي ندرك المعنى الحقيقي لـ "النقد"؛ لا بد أن نجيب على الأسئلة التالية:
ما هو النقد؟
هل النقد مشروع؟
متى يُشرَع النقد؟
هل النقد في العموم ظاهِرة صحية أم مرَضية؟

أولاً: ما هو النقد؟
إذا عرف الإنسان حقيقة الأشياء وتعرَّف على ماهيتها، وحاول الخوض في بعض تفاصيلها، أدرك أن المسميات ذات الطابع الجريء والمضاد ليست بالصورة المخيفة التي كانت تتراءى له في خيالاته، وأن الأمر مجردُ حقيقة لا بد من التعامل معها بجديةٍ وحزم.

وحقيقة النقد:
الكشف عن مواطن العَيب والنقص والخطأ، وتزويد ذلك بما يصلحه ويكمله "اختصارًا"، فإذا انحرف النقد عن هذه الحقيقة، فقد أصبح حقدًا وحسَدًا وعملاً نفسيًّا مهينًا، والذين يمارسون مثلَ هذا النوع من النقد يَعيشون في حلبة الندِّية للآخر، ومعركة الأنا أو الضمور.

وحين نخوض الحياةَ من هذا المُنطلَق، وهذه المرتكزاتِ المنحطة، هذا يعني أننا فاشلون في كيفية التعامل مع التنوع الاجتماعي للإنسان.

ثانيًا: هل النقد مشروع؟
لا أظن أن النقد يبحث عن مشروعية ما دام في إطاره الصحيح؛ لأن أصل الرسالات، وإرسال النذر، وإنزال الكتب، كل ذلك جاء مُصحِّحًا وموجهًا ومرشدًا للطريق الأقوم، وبالمقابل جاء ناقدًا لكثير من المظاهر السلبية المتلفِّعة بسواد الرأي البشري الخاطئ، والمتأملُ في المنهج القرآني الأرشدِ يجده ممتلئًا بذلك، فعلى سبيل المثال:
إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه وقومه.
فحين بدأ عملية التصحيح العقدي الذي أخطأه قومه قال: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾؟ [الشعراء: 70] والسؤال هنا هو تقرير يبني عليه جوابه لقومه؛ لأنه مثبَّت من ربه، لكن نحن نستفيد منه:
أن النقد المشروع بدايته الاستقراء للحالة المنقودة، والتثبُّت من صحة وجودها في الشخص المنقود!

ثم تأمل معي هذا المنهج القرآني العجيب وهو يُكمِل المشهد في نفس السياق، قال ربي عن إبراهيم بعد أن أجابوه: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 75 - 77].

لم يقل: "إنكم عدو لي"؛ لأن النقد الصحيح منبعُه الرحمة والشفقة، ووجهته نحو ذات الخطأ وليس ذات المخطئ، ويُبنى على الظن الحسن ما أمكن ذلك، وحين تبحث عن نقد فاقدٍ لشرعيته، ابحث عن ناقدٍ فاقِد لهُويته، فهوية الناقد مؤشِّر مُهمٌّ في تحديد مسار النقد، فإن كانت هويته الحبَّ والسلام والخير والصلاح، فهذا مسار نقدِه واضحٌ وجلي، وإن كانت الهوية الهوى وحب النفس وأثرتها، ومناكفة كل جميل حسن، فهذا هو النقد الذي يتَّسم صاحبه بـ "شهوة النقد" - عافاني الله وإياكم منها.

ثالثًا: متى يشرع النقد؟
لا تكفي المعرفة بمشروعية النقد لمباشَرة تفعيله في الواقع، فهنا ثمة محك حرج يحتاج الناقد فيه إلى الحكمة والتعقُّل والأناة.

والناقد البصير هو الذي يراعي مواطن الأمان لإيصال نقده إلى منقوده بطريقة سليمة وصحيحة، وعواقب حميدة وحسَنة، ومواطنُ الأمان قطعة كبيرة مختلطة الأجناس، تبدأ بالأحاسيس والنفسيات البشرية، مرورًا بأحوالهم وظروفهم المعيشية، وانتهاءً بمراعاة الزمان والمكان المناسب؛ ولذا اشترط الإمام الغزالي للناصِح "الناقد" العِلم بحال المنصوح عند تقديم النصيحة له، وهل كان النقد البنَّاء إلا نُصحًا؟

إن الذين باشَروا الناس بدعوتهم وخالطوهم وتعامَلوا معهم، تعلَّموا الكثير من ذلك، واستطاعوا أن يتجاوَزوا عقبة الواقع بقربهم منه، وأدركوا من خلاله أن عملية الإصلاح المنشودة تأتي من بوابة الرحمة بالخَلق، والشفقة عليهم، وإحسان الظن بهم، والسعي الحثيث في ستر عوارهم، وإصلاحه دون فضيحةٍ أو تشهير، وهذا الصنف يأتي خلافًا لطائفة من الناقدين الناقمين، فهؤلاء شأنُهم تتبُّعُ الزلات وإظهار العورات، وهم في الحقيقة رُواد لمدرسة "النقد لأجل النقد"، وأحد المشرفين الكبار في مجمعات محاكم التفتيش.

إن الناقد اللبيب مَن يَحرص على المنقود، كحِرص البخيل على النقود، ومن يسعى لتقويمه وبنائه، لا لهدمه وإثنائه.

فيسعى للحفاظ على نجاحاته ومُقدراته، ويشيد بإبداعه ومنجزاته، ويُدرك أن مهمته التصحيح والبناء والنهوض بصاحبه وأخذه إلى بر الأمان، وأن الإخلاد به إلى غير ذلك نوعٌ من التدني الأخلاقي دينًا وفكرًا وإنسانًا.

إذا تحصَّل لدى الناقد كثير من هذه المعطيات، ووجد لديه هذا الحس النقدي النبيل، وتثبَّت من صحة وجود ما يَنقُد، حينها لا مانع من الشروع المحمود في النقد، وأما الشروع بدون تلك الأدوات وبدون تلك الإمكانات، فهو تضييع للوقت، وجلب للشحناء والبغضاء، وتكثير للأعداء فحسب.

رابعًا: هل النقد ظاهرة صحية أم مرَضية؟
النقد عمومًا بشقَّيه - الأبيض والأسود - يعدُّ ظاهرة صحية من وجهة نظري، فهو مؤشِّر واضح لوجود حَراك لدى العقل البشري - بغضِّ النظر عن اتجاهه - واتساع مداركه، وعقله لما يدور من حوله، ورفضه للفقاعات الصابونية الكاذبة التي انتفخَت بها الأمة اليوم، إضافة إلى النتائج الإيجابية التي تنتج عنه عند من تفهم معناه، وعمل بمُقتضاه، وهذا من جهته جميل.


لكن قد يكون ظاهرة مرَضية إذا استُهلك في حرب العنصر البشَري، ووُجِّه نحو الفئة الصالِحة منه، ومُورس من مُنطلَق الأنا المذمومة، واتُّخذ أداة لبثِّ الشحناء والبَغضاء، وزرْع الأحقاد، وإثارة الثارات والضغائن!

ومن هنا نُدرك أن مجرد "النقد لأجل النقد" أو "النقد لهوى النفس" يعدُّ ظاهرة مرَضية تأتي في مثل هذا السياق المُقفِر المخيف، ومَن تأمل ذلك في واقع الناس، علم أن الأمر أصبَح وطرًا لا بد من قضائه عند البعض، فكما أن هناك: "شَهوة الفرج"، فهناك أيضًا: "شهوة النقد"، وهي لعمري أشد فتكًا ببدن الإنسان وعقله من ذي قبل، والله تعالى أعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.30 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.84%)]