عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 29-10-2020, 05:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,527
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء

من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (3)
د. نبيل محمد رشاد







الوصية السادسة: "وذهاب البصر خيرٌ من كثيرٍ من النظر، ومن كرمِ الكريم الدفاعُ عن الحريم".

وأوس يُبيِّن لولده ها هنا آدابَ التعامل مع المرأة، ويجملها في أمرين: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، أما السلبي، فيتمثل في غض البصر، وعدم إفحاش النظر إلى المرأة، وأما الإيجابي فيتمثَّل في الدفاع عنها، والذود عن حياضها، وفي هذه الوصية ما يدل على وَعْي أوسٍ بما يجب أن يكون عليه سيِّد القوم من العفة والمروءة.



إن المرأة تُمثِّل في المجتمع - أي مجتمع - شطرَه، وقد تدفعها ظروف الحياة إلى اللجوء إلى سيد قومها تستصرخه وتستغيث به، فإذا ما كان سيد القوم طاهرَ الذيل، فإن المرأة تذهبُ إليه وتقص عليه مظلمتها وهي آمنة مطمئنة على عِرْضها وشرفها وسُمْعتِها، أما إذا كان سيِّد القوم غيرَ طاهر الذيل، معروفًا بالانحراف والانفلات، فإن المرأة حينئذٍ تؤثِر أن تقيم على الخسف، ترضى بالضَّيم من زوجها أو أخيها، ولا تقبل أن تذهب إلى زعيم قومِها شاكية مستصرخة، ومن ثَمَّ يشيع الظلم، وينتفي العدل، ويفقدُ المجتمع أمنَه وسلامه، وذلك كله يؤدي إلى تفسُّخه وانحلاله، وانفراط العِقْد الذي ينتظم أبناءه فيتسلَّط بعضه على بعض، ثم يتسلَّطون بعد ذلك على حاكمهم فتسقط مهابته، وتهوي مكانته.



الوصية السابعة: "ومَن قلَّ ذل، ومَن أمِر فل".


وأوس بن حارثة في هذه الوصية يُعلِّم ولدَه آداب السياسة؛ ذلك أن زعامة الناس وسياستهم تقوم على مبدأ مهمٍّ، ألا وهو كثرة الأتباع والأشياع، فإن كان الطامحُ إلى الزعامة كثيرَ الأتباع والأشياع غلَب وقهَر، وإن كان قليلَ الأتباع والأشياع ذلَّ وانكسر، بتسلط الناس عليه، ومخالفتهم لأمره ونهيه.



الوصية الثامنة: والدهر يومان؛ فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطَر، وإذا كان عليك فاصبِرْ، فكلاهما سينحسِر، فإنما تُعِزُّ من ترى، ويُعِزُّك مَن لا ترى".





إن أوس بن حارثة يُبيِّن لولده ها هنا حقيقةَ الدنيا وطبيعة الأيام، ويقول له: إن الأيام لا تجري على وتيرة واحدة من العسر أو اليسر، وإنما تأتي المرءَ بما يسرُّه أحيانًا، وبما يسوؤه أحيانًا أخرى، وليست العبرة بما تأتي به الأيام من الضيق والشدة والرخاء والسَّعة، وإنما العبرة في كيفيةِ تصرُّف الإنسان إذا أقبَلت عليه الحياة، وإذا أدبرت عنه، والإنسان الحكيم الذي يستحقُّ السيادة والسُّؤدد هو الذي يستقبلُ إقبال الزمان عليه بعدم البطر، وقلة الإسراف في المرح واللهو، والكف عن المغالاة في التمتُّع بطيبات الحياة من المأكل والمشرب، والإكثار من التسرِّي بالإماء، والتلهِّي عن هذا كله بما يجب أن يُعمِل فيه فكرَه من تدبير أمور المعاش، وسياسة شأن الرعية.



والإنسان الحكيم الذي يستحقُّ السيادة والسؤدد هو أيضًا ذلك الإنسان الذي يصبر على لَأْوَاء الحياة ونوائب الدهر، ويستقبلها غير جازع منها، ولا متبرِّم بها، ولا ضَجِرٍ لما استقر في يقينه من أن دوام الحال من المحال.



ويَلفِتُ أوسُ بن حارثة في هذه الوصية نظرَ ولده إلى أمر مهم، وهو أن الإنسان قد يكتسب احترام الآخرين لوجوده بين ظهرانَيْهم خوفًا منه أو طمعًا فيه، ولكنه إذا مات ووُسِّد الثرى ذهب طمع الناس فيه، وراح خوفهم منه، ومن ثَمَّ يُصبِح مِلكًا للتاريخ الإنساني يقول فيه كلمته، وتروي الأجيال سيرته وهي بمأمن من غضبه، وبمنجاة من بطشه، ومن ثَمَّ يجبُ أن يعمل في حياته عملاً يجعله أهلاً لحسن الأحدوثة بين الناس بعد رحيله، ويجعله جديرًا بإعزاز مَن لم يرَوْه من أبناء الأزمان التالية.



الوصية التاسعة: "والموت المُفِيت خير من أن يقال لك: هَبِيت، وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة؟".





وأوس بن حارثة يوصي ولدَه ها هنا بعدم الحرص على الدنيا بأكثر من اللازم؛ لأنها ليست دار الإقامة، والإنسان فيها هدفٌ لسهام المنيَّة التي لا بد أن تُصِيبه يومًا ما، ويزهدُه في أن يرغب في طول العمر؛ لأن طول العمر يؤدِّي بالمرء إلى الانقطاع عن الأنداد والأتراب، ويجعله غير قادر على التواصل مع الأجيال الجديدة، وحينئذٍ يصبح هدفًا لانتقاد حَفَدتِه، وضيقهم به، وتبرُّمهم منه، وقد تؤذي نفسَه ألفاظٌ تخرجُ من أفواهِهم ترميه بالخَرَفِ والعَجْز، ومن ثَمَّ يصبح الموت الذي يُفوِّتُ على الإنسان بعضَ متاع الحياة خيرًا، كما قال أوس بن حارثة؛ حتى لا يشعر المرء بأنه قد صار عالةً على غيره، أو بأنه قد أصبح من سَقَط المتاع.



وشرٌّ من المصيبة سوءُ الخلف، وهكذا في ختام هذه الوصية الجامعة يَلفِتُ أوسٌ الأذهانَ إلى أهمية الاعتداد بالتنشئة الاجتماعية للأبناء والأحفاد حتى يشِبُّوا أخيارًا صالحين، ويقول لمالك: إن الإنسان بمقدوره أن يحتمل المصيبة التي تحُلُّ به، لكنه لا يستطيع أن يتحمل ولدًا عاقًّا، سيِّئ الأخلاق، مرذول الخلال، مذموم السجايا.



كانت تلك هي الوصايا التي قدَّمها أوس بن حارثة لولده مالك، ولعل القارئ يشاركني الرأيَ في أنها تُمثِّلُ أصدقَ تمثيلٍ منظومةَ القِيَمِ الإيجابية التي كان كبارُ رجالات المجتمع العربي في عصر الجاهلية يُنشِّئون عليها أبناءَهم، ولعل القارئَ يتَّفق معي أيضًا فيما أذهب إليه من أن هذا النص النثريَّ الجاهلي يصحُّ أن يقف شاهدًا ودليلاً على أن الأمة العربية في جاهليتها قد كانت خير أمم الأرض طرًّا[1]، وهو الأمر الذي من أجله كان ابتعاثُ النبيِّ الخاتم محمد بن عبدالله منهم وفيهم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه.





[1] ليس هذا النصُّ وحدَه هو الذي يدل على ما أُوقِنُ؛ فهناك نصوص نثرية جاهلية أخرى تظاهرُه فيما يدل عليه، تمتلئ بها مصادر الأدب وسجلات التاريخ، وأسأل المولى - جل شأنه - أن يتفضَّل ويعينني على قراءتها، وتحليلها، وإخراجها للناس.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.48 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.95%)]